مشاهدة النسخة كاملة : منهج رشيد رضا في تفسير المنار
سفرطاس
07-09-2009, 09:54 PM
منهج رشيد رضا في تفسير المنار
حازم محيي الدين / 06-09-2009*
بعد أن استقر المقام برشيد رضا في القاهرة (عام 1898م)، وانتهى من إقناع شيخه محمد عبده بضرورة تأسيس مجلة "المنار"، عقد العزم على إقناع أستاذه أن يكتب تفسيراً كاملاً للقرآن الكريم، يعكس منهجه في الإصلاح والتجديد، لكن الشيخ عبده رفض هذا الاقتراح قائلاً: "إن القرآن لا يحتاج إلى تفسير كامل من كل وجه، فله تفاسير كثيرة أتقن بعضها ما لم يتقنها بعض، ولكن الحاجة شديدة إلى تفسير بعض الآيات، ولعل العمر لا يتسع لتفسير كامل" (تفسير المنار، 1 /12).
ثم اقترح عليه أن يكتب تفسيراً يقتصر فيه على حاجة العصر، ويترك كل ما هو موجود في كتب التفسير السابقة، ويبين ما أهملوه فيها، غير أنَّ محمد عبده رفض هذا الاقتراح أيضاً محتجاً أنَّ "الكتب لا تفيد القلوب العُمي...، إذا وصل لأيدي هؤلاء العلماء كتابٌ فيه غير ما يعلمون، لا يعقلون المراد منه، وإذا عقلوا منه شيئاً يردونه، ولا يقبلونه، وإذا قبلوه حرَّفوه إلى ما يوافق علمهم ومشربهم، كما جروا عليه في نصوص الكتاب والسنة التي نريد بيان معناها الصحيح، وما تفيده" (تفسير المنار، 1/13).
ثم ذكر له محمد عبده أنه قد سبقت له محاولات في تدريس التفسير، بسبب إيمانه بقدرة الكلام المسموع على التأثير في النفوس أكثر من الكلام المقروء إلا أن هذه المحاولات لم يهتم بها أحد، مع أنها كان من حقها أن تدوَّن، وتُكتب، لذلك فهو لا يفضل تكرار هذه المحاولات الفاشلة.
وهنا ردَّ عليه رشيد رضا بقوله: "إن الزمان لا يخلو ممنْ يقدِّر كلام الإصلاح قدره، وإن كانوا قليلين، وسيزيد عددهم يوماً فيوما، فالكتابة تكون مرشداً لهم في سيرهم. وإنَّ الكلام الحق، وإنْ قلَّ الآخذ به، والعارف بشأنه لا بدَّ أن يُحفظ، وينمو بمصادفة المباءة المناسبة له" [1].
هكذا استمر الحوار بينهما حتى انتهى باقتناع عبده بوجهة نظر رضا، وبدأ بالفعل بإلقاء دروس في التفسير في الأزهر ابتداءً من شهر محرم سنة (1317هـ/ 1899م)، وانتهى منه في منتصف محرم سنة (1323هـ/ 1905م) قُبَيل وفاة عبده، مبتدئاً من بداية القرآن الكريم، منتهياً عند تفسير قوله تعالى {وكان الله بكلِّ شيءٍ محيطاً} من الآية 125 من سورة النساء.
كان منهج محمد عبده في التفسير "أن يتوسع فيما أغفله، أو قصَّر فيه المفسرون، ويختصر فيما برزوا فيه من مباحث الألفاظ، والإعراب، ونُكت البلاغة، وفي الروايات التي لا تدل عليها ولا تتوقف على فهمها الآيات، ويتوكأ في ذلك على عبارة تفسير الجلالين الذي هو أوجز التفاسير، فكان يقرأ عبارته فيقرها، أو ينتقد منها ما يراه منتَقداً، ثم يتكلم في الآية أو الآيات المنزلة في معنى واحد بما فتح الله عليه مما فيه هداية وعبرة" (تفسير المنار، 1/15)
وكان رشيد رضا في أثناء دروس محمد عبده يدوّن أهم ما يسمعه منه في مذكرات خاصة، ثم بدأ ينشر ما جمعه فيها ابتداءً من أول محرم سنة (1318هـ / 1900م)، وذلك في المجلد الثالث من مجلة "المنار". ولم يكتف رضا في أثناء حياة شيخه بالنقل عنه، وتدوين أفكاره وآرائه فقط بل كان يضيف إلى كل ذلك زيادات كثيرة، وكان يميز في معظم الأحيان، أقواله عن أقوال محمد عبده، بقوله: "وأقول"، "وأنا أقول"، "وأزيد الآن" (تفسير المنار، 1/15).
وبعد وفاة محمد عبده سنة (1323هـ / 1905م) استقلَّ رشيد رضا بكتابة التفسير، وكان ينوي القيام بتفسيرٍ كامل للقرآن الكريم، ويظهر هذا جلياً من كلامه في نهاية معظم مجلدات تفسيره الاثني عشر، وذلك عندما كان يطلب من الله عزَّ وجلَّ أن يعينه على إتمام هذا التفسير، لكن قضاء الله تعالى حال دون تنفيذ ما كان ينوي ويضمر إذ توفاه الله تعالى بعد فراغه من تفسير قوله تعالى من سورة يوسف: {ربِّ قد آتَيتَني من المُلك وعلَّمتني من تأويلِ الأحاديثِ فاطِرَ السمواتِ والأرضِ أنتَ وليِّ في الدُّنيا والآخرةِ توفَّني مُسلِماً وأَلحِقني بالصالحينَ} (يوسف: 101).
منهج رشيد رضا في تفسير المنار
لا نستطيع أن نقرر بشكل قاطع، أنَّ للشيخ رشيد رضا منهجاً، وأسلوباً موحّداً، اتبعه في كامل تفسيره، لأنه فسّر ما فسّر في مدة تزيد على الثلاثين عاماً (ما بين 1317 هـ/ 1899م و1354 هـ/ 1935م)، وهذه مدة طويلة تمنع على الأرجح أي مفسِّر من اتّباع خطة تفصيلية موحّدة يلتزم بها في كل ما يفسِّره [2]، ولكننا مع ذلك نستطيع أن نستخرج الملامح الرئيسة لمنهجه وأسلوبه في التفسير، والتي إنْ زاد عليها في بعض الأحيان، ولكنه لم يخالفها على الإجمال في كامل تفسيره.
ولكن قبل ذكر هذه الملامح العامة، أجد من الضروري، من الناحية المنهجية، ذكر نقطتين مهمتين:
أولهما: كان تفسير المنار في الأصل عبارة عن دروس شفهية، كان محمد عبده يلقيها على جمهور من الطلبة والمثقفين المصريين في الجامع الأزهر، وكان رشيد رضا في الوقت نفسه يقوم بتدوين خلاصة أفكار هذه الدروس في مذكرات خاصة به مدةً من الزمن، ثم بدأ يحرّر هذه المذكرات، ويضيف عليها من كتب التفسير الأخرى، ومن أفكاره الخاصة، ويعرض كل ذلك على عبده ليأخذ موافقته عليه، ويقوم بعد ذلك بنشرها في مجلته المنار ابتداءً من الجزء السادس في المجلد الثالث الصادر في محرم سنة (1318هـ)/ إبريل (1900) م. وابتداءً من هذا التاريخ استمر رضا حتى وفاته بنشر تفسيره على صفحات مجلته "المنار"، علماً أنه قد بدأ منذ سنة (1908م) بجمع كل ما كان ينشره من التفسير في مجلته في نهاية كل سنة ويعيد نشره في مجلد مستقل [3].
أردتُ من ذكر ما سبق الإشارةَ إلى أن اختلاف فئة مُتلقيّ التفسير بين مرحلة عبده [4]، ومرحلة رضا، وخاصة بعد أن بدأ بنشر تفسيره على صفحات مجلته التي يقرؤها جمهورٌ عريض من المسلمين في معظم بلاد العالم الإسلامي آنذاك، فرض على رشيد رضا أن يستجيب أكثر لحاجات هذه الجماهير العريضة المتعطشة للهداية، والثقة بالدين وأحكامه بأكثر مما فعل عبده.
وقد تجلَّت هذه الاستجابة في مظاهر عدة، أهمها ازدياد حضور النزعة الإصلاحية في التفسير، التي ازدادت وضوحاً وجلاءً من خلال الفصول الإصلاحية الاستطرادية الكثيرة [5] التي كتبها رشيد، وأدرجها في تفسيره دون أن تكون هناك دائماً حاجة واضحة لذكرها في المواضع التي ذُكرت فيها في التفسير [6] وكذلك الفصول الاستطرادية العديدة التي عقدها للرد على المبشرين وحملاتهم، وبشكل خاص تلك الفصول التي جعلهم فيها في موقع الدفاع عن النفس عندما هاجم وبكل قوة عقائد الصلب والتثليث والفداء. وكذلك اعتماد رضا أسلوباً في الكتابة بعيداً عن لغة التجريد والتنظير، والمصطلحات والمفاهيم الدقيقة التي تعلو عن مستوى عامة قرائه، وفي المقابل سعيه إلى مراعاة السهولة والجمال في التعبير، بحيث يتمكن القارئ المحدود الثقافة والعلم من فهم عباراته، ويقف دون صعوبة على مراده منها، وبذلك استطاع تفسيره أن يحقق الهدف الذي أراده له رشيد رضا منه، وهو أن يتدبَّر القارئ القرآن الكريم، ويهتدي به، ويُعينه على "النهوض بإصلاح أمته، وتجديد شباب ملّته، الذي هو المقصود بالذات منه" (تفسير المنار1/16).
ثانيهما: أخبرنا رشيد رضا بنفسه عن منهجه في التفسير بعد أن انفرد في العمل بعد وفاة عبده، قائلاً: "هذا، وإنني لما استقللتُ بالعمل بعد وفاته، خالفتُ منهجه رحمه الله تعالى بالتوسع فيما يتعلق بالآية من السنة الصحيحة، سواء كان تفسيراً لها أو في حكمها، وفي تحقيق بعض المفردات أو الجمل اللغوية، والمسائل الخلافية بين العلماء، وفي الإكثار من شواهد الآيات في السور المختلفة" (تفسير المنار1/16).
يمكن أن نفهم من هذا النص أنَّ رشيد رضا قام بعد استقلاله بالعمل بتضييق فسحة حرية النظر اللغوي، والعقلي المستقل التي كان يمنحها عبده لنفسه أثناء تفسيره لصالح توسيع دائرة الاعتماد على النصوص الدينية: قرآناً وسنةً، وعلى أقوال السلف، بالإضافة إلى زيادة الاعتماد على التفريع الفقهي، والتوسع الكلامي واللغوي.
وتظهر آثار هذا التحول جليَّةً من خلال كثرة نُقولاته، الطويلة أحياناً، من مصادر التفسير بالأثر، وبشكل خاص: الطبري (ت310هـ)، والبغوي (ت516هـ)، وابن كثير (ت 774هـ)، والسيوطي (ت 911هـ). وكذلك نقله من مصادر التفسير اللغوي، وبشكل خاص تفسير الكشاف (ت538هـ)، بالإضافة إلى اعتماده على أمهات معاجم اللغة مثل لسان العرب لابن منظور (ت711هـ)، ومقاييس اللغة لابن فارس (ت 395هـ)، فضلاً عن اعتماده على معاجم ألفاظ القرآن الكريم، من مثل: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ).
ويمكن لنا أن نقرأ دلالة هذا التحول عند رشيد على أنها محاولةٌ منه لإدراج أفكاره الإصلاحية المعروضة في تفسيره في سياق التراث الإسلامي المعتمد في ميدان التفسير، وبذلك يمكن أن يحصل على شرعية القول الجديد في التفسير بأقل قدرٍ ممكن من معارضة الجمهور العريض، وممثليه من العلماء الرسميين، وهذا هو الذي حدثَ فعلاً، حيث وجد هذا التفسير قبولاً عاماً عند قرائه، وبذلك يكون رضا قد تحاشى قسماً كبيراً من الموجة العاصفة من الاعتراضات، والانتقادات التي قيلت بحق تفسير محمد عبده المستقلّ، والتي حكمت على منهجه بأنه تفسيرٌ بالرأي، وتفسير عقلاني، توفيقي، الأمر الذي أدى إلى إقصاء تفسيره من دائرة التأثير العام التي كان يطمح إليها.
ولنعد الآن إلى ذكر الملامح العامة التي ميّزت منهج وطريقة رشيد رضا في تفسيره:
1- كان رشيد رضا يلجأ في تفسيره للآيات الكريمة إلى القرآن الكريم نفسه أولاً، مؤكداً أنَّ "الآيات يفسِّر بعضها بعضاً إّذا نحن أخذنا القرآن بجملته كما أُمرنا " (تفسير المنار2/259) ثم كان يلجأ بعد ذلك كما صرح هو إلى "سنة رسول صلى الله عليه وسلم، وما جرى عليه سلف الأمة من الصحابة والتابعين في الصدر الأول.. وبأساليب لغة العرب، وسُنن الله في خلقه" (تفسير المنار، 6/196). أي الالتزام بالمنطق الداخلي المتماسك، والمنسجم للنص القرآني، والاعتصام بعواصم الأثر والخبر الصحيح، والأخذ بطرق اللغة العربية قي دلالة الألفاظ، والتراكيب على المعاني، ومقتضيات العقل السليم من خلال تحكيم سنن الله تعالى العاملة في الكون والتاريخ، واعتبارها إحدى مرجعيات، ومعايير التفسير السليم.
