المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمارة طرابلس المملوكية



فؤاد طرابلسي
27-10-2009, 02:37 PM
عمارة طرابلس المملوكية

بحث للمؤرخ الدكتور عمر عبدالسلام تدمري


طرابلس الشام أغنى مدينة بآثارها الإسلامية المملوكية على الساحل الشرقي للبحر المتوسط على الإطلاق، وهي المدينة الثانية بآثارها المملوكية بعد القاهرة، ذلك أن المماليك هم الذين أسسوا المدينة القائمة الآن قبل 700 عام ونيّف. وهنا لا بدّ من توضيح هذه النقطة حتى لا يًظنّ أن تاريخ المدينة يعود إلى سبعة قرون فقط. فطرابلس أسسها الفينيقيون قبل نحو 3500 عام وتعاقبت عليها الأمم والعصور من رومانية وفارسية وبيزنطية حتى فتحها المسلمون في عهد الخلفاء الراشدين، وتعاقب على حكمها الأمويون، والعباسيون، والطولونيون، والإخشيديون، والفاطميون، ثم الفرنجة الصليبيون حيث احتلّوها أكثر من 180 عاماً، واتّخذوها عاصمة لإمارة لاتينية في الشرق، وأثناء احتلالهم الطويل أزالوا معالمها الإسلامية، وعندما تمّ للمسلمين تحريرها بقيادة السلطان المنصور قلاوون سنة 688 هـ./1289 م.، أشار القادة على السلطان بأن يهدم المدينة القديمة، وكانت على ساحل البحر مباشرة، وأن يبني مدينة جديدة على بًعد 3 أميال إلى الداخل حيث ينساب نهر المدينة ويًعرف ب"أبو علي". فأمر قلاوون بهدم المدينة القديمة، ونشأت مدينة مملوكية خالصة بكل خططها وأسواقها ودورها وحوانيتها، ودروبها وأزِقّتها المسقوفة، الضيّقة، المتعرّجة، وشوارعها الفسيحة الممتدة والمزدحمة، وساحاتها وميادينها، وجوامعها، ومدارسها، وزواياها، وحمّاماتها، وخاناتها، وقصورها، وأبراجها الحربية، وسُبُل مياهها، وطواحينها، وجسورها فوق النهر، والبيمارستان، والخانقاه، ومعامل الصابون، ومصانع الحرير، والمصابغ، والمدابغ، وانتشرت أسواق الصناعيين والحِرفيين والتجار، من العطارين، والنجارين، والنّحاسين، والحدّادين، والحجّارين، والخشّابين، واللّحامين، والقطّانين، والطواقيين، والخياطين، والحريريين، والقباقبيين، والعقّادين، وسوق القمح، وسوق السلاح، وسويقة الخيل، وسوق السمك، وسوق الصاغة، وسوق الإسكافيين، والملاّحة، والدبّاغة، والتبّانة، والبازركان، وغير ذلك مما يطول عرضه، بحيث يمكن تلخيص كلّ ذلك بوصف طرابلس الآن بأنها "متحفٌ حيّ" وأنّها "مدينة المماليك النموذجية".
