الزاهر
17-10-2009, 02:55 PM
تعقيبا على الحوار الذي جرى في موضوع [ الرد الأمثل على مفتي حماس (عدلت من قبل المشرف وسيم الفلو) للشيخ أبي محمد المقدسي ] (http://forum.qalamoun.com/showthread.php?t=10129) لفتني هذا الباب من الكتاب المذكور للشيخ محمد الغزالي.
والموضوع قد تحول لحوار بين المدرسة السلفية ومدرسة الإخوان المسلمين الفكريتين.
[دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين]
[محمد الغزالي]
[دار القلم - دمشق]
[الطبعة الثالثة - 1419 هـ | 1998 م]
[التعصب المذهبي]
التعصب المذهبي
للرأي الفقهي مكانته العلمية، ولمن شاء أن يأخذ به، وأن يدعو إليه غيره. ونحن قد نؤثر رأيا على رأي لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك، أو لأن هذا الرأي أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة، وأرفق بعباد الله.
والشيء الذي نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين، وأن ما عداه ليس بدين، وأن يجمد على ما عنده جمودا قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته.
وتنفيرا من هذا المسلك نقرأ قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٣١﴾ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿٣٢﴾ ) [الروم].
وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبي ما يثير الاشمئزاز زيدعو إلى الدهشة. وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصداً إلى تمزيق المسلمين، وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة.
قال الشيخ عبد الجليل عيسى [بتصرف قليل] : سئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ فقال - فضَّ الله فاه - : يرمى لكلب أو حنفي !!.
وسئل متعصب حنفي : هل يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية ؟ فقال - فض الله فاه هو الآخر - : لا يجوز لأنها تشك في إيمانها .. يعني هذا الأحمق أن الشافعي يجيز للمؤمن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تبركاً.
فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شكا يخرج من الملة!!.
أرأيت هذا السفه؟ وجاء حنفي آخر فزاد الطين بلّة وقال : يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية!.
ورأيت حنابلة يأبون ذبح النسك في منى أيام التشريق، ويرفضون مذهب الشافعي في الذبح بمكة قبل ذلك، ويقبلون أن تنتن آلاف الذبائح ويحتاج تنظيف منى منها إلى المال والرجال.. ذلك لديهم أرجح من إطعام الألوف من فقراء مكة، أوائل ذي الحجة.
وحنابلة آخرون يرون زكاة الفطر لا تكون إلا شعيرا أو قمحا، ويرفضون باستعلاء مذهب أبي حنيفة في إخراج القيمة مالا للفقراء.
وتصور عواصم المسلمين تشحن بأرادب الشعير حتى يعمل الناس بمذهب أبي حنيفة .. لم هذا التعصب المذهبي ؟!.
لقيت متعصبين كثيرين، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية فوجدت آفتين تفتكان بهم: الأولى : العجز العلمي، أو قلة المعرفة. هؤلاء يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله.
ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرا، فليس كل مسلم مطالبا بمعرفة الأقوال الواردة والدلالات المحتملة. المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين وهم بهذا المستوى الهابط!.
نقل الشيخ عبد الجليل عيسى عن أبي إسحاق الشاطبي في (الموافقات) هذه الكلمة الصائبة : ( إن تعويد الطالب ألا يطلع إلا على مذهب واحد، ربما يكسبه نفورا أو إنكارا لكل مذهب غير مذهبه ما دام لم يطلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه).
حدث لي مرة أن أفتين بجواز حج المرأة وحدها في الرفقة المأمونة، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدي وهو يرتعش من الغضب يقول : كيف تفتي بهذا الحكم المخالف للسنة ؟.
قلت : إنما أنقل مذهبي الشافعي ومالك رضي الله عنهما.
قال : هما يخالفان السنة! قلت: هما لا يخالفان السنة، إن حديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم لها فهنه هذان الإمامان على أنه عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة.
واستدلوا على صحة فهمهم بأن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ بأن الإسلام سوف يظهر، وأن الدُّعَّار والفتّانين سوف يختفون حتى تسير الظعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلا الله!. وسفر الظعينة هذه المسافة الشاسعة لا يبشر الرسول به إذا كان حراماً.