2- كان حريصاً في بداية تفسير كل مجموعة من الآيات الكريمة، أن يربط هذه الآيات ربطاً منطقياً محكماً بمجموعة الآيات التي تسبقها، أو بموضوع السورة الرئيسي الذي تتحدث عنه مجمل آيات السورة، وبذلك عمل رشيد رضا على إبراز الوحدة الموضوعية للسورة القرآنية، والسياق الواحد الذي يؤلف بين آياتها [7].
3- كان حريصاً عندما تتعرض الآية التي يفسّرها لقضيةٍ ما، أن يسرد ويحلّل بشكل موجز معظم الآيات الكريمة الأخرى التي تتحدث عن القضية نفسها، وبذلك يكون رضا من أوائل من تنبَّه لأهمية التفسير الموضوعي للقرآن الكريم في العصر الحديث.
4- كان معنياً بذكر أسباب النزول وتمحيص الروايات الواردة فيها، كما كان مهتماً بذكر القراءات القرآنية عند وجودها (تفسير المنار1/ 167، 3/ 247)، كما كان حريصاً أيضاً على ذكر الأحاديث النبوية التي تدور في فلك الآية أو الآيات التي يفسرها، ولم يغفل عند ذكره هذه الأحاديث، عن التعليق عليها، ونقد أسانيدها، وتمحيص رواتها، هذا فضلاً عن تخريجها، وعَزْوها إلى مصادر الحديث المعتمدة [8].
5- لم يتوسَّع في نقل أقوال النحاة، وعلماء البلاغة في إعراب الآيات القرآنية الكريمة، ووجوه البلاغة فيها إلا ما كان منهما ضرورياً لبيان معنى الآيات، وجمال الأسلوب القرآني، ودقة التعبير فيها (تفسير المنار 10 /524)، وكان هدفه من هذا الاقتصاد هو ألاَّ يشغل القارئ عن وجوه الهداية، والإصلاح في معاني الآيات المفسرة، وهي مقصوده الأول من التفسير، كما كان ذلك مقصود شيخه محمد عبده من تفسير القرآن [9].
وبشكل عام، فإنَّ رشيد رضا لم يكن يُكثر النقل عن العلماء السابقين في المجلدات الأولى من تفسيره، ولكنه وابتداءً من المجلد السابع، بدأ يُكثر، وينقل بإسهاب من الكتب والتفاسير السابقة، وخصوصاً كتب ابن حزم (ت 456هـ)، والغزالي(ت 505هـ)، وفخر الدين الرازي (ت 606هـ)، وابن تيمية (ت 728هـ)، وابن قيِّم الجوزية (ت751 هـ)، وابن كثير(ت774هـ)، والشاطبي (ت 790هـ).
6- لم يكن رشيد رضا حاسماً منذ البداية في موقفه إزاء تفسير الآيات الكريمة المتعلقة بالله تعالى وصفاته، وأمور الغيب بشكل عام، حيث كان يتأرجح بين موقفي السلف والخلف، أي بين موقف التنزيه مع التفويض من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، وبين موقف التنزيه مع التأويل فيما يتعلق في تفسير هذه الآيات الكريمة، حتى حسم موقفه بوضوح إزاء هذه القضايا بسبب إقباله الكبير على قراءة كتب أئمة الفكر السلفي، وعلى رأسهم ابن تيمية، وتَبَنيه لموقفهم بشكل كامل، مع الاحتفاظ لنفسه بذكر بعض تأويلات محمد عبده، وعلماء الخلف، وتأويلات خاصة به أحياناً، بسبب اقتناعه بضرورة هذه التأويلات في إقناع أصحاب الثقافة المادية والفلسفية الذين لا يقبلون التسليم بأمور الغيب كما وردت النصوص بها دون تأويل يُزيل التعارض الظاهري بينها، وبين العقل [10].
فهو مؤمن إيماناً تاماً بمنهج السلف في تفسير آيات الغيب، إلا أنه قدّم بعض التنازلات، عن قناعةٍ وإدراكٍ منه لِما يفعل، في هذا المجال إرضاءً لنزعته الإصلاحية التي قضت عليه هنا بسرد بعض التأويلات من أجل أن يكسب أنصاراً جدداً للإسلام من بين قُرائه من ذوي الثقافة العصرية، ومن أبناء المؤسسات التعليمية الحديثة الذين بدؤوا يهيمنون على مقاليد الحياة السياسية والثقافية في عصره.
7- لم يكن رشيد رضا يتحرَّج في مواضع كثيرة من مناقشة، ونقد شيخه محمد عبده في بعض آرائه، وخاصة في الأمور والمسائل العقدية التي مال فيها عبده عن مذهب السلف [11]، فهو لا يسلِّم له تسليماً مطلقاً، ولا يؤيِّد كلامه عندما يؤيده إلا بعد قناعةٍ منه، واتفاقٍ معه بالرأي، وليس عن طريق التقليد المحض الذي سبق أن ذمَّه كثيراً، وبهذا نعلم أن رشيد رضا كان يحتفظ بشخصيته العلمية المستقلة، حتى وهو ينقل كلام أستاذه، ومن باب أولى غيره من المفسرين [12].
8- قام بربط تفسير الآيات ومضمونها بواقع المسلمين ومشاكلهم السياسية والاجتماعية، واتخذ من تفسير الآيات وسيلة لتنبيه المسلمين، وتذكيرهم بالواجبات الملقاة على عاتقهم، وكثيراً ما كان يستفيد من هذا الربط، ويقوم بالانتقاد الشديد لمعظم علماء وشيوخ عصره الذين تمسكوا بالتقليد، وابتعدوا عن الاجتهاد، ولم يقوموا بدورهم في تذكير المسلمين، وربط حياتهم بالقرآن الكريم، والسنة الصحيحة. (تفسير المنار، 4/ 98، 318)
9- كان حريصاً في نهاية تفسير كل سورة تقريباً، على كتابة خلاصة إجمالية لأحكامها، وقواعدها، ومقاصدها [13]، يركِّز فيها بشكل خاص على السُنن الإلهية الكثيرة التي أوردها في ثنايا الآيات المفسَّرة (تفسير المنار، 9 / 559 - 585)، بحيث يمكننا القول: إنَّ استنباط السُنن الإلهية في الخلق والتكوين، وفي الاجتماع والعمران البشري، وشؤون الأمم من القرآن الكريم، من أهم وأبرز السِّمات والخصائص التي تمَيَّز تفسير المنار بها عن مختلف التفاسير الأخرى.
____________
*باحث فلسطيني متخصص في الفكر الإسلامي الحديث
[1] رضا، رشيد، تفسير المنار، 1 / 14. نلاحظ من كلام رشيد رضا هنا مدى وضوح وحضور الغاية الإصلاحية وراء اقتراحه بل إلحاحه على محمد عبده أن يكتب تفسيراً للقرآن الكريم. وعلى هذا يمكن أن نقول: إن مشروع كتابة تفسير "المنار" كان منذ اللحظة الأولى لولادته استجابةً معرفية لمشروع إصلاحي تغييري، ولم يكن استجابة للآمر العلمي المحض عند صاحبيه عبده ورضا على السواء.
[2] لقد تركت هذه المدة الطويلة التي دُوِّن فيها تفسير "المنار"، وما حدث فيها من تقلبات سياسية، بعض الآثار السلبية عليه، مثل التطويل، والإسهاب، والتكرار، وظهور شيء من النزعة الخطابية في بعض المواضع. انظر، الشرباصي، أحمد، رشيد رضا الصحفي، المفسِّر، (القاهرة، مجمع البحوث الإسلامية، ط1، 1977م) 152ـ 157.
[3] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، (الكويت، مكتبة المعلا، ط1، 1409هـ/1988م) 317.
[4] يصف لنا رشيد رضا هوية الفئة التي كانت تحضر دروس محمد عبده بقوله: "هذا وإن درس التفسير في الأزهر كان أحفل الدروس وأنفعها في الدين، والاجتماع، والسياسة، والأدب والبلاغة، وكان يحضره كثير من علماء الأزهر، وأساتذة المدارس الثانوية والعالية، وكبار رجال القضاء الأهلي، وفضلاء الوجهاء، ورجال الحكومة". رضا، رشيد، تاريخ الأستاذ الإمام، (القاهرة، مطبعة المنار، ط1، 1350هـ/ 1931م) 1/769.
[5] ذكر رشيد رضا أن سبب ذكر هذه الاستطرادات هو تحقيق "مسائل تشتد حاجة المسلمين إلى تحقيقها بما يُثبِّتهم بهداية دينهم في هذا العصر، أو يقوي حجتهم على خصومه من الكفار والمبتدعة، أو يحلَّ بعض المشكلات التي أَعيَا حلُّها بما يطمئن به القلب، وتسكن إليه النفس " تفسير المنار، 1/16.
[6] كان رشيد رضا يدرك بنفسه هشاشة الصلة بين معظم هذه الفصول، وبين نسيج النص التفسيري الذي أٌضيفت إليه، لذلك لم يتردد في القول "وأستحسن للقارئ أن يقرأ الفصول الاستطرادية الطويلة وحدها في غير الوقت الذي يُقرأ فيه التفسير". المصدر السابق، 1/16.
[7] انظر على سبيل المثال تقريره لارتباط آية الدَيْن الطويلة بما سبقها من آيات الحثّ على الصدقة وتحريم الربا في آخر سورة البقرة، تفسير المنار، 3 / 118 - 119. وانظر أيضاً، 4/ 122ـ 123، 256ـ 257، 434 ـ 435.
[8] انظر، على سبيل المثال، تفسير المنار، 3 /82 - 91. وانظر أيضاً، شقير، شفيق، موقف المدرسة العقلية الحديثة من الحديث الشريف: دراسة تطبيقية على تفسير المنار، (بيروت، المكتب الإسلامي، ط1، 1419هـ/ 1998م)، 275ـ 408.
[9] أشار رشيد رضا إلى أن للقرآن الكريم بلاغتين، بلاغة مضمونه ومعانيه، وتأتي في المقام الأول، وبلاغة ألفاظه وأساليبه، وتأتي على الرغم من أهميتها في المقام الثاني. فها هو يقول "وإن كثرة البحث في الثاني -يقصد البلاغة اللفظية- ليشغل المفسر عن الأول الخاص منه بالهداية، وإصلاح النفس وتزكيتها، ولهذا السبب نقتصر منه في تفسيرنا على ما قصر فيه المفسرون باختصار لا يشغل عن الهداية المقصودة بالذات، وقد نجعله من باب الاستطراد بعد بيان معنى الآية أو الآيات". تفسير المنار، 12/ 91. انظر أيضاً، 10 / 524.
[10] يقول رشيد رضا: "وينبغي أن تعلم أيها القارئ المؤمن أنَّ من الخير لك أن تطمئن قلباً بمذهب السلف، ولا تحفل بغيره، فإن لم يطمئن قلبك إلا بتأويلٍ يرضاه أسلوب اللغة العربية، فلا حرج عليك، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.. والذي عليك قبل كل شيء أن توقن بأن كلام الله كله حق، وألا تؤول شيئاً منه بسوء قصد.. والتفسير الموافق للغة العرب لا يُسمى تأويلاً، وإنما يجب معه تنزيه الخالق، وعدم تشبيه عالم الغيب بعالم الشهادة من كل وجه". تفسير المنار، 1/ 252ـ 253. وفي الحقيقة فقد ذكر رضا هذا الكلام في المجلد الأول من تفسيره الذي نشره بشكل مستقل بعد أن أضاف عليه إضافات كثيرة، عام 1346هـ/1927م، أي في المرحلة التي تشبَّع فيها رضا من الفكر السلفي، دون أن يتخلى في الوقت نفسه عن تمسكّه بمشروع محمد عبده الإصلاحي بشكل عام.
[11] انظر مناقشته لمحمد عبده في الفرق بين الذنب والسيئة، تفسير المنار، 4 / 302 - 304. وانظر نقده له في مسألة "الغُلو"، وانتصاره لمذهب السلف في تقرير هذه المسألة، تفسير المنار، 1 / 395. وانظر أيضاً، 2/ 139.
[12] انظر على سبيل المثال نقده لفخر الدين الرازي، تفسير المنار، 1/ 68، 4/ 61ـ 63. ونقده لشهاب الدين الآلوسي (ت1854م) صاحب تفسير "روح المعاني "، 1/ 91ـ 94.
[13] وصف رشيد رضا عمله هذا بأنه " أشق عمل في التفسير، ولم أُسبق لمثله ". أرسلان، شكيب، السيد رشيد رضا أو إخاء أربعين سنة، (دمشق، مطبعة ابن زيدون، ط1، 1356هـ/ 1937م) 615.
_____________
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021206396&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
سفرطاس
08-09-2009, 06:20 PM
الإنفاق العام..الفريضة الغائبة
تقدم هذه الحلقة من "تفسير المنار" آية كريمة تدعو للإنفاق العام في وجوه بناء قوة الأمة المادية والمعنوية، على اعتبار أن قراءة القرآن الكريم لابد أن تكون مرتبطة بقضايا الإنسان المسلم وهمومه، وأن يمتلك المفسر قدرة على تشخيص مشكلات الواقع وإيجاد قدر كبير من التفاعل بين النص المقدس وتلك القضايا..فالقرآن يحتاج إلى قراءة منتجة وليست معطلة لمقاصد القرآن وغاياته.
وتسعى مدارك أن تقدم هذه المختارات من ذلك التفسير الذي تجاوز الاقتراب البلاغي واللغوي إلى جعل النص القرآني محورا للعمران ومركزا للقيم المنتجة للنهوض والتقدم.
يقول تعالى: (مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ).