حين زار طرابلس الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي في سنة 1112 هـ./1700 م. كتب في مؤلّفه "التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية" ما نصّه: "أن ببلدة طرابلس المحمية مدارس وزوايا ومساجد لا تُعَدُّ ولا تُحْصى"، وأضاف إلى ذلك ما سمعه من أهلها "أنه كان بها ثلاثمائة وستون مدرسة". وهذا الرقم يشمل المدارس المملوكية والعثمانية في ذلك الوقت. وقبل نحو نصف قرن من الآن كانت المدارس المملوكية القائمة فقط تزيد على 30 مدرسة، وخلال نصف القرن الماضي أُزيل عدّة مدارس عقب فيضان "نهر أبو علي" أواخر سنة 1955 في مشروع تقويم مجراه، منها: المدرسة الزريقية، ومدرسة النسر بن عجبور، ومدرسة البطركية، والدبّان (بالمسلخ)، ومدرسة سبط العطّار، ومدرسة الوتّار، وأزيلت المدرسة الرفاعية عند السراي العتيقة وأقيم مكانها مسجد حديث. وأزيلت المدرسة القَرمشية في محلّة اليهود، وكذلك المدرسة العنبرية (المعروفة بالعمرية) في محلّة الزاهرية، وبني مكانهما بيوت ودكاكين، وأزيلت مدرسة الأمير أيدمر شاه العلائي عند باب الرمل قرب جامع أرغون شاه، وأزيلت المدرسة الجوهرية وأقيم مكانها بهو الجامع المنصوري الكبير في محلّة النوري، ومدرسة (زاوية) القاضي القرمي بالدبّاغة قرب خان العسكر، وتضرّرت المدرسة الظاهرية من الطوفان وتعطّلت منذ سنة 1955 وحتى الآن، وهي متهدّمة بحاجة إلى إعادة بناء وتأهيل. ومدرسة الشيخ محمد الدهان في وسط سوق الصيّاغين أمام المدرسة الطواشية مباشرة، وهي معطّلة أيضاً وبحاجة إلى تأهيل. ومن المدارس القائمة ولكنّها معطّلة أيضاً وبحاجة إلى بعض التأهيل: المدرسة الخاتونية، والمدرسة العجمية، ومدرسة الشهداء، ومدرسة المشهد، والمدرسة الشمسية، ومدرسة النمل.
أما المدارس العاملة فهي:
مدرسة المسجد البرطاسي، مدرسة الأمير قَرَطاي (القرطاوية)، المدرسة الحُجَيْجية، المدرسة القادرية، المدرسة الطُواشية، المدرسة النورية، المدرسة الناصرية، مدرسة الخيرية حُسْن، المدرسة السَقْرَقيّة، المدرسة الحمصية، المدرسة الماردانية، المدرسة الأرْزُنيّة (الدُّبَّها).
وبالعودة إلى رواية "النابلسي" في سنة 1112 هـ. أنه كان بطرابلس 360 مدرسة، نستنتج أن المدارس المملوكية كان عددها 150 مدرسة على الأقل بُنيت في عهد حكم المماليك للمدينة الذي امتدّ 225 عاماً ونيّفاً، (688-922 هـ./1289-1516 م.)، والباقي 210 مدارس بُنيت منذ بداية الحكم العثماني حتى السنة التي تمت فيها الرحلة (922-1112 هـ./1516-1700 م.) أي خلال 284 عاماً. وهذا رقم هائل بالنسبة لمدينة لم تكن مساحتها تزيد على 7000 متر مربّع، في القرن 12 هـ./18 م. وهو رقم غير مبالغ فيه، فقبل زمن قصير كانت مدرسة الأمير أيدمر، وزاوية القدّوسي، والمدرسة الخاتونية، والسَّقرقية، والسنكري، والخيرية حُسْن، والناصرية، والجوهرية، والمشهد، والشمسية، والنورية، والجاويش، والبيروتية، والدّهان، والطواشية، والنمل، والكريمية، والقاووقجية، والقرطاوية، والجامع المنصوري الكبير، وجامع أرغون شاه، تتجاور كلّها في مكان لا يزيد طوله عن 150 متراً، بحيث يفصل بين المدرسة والمدرسة مدرسة أخرى! وليست هذه الظاهرة إلاّ دلالة على أنّ المدينة حاضرة إسلاميّة مهمّة على ساحل الشام، ومجمّع دينيّ وعلميّ متميّز، ترقى بجوامعها ومساجدها ومدارسها وزواياها وتكاياها إلى أن تكون مدينة جامعية نموذجية.
ويضاف إلى الرقم السابق (360 مدرسة) 13 جامعاً، و10 حمّامات، و45 خاناً، وبيمارستان، وخانقاه، و9 طواحين، و7 أبراج حربية، وقلعة ضخمة، وقصور عدّة، و20 فُرناً، و100 سبيل وبركة ماء، و15 بوّابة، وغير ذلك من المعالم الأثرية والتاريخية، وبعضها يعود إلى العصور الرومانية، والبيزنطية، والفاطمية، والصليبية. والأغلبية الساحقة للعصرين المملوكي، ثم العثماني.