وعندما كنت مسؤولا عن المساجد في مصر جاءتني شكايات، ووقعتْ فتن من بعض المصلين لأن الإمام لم يصل في صبح الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، كما يرة الشافعي.
إن القصور العلمي عند أولئك وأمثالهم هو مثار الشغب والفوضى.
والآفة الثانية في التعصب المذهبي سوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنساني المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت في مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله: صدق الله العظيم؛ فإذا جالس ينتفض كأنما لستعه عقرب يقول: هذه بدعة ... قلت له : لا أبحث معك أنها بدعة أن سنة، وإنما أسألك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة، اجلس.
ورأيت في أحد مساجد القاهرة رجلا تأخرت به السن يوشك أن يضرب نفرا من الطلاب الذي صلوا ورؤوسهم عارية.
أخذت على يديه، وأفهمته بشق النفس أن الرأس ليس عورة، وأن الصلاة صحيحة، وأن مسلكه خطأ، فما تركهم إلا مغلوبا على أمره، غير مقتنع بما قلت.
هذا الصنف من الناس لم يهذب نفسه بالأخلاق التي بعث صاحب الراسلة ليتمم مكارمها .. إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ، وغرائز فجة. وهو يجد متعة في قضايا الخلاف ليثور ويفور وظاهر أمره الغضب للدين، وهو في الحقيقة ينفس عن طبيعة معتلة، وتربية ناقصة أو مفقودة.
أرأيت إلى الشخص الذي قال لرسول الله : اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! إنه - والله - ما يغار على عدالة، ولا بأبى على جَوْر، إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم يريد أن يقال عنه : لفت معلم الإنسانية إلى ما فاته، وأدرك ما لم يدركه، وهو صاحب الرسالة العظمى.
إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين : ( إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴿٥٦﴾ ) [غافر]
ولقد تألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الكلام، وقال لصاحبه : "ويحك!! من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل".
والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة.. ولذا اجتمعت الآفتان معا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة على أمرها بين المحيطين الأطلسي والهادي.
شعرت بذلك عندما اشتغلت - من عشرين سنة - بالإجابة على الأسئلة الدينية في برامج الإذاعات الموجهة بالقاهرة.
لاحظت أن أسئلة كثيرة تجيء عم حكم سدل اليدين أو قبضهما في الصلاة. كان النزاع محتدما ما بين أتباع مالك، وجماعة أنصار السنة في هذه البقاع النائية خصوصا بين مجموعة الأقطار المتكلمة بالفرنسية.
قلت : سبحان الله هؤلاء قوم فقدوا اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والولاء الجامع على هذا الدين، وأظلهم حكم أجنبي لا يرجو لله وقارا، ولا يحترم من حدوده حدا، بل لا يقيم للإسلام ركنا، ولا يحل حلالا ولا يحرم حراما.
وجملة الحكومات هناك إما صليبية على كثرة مسلمة، وإما مسلمة باللفظ، ولا تهتم من تعاليم الإسلام بشيء، ومع ذلك كله فالنزاع يحتدم حول سدل اليدين أو قبضهما في الصلاة.. هل هذه مشكلة المشاكل.
إن الشافعي الذي يجعل قبض اليدين سنة يصف هذه السنة بأنها هيئة، أي يجعلها شكلا للصلاة ويرى أن ترك الهيئة سهوا أو عمدا لا يستتبع سجود سهو.
فهل نافلة خفيفة على هذا الغرار تنسي الدعائم والمعالم، وتشغل الجماهير عن أعمدة الإسلام التي انهارت أو تكاد ..؟.
إن ما حدث في ظل الاستعمار الفرنسي حدث مثله في ظل الاستعمار الإنكليزي.
ولقد رأينا المسلمين الهنود الذين أنشأوا باكستان غلبتهم قضايا تافهة، قصمت ظهر الدولة التي أنشأوها، وبددت قواهم في خصومات مذهبية لا طائل تحتها، ولعلهم يستفيدون من تجارب الأمس ما يصون مستقبلهم المهدد.
