تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : الاستاذ نور الدين النعنعي



فؤاد طرابلسي
02-10-2009, 11:46 AM
انسان في ذاكرتي
بقلم النائب السابق محمود طبو
الفيحاء مدينة العلم والعلماء المعطاءة دائماً وأبداً عملاً ونتاجاً وفكراً وغلالاً. طرابلس سيبقى الخير فيها كامناً على مر الزمن، وإذا كان هذا هو حال طرابلس فكيف لا تُختزن بذاكرة كل من عرفها وعاش فيها وسبر أغوارها وجمع سِيَر وأحداث الكبار من رجالاتها في كافة ميادين العلم والمعرفة والاخلاق والكفاح، فرجالاتها الكبار كانوا دائماً مشاعل وضاءة ومنائر هدى لكل الناس وفي كل مكان.
كان لا بد من هذه التوطئة لانه عندما هاتفني الأخ الصديق الاستاذ محمد ولي الدين وطلب اليّ تعليقاً موجزاً حول شخصية طرابلسية تركت أثراً في ذاكرتي تنشر في زاوية "انسان في ذاكرتي" في صحيفة "البيان" الغراء.
للحقيقة وقبل ان ينهي مكالمته معي، كانت هذه الشخصية قد انتصبت أمامي شكلاً ومضموناً. وهنا لا بد أن اشير ان عدداً كبيراً من شخصيات طرابلس يعج بهم مخزن ذاكرتي قد تركوا أثراً كبيراً بمسيرة حياتي في كافة الحقول العلمية والثقافية والسياسية والنضالية الخ.
ولكن ما قفز الى ذهني على أثر المكالمة مباشرة هي تلك الشخصية التي حفرت بذاكرتي ما حييت، والتي كان لها الأثر الاكبر في مسيرتي كلها، بل وشكّلت انعطافاً كلياً في مجرى هذه المسيرة.
إنه المربي الكبير المغفور له المرحوم نور الدين النعنعي. كثُر الذين عرفوا هذا المربي الكبير الذي كان يمشي الهوينا وكأنه يخشى على الاديم الذي يدوس عليه من ان ينغص عليه راحته. يحمل بين منكبيه رسالة تربوية علمية وطنية، وفي قلبه الكبير قدرة على العطاء لا تعرف حدوداً.
كنت في الثالثة عشرة من عمري، ولم أكن أعرف الألف من العصا. وذات يوم من آخر شهر أيلول 1951، كان المربي النعنعي يقوم بزيارة والدي بالمنية لان علاقة صداقة وود كانت تربط والدي بوالده المرحوم مصطفى النعنعي، وبينما كان والدي والمربي الكبير يتجاذبان أطراف الحديث وكنت حاضراً، سأل هذا المربي والدي: أبنك محمود بأي مدرسة؟ أجابه الوالد: محمود لم أدخله المدرسة وهو أصغر أولادي لانه سبق وبذلت جهوداً كبيرة كي يتابعوا تحصيلهم العلمي، فلم يوافقوا، وبسبب ذلك لم أرسل محمود للمدرسة لأني قدّرت أنه سيكون مثلهم.