يمكن القول إن الخصائص العمرانية في طرابلس المملوكية مرت بمرحلتين متميزتين عن بعضهما. ولوضع الأمثلة على ذلك يجب الأخذ بتطور بناء المساجد والمدارس، فهي أفضل مثال لدراسة تطور عمارة المماليك في المدينة. ففي هندسة بواباتها ومآذنها وقِبابها ومحاريبها وقاعاتها وأروِقتها وفِنائها يمكن قياس النواحي الجمالية والفنية في أبنيتها بشكل عام.
وتتميّز المرحلة العمرانية الأولى باعتماد الحصانة في البناء مع البساطة المتناهية في العقود والأقواس والدعامات والبوابات وأحواض الوضوء التي تخلو جميعها من أية زخرفة أو لمساتٍ فنيّة تسترعي الاهتمام أو تُثير الناظر ليتأملها. وهذه المرحلة تنحصر زمنياً بين سنة 689 وسنة 715 هجرية/1290-1315 ميلادية. وتبدو بصماتها على مجموعة عمرانية تمّ بناؤها خلال تلك الفترة المتقدّمة، مثل الجامع المنصوري الكبير، وجامع التوبة، وجامع السيّد عبد الواحد المكناسي، والمدرسة الشمسية، والماردانية، والزُريقية، والخيرية حُسْن وغيرها، فقد جاءت عمارتها خالية من الزخارف والتزيينات الهندسية، ولم يدخل في بناء جدرانها أو أرضيتها عنصر الرخام، بل اقتصر البناء على استخدام الحجارة الرملية، كما في القلعة والأبراج الحربية، وليس هناك من عناصر جمالية يمكن التوقّف عندها إلاّ في بعض اللمسات المتأثرة بأنماط وخصائص عمرانية سبقت فنّ عمارة المماليك، مثل البوابة الرئيسية للجامع المنصوري الكبير ذات الطراز القوطي، والتي تحمل في الداخل قوساً من الزخارف عبارةً عن نجوم نافرة، أو زهورٍ متتابعة نجد مثيلاً لها في المستديرة التي فوق محراب الجامع. والقوس الوسائديّ الذي فوق باب المدرسة الشمسية عند مدخل الباب الرئيسي للجامع المنصوري، والذي يُرْجعه بعضهم إلى عهد الإفرنج والعمارة اللاتينية.
ومن أساتذة المدرسة المعمارية في هذه المرحلة، عرفنا اثنين سجّلا اسميهما على أعمالهما هما: "سالم الصهيوني بن ناصر الدين العجمي" وهو مهندس الجامع المنصوري و"أحمد بن حسن البعلبكي" الذي بنى رواقات الجامع، وهما من أصحاب المدرسة الشامية في العمارة الضخمة القائمة على البساطة في آن معاً. ولا ريب أنّ الفترة التي أعقبت فتح طرابلس مباشرةً كانت تتطلب الاهتمام بإنشاء البناء المطلوب طالما أنه يؤدي الغاية المرجوة من عمارته. إذ كانت ظروف المنطقة وساحل الشام وأجواء الحرب لا تزال تنعكس على نفسية السكان ومعاشهم، وتفرض حالة من الاقتصاد والتقنين في إهدار المال والجهد والوقت في مواضع لا ضرورة لها.
أما المرحلة الثانية للعمارة المملوكية في طرابلس، فقد وضحت معالمها في الربع الثاني من القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي، وتجلّت بتنوع العناصر الجمالية، وغِنى الزخرفة والأشكال الهندسية، والكتابات المتنوّعة الرشيقة، وتناغم الألوان في قِطَع الرُخام الناعم الأملس، وتناسُق الحجارة المصقولة وتناوب الأبيض والأسود منها، وتعاشق السّنجات، وتتابع التجويفات والمقرنصات، وتساقط المدلّيات، والمبالغة في التأنّق والفخامة والبذخ والتَّرَف سواء في تزيين البوابات أو المحاريب، أو جدران بيت الصلاة، أو القِباب، أو أحواض الوضوء، وحتى أرضية حَرَم المسجد وفنائه.