نظرت إلى شؤون الناس في أقطار أخرى فرأيت ما يستحق التسجيل : إن الشعوب تختلف على نطاق واسع في تقدير مصالحها وفي رسم السبل التي تحققها. ففي إنجلترا عمال ومحافظون وغيرهم، وفي الولايات المتحدة جمهوريون وديمقراطيون وغيرهم، وفي شتى الأقطار أحزاب تختلف على التافه والجليل.
ربما في نظام الجمارك أو في نظام المقابر، أو في نظام الحكم المحلي، أو في نظام تأميم المرافق الكبرى. ومع هذه الاختلافات فإن ولاءهم لأوطانهم ثابت، وانشغالهم بالدفاع عنها وإعلاء رايتها يجمعهم على عجل من كل ناحية، وتطوى مسافات الخلف بين الكل فإذا هم صف واحد لنفع بلدهم ورفع شأنها.
إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك! ولم أر ناسا حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبي عندنا، وأظن السبب في ذلك أسلوب تعليم العوام. إن المدرس يوق في ثقة : حكم الله كذا في هذه القضية، رأي الدين كذا في الموضوع .. فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله ورسوله.
وما ينبغي أن يذكر بهذا الجزم إلا ما قطع به، أما الاجتهادات المذهبية فينبغي أن يقول المفتي أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا، ويترك مجالا للرأي الآخر فلا يحرمه من الإنتماء إلى الإسلام.
وعلى الأتباع أن يستبينوا قيمة ما يؤدون وما يدعون، فلا يظنوا الإسلام حكرا على مسالكهم وحدها. واخيار المسلم لمذهب ما لا يجوز أن يتحول إلى لجاجة ومغاضبة، فأن ذلك يفسد النية ويمزق الأمة ويوهي الصلة بالله سبحانه وتعالى. والموضوع كله لا مكان فيه لمكابرة واستطالة، إنه أهون من ذلك كثيرا.
سألني صيدلي عن حكم كم أدرك الإمام راكعا ولم يفرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها ؟.
قلت : الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضائها، فاختر لنفسك ما يحلو.
قال : أعرف ذلك ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة.
قلت له : ما جدوى ذلك عليك ؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن .. ؟ قال : ما معنى ما تقول ؟.
قلت : أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان ميدان صناعة الدواء، واشتغلت اللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عمد الله وعند الناس ؟ إنك للأسف تسهم في سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة.
قال : إنني أبحث في حكم شرعي ولا أشتغل باللغو.
قلت: الحكم الشرعي كما قرره أهل الذكر بين أمرين خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون، إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به.
أما أن تؤلف رابطة عنوانها ( جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة ) فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى يحشى به عقل الناس ؟.
إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أو الفاتحة.
لحساب من تستثار المشاعر المشبوهة وراء رأي فقهي، إن كان خطأ أو صوابا فهو مأجور، وماذا يبقى من مشاعر الناس بإزاء العقائد الأولى، والوحدة الجامعة، والتماسك في زجه أعداء لا ينامون حتى يقضوا علينا ؟.
إن التعصب لرأي أحد الفقهاء غباء، اعمل به ان شئت، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك يعمل ضده.
وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة - لمن يقدرون على ذلك - فلا حرج، ثم يصير كل إلى ما يرى، إنني استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها.
وأذكر صحفيا ممن شهدوا القبض على الجماعة التي احتلت الحرم المكي هذه السنة [1401 هـ ] قال لي : عندما أخذنا صورا لهم رأيت بعضهم يتململ، فقلت له : مالك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام!.
قلت له: ترى أن التصوير حرام، وقتل الأبرياء في المسجد وامتحان قداسته مباح !!.
هذه هي عقلية المتشبثين ببعض الأفكار والفتاوى، ذلك مبلغهم من العلم، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها.
ذلك وقد ظهر نوع آخر من التعصب! جماعة يتسمون أهل الحديث، يفهم أحدهم في الخبر المروي فهما معينا، فإذا خالفته في فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة، أو تخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بلاء جديد نشير إليه في الفصل اللاحق إن شاء الله.
