فؤاد طرابلسي
02-10-2009, 10:15 PM
الشيخ أنور البكري
عن جريدة البيان
العدد 64 . 2 تشرين أول 2009
هو نور الدين بن محمد بن حسين البكري. رجل دين من طراز فريد، ومن كوكبة رجال تركوا بصماتهم في هذه المدينة، وعاصروا أحداثاً جساماً تأثروا بها وأثروا فيها على مدى نصف قرن.
صاحب عمامة بيضاء كبياض سريرته ويديه، نفس ذكية، سعى الى عمل الخير بصمت، وشّد أزر المساكين والملهوفين، خطيب طلق اللسان جريء، يضفي بكلماته مسحة من روحه المرحة، ظريف من الظرفاء، والظريف تجتمع فيه خصال أربعٌ كما قال الادباء: الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة.
ولد الشيخ أنور بطرابلس في قبة النصر سنة 1923، ولعلّه استمد من مجد القبة الرفعة والسمو، وهو على الارجح حفيد الشيخ مصطفى البكري المرشد ومجدد الطريقة الخلوتية، الذي زار طرابلس في القرن الثامن عشر ونزل عند الشيخ عمر البيسار الرافعي في زاويته بالعوينات، وانشده القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
سِرَّ سِرِّ السِّرِّ للسِّرِّ ظهر أينَ مَن يَفهم هذا يا عُمرْ
توفي والد مترجمنا وهو في العاشرة من عمره ، وعاش في بداية حياته عيشة متواضعة، وسعت والدته جهدها لتعليمه هو وأخوته الثلاثة التعليم العالي، فأدخلته دار الايتام التابعة لكلية التربية والتعليم وتلقى علومه الاولى ثم العلوم الشرعية فيها. وسنة 1940 كفله المحسن الحاج عبد الله الغندور، وارسله الى الازهر الشريف لمتابعة تحصيله العلمي، ومكث أكثر من ثماني سنوات نال على اثرها ثلاث إجازات جامعية في الشريعة والادب العربي والتربية.
عاد الى طرابلس وعيّن مدرساً للدين واللغة العربية والفلسفة في المدارس الرسمية، وأوكل اليه مهمة الخطابة في جامع العطار والدرس في الجامع المنصوري الكبير خلال شهر رمضان، كما تسلم نظارة مدرسة ثانوية الملعب، وتولى إدارتها بضعة اشهر، ثم عزف عنها ليعود ناظراً، واستمر في هذا مع درسه في الفلسفة حتى تقاعده.
كان رحمه الله من خلال خطبه ومحاضراته ودروسه يحاول خلق وعي وطني وسياسي بين الشباب، فكان حركة لا تهدأ وعقلا مبدعاً لأعمال الخير، وعلى صلة بعلماء المدينة ومفكريها وكبارها، فتراه متواصلاً مع العلامة الشيخ عبد الكريم عويضة ووصفه بالمكتبة المتنقلة، والمحسن الحاج عبد الله الغندور وولده فاضل رحمهما الله، ولثقتهم التامة به وبأمانته كانا يودعان الاموال لديه لانفاقها على الفقراء والمحتاجين من اهل البلد والعائلات المستورة، وقد أبلغني احد جلسائه وخلصائه ان جبته التي يرتديها تحمل ثمانية جيوب، يضع في كل جيب مغلف لعائلة وكان يذهب بنفسه الى أماكنهم، وينهرهم إذا حضر أحد منهم يسأله. كان يرحمه الله حريصاً على كرامات الناس واحترام خصوصياتهم. امتازت خطب الشيخ أنور واحاديثه بالصراحة المحببة الى المستمعين، حيث تتخللها كثير من التعبيرات الشعبية بالهجة العامية الدارجة، فكانت الكلمة طيعة على لسانه حتى أصبح ذا سمة خاصة به، ولعل مجلسه لا يقل حلاوة عن المجالس التي وصفها أبو الفرج الاصفهاني من حيث نضارة الروح ورقة الحديث والاشارات الوظيفية التي تنشر الفرح أو تثير الاسئلة. كان الشيخ انور مترفعاً قانعاً لم تهزه بهرجة الدنيا ولم يسع الى ثروة وسلطة وجاه، ورغم الثناء والمديح إلا ان هذا لم يجعل منه رجلاً مغروراً بل بقي على تواضعه الجم، تواضع رجل الدين الصحيح يعطي دون حدود، لقد كان في نفسه أغنى من اي صاحب ثروة وأقوى من أي ذي سلطان، يحمل قيمته في ذاته علماً ومعرفة وأخلاقاً ووطنية صادقة حتى اصبح في قلوب وعقول من عرفه واستمع اليه.
لقد ودع اهل واصحاب ومحبو الشيخ أنور ابنهم البار، مدركين كبر الخسارة، مقدرين في شخصيته الفريدة نبل الاخلاق وكريم العطاء، وكان في حلقهم غصة لانهم فقدوا من بعده الابتسامة، وأحسنت البلدية عندما أطلقت اسمه على احد شوارع منطقة الضم والفرز بطرابلس تخليداً لذكراه.