وإلى هذه المرحلة العمرانية ينتمي بناء جامع طَيْنال، وجامع البُرْطاسي، وجامع العطّار، ومدرسة الأمير قَرَطاي، والمدرسة النورية، والشيخ الهندي، والناصرية، والطواشية، والنمل، والقادرية، والخانقاه، وكلّها حَوَت عناصر هندسية وفنية ذات جماليات رائعة تُحاكي الجمالية الثروة الفنية التي نراها في مساجد القاهرة ودمشق وحلب. وهذا الترف في العمارة يعكس الحياة الاقتصادية والاجتماعية والحضارية التي أخذت المدينة تعيشها، والراحة النفسية والشعور بالأمان والاطمئنان الذي ساد ربوعها، بعد أن اكتملت خِطط المدينة ورَكَنَت النفوس إلى تحصيناتها ووسائلها الدفاعية، وإلى تراجع خطر الإفرنج، واستقرار الحياة السياسية للمماليك في بلاد الشام عامة، وفي طرابلس عاصمة نيابة السلطنة على وجه الخصوص.
ومن أساتذة المدرسة المعمارية في المرحلة الثانية عرفنا عدّة أسماء منها: "أبو بكر بن البُصَيْص البعلبكي" باني جامع العطّار، و"محمد بن إبراهيم المهندس" صاحب الباب الشرقي والمِنْبَر الرخامي في الجامع المذكور، و"محمد بن عبد الحميد" مهندس قصر الأمير الطُنْطاش.
وفي الصناعات الخشبية وخاصة في عمل المنابر المزخرفة عَرَفنا اسم المعلّم "محمد الصفدي" الذي صنع منبر جامع طَينال.
وهكذا نجد أسماء المهندسين والصنّاع تنتمي إلى المدرسة الشامية في العمارة والصنعة. ومع ذلك فقد ظهرت تأثيرات المهندسين والمعماريين الأندلسيين والمغاربة واضحةً جدّاً في كثيرٍ من عمارة طرابلس، مثل مئذنة الجامع المنصوريّ الكبير شبه المربّعة الأضلاع، ومئذنة مسجد البرطاسي، وفي القاعة العلوية من قصر الأمير عزّ الدين أيْبَك المَوْصِلي، وهي تشبه بالعقد الذي يتوسّطها أقواس قصر الحمراء في غَرْناطة، وفي النافذة الصغيرة في أعلى الواجهة الشرقية للمدرسة الطواشية، حيث يتدلّى من وسطها حبْلٌ مجدول أندلسي الطراز، وفي العمود الرخامي الذي نُقشت عليه أشكالُ حبالٍ مجدولة داخل مسجد الحُجَيْجِيَّة. وليس جامع السيّد عبد الواحد المكناسي إلاّ واحداً من المعالم المغربية البناء بمئذنته الصغيرة ومحرابه البسيط، وكتابته ذات الخط المغربي المميّز.
وإذا كانت القاهرة هي عاصمة دولة المماليك وفيها قصور سلاطينهم، فإن عمارتهم تتنوع وتختلط بالعمارة الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية، إلاّ أنّ طرابلس تتميّز بخصوصيتها على أنها مدينة مملوكية خالصة، وتشكّل عمارتها أكبر تجمّع عُمرانيّ وسَكَني ومَدينتي مُترابطٍ على ساحل البحر المتوسط، وهي تنافس القاهرة في هذا المجال. وأبنيةُ طرابُلُس أكثر وثاقةً وحصانةً من مباني القاهرة، لخصائص حجارتها الرملية المتماسكة الصَّلدة، إذ لم تُسْتَخْدَم العوارض الخشبية الضخمة إلاّ في سقف الدُّور السكنية فقط، أو في السُّدّة (العُلية) الخشبية التي يقف عليها المؤذن داخل الجوامع، وفي المنابر الخشبية. فالمساجد الكبيرة والمدارس والزوايا والخانقاه، والحمّامات، والخانات، والقلعة، والأبراج الحربية، والقناطر والجسور وخزانات المياه وغيرها.. كلُّها بُنيت بالحجارة الرملية أو الصخرية الثقيلة، وطُيِّنَت من الداخل والخارج، أو غُطِّيَت جدران بعضها بالرخام الملوّن. فيما بقيت حجارة القلعة والأبراج ومآذن المساجد دون تغطية بالطين أو الكلْس، فهي ظاهرة الحجارة ولا يكاد يظهر أيّ أثر للمادّة الطينية التي توضع بين الحجر والآخر.