[\انتهى]
ملاحظة : قمت بكتابة الباب لأني لم أجد نسخة منه على الشبكة لذلك سيكون فيه أخطاء طباعية كثيرة فاعذرونا.
والموضوع قد تحول لحوار بين المدرسة السلفية ومدرسة الإخوان المسلمين الفكريتين.
[دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين]
[محمد الغزالي]
[دار القلم - دمشق]
[الطبعة الثالثة - 1419 هـ | 1998 م]
[التعصب المذهبي]
التعصب المذهبي
للرأي الفقهي مكانته العلمية، ولمن شاء أن يأخذ به، وأن يدعو إليه غيره. ونحن قد نؤثر رأيا على رأي لأن اقتناعنا بهذا أكثر من اقتناعنا بذاك، أو لأن هذا الرأي أدنى إلى تحقيق المصلحة العامة، وأرفق بعباد الله.
والشيء الذي نرفضه ويرفضه جمهور العقلاء أن يحسب أحد الناس أن رأيه دين، وأن ما عداه ليس بدين، وأن يجمد على ما عنده جمودا قد يضر بالإسلام كله ويصدع وحدته.
وتنفيرا من هذا المسلك نقرأ قوله تعالى : ( أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴿٣١﴾ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴿٣٢﴾ ) [الروم].
وقد قرأت ورأيت من أمراض التعصب المذهبي ما يثير الاشمئزاز زيدعو إلى الدهشة. وكأن الذين خاضوا هذه المعارك الجدلية يقصدون قصداً إلى تمزيق المسلمين، وإهانة معارضيهم في الفكر بعلل مختلفة.
قال الشيخ عبد الجليل عيسى [بتصرف قليل] : سئل بعض المتعصبين من الشافعية عن حكم طعام وقعت فيه قطرة نبيذ فقال - فضَّ الله فاه - : يرمى لكلب أو حنفي !!.
وسئل متعصب حنفي : هل يجوز للحنفي أن يتزوج امرأة شافعية ؟ فقال - فض الله فاه هو الآخر - : لا يجوز لأنها تشك في إيمانها .. يعني هذا الأحمق أن الشافعي يجيز للمؤمن أن يقول : أنا مؤمن إن شاء الله تبركاً.
فهذا الاستدراك أو الاستثناء بالمشيئة جعله شكا يخرج من الملة!!.
أرأيت هذا السفه؟ وجاء حنفي آخر فزاد الطين بلّة وقال : يجوز الزواج بها قياسا على الكتابية!.
ورأيت حنابلة يأبون ذبح النسك في منى أيام التشريق، ويرفضون مذهب الشافعي في الذبح بمكة قبل ذلك، ويقبلون أن تنتن آلاف الذبائح ويحتاج تنظيف منى منها إلى المال والرجال.. ذلك لديهم أرجح من إطعام الألوف من فقراء مكة، أوائل ذي الحجة.
وحنابلة آخرون يرون زكاة الفطر لا تكون إلا شعيرا أو قمحا، ويرفضون باستعلاء مذهب أبي حنيفة في إخراج القيمة مالا للفقراء.
وتصور عواصم المسلمين تشحن بأرادب الشعير حتى يعمل الناس بمذهب أبي حنيفة .. لم هذا التعصب المذهبي ؟!.
لقيت متعصبين كثيرين، ودرست عن كثب أحوالهم النفسية والفكرية فوجدت آفتين تفتكان بهم: الأولى : العجز العلمي، أو قلة المعرفة. هؤلاء يحفظون نصا وينسون آخر، أو يفهمون دلالة للكلام هنا ويجهلون أخرى وهم يحسبون ما أدركوه الدين كله.
ولو أن هؤلاء اكتفوا بمنزلة المتعلم التابع ما عابهم ذلك كثيرا، فليس كل مسلم مطالبا بمعرفة الأقوال الواردة والدلالات المحتملة. المصيبة أن يشتغلوا مفتين أو موجهين وهم بهذا المستوى الهابط!.
