فؤاد طرابلسي
30-09-2009, 12:37 AM
محمد رشيد رضا .. رائد الإحياء والتجديد
( 1282 هـ - 1354 هـ = 1865 م - 1935 م )
كان الشيخ رشيد رضا أكبر تلامذة الأستاذ الإمام محمد عبده ، وخليفته من بعده ،
حمل راية الإصلاح والتجديد ، وبعث في الأمة روحًا جديدة ، تُحرِّك الساكن ،
وتنبه الغافل ، لا يجد وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة إلا اتخذها منبرًا لأفكاره
ودعوته ما دامت تحقق الغرض وتوصل إلى الهدف .
وكان ( رحمه الله ) متعدد الجوانب والمواهب ، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا
على دينه ، وصحفيًا نابهًا ينشئ مجلة ( المنار ) ذات الأثر العميق في الفكر
الإسلامي ، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصفح ، ومفسرًا نابغًا ، ومحدثًا متقنًا في طليعة
محدثي العصر ، وأديبًا لغويًا ، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر ، وسياسيًا يشغل
نفسه بهموم أمته وقضاياه ، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم لأمة .
وخلاصة القول : إنه كان واحدًا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في
مطلع القرن الرابع عشر الهجري ، وعملوا على النهوض بأمتهم ؛ حتى تستعيد
مجدها الغابر ، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام ، وبصر بمنجزات العصر .
المولد والنشأة :
في قرية ( القلمون ) كان مولد ( محمد رشيد بن علي رضا ) في ( 27 من
جمادى الأولى 1282هـ = 23من سبتمبر 1865م ) ، وهي قرية تقع على شاطئ
البحر المتوسط من جبل لبنان ، وتبعد عن طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال ، وهو
ينتمي إلى أسرة شريفة من العترة النبوية الشريفة ، حيث يتصل نسبها بآل ( الحسين
بن علي ) ( رضي الله عنها ) .
وكان أبوه ( علي رضا ) شيخًا للقلمون وإمامًا لمسجدها ، فعُني بتربية ولده
وتعليمه ؛ فحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ، ثم انتقل إلى
طرابلس ، ودخل المدرسة الرشيدية الابتدائية ، وكانت تابعة للدولة العثمانية ، وتعلم
النحو والصرف ومبادئ الجغرافيا والحساب ، وكان التدريس فيها باللغة التركية ،
وظل بها رشيد رضا عامًا ، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس سنة
( 1299هـ = 1882م ) ، وكانت أرقى من المدرسة السابقة ، والتعليم فيها
بالعربية ، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة
الطبيعية ، وقد أسس هذه المدرسة وأدارها الشيخ ( حسين الجسر ) أحد علماء الشام
الأفذاذ ومن رواد النهضة الثقافية العربية ، وكان يرى أن الأمة لا يصلح حالها أو
ترتقي بين الأمم إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية
الأوربية مع التربية الإسلامية الوطنية .
ولم تطل الحياة بتلك المدرسة فسرعان ما أُغلقت أبوابها ، وتفرّق طلابها في
المدارس الأخرى ، غير أن رشيد رضا توثقت صلته بالشيخ الجسر ، واتصل
بحلقاته ودروسه ، ووجد الشيخ الجسر في تلميذه نباهة وفهمًا ، فآثره برعايته وأولاه
عنايته ، فأجازه سنة ( 1314هـ = 1897م ) بتدريس العلوم الشرعية والعقلية
والعربية ، وهي التي كان يتلقاها عليه طالبه النابه ، وفي الوقت نفسه درس ( رشيد
رضا ) الحديث على يد الشيخ ( محمود نشابة ) وأجازه أيضًا برواية الحديث ، كما
واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس ، مثل : الشيخ عبد الغني
الرافعي ، ومحمد القاوجي ، ومحمد الحسيني ، وغيرهم .
في قريته :
اتخذ الشيخ رشيد رضا من قريته الصغيرة ميدانًا لدعوته الإصلاحية بعد أن
تزود بالعلم وتسلح بالمعرفة ، وصفت نفسه بالمجاهدات والرياضيات الروحية
ومحاسبة نفسه وتخليص قلبه من الغفلة وحب الدنيا ، فكان يلقي الدروس والخطب
في المسجد بطريقة سهلة بعيدة عن السجع الذي كان يشيع في الخطب المنبرية آنذاك ،
ويختار آيات من القرآن يحسن عرضها على جمهوره ، ويبسط لهم مسائل الفقه ،
ويحارب البدع التي كانت شائعة بين أهل قريته .