وإنّ أهم الخصائص التي تتميّز بها العمارة الدينية في طرابلس عن عمارة القاهرة ومصر المملوكية هو وجود الإيوان الوسطي داخل المساجد الجامعة، وداخل بعض المدارس، حيث يقوم حوض الوضوء، أو بركة الماء في وسط الإيوان الوَسَطي المنخفض عن بقية جوانب المسجد بنحو المتر لتصريف المياه، وقد اقتضت الطبيعة والبيئة المناخية إضافة الحوض داخل الجامع والمدرسة ليتمكّن المصلّي من الوضوء داخل بيت الصلاة، وهو يحميه من المطر في الشتاء ومن حرّ الشمس في الصيف. كما يؤدي الحوض وظيفةً جمالية تُضاف إلى العناصر الأخرى في الجامع، ويلطّف بمائه من الحرارة ورطوبة الصيف. ونجد أحواض الوضوء في الجامع المنصوري الكبير، والتوبة، والبُرطاسي، ومدرسة قَرَطاي، والسيد عبد الواحد، وغيره، مما يؤكّد وفرة المياه في المدينة.
لم يجد المهندسون المسلمون حَرَجاً في استخدام الأحجار والأعمدة التي كانت سابقاً في المعابد الوثنية أو كنائس النصارى، فألّفوا بينها في انسجامٍ بديع كما هو قائم، في الحَرَم الشمالي (الأوّل) لجامع طَيْنال حيث نرى ثلاثة أنماطٍ معمارية في جزء واحد، هي أربعة أعمدة غرانيتية ضخمة مجلوبة من مصر أيام الفراعنة، يعلوها أربعة تيجان كورنثية بتوريقاتها وزخارفها التي اختصّ بها الفنّ الروماني-البيزنطي، ويتركز عليها دعامات من الحجارة الرملية تُسْهِم مع دعاماتٍ أُخرى في حمل القُبَّة التي تعبّر عن فنّ عمارة المماليك. وقد تجلّت عبقرية المهندس المسلم في تدجين تلك العناصر المختلفة، ونجح في تأليف عنصر جَماليّ متكامل ترتاح إليه النفس. على أنّ البوابة الداخلية للجامع، التي تفصل بين الحرمين الشمالي والجنوبي (الأول والثاني)، والتي جاءت إسلامية البناء والهندسة والفنّ، فهي تُعتبر بحق أجمل بوابات جوامع طرابلس ولبنان على الإطلاق، وتُنافِس بفخامتها وروعةِ تناسقها وزخارفها وألوانها وخطوطها وتجويفها ومقرنصاتها وضخامتها أروع بوابات مساجد المماليك في القاهرة ودمشق.
والأرجح أن مهندسي بوابات جامع طينال، وجامع البرطاسي، وجامع العطار، ومدرسة قَرَطاي، والمدرسة النورية، والمدرسة الناصرية، ومدرسة الشيخ الهندي، والمدرسة الطواشية، والمدرسة القادرية، وغيرها، كانوا أصحاب مدرسة معمارية واحدة، أو أنهم كانوا جميعاً في فترة واحدة نقلوا عن بعضهم فنّ التجويف المُقرنصات والمُدَلَّيات والتزيين بالفُسيفساء، وتلاعبوا بِقِطَع الرخام والمرمر الملوّن بالأبيض والأسود والرمادي والأُرجُواني فطوَّعوها وشكَّلوا منها تربيعاتٍ ودوائر هندسية رائعة. ومن يتأمّل في بوابات هذه المعالم التي ذكرتُها يحسّ لأول وهلة بأنها ذات روح واحدة في الشكل الهندسي العام، رغم الاختلاف في دقائق الزخارف وتفصيلاتها.