ذكر الله تعالى حكم الإنفاق في سبيله في هذه الآية بعبارة تستفز النفوس، وأسلوب يحفز الهمم، ويبسط الأكف بالكرم، فقال: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً) فهذه العبارة أبلغ من الأمر المجرد، ومن الأمر المقرون ببيان الحكمة، والتنبيه إلى الفائدة، والوجه في اختيار هذا الأسلوب هنا على ما قرره الأستاذ الإمام أن الوازع إلى البذل في المصالح العامة ضعيف في نفوس الأكثرين، والرغبة فيه قليلة؛ إذ ليس فيه من اللذة والأريحية ما في البذل للأفراد، فاحتيج فيه للمبالغة في التأثير.
ومما يدفع الغني إلى بذل شيء من فضل ماله لأفراد ممن يعيش معهم أمور كثيرة: منها إزالة ألم النفس برؤية المعوزين والبائسين، ومنها اتقاء حسد الفقراء، واكتفاء شرهم والأمن من اعتدائهم، ومنها التلذذ برؤية يده العليا، وبما يتوقعه من ارتفاع المكانة في النفوس، وتعظيم من يبذل لهم وشكرهم وحبهم؛ فإن السخي محبب إلى جميع الناس، من ينتفع منهم بسخائه ومن لا ينتفع.
وإذا كان البذل إلى ذوي القربى أو الجيران، فحظ النفس فيه أجلى، وشفاء ألم النفس به أقوى، فإن ألم جارك وقريبك ألم لك، ويتعذر على الإنسان أن يكون ناعمًا بين أهل البؤس والضراء، سعيدًا بين الأشقياء، فكل هذه حظوظ للنفس في البذل للأفراد تسهل عليها امتثال أمر الله فيه وإن لم يكن مؤكدًا، وقد يكون فيها من الرياء وحب السمعة ما ينافي كونها قربة وتعبدًا.
وأما البذل الذي يراد هنا -وهو البذل للدفاع عن الدين وإعلاء كلمته وحفظ حقوق أهله- فليس فيه شيء من تلك الحظوظ التي تسهل على النفس مفارقة محبوبها (المال) إلا إذا كان تبرعًا جهريًا يتولى جمعه بعض الحكام والأمراء أو يجمع بأمر الملوك والسلاطين؛ ولذلك يقل في الناس من يبذل المال في المصالح العامة لوجه الله تعالى، فلهذا كان المقام يقتضي مزيدًا التأكيد، والمبالغة في الترغيب وليس في الكلام ما يدرك شأو هذه الآية في تأثيرها، ولاسيما موقعها هذا بعد بيان سنة الله تعالى في موت الأمم وحياتها.
وحسبك أنه تعالى جعل هذا البذل بمثابة الإقراض له، وهو الغني عن العالمين الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وإنما يقترض المحتاج، وأنه عبر عن طلبه بهذا الضرب من الاستفهام، المستعمل للإكبار والاستعظام، فإنه إنما يقال من ذا الذي يعمل كذا؟ في الأمر الذي يندر أن يقدم عليه أحد، يقال من ذا يتطاول إلى الملك فلان؟ أو من ذا الذي يعمل هذا العمل وله كذا؟ إذا كان عظيمًا أو شاقًا يقل من يتصدى له، قال تعالى: (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)، وقال: (قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ) الآية، ولا يقال: من ذا الذي يشرب هذه الكأس المثلوجة؟ وهجير الصيف متقد، والسموم تلفح الوجوه.
غير أن الله لم يكتف بتسميته إقراضًا وبالتعبير عنه بهذا الاستفهام حتى قال: (فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً) ذلك أن الإقراض هو أن تعطي إنسانًا شيئا من المال على أن يرد إليك مثله، فالتعبير بالإقراض يقتضي أن القرض لا يضيع، وليس هذا بكاف في الترغيب الذي تقتضيه الحال هنا، فصرح بأنه لا يرد مثله، بل أضعاف أضعافه من غير تحديد، وقد قال في مقام آخر: (وَمَا أَنفَقْتُم مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ) وهو كاف هناك لما علمت من الفصل بين المقامين، والتفاوت بين الناس في الحالين، وإنك لتجد الناس على هذا التأكيد في الترغيب قلما يجودون بأموالهم في المصالح العامة (وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) (سبأ: 13).
قال الأستاذ الإمام: معلوم أن الله تعالى غني عن العالمين، فلا يحتاج إلى شيء لذاته، ولا هو عائل لجماعة معينين فيقترض لهم، فلا بد لهذا التعبير بالإقراض من وجه صحيح -أي غير ما يعطيه الأسلوب من الترغيب- فما هذا الوجه؟
ورد في الحديث أن الفقراء عيال الله على الأغنياء؛ لأن الحاجات التي تعرض لهم يقضيها الأغنياء؛ ومعنى كونهم عيال الله: أن ما أصابهم من الفاقة والعوز إنما كان بالجري على سنن الله في أسباب الفقر، وللفقر أسباب كثيرة، منها الضعف والعجز عن الكسب، ومنها إخفاق السعي، ومنها البطالة والكسل، ومنها الجهل بالطرق الموصلة، ومنها ما تسوقه الأقدار من نحو حركات الرياح، واضطراب البحار واحتباس الأمطار، وكساد التجارة ورخص الأسعار، والأغنياء متمكنون من إزالة بعض هذه الأسباب أو تدارك ضررها وإضعاف أثرها كإزالة البطالة بإحداث أعمال ومصالح للفقراء، وإزالة الجهل بالإنفاق على التعليم والتربية؛ تعليم طرق الكسب والتربية على العمل والاستقامة والصدق.
وإذا كان فقر الفقير إنما هو بالجري على سنة من سنن الله، فإزالة سبب فقره أو مساعدته عليه أو فيه إنما يجري على سنة من سننه تعالى أيضًا، كما أن غنى الغني كذلك، فالإنفاق لإحياء سنة الله ومساعدة من ينتسبون إلى الله تعالى على أنهم عياله -إذ لا غنى لهم بكسبهم ولا حول لهم ولا قوة- ينزل منزلة الإقراض له تعالى، فالفقراء عيال والله يعولهم بأيدي الأغنياء، ويعول الأغنياء بتوفيقهم لأسباب الغنى.
أقول: هكذا وجه العبارة إمامنا، رحمه الله تعالى، بعد أن قال: إن الحث على الإنفاق في هذه الآية يراد به الإنفاق في المصلحة العامة، لا مواساة الفقير، فكأنه أراد أن يبين صحة التعبير في نفسه حيثما ورد وإن استعمل في مقام آخر، كقوله تعالى في سورة التغابن: (إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) (التغابن: 17).
ودخل فيما ذكره بعض المصالح العامة، وهو ينطبق على سائرها، فإن القتال لحماية الدين وتأمين دعوته، وللدفاع عن الأنفس، والبلاد هو من سنن الله تعالى في الاجتماع البشري، فالإنفاق فيه يصح أن يسمى إقراضًا لله تعالى باعتبار إقامة سنته به على وجه الحق الذي يرضيه جل شأنه، وقد كنت أزيد مثل هذا البحث فيما أكتبه وأسنده إليه في حياته اعتمادًا على إجازته مع كونه مما يقتضيه قوله.
والتعبير عن الإنفاق بالإقراض الذي يشعر بحاجة المستقرض إلى المقرض عادة جدير بأن يملك قلب المؤمن ويحيط بشعوره ويستغرق وجدانه حتى يسهل عليه الخروج من كل ما يملك ابتغاء مرضاة الله وحياء منه، فكيف وقد وعد برده مضاعفًا أضعافًا كثيرة ووعده الحق؟
هذا التعبير بمثابة الهز والزلزال لقلوب المؤمنين، فقلب لا يلين له ويندفع به إلى البذل قلب لم يمسه الإيمان، ولم تصبه نفحة من نفحات الرحمن، قلب خاو من الخير، فائض بالخبث والشر.
أي لطف من عظيم يداني هذا اللطف من الله تعالى بعباده؟ جبار السموات والأرض رب كل شيء ومليكه، الغني عن العالمين، الفعال لما يريد، المقلب لقلوب العبيد، يرشد عباده الذين أنعم عليهم بفضل من المال واختصهم بشيء من النعمة إلى مواساة إخوانهم بما فيه سعادة لهم أنفسهم، ولمن يعيش معهم، ويهديهم إلى بذل شيء من فضول أموالهم في المصالح العامة التي فيها صلاح حالهم، وحفظ شرفهم واستقلالهم فيبرز هذا الهدي والإرشاد في صورة الاستفهام دون صيغة الأمر والإلزام، ويسمى نفسه مقترضًا ليشعر قلب الغني بمعنى الحاجة التي ربما تصيبه يومًا من الأيام، ثم هو يعده بمضاعفة ذلك العطاء.
أيكون هذا اللطف كله منه بعبده الذي غمره بنعمته، وفضله على كثير من خلقه، ثم يجمد قلب هذا العبد وتنقبض يده، ولا يستحي من ربه، ولا يثق بوعده، ويقال مع هذا: إنه مؤمن به وبأن ما أصابه من الخير فهو من عنده؟ كلا.
مثل في نفسك ملكًا من ملوك الدنيا يريد أن يجمع إعانة للفقراء أو لمصلحة من مصالح الدولة، وقد خاطبك بمثل هذا الخطاب في التلطف والاستعطاف، ومثل في خيالك موقع قوله من قلبك، وأثر كلامه في يديك.
الإنفاق والمصلحة العامة
أما كون القرض حسنًا، فالمراد به ما حل محله، ووافق المصلحة لا ما وضع موضع الفخفخة وقصد به الرياء والسمعة، نعم إن ما أنفق في المصالح العامة حسن -وإن أريد به الشهرة- ولكنه لا يكون دالاً على إيمان المنفق وثقته بربه وابتغائه مرضاته، ولا على حبه الخير لذاته لارتقاء نفسه وعلو همته بما استفاد من فضائل الدين وحسن التهذيب، فلا يكون له حظ من نفقته يقربه إلى ربه زلفى، بل يكون كل جزائه تلك السمعة الحسنة "فهجرته إلى ما هاجر إليه".
ومن الناس من ينفق في المصالح بنية حسنة، ولكن بغير بصيرة تريه مواطن المنفعة بنفقته، فيبنى مسجدًا، حيث تكثر المساجد، فيكون سببًا في زيادة تفرق الجماعة، وذلك مخالف لحكمة الشرع، أو يبني مدرسة ولا يحسن اختيار المعلمين لها، أو يفرض لها من النفقة ما لا يكفي لدوامها، فيسرع إليها الخراب، أو يضع فيها معلمين فاسدي الاعتقاد أو الآداب، فيفسدون ولا يصلحون.
فمثل هذا كله لا يقال له قرض حسن، وإنما يكون الإنفاق قرضًا حسنًا مستحقًا للمضاعفة الكثيرة، إذا وضع موضعه مع البصيرة وحسن النية؛ ليكون على الوجه المشروع من إقامة الدين وحفظ مصالح المسلمين أو منفعة جميع الأنام من الطريق الذي شرعه الإسلام.
وأما هذه المضاعفة إلى أضعاف كثيرة -وسيأتي في آية أخرى بلوغها سبعمائة ضعف، والمراد الكثرة- فهي تكون في الدنيا والآخرة؛ ذلك بأن المنفق لإعلاء كلمة الله ولتعزيز الأمة وللمدافعة عن الحق والحقيقة يكون مدافعًا عن نفسه ومعززًا لها وحافظًا لحقوقها؛ لأن اعتداء المعتدين على الأمة إنما يكون بالاعتداء على أفرادها، فضعف الأمة وإذلالها وضياع حقوقها لا يتحقق إلا بما يقع على أفرادها وهو منهم، والبلاء يكون عامًا (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً) (الأنفال: 25).
ثم إن الأمة التي يبذل أغنياؤها المال وتقوم بفريضة التعاون على الأعمال، فيكفل غنيها فقيرها، ويحمي قويها ضعيفها، تتسع دائرة مصالحها ومنافعها، وتكثر مرافقها وتتوفر سعادتها، وتدوم على أفرادها النعمة، ما استقاموا على البذل والتعاون في المصالح العامة، ثم إنهم يكونون بذلك مستحقين لسعادة الآخرة ومضاعفة الثواب فيها.
الإنفاق حياة الأمم
وأقول: لو سرنا في الأرض وسبرنا أحوال الأمم الحاضرة، وعرفنا تاريخ الأمم الغابرة لرأينا كيف ماتت الأمم التي قصرت في هذه الفريضة، أو استعبدت، وكيف عزت الأمم التي شمرت فيها وسعدت، وهذه المضاعفة الدنيوية تكون لكل أمة أقامت هذه السنة الإلهية في حفظ بيضتها، وإعزاز سلطانها، سواء أكان المنفقون فيها يبتغون الأجر عند الله تعالى أم لا، وإنها لمضاعفة كثيرة لا يمكن تحديدها، فما أجهل الأمم الغافلة عنها وعن حال أهلها إذا يرون أهلها قد ورثوا الأرض وسادوا الشعوب فيتمنون لو كانوا مثلهم، ولا يدرون كيف يكونون كذلك!.
ومن العجب أن يكون المسلمون اليوم أجهل الأمم والشعوب بهذه السنة الإلهية وهم يتلون كتاب الله آناء الليل، وأطراف النهار، ولا تتحرك قلوبهم، ولا تنبسط أيديهم عند تلاوة آياته الحاثة على بذل المال في سبيله، ولاسيما هذه الآية التي لو أنزلت على جبل لرأيته خاشعًا متصدعًا من هيبة الله تعالى والحياء منه، عمل بهذه الهداية قوم فسعدوا، وتركها آخرون فشقوا، فإن كان قد فات الأولين قصد مرضاة الله بإقامة سنته فحرموا ثواب الآخرة، فقد خسر الآخرون بتركها السعادتين، وذلك هو الخسران المبين.