ولم يكتف الشيخ رضا بمن يحضر دروسه في المسجد ، فذهب هو إلى الناس
في تجمعاتهم في المقاهي التي اعتادوا على الجلوس فيها لشرب القهوة والنارجيلة ،
ولم يخجل من جلوسه معهم يعظهم ويحثهم على الصلاة ، وقد أثمرت هذه السياسة
المبتكرة ، فأقبل كثير منهم على أداء الفروض والالتزام بالشرع والتوبة والإقبال
على الله ، وبعث إلى نساء القرية من دعاهن إلى درس خاص بهن ، وجعل مقر
التدريس في دار الأسرة ، وألقى عليهن دروسًا في الطهارة والعبادات والأخلاق ،
وشيئًا من العقائد في أسلوب سهل يسير .
الاتصال بالأستاذ الإمام :
في الفترة التي كان يتلقى فيها رشيد رضا دروسه في طرابلس كان الشيخ
محمد عبده قد نزل بيروت للإقامة بها ، وكان محكومًا عليه بالنفي بتهمة الاشتراك
في الثورة العرابية ، وقام بالتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت ، وإلقاء دروسه
التي جذبت طلبة العلم بأفكاره الجديدة ولمحاتة الذكية ، وكان الشيخ محمد عبده قد
أعرض عن السياسة ، ورأى في التربية والتعليم سبيل الإصلاح وطريق الرقي ،
فركز جهده في هذا الميدان .
وعلى الرغم من طول المدة التي مكثها الشيخ محمد عبده في بيروت فإن
الظروف لم تسمح لرشيد رضا بالانتقال إلى المدرسة السلطانية والاتصال بالأستاذ
الإمام مباشرة ، والتلمذة على يديه ، وكان التلميذ النابه شديد الإعجاب بشيخه ،
حريصًا على اقتفاء أثره في طريق الإصلاح ، غير أن الفرصة سنحت له على
استحياء ، فالتقى بالأستاذ الإمام مرتين في طرابلس حين جاء إلى زيارتها ؛ تلبية
لدعوة كبار رجالها ، وتوثقت الصلة بين الرجلين ، وازداد تعلق رشيد رضا بأستاذه ،
وقوي إيمانه به وبقدرته على أنه خير من يخلف ( جمال الدين الأفغاني ) في
ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته .
وحاول رشيد رضا الاتصال بجمال الدين الأفغاني والالتقاء به ، لكن جهوده
توقفت عند حدود تبادل الرسائل وإبداء الإعجاب ، وكان جمال الدين في الآستانة
يعيش بها كالطائر الذي فقد جناحيه فلا يستطيع الطيران والتحليق ، وظل تحت
رقابة الدولة وبصرها حتى لقي ربه سنة ( 1314هـ = 1897م ) دون أن تتحقق
أمنية رشيد رضا في رؤيته والتلمذة على يديه .
في القاهرة :
لم يجد رشيد رضا مخرجًا له في العمل في ميدان أفسح للإصلاح سوى الهجرة
إلى مصر والعمل مع محمد عبده تلميذ الأفغاني حكيم الشرق ، فنزل الإسكندرية في
مساء الجمعة ( 8 من رجب 1315 هـ = 3 من يناير 1898م ) ، وبعد أيام قضاها
في زيارة بعض مدن الوجه البحري نزل القاهرة واتصل على الفور بالأستاذ الإمام ،
وبدأت رحلة جديدة لرشيد رضا كانت أكثر إنتاجًا وتأثيرًا في تفكيره ومنهجه
الإصلاحي .
ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى صارح شيخه بأنه ينوي أن
يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي ، ودارت مناقشات طويلة بين الإمامين
الجليلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع ، وأقنع التلميذ النجيب شيخه بأن
الهدف من إنشائه صحيفة هو التربية والتعليم ، ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة
الجهل والخرافات والبدع ، وأنه مستعد للإنفاق عليها سنة أو سنتين دون انتظار ربح
منها .
مجلة المنار :
صدر العدد الأول من مجلة المنار في ( 22 من شوال 1315هـ = من مارس
1898م ) ، وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني
والاجتماعي للأمة ، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر ، وإبطال
الشبهات الواردة على الإسلام ، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات .
وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة
بابًا لنشر تفسير الشيخ محمد عبده ، إلى جانب باب لنشر الفتاوى والإجابة على ما
يرد للمجلة من أسئلة في أمور اعتقادية وفقهية ، وأفردت المنار أقسامًا لأخبار الأمم
الإسلامية ، والتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي ،
وتناول قضايا الحرية في المغرب والجزائر والشام والهند .
ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس ،
وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي ، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم
رشيد رضا صاحب المنار ، وعرف الناس قدره وعلمه ، وصار ملجأهم فيما يعرض
لهم من مشكلات ، كما جاء العلماء يستزيدون من عمله ، وأصبحت مجلته هي
المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي ، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة
والعصر .
وكان الشيخ رشيد يحرر معظم مادة مجلته على مدى عمرها المديد ، يمده زاد
واسع من العلم ، فهو عالم موسوعي ملم بالتراث الإسلامي ، محيط بعلوم القرآن ،
على دراية واسعة بالفقه الإسلامي والسنة النبوية ، عارف بأحوال المجتمع والأدوار
التي مر بها التاريخ الإسلامي ، شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه ، خبير
بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية .
منهجه في الإصلاح :
كتب رشيد مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض
بالأمة وتقويتها ، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته ؛ لأنهم بمنزلة العقل المدبر
والروح المفكر من الإنسان ، وأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة ، وغير ذلك
بقوله : ( إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من
الرذائل فاشية في أمة ، فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد وعلى علمائها
ومرشديها بالبدع والفساد ، والعكس بالعكس ) .
واقترح رشيد رضا لإزالة أسباب الفرقة بين المسلمين تأليف كتاب يضم جميع
ما اتفقت عليه كلمة المسلمين بكل فرقهم ، في المسائل التي تتعلق بصحة الاعتقاد
وتهذيب الأخلاق وإحسان العمل ، والابتعاد عن مسائل الخلاف بين الطوائف
الإسلامية الكبرى كالشيعة ، وتُرسل نسخ بعد ذلك من هذا الكتاب إلى جميع البلاد
الإسلامية ، وحث الناس على دراستها والاعتماد عليها .
وطالب بتأليف كتب تهدف إلى توحيد الأحكام ، فيقوم العلماء بوضع هذه
الكتب على الأسس المتفق عليها في جميع المذاهب الإسلامية وتتفق مع مطالب
العصر ، ثم تُعرض على سائر علماء المسلمين للاتفاق عليها والتعاون في نشرها
وتطبيق أحكامها .
التربية والتعليم :
كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية
والتعليم ، وهو في ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده في أهمية هذا الميدان ، ( فسعادة
الأمم بأعمالها ، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها ) .
وحدد ( رشيد رضا ) العلوم التي يجب إدخالها في ميدان التربية والتعليم
لإصلاح شئون الناس ، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان ، مثل : علم أصول
الدين ، علم فقه الحلال والحرام والعبادات ، التاريخ ، الجغرافيا ، الاجتماع ،
الاقتصاد ، التدبير المنزلي ، حفظ الصحة ، لغة البلاد ، والخط .
ولم يكتف بدور الموجه والناصح ، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه ، وحاول
تطبيق ما يراه محققًا للآمال ، فأنشأ مدرسة دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة
المدربين لنشر الدين الإسلامي ، وجاء في مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار
طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية ، ويُفضل من كانوا في
حاجة شديدة إلى العلم كأهل جاوة والصين ، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما
يحتاجون إليه من مسكن وغذاء ، وأنها ستعتني بتدريس طلابها على التمسك بآداب
الإسلام وأخلاقه وعبادته ، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث ، فلا خير في
علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع ، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة ، وسيُرسل
الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية .
وقد افتتحت المدرسة في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي سنة ( 1330هـ =
1912م ) في مقرها بجزيرة الروضة بالقاهرة ، وبدأت الدراسة في اليوم التالي
للاحتفال ، وكانت المدرسة تقبل في عداد طلبتها شباب المسلمين ممن تتراوح
أعمارهم ما بين العشرين والخامسة والعشرين ، على أن يكونوا قد حصلوا قدرًا من
التعليم يمكنهم من مواصلة الدراسة .