عن جريدة البيان
العدد 64 . 2 تشرين أول 2009
هو نور الدين بن محمد بن حسين البكري. رجل دين من طراز فريد، ومن كوكبة رجال تركوا بصماتهم في هذه المدينة، وعاصروا أحداثاً جساماً تأثروا بها وأثروا فيها على مدى نصف قرن.
صاحب عمامة بيضاء كبياض سريرته ويديه، نفس ذكية، سعى الى عمل الخير بصمت، وشّد أزر المساكين والملهوفين، خطيب طلق اللسان جريء، يضفي بكلماته مسحة من روحه المرحة، ظريف من الظرفاء، والظريف تجتمع فيه خصال أربعٌ كما قال الادباء: الفصاحة والبلاغة والعفة والنزاهة.
ولد الشيخ أنور بطرابلس في قبة النصر سنة 1923، ولعلّه استمد من مجد القبة الرفعة والسمو، وهو على الارجح حفيد الشيخ مصطفى البكري المرشد ومجدد الطريقة الخلوتية، الذي زار طرابلس في القرن الثامن عشر ونزل عند الشيخ عمر البيسار الرافعي في زاويته بالعوينات، وانشده القصيدة الشهيرة التي مطلعها:
سِرَّ سِرِّ السِّرِّ للسِّرِّ ظهر أينَ مَن يَفهم هذا يا عُمرْ
توفي والد مترجمنا وهو في العاشرة من عمره ، وعاش في بداية حياته عيشة متواضعة، وسعت والدته جهدها لتعليمه هو وأخوته الثلاثة التعليم العالي، فأدخلته دار الايتام التابعة لكلية التربية والتعليم وتلقى علومه الاولى ثم العلوم الشرعية فيها. وسنة 1940 كفله المحسن الحاج عبد الله الغندور، وارسله الى الازهر الشريف لمتابعة تحصيله العلمي، ومكث أكثر من ثماني سنوات نال على اثرها ثلاث إجازات جامعية في الشريعة والادب العربي والتربية.
عاد الى طرابلس وعيّن مدرساً للدين واللغة العربية والفلسفة في المدارس الرسمية، وأوكل اليه مهمة الخطابة في جامع العطار والدرس في الجامع المنصوري الكبير خلال شهر رمضان، كما تسلم نظارة مدرسة ثانوية الملعب، وتولى إدارتها بضعة اشهر، ثم عزف عنها ليعود ناظراً، واستمر في هذا مع درسه في الفلسفة حتى تقاعده.
كان رحمه الله من خلال خطبه ومحاضراته ودروسه يحاول خلق وعي وطني وسياسي بين الشباب، فكان حركة لا تهدأ وعقلا مبدعاً لأعمال الخير، وعلى صلة بعلماء المدينة ومفكريها وكبارها، فتراه متواصلاً مع العلامة الشيخ عبد الكريم عويضة ووصفه بالمكتبة المتنقلة، والمحسن الحاج عبد الله الغندور وولده فاضل رحمهما الله، ولثقتهم التامة به وبأمانته كانا يودعان الاموال لديه لانفاقها على الفقراء والمحتاجين من اهل البلد والعائلات المستورة، وقد أبلغني احد جلسائه وخلصائه ان جبته التي يرتديها تحمل ثمانية جيوب، يضع في كل جيب مغلف لعائلة وكان يذهب بنفسه الى أماكنهم، وينهرهم إذا حضر أحد منهم يسأله. كان يرحمه الله حريصاً على كرامات الناس واحترام خصوصياتهم. امتازت خطب الشيخ أنور واحاديثه بالصراحة المحببة الى المستمعين، حيث تتخللها كثير من التعبيرات الشعبية بالهجة العامية الدارجة، فكانت الكلمة طيعة على لسانه حتى أصبح ذا سمة خاصة به، ولعل مجلسه لا يقل حلاوة عن المجالس التي وصفها أبو الفرج الاصفهاني من حيث نضارة الروح ورقة الحديث والاشارات الوظيفية التي تنشر الفرح أو تثير الاسئلة. كان الشيخ انور مترفعاً قانعاً لم تهزه بهرجة الدنيا ولم يسع الى ثروة وسلطة وجاه، ورغم الثناء والمديح إلا ان هذا لم يجعل منه رجلاً مغروراً بل بقي على تواضعه الجم، تواضع رجل الدين الصحيح يعطي دون حدود، لقد كان في نفسه أغنى من اي صاحب ثروة وأقوى من أي ذي سلطان، يحمل قيمته في ذاته علماً ومعرفة وأخلاقاً ووطنية صادقة حتى اصبح في قلوب وعقول من عرفه واستمع اليه.
لقد ودع اهل واصحاب ومحبو الشيخ أنور ابنهم البار، مدركين كبر الخسارة، مقدرين في شخصيته الفريدة نبل الاخلاق وكريم العطاء، وكان في حلقهم غصة لانهم فقدوا من بعده الابتسامة، وأحسنت البلدية عندما أطلقت اسمه على احد شوارع منطقة الضم والفرز بطرابلس تخليداً لذكراه.