ومن التفسير المأثور في الآية ما رواه ابن أبي حاتم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوله: "القرض الحسن: المجاهدة والإنفاق في سبيل الله" وهو إجمال لما تقدم تفصيله، ومن محاسن عبارات المفسرين هنا: أن لفظ المضاعفة هنا للمبالغة بما في الصيغة من معنى المبالغة.
قرأ أبو عمرو ونافع والكسائي (فيضاعفه) بالضم بتقدير: فهو يضاعفه، وقرأه عاصم بالنصب لوقوعه في حيز الاستفهام المعروف في قواعد النحو، وقرأ ابن كثير (فيضعفه) بالرفع والتشديد وابن يعقوب وابن عامر بالنصب، والتضعيف يدل على التكثير والتكرار.
وفي قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ)، قرأها نافع والكسائي، والبزي، وأبو بكر (يبصط) بالصاد، وهي لغة، كأن الأصل فيها تفخيم السين لمجاورة الطاء، يقبض الرزق عن بعض الناس فيجهلون طرقه التي هي سنن الله تعالى فيه، أو يضعفون في سلوكها، ويبسطه لمن يشاء بما يهديهم إلى تلك السنن، ويفتح لهم الأبواب ويسهل لهم الأسباب.
ولو شاء الله أن يغني فقيرًا ويفقر غنيًا لفعل، فإن الأمر كله له وبيده القبض والبسط، وهو واضع السنن الهادي إليها، والموفق للسير عليها، فليس حضه الأغنياء على مواساة الفقراء والإنفاق في المنافع العامة أو الخاصة من حاجة به أو عجز منه سبحانه، كلا بل هي هدايته الإنسان إلى طريق الشكر على النعم بما يحفظها ويفضي إلى المزيد فيها، حتى يبلغ كماله الاجتماعي الذي أعده له بحكمته.
قال بعض المفسرين: يقبض بعض الأيدي عن البذل، ويبسط بعضها بالفضل، ومن ناحيته قال الأستاذ الإمام: وهو لا يتفق مع ما تقدمه من الآية ولا يظهر بعده ما تضمنه قوله تعالى: (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) من الوعد والوعيد؛ أي لأنهن لا بد أن يكون مرتبًا على عمل لنا فيه كسب واختيار، لا على ما تصرفه الأقدار.
وقد قال بعض العلماء: إن هذا التعقيب يدل على أن البذل واجب يعاقب على تركه، أقول يريد عقاب الآخرة، وأما عقاب الدنيا فهو أظهر؛ لأنه مشاهد لأرباب البصائر الباحثين في شئون الأمم، إذا لا يبحثون في حال أمة عزيزة إلا ويرون أن بذل أغنيائها المال لنشر العلوم وإتقان الأعمال، وتعاون أفرادها على مصلحتها هي أسباب عزتها، ورفعتها، ولا يبحثون في حال أمة ذليلة مقهورة إلا ويرون أغنياءها ممسكين وأفرادها غير متعاونين.
من هنا، علمنا أن قوله تعالى: (وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ) إلخ، بيان لطريق المضاعفة ودليل عليه، وتذكير بالله وبتدبيره لخلقه وبمصير الخلق إليه، أي فهو يضاعف لهم في الدارين، وقد عهدنا في القرآن ختم آيات الأحكام بمثل هذا، وعندي أن هذه الآية أبلغ آياته.
قال الأستاذ الإمام: الرجوع إلى الله تعالى رجوعان:
رجوع في هذا العالم إلى سنته الحكيمة ونظام خليقته الثابت، ككون تحصيل الغني يكون بكذا من عمل العامل وكذا من توفيق الله تعالى وتسخيره، وكون الفقر يكون بكذا وكذا من نحو ذلك، وككون البذل من فضل المال يأتي بكذا وكذا من المنافع الخاصة بالباذل والعامة لقومه الذين يعتز بعزتهم ويسعد بسعادتهم، وكون ترك البذل يأتي بكذا وكذا من المفاسد والمضار العامة والخاصة لا يستقل الإنسان بعمل من ذلك تمام الاستقلال بحيث يستغني به عن الرجوع إلى الله تعالى بالحاجة إلى معونته وتوفيقه وتسخير الأسباب له.
أقول: ولو فرض أن بعض أعماله يتم بكسبه وسعيه وجده لما كان راجعًا إلى الله تعالى فيه، لأنه ما عمل ولا وصل إلى بالسير على سنته، وإنما يكون مستغنيًا عن الله تعالى إن قدر أن يغير سننه ونظام خلقه وينفذ بعمله من محيط ملكه وسلطانه (إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ) (الرحمن: 33 - 34).
قال: وأما الرجوع الآخر فهو الرجوع في الدار الآخرة، حيث تظهر نتائج الأعمال وآثارها (يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ) (الانفطار: 19).
_________________
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021421440&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
سفرطاس
13-09-2009, 07:25 PM
المنار: لا تصطدموا بسنن الكون
نارالأورد الإمام محمد عبده في تفسيره للآيات التي تتحدث عن غزوة أحد أنه رأى النبي-صلى الله عليه وسلم- في منامه راجعا من أحد هو وأصحابه، وهو يقول:" لو خيرت بين النصر والهزيمة في أحد لاخترت الهزيمة"
وتشرح هذه الآيات الكريمة سنة من سنن الله تعالى في المجتمعات الإنسانية وكيف يجب أن تتربى الأمة المسلمة على احترام سنن الله الكونية وألا تصطدم بها؛ لأن تلك السنن غلابة ولا تبديل لها ولا تحويل؛ ولذا جاء الفشل في أحد كما وصفه القرآن الكريم ليربي المسلمين تربية عملية؛ لأن الاقتصار على الدليل العقلي ليس كافيا للأمة في ضرورة احترام السنن الكونية.
وتقدم "مدارك" هذه الحلقات التفسيرية "المنارية" لتلقي بعصا تسهم في استبصار طريق فهم القرآن معرفيًا، وتجاوز مرحلة التلاوة اللفظية إلى مراحل أرحب من الفهم والتدبر
يقول الله عز وجل: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ * وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ * إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ).
هذه الآيات وما بعدها في قصة "أحد" وما فيها من السنن الاجتماعية، والحكم، والأحكام، متصلة بقوله عز جل: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ..) الآيات، التي تقدمت، وذكرنا حكمة النهي عن الربا والأمر بالمسارعة إلى المغفرة، ووصف المتقين في سياق الكلام على هذه القصة.
وقد قال الإمام الرازي في بيان وجه الاتصال: "إن الله تعالى لما وعد على الطاعة والتوبة من المعصية الغفران والجنات أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الطاعة وعلى التوبة من المعصية، وهو تأمل أحوال القرون الخالية من المطيعين والعاصين"، وإنما هذا الذي قاله بيان لاتصال الآية الأولى من هذه الآيات بما قبلها مباشرة مع صرف النظر عن السياق والاتصال بين مجموع الآيات السابقة واللاحقة.
ذكر في الآيات السابقة خبر وقعة "أحد" وأهم ما وقع فيها مع التذكير بوقعة "بدر" وما بشروا به في ذلك، وفي هذه الآيات وما بعدها يذكر السنن والحكم في ذلك، ويعلم المؤمنين من علم الاجتماع ما لم يكونوا يعلمون؛ ولذلك افتتحها بقوله الحكيم: (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ).
"التمهيد" في القرآن
وفي هذا، قال الأستاذ الإمام: إن بعض المفسرين يجعل الآيتين الأوليين من هذه الآيات تمهيدًا لما بعدها من النهي عن الوهن والحزن وما يتبع ذلك، كأنه يقول: إن هذا الذي وقع لا يصح أن يضعف عزائمكم فإن السنن التي قد خلت من قبلكم تبين لكم كيف كانت مصارعة الحق للباطل، وكيف ابتلى أهل الحق أحيانًا بالخوف، والجوع، والانكسار في الحرب، ثم كانت العاقبة لهم، فانظروا كيف كانت عاقبة المكذبين للرسل المقاومين لهم، فإنهم كانوا هم المخذولين المغلوبين، وكان جند الله هم المنصورين الغالبين، وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا لما أصابكم في أحد.
ثم قال ما مثاله مع إيضاح وزيادة: هذا رأي ضعيف فإن ذكر السنن بعد آيات متعددة في موضوعات مختلفة تفيد معاني كثيرة، فإن الله تعالى نهى المؤمنين عن اتخاذ بطانة من الأعداء الذين بدت لهم بغضاؤهم، وبين هو لهم مجامع خبثهم وكيدهم، ثم ذكر النبي والمؤمنين بوقعة "أحد" وما كان فيها بالإجمال، وذكرهم بنصره لهم ببدر، ثم ذكر المتقين وأوصافهم وما وعدوا به.
ثم ذكر الله عز وجل بعد ذلك كله مضي السنن في الأمم، وأنه بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين، فذكر السنن بعد ذلك كله يفيد معاني كثيرة تحتاج إلى شرح طويل جدًّا لا معنى واحدًا كما قيل، وإن في القرآن من إفادة المباني القليلة للمعاني الكثيرة بمعونة السياق والأسلوب، ما لا يخطر في بال أحد من كتاب البشر وعلمائهم.
ومثل هذا مما تجب العناية ببيانه، يقول الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز: إن كون القرآن معجزًا ببلاغته يوجب علينا أن نجعل أسلوبه الذي كان معجزًا به فنًا ليبقى دالاً على وجه إعجازه.
كذلك أقول: إن إرشاد الله إيانا إلى أن له في خلقه سننا يوجب علينا أن نجعل هذه السنن علمًا من العلوم المدونة لنستديم ما فيها من الهداية والموعظة على أكمل وجه، فيجب على الأمة في مجموعها أن يكون فيها قوم يبينون لها سنن الله في خلقه كما فعلوا في غير هذا العلم من العلوم والفنون التي أرشد إليها القرآن بالإجمال، وقد بين العلماء تلك السنن بالتفصيل عملاً بإرشاده، كالتوحيد، والأصول، والفقه.
العلم بسنن الله
والعلم بسنن الله تعالى من أهم العلوم وأنفعها، والقرآن يدل عليه في مواضع كثيرة، وقد دلنا على مأخذه من أحوال الأمم، إذ أمرنا أن نسير في الأرض لأجل اجتلائها ومعرفة حقيقتها، ولا يحتج علينا بعدم تدوين الصحابة لها، فإن الصحابة لم يدونوا غير هذا العلم من العلوم الشرعية التي وضعت لها الأصول والقواعد، وفرعت منها الفروع والمسائل.
قال: وإنني لا أشك في كون الصحابة كانوا مهتدين بهذه السنن وعالمين بمراد الله من ذكرها، يعني أنهم بما لهم من معرفة أحوال القبائل العربية والشعوب القريبة منهم، ومن التجارب والأخبار في الحرب وغيرها، وبما منحوا من الذكاء والحذق وقوة الاستنباط، كانوا يفهمون المراد من سنن الله تعالى ويهتدون بها في حروبهم وفتوحاتهم وسياستهم للأمم التي استولوا عليها.
لذلك قال: وما كانوا عليه من العلم بالتجربة والعمل أنفع من العلم النظري المحض، وكذلك كانت علومهم كلها، ولما اختلفت حالة العصر اختلافًا احتاجت معه الأمة إلى تدوين علم الأحكام وعلم العقائد وغيرهما كانت محتاجة أيضًا إلى تدوين هذا العلم، ولك أن تسميه علم السنن الإلهية أو علم الاجتماع أو علم السياسة الدينية، سم بما شئت فلا حرج في التسمية.
ثم قال: ومعنى الجملة: انظروا إلى من تقدمكم من الصالحين، والمكذبين، فإذا أنتم سلكتم سبيل الصالحين فعاقبتكم كعاقبتهم، وإن سلكتم سبل المكذبين فعاقبتكم كعاقبتهم، وفي هذا تذكير لمن خالف أمر النبي صلى الله عليه وسلم في أحد، ففي الآية مجاري أمن ومجاري خوف، فهو على بشارته لهم فيها بالنصر وهلاك عدوهم ينذرهم عاقبة الميل عن سننه، ويبين لهم أنهم إذا ساروا في طريق الضالين من قبلهم فإنهم ينتهون إلى مثل ما انتهوا إليه، فالآية خبر وتشريع، وفي طيها وعد ووعيد.
وأقول: السنن جمع سنة وهي الطريقة المعبدة والسيرة المتبعة، أو المثال المتبع، قيل إنها من قولهم: سن الماء إذا والى صبه، فشبهت العرب الطريقة المستقيمة بالماء المصبوب، فإنه لتوالي أجزائه على نهج واحد يكون كالشيء الواحد، ومعنى (خلت): مضت وسلفت.
فأمر البشر في اجتماعهم وما يعرض فيه من مصارعة الحق للباطل، وما يتبع ذلك من الحرب والنزال والملك والسيادة، وغير ذلك قد جرى على طرق قويمة وقواعد ثابتة اقتضاها النظام العام، وليس الأمر أنفًا كما يزعم القدرية، ولا تحكمًا واستبدادًا كما يتوهم الحشوية.
وقد جاء ذكر السنن الإلهية في مواضع من الكتاب العزيز، كقوله في سياق أحكام القتال وما كان في وقعة بدر (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِن يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الأَوَّلِينَ) (الأنفال: 38)، وقوله في سياق أحوال الأمم مع أنبيائهم: (وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ) (الحجر: 13) وقوله في سياق دعوة الإسلام: (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُـمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ العَذَابُ قُبُلاً) (الكهف: 55) وقوله في مثل هذا السياق: (فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً) (فاطر:43)، وصرح في سورة أخرى كما صرح هنا بأن سننه لا تتبدل ولا تتحول كسورة بني إسرائيل، وسورة الأحزاب وسورة الفتح.