غير أن المدرسة كانت في حاجة إلى إعانات كبيرة ودعم قوي ، وحاول رشيد
رضا أن يستعين بالدولة العثمانية في إقامة مشروعه واستمراره لكنه لم يفلح ، ثم
جاءت الحرب العالمية لتقضي على هذا المشروع ، فتعطلت الدراسة في المدرسة ،
ولم تفتح أبوابها مرة أخرى .
مؤلفاته :
بارك الله في عمر الشيخ الجليل وفي وقته رغم انشغاله بالمجلة التي أخذت
معظم وقته ، وهي بلا شك أعظم أعماله ، فقد استمرت من سنة ( 1316هـ =
1899م ) إلى سنة ( 1354 = 1935م ) ، واستغرقت ثلاثة وثلاثين مجلدًا ضمت
160 ألف صفحة ، فضلاً عن رحلاته التي قام بها إلى أوربا والآستانة والهند
والحجاز ، ومشاركته في ميادين أخرى من ميادين العمل الإسلامي .
ومن أهم مؤلفاته ( تفسير المنار ) الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده
الذي توقف عند الآية ( 125 ) من سورة النساء ، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى
بلغ سورة يوسف ، وحالت وفاته دون إتمام تفسيره ، وهو من أجل التفاسير . وله
أيضًا : الوحي المحمدي ونداء للجنس اللطيف ، وتاريخ الأستاذ الإمام والخلافة ،
والسنة والشيعة ، وحقيقة الربا ، ومناسك الحج .
وفاة الشيخ :
كان للشيخ رشيد روابط قوية بالمملكة العربية السعودية ، فسافر بالسيارة إلى
السويس لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز وزوده بنصائحه ، وعاد في اليوم نفسه ،
وكان قد سهر أكثر الليل ، فلم يتحمل جسده الواهن مشقة الطريق ، ورفض المبيت
في السويس للراحة ، وأصر على الرجوع ، وكان طول الطريق يقرأ القرآن كعادته ،
ثم أصابه دوار من ارتجاج السيارة ، وطلب من رفيقيه أن يستريح داخل السيارة ،
ثم لم يلبث أن خرجت روحه الطاهرة في يوم الخميس الموافق ( 23 من جمادى
الأولى 1354هـ = 22 من أغسطس 1935م ) ، وكانت آخر عبارة قالها في
تفسيره : ( فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام ) .
__________
* مصادر الدراسة :
(1) أحمد الشرباصي : رشيد رضا صاحب المنار - إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة .
(2) إبراهيم العدوي - رشيد رضا الإمام المجاهد - المؤسسة المصرية العامة للتأليف - القاهرة - بدون تاريخ .
(3) أنور الجندي - أعلام وأصحاب أقلام - دار نهضة مصر للطبع والنشر - القاهرة - بدون تاريخ .
( 1282 هـ - 1354 هـ = 1865 م - 1935 م )
كان الشيخ رشيد رضا أكبر تلامذة الأستاذ الإمام محمد عبده ، وخليفته من بعده ،
حمل راية الإصلاح والتجديد ، وبعث في الأمة روحًا جديدة ، تُحرِّك الساكن ،
وتنبه الغافل ، لا يجد وسيلة من وسائل التبليغ والدعوة إلا اتخذها منبرًا لأفكاره
ودعوته ما دامت تحقق الغرض وتوصل إلى الهدف .
وكان ( رحمه الله ) متعدد الجوانب والمواهب ، فكان مفكرًا إسلاميًا غيورًا
على دينه ، وصحفيًا نابهًا ينشئ مجلة ( المنار ) ذات الأثر العميق في الفكر
الإسلامي ، وكاتبًا بليغًا في كثير من الصفح ، ومفسرًا نابغًا ، ومحدثًا متقنًا في طليعة
محدثي العصر ، وأديبًا لغويًا ، وخطيبًا مفوهًا تهتز له أعواد المنابر ، وسياسيًا يشغل
نفسه بهموم أمته وقضاياه ، ومربيًا ومعلمًا يروم الإصلاح ويبغي التقدم لأمة .
وخلاصة القول : إنه كان واحدًا من رواد الإصلاح الإسلامي الذين بزغوا في
مطلع القرن الرابع عشر الهجري ، وعملوا على النهوض بأمتهم ؛ حتى تستعيد
مجدها الغابر ، وقوتها الفتية على هدى من الإسلام ، وبصر بمنجزات العصر .