كما يظهر الإحساس الموحّد عند تأمّل محراب المدرسة النورية، ومحراب مدرسة قَرَطاي، ومحراب الشيخ الهندي، ومحراب مسجد البُرطاسي حيث الرخام الملوّن يشكّل العنصر الأساس في تزيينه، ثم تليه قِطَع الفُسيفساء والمنمنمات الدقيقة والملوّنة فوق تجويفه المحاريب. غير أنّ محراب البُرطاسي يتميّز عن كل محاريب طرابلس ولبنان على الإطلاق بالزخرفة النباتية الرائعة من الفسيفساء المذهَّبة التي تغطّي كامل الفجوة والحِنية العُليا من المحراب، وهي تشكّل كأساً تتفرّع منها أغصانٌ وفروعٌ متناسقة متساوية الأبعاد يميناً ويساراً تُضْفي جواً من الراحة في نفس المتأمّل لها. وهذه التزيينات مماثلةٌ للتزيينات في واجهة الجامع الأموي البيزنطية الطراز، وهي طبق الأصل عن الزخرفة النباتية في جامع الأمير "تنكز" بدمشق، والذي بدأ ببنائه في سنة 717 هـ./1317 م. مما يرجّح أن الفنان الذي عمل في تزيين "البرطاسي" بطرابلس، وجامع "تنكز" بدمشق هو واحد.
ويكاد مسجد البرطاسي أن يكون بناءً مكتملاً حاوياً لكلّ العناصر الجمالية والفنية التي تعبّر بقوّة ووضوح عن عبقرية البنّاء والمهندس والفنان المسلم. فمئذنة هذا المسجد تقوم مباشرةً على عِقْد البوابة الخارجية، وهذا النظام في البناء يندر حدوثه إذ يحتاج برج المئذنة المرتفع والضخم إلى قاعدة ثابتة عريضة وقوية لتَحْمِله، فأتى بناء المئذنة على قُبّة أو قوس البوابة المُفَرَّغ مباشرة، وكأنَّه تحدٍّ من البنّاء والمهندس المسلم لقوانين الهندسة والعمارة وتوازن الأثقال ونجح في ذلك.
وتأثّر المهندس بالطراز الأندلسي، ويظهر هذا التأثّر على الواجهة الغربية للمئذنة، حتى يُخيّل للناظر إلى هذه الواجهة لأوّل وهلة أنه يرى إحدى مآذن الأندلس أو المغرب العربي. ويشتدّ الإحساس بأنّ المهندس أندلسي الأصل، هاجر إلى طرابلس وأسهم في بناء معالمها الإسلامية وسجّل أصله الأندلسي في زخرفة العِقْدين التّوأمين المُنْكَسِرَين عند رأسهما، وتتناوب فيهما الحجارة البيضاء والسوداء، ويرتكزان على ثلاثة مناكب من الحجارة البيضاء، وتنفتح تحتهما نافذتان مستطيلتان، يفصل بينهما عمود داكن اللون. والنافذتان مع العِقْدين ضمن إطار مجوَّف مستطيل غائر في واجهة المئذنة، بحيث يبدو سطح العِقْدين بمستوى سطح واجهة المئذنة. وفوق هاتين النافذتين نافذتان أُخْريان ترتكز قنطرتهما المدبَّبة على عمودٍ مركزي، وفوق هاتين النافذتين الأخيرتين مباشرة مُقرْنصات متدرّجة تشكّل أسافين لقاعدة برج المئذنة المشرف إلى الخارج، بحجم يزيد عن حجم ساق المئذنة، وهي الشُرْفة التي يقف عليها المؤذّن.