نقل الشيخ عبد الجليل عيسى عن أبي إسحاق الشاطبي في (الموافقات) هذه الكلمة الصائبة : ( إن تعويد الطالب ألا يطلع إلا على مذهب واحد، ربما يكسبه نفورا أو إنكارا لكل مذهب غير مذهبه ما دام لم يطلع على أدلته، فيورثه ذلك حزازة في الاعتقاد في فضل أئمة أجمع الناس على فضلهم وتقدمهم في الدين وخبرتهم بمقاصد الشارع وفهم أغراضه).
حدث لي مرة أن أفتين بجواز حج المرأة وحدها في الرفقة المأمونة، فإذا طالب مكفوف يمسك بيدي وهو يرتعش من الغضب يقول : كيف تفتي بهذا الحكم المخالف للسنة ؟.
قلت : إنما أنقل مذهبي الشافعي ومالك رضي الله عنهما.
قال : هما يخالفان السنة! قلت: هما لا يخالفان السنة، إن حديث نهي المرأة عن السفر إلا مع محرم لها فهنه هذان الإمامان على أنه عند اضطراب الأمن وخوف الفتنة.
واستدلوا على صحة فهمهم بأن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ بأن الإسلام سوف يظهر، وأن الدُّعَّار والفتّانين سوف يختفون حتى تسير الظعينة من اليمن إلى العراق لا تخشى إلا الله!. وسفر الظعينة هذه المسافة الشاسعة لا يبشر الرسول به إذا كان حراماً.
وعندما كنت مسؤولا عن المساجد في مصر جاءتني شكايات، ووقعتْ فتن من بعض المصلين لأن الإمام لم يصل في صبح الجمعة بسورتي السجدة والإنسان، كما يرة الشافعي.
إن القصور العلمي عند أولئك وأمثالهم هو مثار الشغب والفوضى.
والآفة الثانية في التعصب المذهبي سوء النية، ووجود أمراض نفسية دفينة وراء السلوك الإنساني المعوج، ويغلب أن تكون آفات الظهور والاستعلاء أو رذائل القسوة والتسلط. كنت في مجلس قرآن ختم القارئ فيه التلاوة بقوله: صدق الله العظيم؛ فإذا جالس ينتفض كأنما لستعه عقرب يقول: هذه بدعة ... قلت له : لا أبحث معك أنها بدعة أن سنة، وإنما أسألك: ما هذا الفزع؟ لكأنما سقط على رأسك حجر!! الأمر ما يعالج بهذه العاصفة، اجلس.
ورأيت في أحد مساجد القاهرة رجلا تأخرت به السن يوشك أن يضرب نفرا من الطلاب الذي صلوا ورؤوسهم عارية.
أخذت على يديه، وأفهمته بشق النفس أن الرأس ليس عورة، وأن الصلاة صحيحة، وأن مسلكه خطأ، فما تركهم إلا مغلوبا على أمره، غير مقتنع بما قلت.
هذا الصنف من الناس لم يهذب نفسه بالأخلاق التي بعث صاحب الراسلة ليتمم مكارمها .. إن صور العبادة عنده غطاء لقلب غليظ، وغرائز فجة. وهو يجد متعة في قضايا الخلاف ليثور ويفور وظاهر أمره الغضب للدين، وهو في الحقيقة ينفس عن طبيعة معتلة، وتربية ناقصة أو مفقودة.
أرأيت إلى الشخص الذي قال لرسول الله : اعدل، هذه قسمة ما أريد بها وجه الله! إنه - والله - ما يغار على عدالة، ولا بأبى على جَوْر، إنه طالب ظهور عن طريق الغيرة على القيم يريد أن يقال عنه : لفت معلم الإنسانية إلى ما فاته، وأدرك ما لم يدركه، وهو صاحب الرسالة العظمى.
إنه هو وأمثاله كما قال رب العالمين : ( إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ ﴿٥٦﴾ ) [غافر]
ولقد تألم رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الكلام، وقال لصاحبه : "ويحك!! من يعدل إذا لم أعدل؟ خبت وخسرت إن لم أعدل".
والواقع أن بين المتعصبين لبعض الآراء والمذاهب ناسا حظهم من الإيمان بالغ التفاهة.. ولذا اجتمعت الآفتان معا على افتراس الأمة الإسلامية المغلوبة على أمرها بين المحيطين الأطلسي والهادي.