المولد والنشأة :
في قرية ( القلمون ) كان مولد ( محمد رشيد بن علي رضا ) في ( 27 من
جمادى الأولى 1282هـ = 23من سبتمبر 1865م ) ، وهي قرية تقع على شاطئ
البحر المتوسط من جبل لبنان ، وتبعد عن طرابلس الشام بنحو ثلاثة أميال ، وهو
ينتمي إلى أسرة شريفة من العترة النبوية الشريفة ، حيث يتصل نسبها بآل ( الحسين
بن علي ) ( رضي الله عنها ) .
وكان أبوه ( علي رضا ) شيخًا للقلمون وإمامًا لمسجدها ، فعُني بتربية ولده
وتعليمه ؛ فحفظ القرآن وتعلم مبادئ القراءة والكتابة والحساب ، ثم انتقل إلى
طرابلس ، ودخل المدرسة الرشيدية الابتدائية ، وكانت تابعة للدولة العثمانية ، وتعلم
النحو والصرف ومبادئ الجغرافيا والحساب ، وكان التدريس فيها باللغة التركية ،
وظل بها رشيد رضا عامًا ، ثم تركها إلى المدرسة الوطنية الإسلامية بطرابلس سنة
( 1299هـ = 1882م ) ، وكانت أرقى من المدرسة السابقة ، والتعليم فيها
بالعربية ، وتهتم بتدريس العلوم العربية والشرعية والمنطق والرياضيات والفلسفة
الطبيعية ، وقد أسس هذه المدرسة وأدارها الشيخ ( حسين الجسر ) أحد علماء الشام
الأفذاذ ومن رواد النهضة الثقافية العربية ، وكان يرى أن الأمة لا يصلح حالها أو
ترتقي بين الأمم إلا بالجمع بين علوم الدين وعلوم الدنيا على الطريقة العصرية
الأوربية مع التربية الإسلامية الوطنية .
ولم تطل الحياة بتلك المدرسة فسرعان ما أُغلقت أبوابها ، وتفرّق طلابها في
المدارس الأخرى ، غير أن رشيد رضا توثقت صلته بالشيخ الجسر ، واتصل
بحلقاته ودروسه ، ووجد الشيخ الجسر في تلميذه نباهة وفهمًا ، فآثره برعايته وأولاه
عنايته ، فأجازه سنة ( 1314هـ = 1897م ) بتدريس العلوم الشرعية والعقلية
والعربية ، وهي التي كان يتلقاها عليه طالبه النابه ، وفي الوقت نفسه درس ( رشيد
رضا ) الحديث على يد الشيخ ( محمود نشابة ) وأجازه أيضًا برواية الحديث ، كما
واظب على حضور دروس نفر من علماء طرابلس ، مثل : الشيخ عبد الغني
الرافعي ، ومحمد القاوجي ، ومحمد الحسيني ، وغيرهم .
في قريته :
اتخذ الشيخ رشيد رضا من قريته الصغيرة ميدانًا لدعوته الإصلاحية بعد أن
تزود بالعلم وتسلح بالمعرفة ، وصفت نفسه بالمجاهدات والرياضيات الروحية
ومحاسبة نفسه وتخليص قلبه من الغفلة وحب الدنيا ، فكان يلقي الدروس والخطب
في المسجد بطريقة سهلة بعيدة عن السجع الذي كان يشيع في الخطب المنبرية آنذاك ،
ويختار آيات من القرآن يحسن عرضها على جمهوره ، ويبسط لهم مسائل الفقه ،
ويحارب البدع التي كانت شائعة بين أهل قريته .
ولم يكتف الشيخ رضا بمن يحضر دروسه في المسجد ، فذهب هو إلى الناس
في تجمعاتهم في المقاهي التي اعتادوا على الجلوس فيها لشرب القهوة والنارجيلة ،
ولم يخجل من جلوسه معهم يعظهم ويحثهم على الصلاة ، وقد أثمرت هذه السياسة
المبتكرة ، فأقبل كثير منهم على أداء الفروض والالتزام بالشرع والتوبة والإقبال
على الله ، وبعث إلى نساء القرية من دعاهن إلى درس خاص بهن ، وجعل مقر
التدريس في دار الأسرة ، وألقى عليهن دروسًا في الطهارة والعبادات والأخلاق ،
وشيئًا من العقائد في أسلوب سهل يسير .