أمّا قُبَّة المسجد فهي غاية في الروعة والبهاء والفخامة والارتفاع والاتّساع، تحتها حوض من الرخام الملوّن. وأرض المسجد كلّها بالرُخام الملوّن والفُسيفساء تشكّل تزيينات هندسية بديعة حول الحوض، كما يغطّي الرخام كامل الواجهة لبيت الصلاة بأشكال هندسية متناسقة، نجد مثيلاً لها في رواق القِبْلة بجامع "ألطُنْبُغا المارداني" بالقاهرة، وكذلك الجدار القِبْليّ في مدرسة الأمير قَرَطَاي بطرابلس. أمّا واجهة المدرسة الشمالية عند المدخل فقد أضيف إليها أربع حشوات على شكل مربّعات، يحتوي الأوّل على نقش كتابيّ بالخط الكوفي المربّع يتضمن اسم "محمد" وقد كُتِب أربع مرّات حول محور مركزي بحيث يُقرأ الاسم من أعلى إلى أسفل، ومن أسفل إلى أعلى، ومن اليمين إلى اليسار، وبالعكس. أما الحشوات الثلاث الأخرى، فتتضمن اسم "علي" كُتِبَ أربع مرات في المربّع الواحد ومن الجهات الأربع كما في "محمد". وهذه الحشوات أُخذت من بقايا العمارة الفاطمية التي كانت تقوم على جانبي النهر، وتشبه الكتابة التي تزين خان المنزل الفاطمي الذي أُزيل من مكانه عقب فيضان نهر طرابلس 1955 ووُضِعَت حجارته داخل قلعة طرابلس ولا تزال.
كما زُيِّنَت واجهة المدرسة، وخاصّة فوق عتبة الباب بسِنْجَتيْن، إحداهما بيضاء، والأخرى سوداء.
وهكذا نرى أن مدرسة وجامع البرطاسي احتوت على التأثيرات الأندلسية-المغربية، والتأثيرات البيزنطية، والفاطمية، مع العمارة المملوكية، لتشكّل نسيجاً معمارياً وفنّياً غاية في الروعة والجمال.
وجامع طينال يماثل مسجد البرطاسي في روعة البناء والهندسة، إلاّ أنه أفخم لضخامته فهو يتألّف من حَرَمين، وله خمس قِباب متفاوتة الأحجام فيما للبُرطاسي ثلاث قباب. ويغطّي الرخام الملوّن كامل أرضية الحَرَم الشمالي 0الأول) وكامل مدخله وباحته الخارجية حيث يقوم فيها حوض للوضوء. وتزيّن الرخام أشكالٌ هندسية ونباتية جميلة، وفي وسط الحَرَم مستديرةٌ رُخامية مفصَّصّة تتوسّطها فُتْحَةٌ غائرة في الأرض لتصريف المياه عند تنظيف المسجد وغسله. ويُعتبر برج مئذنة جامع طينال فريداً من نوعه في العمارة الإسلامية حيث يحتوي على سُلَّمين لولبيين يقومان فوق بعضهما ويؤديان إلى داخل الجامع وخارجه عبر بوابتين إذا دخلهما شخصانٍ في وقت واحد فإنهما يصعدان إلى أعلى المئذنة وينزلان دون أن يلتقيا ببعضهما، وهذه الخاصّية يتمتّع بها جامع طينال دون غيره لموقعه البعيد عن العمران بظاهر طرابلس. كما أُقيم ممرٌّ سرّي بين الجدارين اللذين يفصلان الحَرَم الداخليّ عن الحَرَم الخارجي يسمح بالاختباء داخله في حال التعرُّض لهجوم الغُزاة. وتبدو المئذنة بشكلها الخارجي العام وكأنها تشبه برج القلعة، أو قطعة الرَّخّ في رُقعة الشطرنج، وهي تتميز بتصميمها الفريد عن مآذن طرابلس.
