فؤاد طرابلسي
30-09-2009, 01:08 AM
<HR align=center width="95%" color=navy noShade SIZE=2>
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
ليلة المعراج
احتفل المسلمون في ليلة الأحد الماضية بتلاوة قصة المعراج الشريف ، وهذا
الاحتفال من المواسم الحادثة في الملة ، لم يكن على عهد السلف الصالح ، وقد أُلف
في هذا الموضوع قصص كثيرة ، منها ما تحرى أصحابه الروايات المنقولة من
صحيح وحسن وضعيف ومنها ما جيء فيه بما لا يصح من منكر القول
وموضوعه ، ومزج الروايات الواهية بالصحيحة مزجًا لا يتميز فيه الصحيح من
الفاسد ، والذين يقرءون هذه القصص منهم العلماء الذين يشرحون القصة للناس
ببيان يقرب من عقولهم ، وتتناوله أفهامهم ، من غير أن تجول خيول خيالاتهم في
معاني من تنزه عن صور الخيال ، وتسري قنافذ أوهامهم إلى حضرة من تعالى عن
خطرات الأوهام ، ومنهم الجهال الذين ينفثون السم في الأرواح ، ويزعزعون العقائد
الصحاح ، حيث يوقعون في أذهان العامة ما يمثل حضرة الربوبية بجسم من
الأجسام ، كان يراجعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكلام ، مع النظر المعهود
بين الأنام . فوقع الكثير من العامة بسبب ذلك في شرك التجسيم ، لعدم التمييز بين
الصحيح والسقيم ، فإنني قد بلوت الناس في هذا الأمر وخبرتهم . وقررت العامة فيه
وما أقررتهم .
اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء ليس من القضايا
الأساسية وأركان الإيمان في الدين الإسلامي ، وقد اختلف العلماء فيه هل كان يقظة
أو منامًا ، والأكثرون على الأول ، ومن هؤلاء من يقول : إنه بالروح ، واحتج
الآخرون بقوله - عليه السلام - في رواية صحيحة : ( ثم استيقظت ) وأجاب عنها
الأولون ، وللقصاص والشعراء مبالغات في ذلك حملهم عليها التفنن في تعظيم
النبي بما هو مستغنٍ عنه ، فأين قول بعضهم : ( وشرف العرش بوطء نعله ) من
قول حجة الإسلام الغزالي : ( والصحيح أنه لم يرتق إلى العرش ) ويخوضون في
القصة في مسألة رؤيته ربه تبارك وتعالى ومناجاته له ، وهي مسألة خلافية لا
يتوقف الدين على إثباتها ، ولا يختل بإنكارها ، والعلماء يقربون ما ورد فيها للأفهام
ويطبقونه على القواعد المعقولة التي هي أساس الدين .
وملخص القول في ذلك أن أصل الدين اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن مشابهة
الخلق ؛ لاتفاق البرهانين العقلي والنقلي على ذلك . وقد ورد في جميع الكتب
السماوية كلام عن الباري تعالى ، وهو مما يستعمله المخلوقون بعضهم في بعض ،
ويوهم التشبيه وهو ما يسميه المسلمون المتشابه ، وللعلماء فيه طريقتان مشهورتان :
إحداهما : الإيمان بحقيته وعدم الخوض في تأويله ، بل يفوضون الأمر فيه
إلى الله تعالى ، لئلا يحملوه على غير المراد منه لله تعالى .
والثانية : حمله على ضرب من ضروب المجاز بقرينة دليل التنزيه العقلي
النقلي المانع من إرادة ظاهره ، ولهم في هذا المقام تفصيل وأقوال لا محل هنا
لشرحها . فالعالم المحقق إذا قرأ قصة المعراج ، وأراد البحث في مسألة الرؤية يقول
إنه لم يرد فيها شيء قطعي ، وكانت عائشة زوج النبي صلي الله علية وسلم تنكرها ،
وقالت لمن سألها عنها لقد : ( قَفَّ شعري ) واستدلت على نفيها بقوله تعالي{ لاَ
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ( الأنعام : 103 ) وقد ثبت ذلك عنها في الأحاديث الصحيحة ،
وينقلون عن ابن عباس رضي الله عنهما القول بإثباتها ويرجحه الكثيرون على قول
عائشة ، وعلية فإما أن نفوض معنى هذه الرؤية إلى الله تعالى مع القطع بأنه تعالى
لا تدركه الأبصار ولا يُرى كما تُرى الشخوص والأشباح ؛ لأنه لا تحصره جهة ولا
يحويه مكان ، فلا هو في السماء ولا على العرش { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ } ( الشورى : 11 ) وإما أن نؤول الرؤية بنوع كامل من العلم والمعرفة
خص الله تعالى به نبيه في تلك الليلة ، ولا فرق حينئذ بين قول بعضهم أن ذلك العلم
خلقه الله تعالى في قلب النبي علية الصلاة والسلام ، وقول بعضهم أنه خلقه في
عينيه ؛ لأن الله تعالى له أن يخلق ما يشاء حيث يشاء ، وكلهم متفقون على تنزيهه
تعالى عن الرؤية المعتادة للناس .