الاتصال بالأستاذ الإمام :
في الفترة التي كان يتلقى فيها رشيد رضا دروسه في طرابلس كان الشيخ
محمد عبده قد نزل بيروت للإقامة بها ، وكان محكومًا عليه بالنفي بتهمة الاشتراك
في الثورة العرابية ، وقام بالتدريس في المدرسة السلطانية ببيروت ، وإلقاء دروسه
التي جذبت طلبة العلم بأفكاره الجديدة ولمحاتة الذكية ، وكان الشيخ محمد عبده قد
أعرض عن السياسة ، ورأى في التربية والتعليم سبيل الإصلاح وطريق الرقي ،
فركز جهده في هذا الميدان .
وعلى الرغم من طول المدة التي مكثها الشيخ محمد عبده في بيروت فإن
الظروف لم تسمح لرشيد رضا بالانتقال إلى المدرسة السلطانية والاتصال بالأستاذ
الإمام مباشرة ، والتلمذة على يديه ، وكان التلميذ النابه شديد الإعجاب بشيخه ،
حريصًا على اقتفاء أثره في طريق الإصلاح ، غير أن الفرصة سنحت له على
استحياء ، فالتقى بالأستاذ الإمام مرتين في طرابلس حين جاء إلى زيارتها ؛ تلبية
لدعوة كبار رجالها ، وتوثقت الصلة بين الرجلين ، وازداد تعلق رشيد رضا بأستاذه ،
وقوي إيمانه به وبقدرته على أنه خير من يخلف ( جمال الدين الأفغاني ) في
ميدان الإصلاح وإيقاظ الشرق من سباته .
وحاول رشيد رضا الاتصال بجمال الدين الأفغاني والالتقاء به ، لكن جهوده
توقفت عند حدود تبادل الرسائل وإبداء الإعجاب ، وكان جمال الدين في الآستانة
يعيش بها كالطائر الذي فقد جناحيه فلا يستطيع الطيران والتحليق ، وظل تحت
رقابة الدولة وبصرها حتى لقي ربه سنة ( 1314هـ = 1897م ) دون أن تتحقق
أمنية رشيد رضا في رؤيته والتلمذة على يديه .
في القاهرة :
لم يجد رشيد رضا مخرجًا له في العمل في ميدان أفسح للإصلاح سوى الهجرة
إلى مصر والعمل مع محمد عبده تلميذ الأفغاني حكيم الشرق ، فنزل الإسكندرية في
مساء الجمعة ( 8 من رجب 1315 هـ = 3 من يناير 1898م ) ، وبعد أيام قضاها
في زيارة بعض مدن الوجه البحري نزل القاهرة واتصل على الفور بالأستاذ الإمام ،
وبدأت رحلة جديدة لرشيد رضا كانت أكثر إنتاجًا وتأثيرًا في تفكيره ومنهجه
الإصلاحي .
ولم يكد يمضي شهر على نزوله القاهرة حتى صارح شيخه بأنه ينوي أن
يجعل من الصحافة ميدانًا للعمل الإصلاحي ، ودارت مناقشات طويلة بين الإمامين
الجليلين حول سياسة الصحف وأثرها في المجتمع ، وأقنع التلميذ النجيب شيخه بأن
الهدف من إنشائه صحيفة هو التربية والتعليم ، ونقل الأفكار الصحيحة لمقاومة
الجهل والخرافات والبدع ، وأنه مستعد للإنفاق عليها سنة أو سنتين دون انتظار ربح
منها .
مجلة المنار :
صدر العدد الأول من مجلة المنار في ( 22 من شوال 1315هـ = من مارس
1898م ) ، وحرص الشيخ رشيد على تأكيد أن هدفه من المنار هو الإصلاح الديني
والاجتماعي للأمة ، وبيان أن الإسلام يتفق والعقل والعلم ومصالح البشر ، وإبطال
الشبهات الواردة على الإسلام ، وتفنيد ما يعزى إليه من الخرافات .