هذا إرشاد إلهي، لم يعهد في كتاب سماوي، ولعله أرجئ إلى أن يبلغ الإنسان كمال استعداده الاجتماعي، فلم يرد إلا في القرآن، الذي ختم الله به الأديان.
كان الملِّيُّون من جميع الأجيال يعتقدون أن أفعال الله تعالى في خلقه تشبه أفعال الحاكم المستبد في حكومته، المطلق في سلطته، فهو يحابي بعض الناس فيتجاوز لهم عما يعاقب لأجله غيرهم، ويثيبهم على العمل الذي لا يقبله من سواهم، لمجرد دخولهم في عنوان معين، وانتمائهم إلى نبي مرسل، وينتقم من بعض الناس؛ لأنهم لم يطلق عليهم ذلك العنوان، أو لم يتفق لهم الانتماء إلى ذلك الإنسان.
التزام السنن طريق المشيئة
هذا ما كانوا يظنون في دينهم ويسندونه إلى مشيئة الله المطلقة، من غير تفكير في حكمته البالغة، وتطبيقها على سننه العادلة، فإن نبههم منبه إلى ما يصيبهم بل ما أصاب أنبياءهم من البلاء: قالوا إنه تعالى يفعل ما يشاء، وذلك رفع درجات أو تكفير للسيئات، وأشباه هذا الكلام الذي يشتبه عليهم حقه بباطله، ويلتبس عليهم حاليه بعاطله، وقد كان وما زال علة غرور أصحابه بدينهم، واحتقارهم لكل ما عليه غيرهم، فجاء القرآن(1) يبين للناس أن مشيئة الله تعالى في خلقه إنما تنفذ على سنن حكيمة وطرائق قويمة، فمن سار على سننه في الحرب مثلا ظفر بمشيئة الله وإن كان ملحدًا أو وثنيًا، ومن تنكبها خسر وإن كان صديقًا أو نبيًا.
وعلى هذا يتخرج انهزام المسلمين في وقعة أحد حتى وصل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم فشجوا رأسه، وكسروا سنه، وأردوه في تلك الحفرة، كما بينا ذلك في تفسير الآيات السابقة، وسيأتي بسطه في الآيات اللاحقة.
لكن المؤمنين الصادقين أجدر الناس بمعرفة سنن الله تعالى في الأمم، وأحق الناس بالسير على طريقها بين الأمم، لذلك لم يلبث أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن ثابوا يومئذ إلى رشدهم، وتراجعوا للدفاع عن نبيهم، وثبتوا حتى انجلى عنهم المشركون، ولم ينالوا منهم ما كانوا يقصدون.
وكأن بعض المسلمين لم يكونوا قد حفظوا ما ورد في السور المكية من إثبات سنن الله في خلقه، وكونها لا تتبدل ولا تتحول كسورة الحجر وبني إسرائيل، والكهف، والملائكة، أو فاطر، وهي التي ذكرنا بعضها آنفًا وأشرنا إلى بعض أو حفظوه ولم يفقهوه، ولم يظهر لهم انطباقه على ما وقع لهم في أحد كما يعلم من قوله الآتي: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ) (آل عمران: 165)، لذلك صرح لهم في بدء الآيات التي تبين لهم سننه أن له سننًا عامة جرى عليها نظام الأمم من قبل، وأن ما وقع لهم مما يقص حكمته عليهم هو مطابق لتلك السنن التي لا تتحول ولا تتبدل.
ولما كان التعليم بالقول وحده من غير تطبيق على الواقع مما ينسى أو يقل الاعتبار به، نبههم على هذا التطبيق في أنفسهم وأرشدهم إلى تطبيقه على أحوال الأمم الأخرى، فقال (فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ).
وفي هذا يقول الأستاذ الإمام: إن المصارعة بين الحق والباطل قد وقعت من الأمم الماضية، وكان أهل الحق يغلبون أهل الباطل وينصرون عليهم بالصبر والتقوى "أي اتقاء ما يجب اتقاؤه في الحرب بحسب الزمان، والمكان، ودرجة استعداد الأعداء"، وكان ذلك يجري بأسباب مطردة وعلى طرائق مستقيمة، يعلم منها أن صاحب الحق إذا حافظ عليه ينصر ويرث الأرض، وأن من ينحرف عنه ويعيث في الأرض فسادًا يخذل وتكون عاقبته الدمار، فسيروا في الأرض واستقرءوا ما حل بالأمم ليحصل لكم العلم الصحيح التفصيلي بذلك، وهو الذي يحصل به اليقين ويترتب عليه العمل، وقال بعض المفسرين: أي إن لم تصدقوا فسيروا، وهذا قول باطل.
والسير في الأرض والبحث عن أحوال الماضيين وتعرف ما حل بهم هو الذي يوصل إلى معرفة تلك السنن والاعتبار بها كما ينبغي، فإن النظر في التاريخ الذي يشرح ما عرفه الذين ساروا في الأرض ورأوا آثار الذين خلوا يعطي الإنسان من المعرفة ما يهديه إلى تلك السنن ويفيده عظة واعتبارًا، ولكن دون اعتبار الذي يسير في الأرض بنفسه ويرى الآثار بعينه ولذلك أمر بالسير والنظر ثم أتبع ذلك بقول: (هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ).
قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة تتخلله: كأنه يقول إن كل إنسان له عقل يعتبر به، فهو يفهم أن السير في الأرض يدله على تلك السنن، ولكن المؤمن المتقي أجدر بفهمها؛ لأن كتابه أرشده إليها وأجدر كذلك بالاهتداء والاتعاظ بها.
الوحدة على المبدأ تنصره
وقد بينا في تفسير الفاتحة أن لسير الناس في الحياة سننًا يؤدي بعضها إلى الخير والسعادة، وبعضها إلى الهلاك والشقاء، وأن من يتبع تلك السنن فلا بد أن ينتهي إلى غايتها سواء كان مؤمنًا أو كافرًا، كما قال سيدنا علي: إن هؤلاء قد انتصروا باجتماعهم على باطلهم وخذلتم بتفرقكم عن حقكم، ومن هذه السنن أن اجتماع الناس تواصلهم وتعاونهم على طلب مصلحة من مصالحهم يكون -مع الثبات- من أسباب نجاحهم ووصولهم إلى مقصدهم سواء كان ما اجتمعوا عليه حقًا أو باطلاً، وإنما يصلون إلى مقصدهم بشيء من الحق والخير، ويكون ما عندهم من الباطل قد ثبت باستناده إلى ما معهم من الحق، وهو فضيلة الاجتماع والتعاون والثبات.
فالفضائل لها عماد من الحق، فإذا قام رجل بدعوى باطلة، ولكن رأى جمهور من الناس أنه محق يدعو إلى شيء نافع، وأنه يجب نصره فاجتمعوا عليه، ونصروه وثبتوا على ذلك فإنهم ينجون معه بهذه الصفات، ولكن الغالب أن الباطل لا يدوم، بل يستمر زمنًا طويلا؛ لأنه ليس له في الواقع ما يؤيده بل له ما يقاومه فيكون صاحبه دائما متزلزلا، فإذا جاء الحق ووجد أنصارًا يجرون على سنة الاجتماع في التعاون والتناصر، ويؤيدون الداعي إليه بالثبات والتعاون، فإنه لا يلبث أن يدمغ الباطل وتكون العاقبة لأهله، فإن شابت حقهم شائبة من الباطل، أو انحرفوا عن سنن الله في تأييده، فإن العاقبة تنذرهم بسوء المصير.
القرآن يهدينا في مسائل الحرب والتنازع مع غيرنا إلى أن نعرف أنفسنا، وكنه استعدادانا لكون على بصيرة من حقنا، ومن السير على سنن الله في طلبه وفي حفظه، وأن نعرف كذلك حال خصمنا، ونضع الميزان بيننا وبينه وإلا كنا غير مهتدين ولا متعظين.
وأقول: إيضاح النكتة في جعل البيان للناس كافة، والهدي والموعظة للمتقين خاصة هو بيان أن الإرشاد عام، وأن جريان الأمور على السنن المطردة حجة على جميع الناس مؤمنهم وكافرهم، تقيهم وفاجرهم، وهي تدحض ما وقع للمشركين والمنافقين من الشبهة على الإسلام، إذ قالوا: لو كان محمد صلى الله عليه وسلم رسولا من عند الله لما نيل منه، فكأنه يقول لهم: إن سنن الله حاكمة على رسله وأنبيائه كما هي حاكمة على سائر خلقه.
فما من قائد عسكر يكون في الحالة التي كان عليها المسلمون في أحد، ويعمل معه ما عملوا إلا وينال منه، أي يخالفه جنده، ويتركون حماية الثغر الذي يؤتون من قبله، ويخلون بين عدوهم وبين ظهورهم، وما يعبر عنه بخط الرجعة من مواقعهم والعدو مشرف عليهم إلا ويكونون عرضة للانكسار إذا هو كر عليهم من ورائهم، ولا سيما إذا كان ذلك بعد فشل وتنازع كما يأتي بيانه، فما ذكر من أن لله تعالى سننًا في الأمم هو بيان لجميع الناس لاستعداد كل عاقل لفهمه، واضطراره إلى قبول الحجة المؤلفة منه، إلا أن يترك النظر أو يكابر ويعاند.
وأما كونه هدى وموعظة للمتقين خاصة فهو أنهم هم الذين يهتدون بمثل هذه الحقيقة، ويتعظون بما ينطبق عليهم من الوقائع فيستقيمون على الطريقة، هم الذين تكمل لهم الفائدة والموعظة؛ لأنهم يتجنبون ويتقون نتائج الإهمال التي يظهر لهم أن عاقبتها ضارة، فليزن مسلمو هذا الزمان إيمانهم وإسلامهم بهذه الآيات، ولينظروا أين مكانهم من هدايتها، وما هو حظهم من موعظتها.
أما إنهم لو فعلوا فبدءوا بالسير في الأرض لمعرفة أحوال الأمم البائدة وأسباب هلاكها، ثم اعتبروا بحال الأمم القائمة وبحثوا عن أسباب عزها وثباتها، لعلموا أنهم أمسوا من أجهل الناس بسنن الله، وأبعدهم عن معرفة أحوال خلق الله، ولرأوا أن غيرهم أكثر منهم سيرًا في الأرض، وأشد منهم استنباطًا لسنن الاجتماع، وأعرق منهم في الاعتبار بما أصاب الأولين، والاتعاظ بجهل المعاصرين، فهل يليق بمن هذا كتابهم، أن يكون من يسمونه بسمة العداوة له أقرب إلى هدايته هذه منهم؟
كلا إن المؤمن بهذا الكتاب هو من يهتدي به ويتعظ بمواعظه ولذلك جعل الهداية والموعظة من شئون المتقين الثابتة لهم، والمتقون هم المؤمنون القائمون بحقوق الإيمان، كما قال في أول سورة البقرة: (ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ ...) إلخ، وهذا التعبير أبلغ من الأمر بالهدى والموعظة، وهو يتضمن الأمر بالثبات فيه والحث على المحافظة عليه؛ لأنه قوام التقوى التي هي قوام الإيمان.
_________
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021426619&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
سفرطاس
14-09-2009, 11:16 PM
هل يلغي الدعاء نواميس الكون؟
لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، مقولة تبرز مكانة الدعاء وأهميته، حينما يقول: "والله إني لا أحمل هم الإجابة، ولكني أحمل هم الدعاء".
ولا عجب، فالدعاء والتضرع جعله الله لب الإيمان، ويكفي أنه عز وجل بعد أمره المؤمنين بالصوم ومراعاة العدة وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقب بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيدًا لأهمية الدعاء وحثًا عليه، وهي الآية التي يتناولها تفسير المنار في هذه الحلقة.
لكن الملمح الأهم الذي ينبغي إدراكه، خاصة مع ارتفاع الأيدي بالدعاء في تلك الأيام_ العشر الأواخر من رمضان_.. هي أن الدعاء لا يلغي ناموسا من نواميس هذا الكون، والمتمثلة في الأخذ بالأسباب لبلوغ المرام، فمن ترك السعي واكتفى بالدعاء، فإنما يطلب من الله أن يبطل سننه التي لا تتبدل من أجلهم.
إنها محاولة لفهم مكنونات تلك العبادة تبغيها "مدارك" من إعادة تقديم هذه التأملات التفسيرية المنارية لآية الدعاء.
قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ) هذا التفات عن خطاب المؤمنين كافة بأحكام الصيام، إلى خطاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- بأن يذكرهم ويعلمهم ما يراعونه في هذه العبادة وغيرها من الطاعة والإخلاص، والتوجه إليه وحده بالدعاء الذي يعدهم للهدي والرشاد، وجعلت بأسلوب الفتوى على تقدير السؤال لتنبيه الأذهان، والمراد أن يؤمنوا بأن الله تعالى قريب منهم ليس بينه وبينهم حجاب، ولا ولي ولا شفيع يبلغه دعاءهم، وعبادتهم، أو يشاركه في إجابتهم أو إثابتهم، ليتوجهوا إليه وحده حنفاء مخلصين له الدين.وقال البيضاوي في وجه الاتصال: واعلم أنه تعالى لما أمرهم بصوم الشهر ومراعاة العدة، وحثهم على القيام بوظائف التكبير والشكر، عقبه بهذه الآية الدالة على أنه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم مجيب لدعائهم، مجاز على أعمالهم، تأكيدًا له وحثًا عليه.