ومما يستدلون به في هذا المبحث قوله تعالى { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } (النجم : 11 ) وينقلون عن ابن عباس أنه كان يفسر قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } ( الإسراء : 60 ) بما كان ليلة المعراج ، فهو إذاً
جازم بأنها رؤيا منامية ، وتأويل بعض الناس الرؤيا ( المنامية ) بالرؤية ( اليقظية )
بعيد بل ممنوع . واتباع جماهير السلف في المسألة أسلم والله تعالى أعلم .
هذا ملخص ما يقال في المسألة ، ولكننا بُلينا بالفوضى العلمية الدينية ، فكل
من اعتمّ بعمامة يتسنى له تلقين العقائد والخوض في أصول الدين ، وإذا لبس مع
ذلك الفرجية وجرذيلة ووسع أردانه وهزّ سبحته فهو القدوة الذي لا يعارَض مهما
أفسد في عقائد العوَامّ ، وأثار من رواكد الأوهام ، وعاث في الإسلام ، وهذه الفوضى
لم ترزأ بها ملة من الملل ، فلكل أهل دين رئاسة دينية يرد ويصدر عنها معلمو
الدين وناشروه ، ويرجعون إليها في المشكلات ، ونحن قد رزئنا من عدة قرون
بالتبدد والتفرد في كل شيء ، حتى كأن كل فرد منا كون تام بنفسه لا علاقة له
بالآخر ، فمن لنا بمن يؤسس لنا جامعة تنضبط بها شؤون هذه الأمة : دينية ومدينة،
فإيجاد هذه الجامعة إيجاد للأمة وإحياء لها { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ( المائدة : 32 ) .
__________ffice:office" /><O:p></O:p>
(1/771)<O:p></O:p>
الكاتب : محمد رشيد رضا
__________
ليلة المعراج
احتفل المسلمون في ليلة الأحد الماضية بتلاوة قصة المعراج الشريف ، وهذا
الاحتفال من المواسم الحادثة في الملة ، لم يكن على عهد السلف الصالح ، وقد أُلف
في هذا الموضوع قصص كثيرة ، منها ما تحرى أصحابه الروايات المنقولة من
صحيح وحسن وضعيف ومنها ما جيء فيه بما لا يصح من منكر القول
وموضوعه ، ومزج الروايات الواهية بالصحيحة مزجًا لا يتميز فيه الصحيح من
الفاسد ، والذين يقرءون هذه القصص منهم العلماء الذين يشرحون القصة للناس
ببيان يقرب من عقولهم ، وتتناوله أفهامهم ، من غير أن تجول خيول خيالاتهم في
معاني من تنزه عن صور الخيال ، وتسري قنافذ أوهامهم إلى حضرة من تعالى عن
خطرات الأوهام ، ومنهم الجهال الذين ينفثون السم في الأرواح ، ويزعزعون العقائد
الصحاح ، حيث يوقعون في أذهان العامة ما يمثل حضرة الربوبية بجسم من
الأجسام ، كان يراجعه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم الكلام ، مع النظر المعهود
بين الأنام . فوقع الكثير من العامة بسبب ذلك في شرك التجسيم ، لعدم التمييز بين
الصحيح والسقيم ، فإنني قد بلوت الناس في هذا الأمر وخبرتهم . وقررت العامة فيه
وما أقررتهم .
اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم عرج إلى السماء ليس من القضايا
الأساسية وأركان الإيمان في الدين الإسلامي ، وقد اختلف العلماء فيه هل كان يقظة
أو منامًا ، والأكثرون على الأول ، ومن هؤلاء من يقول : إنه بالروح ، واحتج
الآخرون بقوله - عليه السلام - في رواية صحيحة : ( ثم استيقظت ) وأجاب عنها
الأولون ، وللقصاص والشعراء مبالغات في ذلك حملهم عليها التفنن في تعظيم
النبي بما هو مستغنٍ عنه ، فأين قول بعضهم : ( وشرف العرش بوطء نعله ) من
قول حجة الإسلام الغزالي : ( والصحيح أنه لم يرتق إلى العرش ) ويخوضون في
القصة في مسألة رؤيته ربه تبارك وتعالى ومناجاته له ، وهي مسألة خلافية لا
يتوقف الدين على إثباتها ، ولا يختل بإنكارها ، والعلماء يقربون ما ورد فيها للأفهام
ويطبقونه على القواعد المعقولة التي هي أساس الدين .