شعرت بذلك عندما اشتغلت - من عشرين سنة - بالإجابة على الأسئلة الدينية في برامج الإذاعات الموجهة بالقاهرة.
لاحظت أن أسئلة كثيرة تجيء عم حكم سدل اليدين أو قبضهما في الصلاة. كان النزاع محتدما ما بين أتباع مالك، وجماعة أنصار السنة في هذه البقاع النائية خصوصا بين مجموعة الأقطار المتكلمة بالفرنسية.
قلت : سبحان الله هؤلاء قوم فقدوا اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، والولاء الجامع على هذا الدين، وأظلهم حكم أجنبي لا يرجو لله وقارا، ولا يحترم من حدوده حدا، بل لا يقيم للإسلام ركنا، ولا يحل حلالا ولا يحرم حراما.
وجملة الحكومات هناك إما صليبية على كثرة مسلمة، وإما مسلمة باللفظ، ولا تهتم من تعاليم الإسلام بشيء، ومع ذلك كله فالنزاع يحتدم حول سدل اليدين أو قبضهما في الصلاة.. هل هذه مشكلة المشاكل.
إن الشافعي الذي يجعل قبض اليدين سنة يصف هذه السنة بأنها هيئة، أي يجعلها شكلا للصلاة ويرى أن ترك الهيئة سهوا أو عمدا لا يستتبع سجود سهو.
فهل نافلة خفيفة على هذا الغرار تنسي الدعائم والمعالم، وتشغل الجماهير عن أعمدة الإسلام التي انهارت أو تكاد ..؟.
إن ما حدث في ظل الاستعمار الفرنسي حدث مثله في ظل الاستعمار الإنكليزي.
ولقد رأينا المسلمين الهنود الذين أنشأوا باكستان غلبتهم قضايا تافهة، قصمت ظهر الدولة التي أنشأوها، وبددت قواهم في خصومات مذهبية لا طائل تحتها، ولعلهم يستفيدون من تجارب الأمس ما يصون مستقبلهم المهدد.
نظرت إلى شؤون الناس في أقطار أخرى فرأيت ما يستحق التسجيل : إن الشعوب تختلف على نطاق واسع في تقدير مصالحها وفي رسم السبل التي تحققها. ففي إنجلترا عمال ومحافظون وغيرهم، وفي الولايات المتحدة جمهوريون وديمقراطيون وغيرهم، وفي شتى الأقطار أحزاب تختلف على التافه والجليل.
ربما في نظام الجمارك أو في نظام المقابر، أو في نظام الحكم المحلي، أو في نظام تأميم المرافق الكبرى. ومع هذه الاختلافات فإن ولاءهم لأوطانهم ثابت، وانشغالهم بالدفاع عنها وإعلاء رايتها يجمعهم على عجل من كل ناحية، وتطوى مسافات الخلف بين الكل فإذا هم صف واحد لنفع بلدهم ورفع شأنها.
إن الخلافات الجزئية واقع لا بد منه، وتجاوزها لما هو أهم منها واقع لا بد منه كذلك! ولم أر ناسا حبستهم الجزئيات وغلبتهم على رشدهم مثل صرعى التعصب المذهبي عندنا، وأظن السبب في ذلك أسلوب تعليم العوام. إن المدرس يوق في ثقة : حكم الله كذا في هذه القضية، رأي الدين كذا في الموضوع .. فيظن المستمع أن ما سمع هو حكم الله ورسوله.
وما ينبغي أن يذكر بهذا الجزم إلا ما قطع به، أما الاجتهادات المذهبية فينبغي أن يقول المفتي أرى كذا أو الحكم عندنا كذا أو صح الدليل لدينا بكذا، ويترك مجالا للرأي الآخر فلا يحرمه من الإنتماء إلى الإسلام.