هنا قال النعنعي لوالدي : يوم الاثنين في السادس من تشرين الاول آتني بمحمود الى كلية التربية والتعليم الاسلامية، وأنا سأتدبر أمره، فوعده الوالد خيراً.
من جهتي صرت أعد الساعات للوصول الى يوم الاثنين.
في صبيحة ذالك اليوم طلبت من والدي ان يصحبني الى المدرسة وكان ذلك.
سُجلت ودخلت صف الدراسة. فوجدت نفسي بين تلامذة صغار لا تتجاوز اعمارهم الخمس سنوات. فجلست في مؤخرة الصف، وقد عصرتُ جسمي كي أظهر بمظهر صغير. للتو أنتابني شعور بالخجل والحرج، وبدأت أفكر بأن لا أعود الى المدرسة في اليوم التالي. وقضيت هذا اليوم الطويل وكأنه سنة، وقبل انتهاء الساعة الاخيرة جاء من اصطحبني الى مكتب الاستاذ نعنعي، فوجدت عدداً من الاساتذة عرفني اليهم.
الاستاذ : كامل ذوق - مادة الحساب
الاستاذ : أديب الخطيب - لغة انكليزية
الاستاذ : صلاح الحسن - لغة عربية
دوام المدرسة: كان يبتدئ الساعة الثامنة صباحاً وينتهي في الرابعة بعد الظهر، وساعتين راحة عند الظهيرة.
أفهمني الاستاذ المربي بوجوب حضوري السابعة صباحاً لمتابعة دراسة خاصة مكثفة في مادة الحساب. ومن الساعة الواحدة الى الساعة الثانية لغة عربية، ومن الرابعة الى الخامسة لغة انكليزية.
وهنا أفهمني المربي المرحوم ان انتبه وأن أشد الهمة وإني سأبقى تحت مراقبته اليومية، وأفهمني "أنك لن تبقى بهذا الصف لأكثر من شهرين". هنا شعرت بشيء من الراحة بأني سأكون موضع عناية بالنسبة الى سني، وبنفس الوقت أحسست بالتهيب لأن المرحلة ستكون شاقة ومتعبة، وبدأت المسيرة اليومية كداً وتحصيلاً بكل جهدٍ وقوة ومتابعة يومية من قبل المرحوم النعنعي.
المربي النعنعي كان مديراً للدروس في المدرسة، وقد أوصى الاساتذة جميعاً بأن يعيروني انتباهاً خاصاً، ولم تمض السنة الدراسية حتى اصبحت في الصف العالي الاول، وقدمت الشهادة الابتدائية ونجحت، وكانت حصيلة هذه الرحلة الشاقة سحابة سبع سنوات انهيت فيها الدراسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم ذهبت الى مصر لمتابعة دراسة الحقوق بجامعة القاهرة.
انها رحلة متعبة وشاقة وفريدة من نوعها من جهة، ولكن بالنتيجة احسست انها سويعات او انها أويقات حلوة لذيذة قضيتها في هذا الصرح العلمي برعاية وتوجيه المربي الكبير المرحوم الاستاذ نور الدين النعنعي، واعترف واشهد انه رعاني كما ترعى الام وليدها، كيف لا تضج ذاكرتي بمزاياه وهو الذي كان يخاطبني دائماً: لا بد من أصنع منك شيئاً.
كيف يمكن ان أنسى كلامه وانا في صف الشهادة المتوسطة عندما قال لي: أريد منك أن تتقن اللغة الإنكليزية نطقاً ولكنةً ومن اجل ذلك سأدخل تسجيلات لدروس باللغة الانكليزية من اجل الاتقان الدقيق الـ prononciation
فكان في كل اسبوع لأكثر من ثلاث مرات يُحضر هذه التسجيلات ونستمع نحن الطلبة مرة وثانية وثالثة، وبعد ذلك يبدأ بي كي أتلو التسجيل بصوتي، وعندما لا يكون نطقي دقيقاً يطلب الاعادة مرة بعد مرة حتى يتم الاتقان الكلي.
رحم الله المربي الكبير نور الدين النعنعي. ستبقى اخصاله محفورة بذاكرتي ما حييت، وبنفس الوقت لا يمكن بهذه المناسبة من ان أذكر تلك الكوكبة من الاساتذة والمربين الذين كانت تعمر بهم كلية التربية والتعليم الاسلامية: المربي المرحوم الحاج رفيق الفتال، وفضيلة الشيخ جميل عدرة، والحاج اقبال زيادة وعبد الحميد الحامدي والمربي المرحوم الاستاذ منير المحمود، وعبد اللطيف مرعوش والاساتذة كامل ذوق، اديب الخطيب، ونور الدين الخطيب، ومحي الدين مكوك ودرويش تدمري، وصلاح الحسن، ووديع رزق، وفؤاد الولي، وعبد اللطيف وعبد السلام حمودة. واذا كنت أذكر هذه الكوكبة واحفظ لهم كل جميل على عطاءاتهم اشعر بنفس الوقت بالاسف والاسى والحزن على كلية التربية والتعليم الاسلامية في طرابلس، هذا الصرح العلمي الذي كان يعج بالطلاب، وكأنه مصنع لرجال العرب من لبنان وسوريا وفلسطين والعراق والكويت والسعودية واليمن والمغرب والسودان وسوى ذلك سقى الله ايام زمان.

عن جريدة البيان



39 : العدد

2007-10-10