وملخص القول في ذلك أن أصل الدين اعتقاد تنزيه الله سبحانه عن مشابهة
الخلق ؛ لاتفاق البرهانين العقلي والنقلي على ذلك . وقد ورد في جميع الكتب
السماوية كلام عن الباري تعالى ، وهو مما يستعمله المخلوقون بعضهم في بعض ،
ويوهم التشبيه وهو ما يسميه المسلمون المتشابه ، وللعلماء فيه طريقتان مشهورتان :
إحداهما : الإيمان بحقيته وعدم الخوض في تأويله ، بل يفوضون الأمر فيه
إلى الله تعالى ، لئلا يحملوه على غير المراد منه لله تعالى .
والثانية : حمله على ضرب من ضروب المجاز بقرينة دليل التنزيه العقلي
النقلي المانع من إرادة ظاهره ، ولهم في هذا المقام تفصيل وأقوال لا محل هنا
لشرحها . فالعالم المحقق إذا قرأ قصة المعراج ، وأراد البحث في مسألة الرؤية يقول
إنه لم يرد فيها شيء قطعي ، وكانت عائشة زوج النبي صلي الله علية وسلم تنكرها ،
وقالت لمن سألها عنها لقد : ( قَفَّ شعري ) واستدلت على نفيها بقوله تعالي{ لاَ
تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ } ( الأنعام : 103 ) وقد ثبت ذلك عنها في الأحاديث الصحيحة ،
وينقلون عن ابن عباس رضي الله عنهما القول بإثباتها ويرجحه الكثيرون على قول
عائشة ، وعلية فإما أن نفوض معنى هذه الرؤية إلى الله تعالى مع القطع بأنه تعالى
لا تدركه الأبصار ولا يُرى كما تُرى الشخوص والأشباح ؛ لأنه لا تحصره جهة ولا
يحويه مكان ، فلا هو في السماء ولا على العرش { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ
الْبَصِيرُ } ( الشورى : 11 ) وإما أن نؤول الرؤية بنوع كامل من العلم والمعرفة
خص الله تعالى به نبيه في تلك الليلة ، ولا فرق حينئذ بين قول بعضهم أن ذلك العلم
خلقه الله تعالى في قلب النبي علية الصلاة والسلام ، وقول بعضهم أنه خلقه في
عينيه ؛ لأن الله تعالى له أن يخلق ما يشاء حيث يشاء ، وكلهم متفقون على تنزيهه
تعالى عن الرؤية المعتادة للناس .
ومما يستدلون به في هذا المبحث قوله تعالى { مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى } (النجم : 11 ) وينقلون عن ابن عباس أنه كان يفسر قوله تعالى { وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا
الَتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } ( الإسراء : 60 ) بما كان ليلة المعراج ، فهو إذاً
جازم بأنها رؤيا منامية ، وتأويل بعض الناس الرؤيا ( المنامية ) بالرؤية ( اليقظية )
بعيد بل ممنوع . واتباع جماهير السلف في المسألة أسلم والله تعالى أعلم .
هذا ملخص ما يقال في المسألة ، ولكننا بُلينا بالفوضى العلمية الدينية ، فكل
من اعتمّ بعمامة يتسنى له تلقين العقائد والخوض في أصول الدين ، وإذا لبس مع
ذلك الفرجية وجرذيلة ووسع أردانه وهزّ سبحته فهو القدوة الذي لا يعارَض مهما
أفسد في عقائد العوَامّ ، وأثار من رواكد الأوهام ، وعاث في الإسلام ، وهذه الفوضى
لم ترزأ بها ملة من الملل ، فلكل أهل دين رئاسة دينية يرد ويصدر عنها معلمو
الدين وناشروه ، ويرجعون إليها في المشكلات ، ونحن قد رزئنا من عدة قرون
بالتبدد والتفرد في كل شيء ، حتى كأن كل فرد منا كون تام بنفسه لا علاقة له
بالآخر ، فمن لنا بمن يؤسس لنا جامعة تنضبط بها شؤون هذه الأمة : دينية ومدينة،
فإيجاد هذه الجامعة إيجاد للأمة وإحياء لها { وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } ( المائدة : 32 ) .
__________ffice:office" /><O:p></O:p>
(1/771)<O:p></O:p>