ونحن نعلم أن الأحكام العملية إنما تشرع لتقوية الإيمان وإصلاح النفس، ولذلك كان من سنة القرآن الحكيم أن يبين مع كل حكم حكمة تشريعه وفائدته في تقوية الإيمان، ويمزج الكلام فيه بما يذكر بعظمة الله تعالى ويعين على مراقبته والتوجه إليه، ويثبت الإيمان به كهذه الآية.
ويا ليت فقهاءنا اقتدوا بهدي القرآن، فلم يجعلوا كتب الأحكام جافة مقصورة على ذكر الأعمال البدنية، كأن الدين مادي جسماني لا غرض للقلوب والأرواح فيه.
وأما معنى قرب الله تعالى فقد قالوا: إنه القرب بالعلم، بمعنى أن علمه محيط بكل شيء، فهو يسمع أقوال العباد ويرى أعمالهم، وعبارة البيضاوي: وهو تمثيل لكمال علمه تعالى بأفعال العباد وأقوالهم، واطلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم.
وإنما جعلوا الكلام تمثيلاً؛ لأن القرب والبعد الحقيقي إنما يكونان باعتبار المكان، وهو منزه عن الانحصار في المكان، وقال الأستاذ الإمام: يصح أن يكون من قرب الوجود، فإن الذي لا يتحيز ولا يتحدد تكون نسب الأمكنة وما فيها إليه واحدة، فهو تعالى قريب بذاته من كل شيء، إذ منه كل شيء إيجادًا وإمدادًا وإليه المصير.
وهذا الذي قاله من الحقائق العالية وعليه السادة الصوفية، فقد قال أحد العلماء في قوله: (ونَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ) (الواقعة: 85). أي إذا بلغت روحه الحلقوم، إنه القرب بالعلم، وكان أحد كبار الصوفية حاضرًا فقال: لو كان هذا هو المراد لقال تعالى في تتمة الآية، ولكن لا تعلمون، ولكنه لم ينف العلم عنهم وإنما قال: (وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُونَ) وليس من شأن العلم أن يبصر فينفي هنا إبصاره وإنما ذلك شأن الذات.
وهو مذكور بنصه في كتاب "اليواقيت والجواهر"، للشعراني، وعلى كل حال لازم القرب مقصود، وهو عدم الحاجة إلى رفع الصوت ولا إلى الواسطة بينه وبين عباده في الدعاء وطلب الحاجات كما كان عليه المشركون في التوسل بالشفعاء الوسطاء إلى الله تعالى، كأنه قال: فأخبرهم بأنني قريب منهم وأنني أقرب إليهم من حبل الوريد.
هذا ما كتبته من التعليق على كلمة شيخنا في قرب الوجود، وطبع أولا واطلع هو عليه، ثم استشكله بعض إخواننا السلفيين بأنه مخالف لمذهب السلف، فإنهم يتأولون أو يفسرون القرب بالعلم كالمتكلمين ويقولون: إن الله تعالى فوق عباده بائن من خلقه مستو على عرشه، وعبارة الأستاذ على إجمالها أقرب إلى مذهب السلف من تأويل المتكلمين ومن وافقهم من السلفيين، فإن البائن من كل شيء -الذي لا يتحيز ولا يتحدد- هو الذي تكون نسبة جميع الأمكنة ومن فيها إليه واحدة، وهي البينونة التي يقتضيها العلو المطلق فوق كل شيء والإحاطة بكل شيء، وقرب الصفات لا يعقل بدون قرب الذات، إذ لا انفصال بينهما ولا انفكاك.
والتحقيق أن مذهب السلف إمرار النصوص في الصفات على ظاهرها من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، والله تعالى قد أسند "القرب" في هذه الآية(1) وآيتي سورة الواقعة (2) وسورة ق (3) إلى ذاته، فنأخذها هذا الإسناد على ظاهره مع إثبات تنزيهه عن مماثلة خلقه، وإثبات صفات الكمال له التي يفهم بها المراد من هذا القرب في كل سياق بحسبه.
والجامع فيه ما ذكره الأستاذ من الإيجاد للعباد والإمداد لهم في أثناء وجودهم، ومصيرهم إليه بعد انتهاء آجالهم، فالقرب في سورة "ق" يناسب الإيجاد والإمداد بالعلم والحفظ على قولهم: إن قوله (إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيَانِ) (سورة ق: 17) متعلق بقوله (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ)، (سورة ق: 16) والقرب في سورة الواقعة يناسب المصير إليه تعالى، كما يعلم مما بعده، وقربه في الآية التي نفسرها يناسب الإمداد بسمع الدعاء وإجابته، وهي من متعلقات القدرة والرحمة، والغرض منه تقرير توحيد العبادة كما قررناه آنفًا.
وقد بينه بيانًا مستأنفًا بقوله: (أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ) منهم بنفسي من غير واسطة (إِذَا دَعَانِ) وتوجه إلي وحدي في طلب حاجته، أي يجب أن يدعى وحده بدون واسطة؛ لأنه هو الذي خلق الإنسان، ويعلم ما توسوس به نفسه بدون واسطة، وهو الذي يجيب دعوته وحده بدون واسطة تعينه أو تساعده أو تنوب عنه في الإجابة وقضاء الحاجة أو تؤثر في إرادته.
وقد فسروا الدعوة بطلب الحاجات وقالوا: إن ظاهر الآية أن الإجابة وصف لازم لله تعالى وأنه يجيب كل داع، وليس الأمر كذلك كما هو ثابت بالمشاهدة، وأجابوا بأن المراد أن من شأنه الإجابة فهو يجيب إن شاء كما قال في آية أخرى: (فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ)، (الأنعام: 41)، فهو على حد قولك: فلان يعطي الكثير فاطلب منه، أي إن من شأنه ذلك، ولا يلزم منه أن يعطي كل طالب عين ما طلبه.
وأجاب بعضهم بأن الإجابة أعم من إعطاء السؤال، وقد ورد في الحديث الصحيح أن الإجابة تكون بإحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له، وإما أن يكف عنه من السوء مثلها، ولا حاجة إلى التأويل إذ لا محل للإشكال؛ فإن الآية سبقت لبيان أن الله تعالى قريب من عباده المتوجهين إليه، فلا حاجة بهم إلى الصياح بتكبيره ودعائه، ولا إلى أن يتخذوا وسطاء بينهم وبينه في التوجه إليه وسؤال رحمته وفضله، بل يجب أن يصمدوا إليه وحده، فإنه هو الذي يجب دعاءهم وحده.
(أقول): وأما كيفية إجابته إياهم فليس من موضوع الآية، ولا شك أن العارف بالله تعالى والعالم بشرعه وبسننه في خلقه لا يقصد بدعائه ربه إلا هدايته إلى الطرق والأسباب التي جرت سنته تعالى بأن تحصل الرغائب بها، وتوفيقه ومعونته فيها، فهو إذا سأل الله تعالى أن يزيد في علمه أو في رزقه فلا يقصد أن يكون العلم وحيًا يوحى، ولا أن تمطر له السماء ذهبًا وفضة، وكذلك إذا سأل الله شفاء مرضه أو مريضه الذي أعياه علاجه، فإنه لا يريد بذلك أن يخرق الله العادات، أو يجعله مؤيدًا بالمعجزات والآيات، وإنما يريد المؤمن العارف بالدعاء ما ذكرنا من توفيق الله إياه إلى العلاج، أو العمل الذي يكون سبب الشفاء، سواء كان ذلك بإرشاد مرشد أو بإلهام إلهي، فكم لله من عناية بالمتوجهين إليه، الداعين له بعد ما اجتهدوا في الأخذ بالأسباب فلم يفلحوا.
ومن عنايته الهداية إلى سبب جديد، وإلهام النفس العمل المفيد، وتقوية المزاج على المرض، ولا دليل في الآية على أن كل دعاء يجاب، بل هي نفسها دليل على أنه لا يجيب الدعاء إلا الله، فيجب ألا يدعى سواه (وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) (الجن: 18) فعسى أن يهتدي بهذا الموسومون بسمة الإيمان، الذين يدعون عند الضيق غير الرحمن، ويتوجهون إلى القبور: يا فلان يا فلان، ويتأول لهم الشرك أدعياء العلم والعرفان، بأن الكرامات ثابتة عندهم للأموات كالأحياء، ولكن الله تعالى يقول لهم: (بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِن شَاءَ).. (الأنعام: 41).
وانظر كيف لم يقل: إنه يجيب دعوة الداعي حتى قيدها بقوله: (إِذَا دَعَانِ) قال الأستاذ الإمام ما مثاله: إن الداعي شخص يطلب شيئًا، وهو يصدق على أكثر الناس الذين يطلبون كل يوم أشياء كثيرة، وليس كل واحد منهم متحققًا بدعاء الله تعالى وحده، كما يجب أن يدعى فهو يقول: أجيب دعوة الداعي إذا خصني بالدعاء والتجأ إلي التجاء حقيقيًا، بحيث ذهب عن نفسه إلي، وشعر قلبه بأنه لا ملجأ له إلا إلي.
ومثل هذا لا يطمع في غير مطمع، ولا يطلب ما لا يصح أن يطلب، وإنما يمتثل أمر الله تعالى باتخاذ جميع الوسائل من طرقها الصحيحة المعروفة وهي لا تتحقق إلا بالعلم والعزيمة والعمل، فإن تم للعبد ما يريد بذلك فقد أعطاه الله تعالى من خزائنه التي يفيض منها على جميع متبعي سننه في الخلق، وإن بذل جهده ولم يظفر بسؤله فما عليه إلا أن يلجأ إلى مسبب الأسباب وهادي القلوب إلى ما غاب عنها وخفي عليها، ويطلب المعونة والتوفيق ممن بيده ملكوت كل شي، وقد قال بعض السلف: إن مثل هذا يجاب لا محالة.
وقال الصوفية: الدعاء المجاب هو الدعاء بلسان الاستعداد، وقد استعاذ النبي -عليه الصلاة والسلام- من الطمع في غير مطمع، فمن يترك السعي والكسب ويقول: "يا رب ألف جنيه" فهو غير داع، وإنما هو جاهل، ومثل ذلك المريض لا يراعي الحمية، ولا يتخذ الدواء، ويقول: رب اشفني وعافني، كأنه يقول: اللهم أبطل سننك في التي قلت: إنها لا تبدل، ولا تحول لأجلي!.
وكم استجاب الله لنا من دعاء، وكشف عنا من بلاء، ورزقنا من حيث لا نحتسب ولا نتخذ الأسباب، ولكن بتسخيره هو للأسباب.(5)
الرزق والسؤال
سأل سائل في الدرس: إذا كان الرزق مقدرًا فعلام السؤال؟ فقال الأستاذ: إذا كانت إجابتي أو عدمها مقدرًا فلم السؤال؟
هذا لا يقال وإنما ينبغي أن يقال ما الحكمة في طلب الدعاء منا في هذه الآية، وغيرها من الآيات والأحاديث كحديث "الدعاء مخ العبادة" والله تعالى يعلم ما في أنفسنا وما تنطوي عليه سرائرنا؟
قالت الصوفية: إن المراد بالدعاء فزع القلب إلى الله وشعوره بالحاجة إلى معونته والتجاؤه إليه، ويحتجون بما روي في قصة إبراهيم -صلى الله عليه وآله وسلم- من أن جبريل سأله قبل أن يلقى في النار: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، قال: فادع الله، قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.
(أقول): ولكن ظاهر الآيات والأحاديث يدل على أن الدعاء مطلوب بالقول مع التوجه إلى الله بالقلب، ومنه الأدعية المأثورة في الكتاب والسنة، ذلك أن الدعاء باللسان هو أثر الشعور بالحاجة إلى الله تعالى وفزع القلب إليه، فإن لم يكن أثره فهو مذكر به وهو أعظم مظاهر الإيمان، ولذلك سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- "مخ العبادة" فهو يطلب لذلك، وإجابة الله الدعاء تقبله ممن أخلص له وفزع إليه بروحه ورضاه عنه سواء أوصل إليه ما طلبه في ظاهر الأمر أم لم يصل، والحديث رواه الترمذي من حديث أنس -رضي الله عنه- وسنده ضعيف ومتنه صحيح فهو بمعنى حديث "الدعاء هو العبادة" بصيغة الحصر، وهو صحيح رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد وأصحاب السنن الأربعة وغيرهم من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه.
___________________
(1) سورة "البقرة" الآية 186.
(2) سورة "الواقعة" الآيتان 83، 85.
(3) سورة "ق" الآيتان 16، 17.
(4) راجع مقالة الدعاء في المجلد السادس من المنار (ص 406) وتفسير الآية (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ) (الأعراف: 55) ج 8 تفسير والاستدراك إلى تفسير الآية (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام: 164). في نفس الجزء
(5) مرض شيخنا مرة بالدوسنطارية، وطال مرضه، وتعسر علاجه فرأى في المنام قائلاً يقول له: أرسل من يأتيك بماء من مكان كذا واشرب منه تشف ففعل فشفي، ثم ذهب إلى ذلك المكان فإذا بماء في حفرة تحت شجر السنط فعلم أن فائدة الماء في إصلاح فساد الأمعاء، إنما هي بسبب ما يتخلل فيه من جذور السنط وورقه من مادته العفصية القابضة، ومرض أخي السيد إبراهيم أدم مرضًا طويلاً، ثم رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- في الرؤيا فأمره أن يشرب من كوب كان بالقرب منه فاستيقظ فشرب فقام من مرضه صحيحًا معافى، وأمثال هذا الإلهام والتأثير الروحي في الرؤيا كثيرة.