وعلى الأتباع أن يستبينوا قيمة ما يؤدون وما يدعون، فلا يظنوا الإسلام حكرا على مسالكهم وحدها. واخيار المسلم لمذهب ما لا يجوز أن يتحول إلى لجاجة ومغاضبة، فأن ذلك يفسد النية ويمزق الأمة ويوهي الصلة بالله سبحانه وتعالى. والموضوع كله لا مكان فيه لمكابرة واستطالة، إنه أهون من ذلك كثيرا.
سألني صيدلي عن حكم كم أدرك الإمام راكعا ولم يفرأ الفاتحة، أتسقط الركعة عنه أم يعيدها ؟.
قلت : الجمهور على سقوط الركعة عنه، وهناك من يرى قضائها، فاختر لنفسك ما يحلو.
قال : أعرف ذلك ولكن أريد مناقشة من يرى عدم قضاء الركعة.
قلت له : ما جدوى ذلك عليك ؟ ولماذا تتكلف ما لا تحسن وتترك ما تحسن .. ؟ قال : ما معنى ما تقول ؟.
قلت : أنت صيدلي، وجميع الأدوية في دكانك من صنع الصهيونيين أو الصليبيين أو الشيوعيين، فإذا تركت أنت وزملاؤك هذا الميدان ميدان صناعة الدواء، واشتغلت اللغو، أفتحسب ذلك يرفعك عمد الله وعند الناس ؟ إنك للأسف تسهم في سقوط الأمة وتجعلها غير جديرة بالحياة.
قال : إنني أبحث في حكم شرعي ولا أشتغل باللغو.
قلت: الحكم الشرعي كما قرره أهل الذكر بين أمرين خذ منهما ما شئت، ولا يجوز أن تحول الموضوع إلى لبان يمضغه الفارغون، إن كل ما يصرفك عن ميدان الدواء هو في حقيقته عبث أو عيب أو ذنب تؤاخذ به.
أما أن تؤلف رابطة عنوانها ( جماعة من يقضون الركعة إذا لم تقرأ الفاتحة ) فهذا سخف. ما قيمة هذا الرأي أو ذاك حتى يحشى به عقل الناس ؟.
إن المسلمين المعاصرين نسوا ضياع التركستان والقرم، ولم ينسوا الخلاف على الجهر بالبسملة أو الفاتحة.
لحساب من تستثار المشاعر المشبوهة وراء رأي فقهي، إن كان خطأ أو صوابا فهو مأجور، وماذا يبقى من مشاعر الناس بإزاء العقائد الأولى، والوحدة الجامعة، والتماسك في زجه أعداء لا ينامون حتى يقضوا علينا ؟.
إن التعصب لرأي أحد الفقهاء غباء، اعمل به ان شئت، ولا تستحمق إذا رأيت غيرك يعمل ضده.
وإذا وجد مجال لبحث وجوه النظر وقيم الأدلة - لمن يقدرون على ذلك - فلا حرج، ثم يصير كل إلى ما يرى، إنني استيقنت من أن التعصب الشديد لمسألة ثانوية يتم على حساب الدماء والأموال والأعراض وكرامة الأمة وحياتها.
وأذكر صحفيا ممن شهدوا القبض على الجماعة التي احتلت الحرم المكي هذه السنة [1401 هـ ] قال لي : عندما أخذنا صورا لهم رأيت بعضهم يتململ، فقلت له : مالك؟ قال لا تصورونا فالتصوير حرام!.
قلت له: ترى أن التصوير حرام، وقتل الأبرياء في المسجد وامتحان قداسته مباح !!.
هذه هي عقلية المتشبثين ببعض الأفكار والفتاوى، ذلك مبلغهم من العلم، يعمون عن العظائم ولا يرون إلا ما يضخمون من وجهات نظر، قد يكون خطؤها أجلى من صوابها.
ذلك وقد ظهر نوع آخر من التعصب! جماعة يتسمون أهل الحديث، يفهم أحدهم في الخبر المروي فهما معينا، فإذا خالفته في فهمه اتهمك بأنك تخالف السنة، أو تخاصم الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا بلاء جديد نشير إليه في الفصل اللاحق إن شاء الله.
[\انتهى]
ملاحظة : قمت بكتابة الباب لأني لم أجد نسخة منه على الشبكة لذلك سيكون فيه أخطاء طباعية كثيرة فاعذرونا.