وأفردت المجلة إلى جانب المقالات التي تعالج الإصلاح في ميادينه المختلفة
بابًا لنشر تفسير الشيخ محمد عبده ، إلى جانب باب لنشر الفتاوى والإجابة على ما
يرد للمجلة من أسئلة في أمور اعتقادية وفقهية ، وأفردت المنار أقسامًا لأخبار الأمم
الإسلامية ، والتعريف بأعلام الفكر والحكم والسياسة في العالم العربي والإسلامي ،
وتناول قضايا الحرية في المغرب والجزائر والشام والهند .
ولم يمض خمس سنوات على صدور المجلة حتى أقبل عليها الناس ،
وانتشرت انتشارًا واسعًا في العالم الإسلامي ، واشتهر اسم صاحبها حتى عُرف باسم
رشيد رضا صاحب المنار ، وعرف الناس قدره وعلمه ، وصار ملجأهم فيما يعرض
لهم من مشكلات ، كما جاء العلماء يستزيدون من عمله ، وأصبحت مجلته هي
المجلة الإسلامية الأولى في العالم الإسلامي ، وموئل الفتيا في التأليف بين الشريعة
والعصر .
وكان الشيخ رشيد يحرر معظم مادة مجلته على مدى عمرها المديد ، يمده زاد
واسع من العلم ، فهو عالم موسوعي ملم بالتراث الإسلامي ، محيط بعلوم القرآن ،
على دراية واسعة بالفقه الإسلامي والسنة النبوية ، عارف بأحوال المجتمع والأدوار
التي مر بها التاريخ الإسلامي ، شديد الإحاطة بما في العصر الذي يعيش فيه ، خبير
بأحوال المسلمين في الأقطار الإسلامية .
منهجه في الإصلاح :
كتب رشيد مئات المقالات والدراسات التي تهدف إلى إعداد الوسائل للنهوض
بالأمة وتقويتها ، وخص العلماء والحكام بتوجيهاته ؛ لأنهم بمنزلة العقل المدبر
والروح المفكر من الإنسان ، وأن في صلاح حالها صلاح حال الأمة ، وغير ذلك
بقوله : ( إذا رأيت الكذب والزور والرياء والنفاق والحقد والحسد وأشباهها من
الرذائل فاشية في أمة ، فاحكم على أمرائها وحكامها بالظلم والاستبداد وعلى علمائها
ومرشديها بالبدع والفساد ، والعكس بالعكس ) .
واقترح رشيد رضا لإزالة أسباب الفرقة بين المسلمين تأليف كتاب يضم جميع
ما اتفقت عليه كلمة المسلمين بكل فرقهم ، في المسائل التي تتعلق بصحة الاعتقاد
وتهذيب الأخلاق وإحسان العمل ، والابتعاد عن مسائل الخلاف بين الطوائف
الإسلامية الكبرى كالشيعة ، وتُرسل نسخ بعد ذلك من هذا الكتاب إلى جميع البلاد
الإسلامية ، وحث الناس على دراستها والاعتماد عليها .
وطالب بتأليف كتب تهدف إلى توحيد الأحكام ، فيقوم العلماء بوضع هذه
الكتب على الأسس المتفق عليها في جميع المذاهب الإسلامية وتتفق مع مطالب
العصر ، ثم تُعرض على سائر علماء المسلمين للاتفاق عليها والتعاون في نشرها
وتطبيق أحكامها .
التربية والتعليم :
كان الشيخ رشيد رضا من أشد المنادين بأن يكون الإصلاح عن طريق التربية
والتعليم ، وهو في ذلك يتفق مع شيخه محمد عبده في أهمية هذا الميدان ، ( فسعادة
الأمم بأعمالها ، وكمال أعمالها منوط بانتشار العلوم والمعارف فيها ) .
وحدد ( رشيد رضا ) العلوم التي يجب إدخالها في ميدان التربية والتعليم
لإصلاح شئون الناس ، ودفعهم إلى مسايرة ركب العلم والعرفان ، مثل : علم أصول
الدين ، علم فقه الحلال والحرام والعبادات ، التاريخ ، الجغرافيا ، الاجتماع ،
الاقتصاد ، التدبير المنزلي ، حفظ الصحة ، لغة البلاد ، والخط .