والجماليات الأخرى التي يمكن ذكرها هنا الزخارف المكثّفة المنقوشة داخل مدرسة الشيخ الهندي، وفي الشُعاعات والمَحَارات الصَدَفية التي نراها في بوابة المدرسة الطواشية، وهي طبق الأصل أيضاً عن المحارات والشُعاعات في بوابة الأمير "تنكز" في القدس، وفي الزخارف الأندلسية في قصر الأمير عزّ الدين، وفي عقد الوسائد الذي يزيّن نافذةً لأحد القصور المملوكية بالقرب من المدرسة الظاهرية، وعقد الوسائد فوق باب المدرسة الشمسية، أو فوق محراب المدرسة الطواشية، أو فوق نوافذ مئذنة جامع الأمير "طينال"، وفي التربيعة الرائعة الجمال على الباب الشرقي لجامع العطّار، وباب مدرسة الأمير قرطاي، وفي الزخرفة الدائرية فوق باب المدرسة النورية، والقادرية، وداخل مدرسة الشيخ الهندي، وعل بابها، وفي الكتابات بالخطّ النَّسْخي المملوكي داخل حجرة ضريح المدرسة السقرقية، والتزيينات المُرافقة لها، مع الكتابات على واجهتها الخارجية، وكذلك الكتابات الكثيرة المنقوشة على معظم المساجد والمدارس المملوكية مع ظاهرة فنيّة أخرى تمثّلت في الرنوك (الشعارات) التي نقشها السلاطين ونوابهم وأمراء المماليك على صُروحهم التي شيّدوها، ومنها رَنْك الأمير أخور (أمير الإصطبل) وهو السيف وحَدْوَة الفرس المنقوش داخل قلعة طرابلس، ورَنْك الساقي (الكأس) المنقوش داخل برج الأمير بَرْسَباي المعروف غلطاً ببرج السباع، ونرى شعار الكأس ايضاً على مئذنة جامع طينال، وعلى المدرسة الخاتونية، وعلى بوابة زقاق الأمير قَرَطاي، وغيره. كما نرى شعارات: الجوكّنْدار، والعَلَم دار، والسلحدار، والبُقجة، والدَّواة دار، وغيرها في أماكن متفرّقة.
ويعكس بناء مدينة طرابلس لمسة إنسانية وروحٍ متعاطفة بين المهندس والبنّاء وصاحب البناء والتعاطي هندسياً ومعمارياً مع عامّة الناس، وذلك في كسر حدّة الزاوية لكلّ بناء يقع في بداية السوق أو في نهايته أو عند كل منعطف بحيث تُشطف الزاوية الحادّة للبناء كما يُشْطف طرف لوح الزجاج للتخفيف من حدّته، فلا يجرح من يلمسه أو يرتطم به. ولا يخفى ما في هذه الخصوصية من فنّ جماليّ، إذ لم يكتف المهندس بكسر حدّة الزاوية فحسب، بل أضفى عليها مِسْحة جمالية حيث جعل نهاية الزاوية المشطوفة شبيهة بحِنْية المحراب، وزيّنها ببعض التجويفات المتناسقة لترتاح العين لرؤياها، وهذه الظاهرة الفنيّة والإنسانية نفتقدها الآن في الأبنية الحديثة.
وتجدر الإشارة هنا أن تخطيط المدينة في العهد المملوكي تبع نظاماً معيّناً حيث أقيم سوق الصيّاغين عند البوّابة الشمالية للمسجد المنصوري الكبير، كما أقيم في الطرف الشرقي من المسجد سوقٌ آخر عُرف بسوق الطواقيّة، وفي هذا السوق كانت تباع مختلف البضائع الخفيفة والتي لا تسبب إزعاجاً للمترددين على السوق وعلى الجامع، مثل بيع العطورات، والمسابح، والكتب، والمصاحف، وماء الزهر، وماء الورد، والأشياء التي تنبعث منها الروائح الزكيّة والطيّبة والتي تنساب إلى داخل الجامع فتوفّر شعوراً بالراحة للمصلّين. وهكذا نشأت الأسواق النفيسة والملاصقة للجامع الكبير، وهذا النظام هو المتبّع في المدن العربية والإسلامية منذ التاريخ الإسلامي. أمّا الأسواق ذات الصناعات والحرف الخسيسة، والتي تسبب إزعاجاً وضوضاءً وينتج عنها روائح مزعجة أو مناظر مؤذية، فقد روعي بأن تكون بعيداً عن مركز المدينة ووسطها وبعيداً عن المسجد الكبير. ولهذا نجد سوف النحّاسين بعيداً عن الجامع، وكذلك محلّة الدبّاغة، ومحلّة الملاّحة، ومحلّة الحدّادين، وغيرها من المحلاّت التي تسبب إزعاجاً فإنها تقوم عند أطراف المدينة.