_______
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021419237&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
سفرطاس
16-09-2009, 05:21 AM
هل نعمل بالشورى بعد الهزيمة؟
هل من الممكن أن تؤدي الشورى إلى هزيمة؟ وهل وقوع الهزيمة بسبب الشورى يعطي الحق للحاكم أن يستبد برأيه ويقرر ما يشاء دون الرجوع للأمة؟ وهل الأمة المسلمة مطالبة بأن تصمت على من يسجنها في قمم الاستبداد والديكتاتورية والفرعونية السياسية بدعوى أنه يرى مالا تراه الأمة.
هذه الحلقة تنقلها "مدارك" من تفسير المنار لما فيها من تصور عميق لقيمة الشورى في الإسلام، والتي لا تقل أهمية عن الصلاة والصيام، فهي إحدى الفرائض التي يجب أن يكون هناك نضال لعودتها على كافة المستويات.
يقول الله تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ المُتَوَكِّلِينَ (159) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ (160) (آل عمران).
الكلام التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما يتعلق بمعاملتهم يقول تعالى لنبيه (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ) قال الأستاذ الإمام ما مثاله مع زيادة وإيضاح: الفاء للتعقيب.
فالكلام في وقعة خالف النبي فيها بعض أصحابه، فكان لذلك من الفشل وظهور المشركين ما كان حتى أصيب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع من أصيب، فكان من لينه في معاملتهم ومخاطبتهم ومن رحمته بهم أن بر وتجلد فلم يتشدد في عتب ولا توبيخ اهتداء، بكتاب الله تعالى، فقد أنزل الله عليه آيات كثيرة في الوقعة بين فيها ما كان من ضعف في المسلمين، وعصيان وتقصير حتى ما كان متعلقًا بالظنون الفكرية والهموم النفسية، ولكن مع العتب اللطيف المقرون بذكر العفو، والوعد بالنصر وإعلاء الكلمة وفوائد المصائب، وقد كان خلقه -صلى الله عليه وسلم- القرآن كما ورد في الصحيح من حديث عائشة رضي الله عنها.
أقول: كأنه يقول: إنه كان من أصحابك يا محمد ما كان، كما دلت عليه الآيات وهو مما تؤاخذون عليه، فلنت لهم وعاملتهم بالحسنى، وإنما لنت لهم بسبب رحمة عظيمة أنزلها الله على قلبك والحكم السامية التي هونت عليك المصائب، وعلمتك منافعها، وحكمها، وحسن عواقبها بها (وَلَوْ كُنتَ فَظاًّ غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)
اللين سيد الدعوة
فالفظاظة هي الشراسة والخشونة في المعاشرة، وهي القسوة والغلظة، وهما من الأخلاق المنفرة للناس لا يصبرون على معاشرة صاحبهما وإن كثرت فضائله، ورجيت فواضله، بل يتفرقون ويذهبون من حوله ويتركونه وشأنه لا يبالون ما يفوتهم من منافع الإقبال عليه، والتحلق حواليه، وإذن لفاتتهم هدايتك، ولم تبلغ قلوبهم دعوتك (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فلا تؤاخذهم على ما فرطوا واسأل الله تعالى أن يغفر لهم ولا يؤاخذهم أيضًا، فبذلك تكون محافظًا على تلك الرحمة التي خصك الله بها، ومداومًا لتلك السيرة الحسنة، التي هداك الله إليها.
(وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم، والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، أي دم على المشاورة وواظب عليها، كما فعلت قبل الحرب في هذه الوقعة (غزوة أحد) وإن أخطئوا الرأي فيها فإن الخير كل الخير في تربيتهم على العمل بالمشاورة دون العمل برأي الرئيس وإن كان صوابًا، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم (المشاورة) فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر.
قال الأستاذ الإمام: ليس من السهل أن يشاور الإنسان ولا أن يشير، وإذا كان المستشارون كثارا كثر النزاع وتشعب الرأي، ولهذه الصعوبة والوعورة أمر الله تعالى نبيه أن يقرر سنة المشاورة في هذه الأمة بالعمل، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يستشير أصحابه بغاية اللطف ويصغي إلى كل قول ويرجع عن رأيه إلى رأيهم، وليس عندي عن الأستاذ في هذه المسألة غير هذا.
وأقول: الأمر المعرف هنا هو أمر المسلمين المضاف إليهم في القاعدة الأولى التي وضعت للحكومة الإسلامية في سورة الشورى المكية، وهي قوله تعالى في بيان ما يجب أن يكون عليه أهل هذا الدين (وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ) (الشورى: 38)، فالمراد بالأمر أمر الأمة الدنيوي الذي يقوم به الحكام عادة، لا أمر الدين المحض الذي مداره على الوحي دون الرأي، إذ لو كانت المسائل الدينية كالعقائد، والعبادات، والحلال والحرام، مما يقرر بالمشاورة لكان الدين من وضع البشر، وإنما هو وضع إلهي ليس لأحد فيه رأي لا في عهد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا بعده.
شورى النبي
وقد روي أن الصحابة عليهم الرضوان كانوا لا يعرضون رأيهم مع قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في مسائل الدنيا إلا بعد العلم بأنه قال عن رأي لا عن وحي كما فعلوا يوم بدر، إذ جاء النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدنى من ماء بدر فنزل عنده فقال الحباب بن المنذر بن الجموح: "يا رسول الله، أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخره عنه، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة، فقال: يا رسول الله ليس هذا بمنزل، فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد أشرت بالرأي" وعمل برأيه.
أقام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الركن (الشورى) في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضر إفشاؤها، فاستشارهم يوم بدر لما علم بخروج قريش من مكة للحرب، فلم يبرم الأمر حتى صرح المهاجرون ثم الأنصار بالموافقة.
واستشارهم جميعًا يوم أحد أيضًا كما تقدم، وهكذا كان يستشيرهم في كل أمر من أمور الأمة إلا ما ينزل عليه الوحي ببيانه فينفذه حتمًا، ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح إلى الأماكن البعيدة عن المدينة، وكان في كل قبيلة أو قرية من أولئك المسلمين رجال من أهل المكانة والرأي يمكن أن يقال: إنه قد احتيج إلى وضع قاعدة، أو نظام للشورى يبين فيه طرق اشتراك أولئك البعداء عن مكان السلطة العليا فيها، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يضع هذه القاعدة أو النظام لحكم وأسباب:
منها: أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان، وكانت تلك المدة القليلة التي عاشها ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد فتح مكة مبدأ دخول الناس في دين الله أفواجًا، وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلم أن هذا الأمر سينمو ويزيد، والله سيفتح لأمته الممالك، ويخضع لها الأمم وقد بشرها بذلك.
فكل هذا كان مانعًا من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وفي العصر الذي يتلو عصره؛ إذ تفتح الممالك الواسعة وتدخل الشعوب التي سبقت لها المدنية في الإسلام أو في سلطان الإسلام، إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك ـ صلى الله عليه وسلم ـ وضع قواعد الشورى للأمة تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى.
ومنها: أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون دينًا وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، وما هي من أمر الدين، ولذلك قال الصحابة في اختيار أبي بكر حاكمًا: رضيه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لديننا أفلا نرضاه لدنيانا؟ فإن قيل: كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف فيها عند الحاجة بالنسخ والتغيير والتبديل، نقول: إن الناس قد اتخذوا كلامه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في كثير من أمور الدنيا بالنسخ والتغيير والتبديل، مع قوله: "أنتم أعلم بأمر دنياكم" رواه مسلم، وقوله: "ما كان من أمر دينكم فإلي، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به" رواه أحمد.
وإذا تأمل المنصف المسألة حق التأمل، وكان ممن يعرف حقيقة شعور طبقات المؤمنين من العامة، والخاصة في مثل ذلك يتجلى له أنه يصعب على أكثر الناس أن يرضوا بتغيير شيء وضعه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ للأمة وإن أجاز لها تغييره، بل يقولون: إنه أجاز ذلك تواضعًا منه وتهذيبًا لنا حتى لا يصعب علينا الرجوع عن آرائنا ورأيه هو الرأي الأعلى في كل حال.
وقريب مما نحن فيه تقديم الإمام أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ العمل بالحديث الضعيف والمرسل على القياس بما علله به.
ومنها: أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لكان غير عامل بالشورى، وذلك محال في حقه؛ لأنه معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد تقدم أن رأي الأكثرين كان خطأ، ومخالفًا لرأيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فهل يرضى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يحكم أمثال أولئك القوم ومن دونهم ـ كأكثر من دخل في الإسلام بعد الفتح ـ في أصول الحكومة الإسلامية وقواعدها؟ أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم؟
بلى، وقد تبين كنه ذلك الاستعداد بعد ذلك، وأنه كان غير كافٍ لوضع قانون كافل لقيام المصلحة، ولذلك بادر عمر إلى مبايعة أبي بكر ـ رضي الله عنهما ـ خوف الخلاف المهلك للأمة؛ وصرح بعد ذلك بأن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله المسلمين شرها لا يجوز العود إلى مثلها، وكذلك استشار أبو بكر كبراء الصحابة في العهد إلى عمر، فلما علم رضاهم عهد إليه حتى لا يكون للتفرق والخلاف مجال ، ولو كان الصديق ـ رضي الله عنه ـ يعتقد أن الأمة مستعدة لإقامة الشورى على وجهها مع الأمن من التفرق والخلاف، لترك لها الأمر، ولم يحاول جمع كلمة أولى منها في حياته على من يراه هو الأصلح حتى يموت آمنا عليه من تفرق الكلمة.
يقول قوم: إن بيعة عمر كانت بالعهد لا بالشورى التي هي الأساس للحكومة الإسلامية بنص الكتاب العزيز، وهذا العهد رأي صحابي لا يصح أن يكون ناسخًا لقرآن ولا مخصصًا ولا مقيدًا له، فكيف عمل به جمهور الصحابة واتخذه الفقهاء قاعدة شرعية؟
إذا أورد هذا السؤال شيعي أو غير شيعي من الباحثين المستقلين على أحد المشتغلين بالفقه يجيبه بناء على قواعده: إنه رأي قبله الصحابة وأجمعوا عليه، والإجماع حجة مستقلة يجب العمل بها، ونحن نعلم أن الشيعة والمستقلين بالعلم من غيرهم لا يقنعهم هذا الجواب، فهم ينازعون في حصول هذا الإجماع، وفي جواز مثله مع النص وكونه في مسألة قطعية لا تقوم المصلحة بدونها، ويقولون على فرض التسليم: كيف أقدم أبو بكر على هذا الأمر المخالف للنص، ولم يكن مجمعًا عليه حينئذ التسليم لأنكم تدعون أنه إنما أجمع عليه بعد ذلك؟
والصواب أن بيعة عمر كانت بالشورى، ولكن هذه الشورى حصلت في عهد أبي بكر، وهو الذي تولاها بنفسه كما قلنا آنفًا، وإنما تعجل ذلك لخوفه على الأمة فتنة التفرق والخلاف من بعده، فشاور أهل الرأي والمكانة من الصحابة فيمن يلي الأمر بعده، فرأى الأكثرين منهم يوافقونه على أن أمثلهم عمر، ورأى بعضهم يخاف من شدته، فكان يجتهد في إزالة ذلك من قلوبهم بمثل قوله: "إنه يراني كثير اللين فيشتد" أي لأجل أن يكون من مجموع سيرتهما الاعتدال أو ما هذا مغزاه، حتى إنه تكلف صعود المنبر قبل وفاته، وتكلم في المسألة بما أقنع القوم.
فعهد إليه في الأمر في حياته، فكان ذلك كتوكيل له في مرضه، وترشيح له من بعده، وإنما العمدة في جعله أميرًا على مبايعة الأمة والمبايعة لا تتوقف صحتها على الشورى، ولكن قد يحتاج فيها إلى الشورى لأجل جمع الكلمة على واحد ترضاه الأمة.
فإذا أمكن ذلك بغير تشاور بين أهل الحل والعقد كأن جعلوا ذلك بالانتخاب المعروف الآن في الحكومة الجمهورية وما هو في معناها حصل المقصود، وما سبق لأبي بكر من المشاورة والإقناع في تولية أغنى عن المشاورة بعد وفاته، فاتفق الجميع على مبايعته وصدق عليه أنه اتفاق بعد شورى أو بسبب الشورى.
وأما جعل عمر الشورى في نفر معينين فهو اجتهاد منه في إقامة هذا الركن مع اتقاء فتنة الخلاف التي تخشى من تكثير عدد المتشاورين، فأولئك النفر الذين جعلها فيهم هم أهل الرأي والمكانة في الأمة الذين تخضع لرأيهم إذا اتفقوا وتتعصب لهم إذا اختلفوا؛ لأن لكل واحد منهم عصبة يرونه أهلاً للإمارة على المسلمين.
وكان هؤلاء الذين اختارهم عمر ـ رضي الله عنه ـ هم أولي الأمر أو أخواص أولي الأمر وزعماءهم، وهم الأحق بالشورى كما يؤخذ من الأمر في الكتاب العزيز بطاعة أولي الأمر وزعمائهم، وهم الأحق بالشورى كما يؤخذ من الأمر في الكتاب العزيز بطاعة أولي الأمر مع قوله عز وجل: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) (النساء: 83) الذين ترد إليهم مسائل الأمن والخوف، وما في معناها من الأمور العامة: أهل الرأي والمكانة في الأمة وهم العلماء بمصالحها وطرق حفظها والمقبولة آراؤهم عند عامتها.
أمة الشورى
فما فعله أبو بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ هو منتهى ما يمكن أن يعمل في إقامة الشورى بحسب حال الأمة واستعدادها في زمنهما، ثم إن المسلمين بادروا بعد قتل عثمان إلى مبايعة علي من غير اهتمام بالتشاور؛ لأن الكفاءة التي يرونها فيه لم تكن تقبل شركة تدعو إلى إجالة الرأي.