ولم يكتف بدور الموجه والناصح ، وإنما نزل ميدان التعليم بنفسه ، وحاول
تطبيق ما يراه محققًا للآمال ، فأنشأ مدرسة دار الدعوة والإرشاد لتخريج الدعاة
المدربين لنشر الدين الإسلامي ، وجاء في مشروع تأسيس المدرسة أنها تختار
طلابها من طلاب العلم الصالحين من الأقطار الإسلامية ، ويُفضل من كانوا في
حاجة شديدة إلى العلم كأهل جاوة والصين ، وأن المدرسة ستكفل لطلابها جميع ما
يحتاجون إليه من مسكن وغذاء ، وأنها ستعتني بتدريس طلابها على التمسك بآداب
الإسلام وأخلاقه وعبادته ، كما تُعنى بتعليم التفسير والفقه والحديث ، فلا خير في
علم لا يصحبه خلق وسلوك رفيع ، وأن المدرسة لا تشتغل بالسياسة ، وسيُرسل
الدعاة المتخرجون إلى أشد البلاد حاجة إلى الدعوة الإسلامية .
وقد افتتحت المدرسة في ليلة الاحتفال بالمولد النبوي سنة ( 1330هـ =
1912م ) في مقرها بجزيرة الروضة بالقاهرة ، وبدأت الدراسة في اليوم التالي
للاحتفال ، وكانت المدرسة تقبل في عداد طلبتها شباب المسلمين ممن تتراوح
أعمارهم ما بين العشرين والخامسة والعشرين ، على أن يكونوا قد حصلوا قدرًا من
التعليم يمكنهم من مواصلة الدراسة .
غير أن المدرسة كانت في حاجة إلى إعانات كبيرة ودعم قوي ، وحاول رشيد
رضا أن يستعين بالدولة العثمانية في إقامة مشروعه واستمراره لكنه لم يفلح ، ثم
جاءت الحرب العالمية لتقضي على هذا المشروع ، فتعطلت الدراسة في المدرسة ،
ولم تفتح أبوابها مرة أخرى .
مؤلفاته :
بارك الله في عمر الشيخ الجليل وفي وقته رغم انشغاله بالمجلة التي أخذت
معظم وقته ، وهي بلا شك أعظم أعماله ، فقد استمرت من سنة ( 1316هـ =
1899م ) إلى سنة ( 1354 = 1935م ) ، واستغرقت ثلاثة وثلاثين مجلدًا ضمت
160 ألف صفحة ، فضلاً عن رحلاته التي قام بها إلى أوربا والآستانة والهند
والحجاز ، ومشاركته في ميادين أخرى من ميادين العمل الإسلامي .
ومن أهم مؤلفاته ( تفسير المنار ) الذي استكمل فيه ما بدأه شيخه محمد عبده
الذي توقف عند الآية ( 125 ) من سورة النساء ، وواصل رشيد رضا تفسيره حتى
بلغ سورة يوسف ، وحالت وفاته دون إتمام تفسيره ، وهو من أجل التفاسير . وله
أيضًا : الوحي المحمدي ونداء للجنس اللطيف ، وتاريخ الأستاذ الإمام والخلافة ،
والسنة والشيعة ، وحقيقة الربا ، ومناسك الحج .
وفاة الشيخ :
كان للشيخ رشيد روابط قوية بالمملكة العربية السعودية ، فسافر بالسيارة إلى
السويس لتوديع الأمير سعود بن عبد العزيز وزوده بنصائحه ، وعاد في اليوم نفسه ،
وكان قد سهر أكثر الليل ، فلم يتحمل جسده الواهن مشقة الطريق ، ورفض المبيت
في السويس للراحة ، وأصر على الرجوع ، وكان طول الطريق يقرأ القرآن كعادته ،
ثم أصابه دوار من ارتجاج السيارة ، وطلب من رفيقيه أن يستريح داخل السيارة ،
ثم لم يلبث أن خرجت روحه الطاهرة في يوم الخميس الموافق ( 23 من جمادى
الأولى 1354هـ = 22 من أغسطس 1935م ) ، وكانت آخر عبارة قالها في
تفسيره : ( فنسأله تعالى أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام ) .
__________
* مصادر الدراسة :
(1) أحمد الشرباصي : رشيد رضا صاحب المنار - إصدارات المجلس الأعلى للشئون الإسلامية - القاهرة .
(2) إبراهيم العدوي - رشيد رضا الإمام المجاهد - المؤسسة المصرية العامة للتأليف - القاهرة - بدون تاريخ .
(3) أنور الجندي - أعلام وأصحاب أقلام - دار نهضة مصر للطبع والنشر - القاهرة - بدون تاريخ .