فمبايعة الخلفاء الراشدين كانت من الأمة برضاها، وكانوا يستشيرون أهل العلم والرأي في كل شيء، إلا أن بني أمية قد أحاطوا بعثمان وغلبوا الأمة على رأيها عنده، فكان من عاقبة ذلك ما كان من الفتن حتى استقر الأمر فيهم بقوة العصبية والدهاء، لا باستشارة الدهماء، فهم الذين هدموا قاعدة الحكم بالشورى في الإسلام بدلاً من إقامتها ووضع القوانين التي تحفظها، وتجعل استفادة الأمة منها تابعة لتقدم العلوم والمعارف، وأعمال العمران فيها.
لولا هذا لكان ذلك الملك الذي وسعوا دائرته بالفتوحات أثبت في نفسه ولهم، ولكان شأن الإسلام أعظم، وانتشاره أكثر وأعم، على أن هذا الاستبداد منهم قد كان معظمه مصروفًا إلى المحافظة على سلطتهم وبقاء الملك في أسرتهم، قلما يتسرب منه شيء إلى الإدارة والقضاء.
وكانت حرية انتقاد الحكام والإنكار عليهم على كمالها حتى تبرم منها عبد الملك بن مروان فقال على المنبر: من قال لي اتق الله ضربت عنقه ـ كما روي عن بعض المؤرخين ـ ولكنهم كانوا يتصرفون في بيت المال بأهوائهم في الغالب، ولما أفضى الأمر إلى وارث الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز ـ رحمه الله تعالى ـ أراد أن يخرجه من قومه، فلم يتيسر له ذلك.
ثم رسخت السلطة الشخصية في زمن العباسيين لما كان للأعاجم من السلطان في ملكهم وجرى سائر ملوك المسلمين على ذلك وجاراهم عليه علماء الدين بعد ما كان لعلماء السلف الصالح من الإنكار الشديد على الملوك والأمراء في زمن بني أمية وأوائل زمن العباسيين، فظن البعيد عن المسلمين وكذا القريب منهم أن السلطة في الإسلام استبدادية شخصية، وأن الشورى محمدة اختيارية.
فيالله العجب: أيصرح كتاب الله بأن الأمر شورى فيجعل ذلك أمرًا ثابتًا مقررًا، ويأمر نبيه -المعصوم من اتباع الهوى في سياسته وحكمه- بأن يستشير حتى بعد أن كان ما كان من خطأ من غلب رأيهم في الشورى يوم أحد، ثم يترك المسلمون الشورى لا يطالبون بها وهم المخاطبون في القرآن بالأمور العامة كما تقدم بيانه مرارًا كثيرة؟ وقد بلغ ملوكهم من الظلم والاستبداد مبلغًا صاروا فيه عارًا على الإسلام بل على البشر كله.
________
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021422300&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
سفرطاس
16-09-2009, 11:56 PM
منهج رشيد رضا في تفسير المنار 2
حازم محيي الدين
على الرغم من المكانة المتميزة التي احتلها تفسير المنار في سياق حركة التفسير الحديثة، وموقعه المؤثر في مجمل حركة الفكر الإسلامي في العصر الحديث، فقد تعرَّض إلى انتقادات كثيرة من قِبل فئات عدة، يأتي في مقدمتهم بعض علماء المدرسة السلفية الحديثة الذين رأوا في تساهل رشيد رضا في ذكر بعض التأويلات، وتأويل بعض المعجزات، وردّ بعض الأحاديث النبوية، وانفراده ببعض الآراء الفقهية [1]، وقسوته أحياناً على بعض العلماء السابقين، إتباعا أعمى من رشيد رضا لمنهج شيخه محمد عبده الذي أسرف في نظرهم في الاعتماد على العقل والرأي في التفسير.
ولم يشفع لرشيد رضا أمام هؤلاء العلماء ما ذهب إليه، بعد وفاة شيخه، من ترجيح مذهب السلف على مذهب الخلَف العقلي، وأخذه الواضح بمقومات المنهج الأثري في التفسير، وتوسعه الكبير في الاقتباس من أمهات التفسير المعتمدة عند أهل السنة والجماعة، فقد بقي في نظرهم، وفي مؤلفاتهم أحد نماذج العلماء المسلمين الذين انهزموا فكريا أمام الغرب المتقدِّم، والذين قدَّموا من أجل التوفيق بين الإسلام، وبين حضارة الغرب الغالبة تنازلات على حساب خصوصية الإسلام، ومنهجه المستقل في العقيدة والتشريع، ولعل أهم من يمثل علماء هذه المدرسة هو الدكتور فهد الرومي أحد أبرز العلماء السعوديين المعاصرين [2].
وقد تعرّض رشيد رضا وتفسيره إلى نقد طائفة أخرى من العلماء، يمكن تصنيفهم ضمن علماء المؤسسة الدينية الرسمية، والمؤسسة الصوفية الشعبية، فقد وجَّه إليه بعض علماء هاتين المدرستين انتقادات شديدة بسبب زحزحته المكانة التقليدية المرموقة التي كان يتمتع بها كل من الفقهاء التقليديين، وشيوخ الطرق الصوفية في المجتمع، وذلك من خلال الحملة العنيفة التي قام بها على صفحات تفسيره على التقليد المذهبي وعلمائه (12/ 220ـ 221.) وعلى البدع والخرافات الدينية الشائعة الذيوع في كثير من البيئات الصوفية الطُرقية.
ومن خلال دعوته اللاهبة في مقابل ذلك إلى إحياء روح الاجتهاد، وروح الزهد والتزكية وفق نصوص الكتاب والسنة وسيرة السلف الصالح فقط. ولقد تركزت معظم انتقادات هذا الفريق من العلماء على الميول السلفية والوهابية التي ظهرت جلياً في تفسير المنار، بالإضافة إلى تأويله لبعض المعجزات، وإنكاره لكثير من الكرامات التي يدعيها شيوخ الطرق الصوفية.
ونذكر من علماء هذه الطائفة التي تصدت لرشيد رضا الشيخ الأزهري المتصوف يوسف الدجوي (ت 1946م) الذي قاد حملة صحفية قوية ضد رشيد رضا، على صفحات مجلة الجامع الأزهر آنذاك "نور الإسلام"، واتهمه باتهامات خطيرة، مثل: إنكار الملائكة والجن، وإنكار بعض المعجزات، والإيمان بمذهب دارون، وردّ بعض الأحاديث الصحيحة، ونشر مقالاته تلك في كتاب سماه "صواعق من نار في الرد على صاحب المنار"، الأمر الذي دفع رضا للرد، وتبيين حقيقة، وسلامة موقفه إزاء القضايا التي اتهمه فيها، في مقالات عديدة جمعها ونشرها في كتاب سماه: "المنار والأزهر" [3].
وهناك فريق آخر من الباحثين المعاصرين ممن ينتمون إلى تيار إعادة قراءة القرآن الكريم وفق مناهج ومكتسبات العلوم الاجتماعية والإنسانية الحديثة، يرى أنَّ مساهمة رشيد رضا في تفسير "المنار" ما هي إلا خطوة تراجعية عن بعض ما أنجزته مدرسة المنار على يد رائديها الأفغاني وعبده ـ وهو في نظرهم إنجاز محدود، وموضع نقد وتقويم ـ وذلك بسبب ما قام به رضا من إعادة العمل التفسيري إلى تخوم المدرسة التقليدية القديمة في التفسير.
وتظهر أهم ملامح تلك العودة، في نظرهم، من خلال إكثاره من النُقول الواسعة عن علماء التفسير السابقين، فضلاً عن استطراداته الواسعة فيما يتعلق بقضايا العقيدة والتشريع، هذا بالإضافة إلى عجزه عن الاستفادة من المناهج الغربية الحديثة في دراسة، ونقد النصوص المقدسة؛ وكأحد نماذج هذه المدرسة يقول الدكتور عبد المجيد الشرفي في معرض تقييمه لتفسير المنار: "فنلاحظ إذن أنه لا يمت بصلة إلى حركة التفسير "الكتابي" -نسبة إلى الكتب المقدسة عند اليهود والمسيحيين- التي عرفها الغرب منذ أواخر القرن السابع عشر بالخصوص، والتي كانت أبرز ملامحها متمثلة في استقلالها عن علم اللاهوت، واعتمادها منهجاً نقدياً في تناول النصوص المقدسة.
فتفسير المنار أبعد ما يكون عن التفسير النقدي، وليس فيه أدنى إعادة نظر في المسلَّمات المتعلقة بالترتيب الرسمي والتعبُّدي للسور والآيات، ومواطن الإشكال في عدد من التعابير القرآنية، ويتبنى بالطبع المفهوم التقليدي للوحي الذي يكون فيه الرسول مجرد مبلِّغ سلبي للرسالة الإلهية، فلا مجال فيه لأثر ما لشخصية النبي وللظروف التاريخية التي أحاطت به، ولا لمشكلة الانتقال من الكلام الإلهي المفارق إلى الكلام البشري المحدود بالضرورة. وبعبارة أخرى فقد كان تفسير المنار تفسيراً إيمانياً بالدرجة الأولى" [4].
يكاد الدكتور عبد المجيد الشرفي بكلامه هذا يستعيد بشكل شبه كامل ما قاله المستشرق آرثر جيفري قبل أكثر من سبعين عاماً في مجلة "العالم الإسلامي"، في مقالة بعنوان " النقد العالي للقرآن" طالب فيها علماء المسلمين باقتفاء أثر علماء الغرب بإخضاع القرآن الكريم إلى معايير النقد التاريخي والأدبي التي أخضعوا لها نصوصهم المقدسة، دون أدنى اعتبار منه للاختلافات الصريحة بين طبيعة النص القرآني المقطوع بصحته التاريخية، وإيمان المسلمين القاطع بأنه كلام الله تعالى الذي أنزله لفظاً ومعنىً على قلب رسوله محمد r، وبين نصوصهم المقدسة التي تعرضت للتحريف والتزوير التاريخي باعترافهم هم، وأنها نصوص مقدسة دوَّنها أتباع الرسل عليهم السلام، ولا تُعَد كلام الله تعالى نفسه لفظاً ومعنىً في وقت واحد كما هو حال القرآن الكريم [5].
وفي الحقيقة، فإنه يمكن القول بأن ما يريده أصحاب هذا الاتجاه ـ فضلاً عن إخضاع النص القرآني لأسئلة الحداثة وإشكالاتها النقدية المتعلقة بالنصوص المقدسة ـ هو عزل النص القرآني عن شبكة النصوص التفسيرية التي أحاطت به، وأصبحت مدخلاً إجبارياً لفهمه، وأصبحت معاني القرآن الكريم بالتالي أسيرةً لمنهجية هذه النصوص في تحديد المعنى بشكل عام، لذلك فقد اعتبروا محاولة رضا للعودة بتفسير القرآن الكريم إلى أحضان التراث، والارتباط بمنهجيته التفسيرية العامة بمثابة تراجع منهجي لا يساعد على تطوير علم التفسير [6].
وفي الحقيقة، فإنّ أصحاب هذا الرأي قد غفلوا عن الأخذ بعين الاعتبار السياق المعرفي والتاريخي الحرج الذي كان يكتب فيه رشيد رضا تفسيره، وتجاهلوا الحساسية الدينية والتاريخية الخاصة لقرّاء تفسيره، إذ هما، بالإضافة إلى اقتناعه العلمي بطبيعة الحال، اللذان أجبرا رشيد رضا على اختيار ما اختاره من إجراءات وأساليب في التفسير، حيث ما كان له أن يؤثر في وعي قرائه، ويكسب تأييدهم لأفكاره الإصلاحية المنبثّة في كل صفحات تفسيره، إلا إذا احترم ذاكرتهم الجمعية التي تضمن لهم أدنى حدود التضامن، والتماسك في اللحظات التاريخية العصيبة التي كانوا يمرون بها، وإلا إذا قام مخلصاً بالانتظام في داخلها، وتقديم أفكاره على قاعدةٍ متينة منها، وهذا هو بالضبط الذي فعله عندما استكثر من الاعتماد على تراث المفسرين من قبله أخذاً ونقاشاً ونقداً، واعتمد منهجيتهم العامة في التفسير.
__________________
باحث فلسطيني متخصص في الفكر الإسلامي الحديث
[1] انظر على سبيل المثال ما ذهب إليه من أن المسافر يجوز له التيمم، حتى لو كان الماء بين يديه، ولا يوجد أي مانع يمنعه من استخدامه إلا كونه مسافراً. تفسير المنار، 5/ 120ـ 121.
[2] انظر على سبيل المثال، الرومي، فهد، منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير، (بيروت، مؤسسة الرسالة، ط4/ د.ت)، 809ـ 812، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 333ـ 339.
[3] انظر، السلمان، محمد عبد الله، رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، 477 ـ 478.
[4] انظر الشرفي، عبد المجيد، الإسلام والحداثة، (تونس، الدار التونسية للنشر، ط2، 1991م)، 67ـ 68.
[5] Jeffrey, Arthur, Higher Criticism of Quran, the Confiscated of Commentary of Muhammad Abu Zaid, The Moslem World, Volume XXII, No, 1, January, 1932, pp 78-83.
[6] انظر، النيفر، أحميدة، الإنسان والقرآن: التفاسير القرآنية المعاصرة، قراءة في المنهج، (دمشق، دار الفكر، ط1، 1421هـ/ 2000م)، 76.
_______
[المصدر] (http://mdarik.islamonline.net/servlet/Satellite?c=ArticleA_C&cid=1251021206984&pagename=Zone-Arabic-MDarik%2FMDALayout)
أبو الفداء أحمد بن طراد
08-01-2010, 10:58 PM
أحسنت بارك الله فيك
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir