فؤاد طرابلسي
27-10-2009, 04:02 PM
مدينة حلب الشهباء وما قاله الرحّالة العرب الأقدمون فيها
حلب مدينةٌ قديمة، سُكنت منذ أقدم العصور التاريخية. وتُعتبر من أمّهات مدن بلاد الشام، وقاعدة كبرى من قواعدها المرابطة في الشمال. ولقد افتتن بجَمالها ابن جبير، وذكر عظَمتها وخطورتها وقلعتها، وتذكّر عزَّها ومجدها في عهد آل حمدان وشعرائهم، وتعجّب من فعل الدهر في فناء الدول وتقلّب الحكّام والأسر المالكة عليها، وهي ما زالت باقية خالدة. وأكثر ما ركّز في وصفه على طبيعتها البديعة ومناظرها الخلاّبة.
ولمّا مرَّ بها الرحّالة الفارسي ناصر خسرو، أعجبته كثيراً، فوصفها وصفاً رائعاً. ونقل لنا ابن جزي في رحلة ابن بطّوطة أبياتاً للشعراء قيلت في محاسنها وطبيعتها، ومنها ما قاله الشاعر أبو بكر الصنوبري:
وكمْ مُسْتطاب منَ العيشِ لذَّ
إذا نشرَ الزَّهرُ أعلامَهُ
غدا وحواشيهِ منْ فضَّةٍ
بها لي إذ العيشُ لم يستطبْ
بها ومطارفَهُ والعذبْ
تروقُ وأوساطهُ منْ ذهبْ
وقال أبو العلاء المعرّي:
يا شاكيَ النوَبِ انهضْ طالباً حلباً
واخلعْ حذاءكَ إذ حاذيتها ورعاً
نهوضَ مُضنى لحسمِ الداءِ ملتمسِ
كفعل موسى كليم الله في القدسِ
والشاعر أبو الفتيان بن حيّوس قال في وصف هوائها العليل:
يا صاحبيَّ إذا أعياكما سقمي
فلقّياني نسيمَ الصبحِ منْ حلبِ
وقال الشاعر أبو الفتح كشاجم:
هيَ الخلدُ تجمعُ ما تشتهي
فزُرْها فطوبى لمَنْ زارها
وأكثر ما أطنب في وصفها الرحّالة العربي الشهير ابن بطّوطة، حيث سطّر في كتابه المعروف وصفاً رائعاً عنها وعن نشاطها وحركة أسواقها وحيوية أهلها. وأتى مع غيره من الرحّالة، على ذكر الطبيعة الغنّاء التي كانت تحيط بالمدينة. فوصفوا حولها السهول الفسيحة المليئة بالمزروعات من جميع أنواع الحبوب والخُضر والأشجار، ومن هذه الأخيرة ذكروا أشجار الفستق والكرمة المنتشرة على نهر قويق ممّا جعل ضفافه متنزّهات عجيبة جميلة كان يُضرب المثل بها آنذاك. وقد وصفها الشاعر البحتري بدوره أبدع وصف. وممّا قالـه فيها:
يا برْقُ أسفِرْ عن قويقَ ومِل إلى
عنْ منبتِ الوردِ المعصْفَرِ صِبْغُه
حلبٍ وأعلى القصرِ منْ بطياسِ
في كلّ ضاحيةٍ ومجنى الآسِ
وكان نهر قويق نهراً غزير المياه، يسقي المدينة وسهولها وبساتينها، ويدير الطواحين العديدة، التي تحدَّث عنها ابن جبير.
ولم يكتفِ الرحّالة بوصف مظاهر مدينة حلب وطبيعتها، بل تعمّقوا في تاريخها فبيَّنوا سبب تسمية – حلب – وذكر لنا ابن بطّوطة أنّ هذه التسمية تعود إلى أنّ إبراهيم الخليل سكنها وكان لـه أغنام كثيرة يسقي من لبنها الطرّاق والفقراء الذين كانوا يجتمعون ويسألون: (حلب إبراهيم) فسمّيت بذلك. وقال قبله ابن جبير: "كانت القلعة ربوة يأتيها إبراهيم الخليل بغنماته فيحلبها ويتصدَّق بلبنها، فلذلك سمّيت حلب" (1) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn1). وقال بعضهم، إنّ لقب حلب بالشهباء نسبة إلى قلعتها التي كانت تسمّى الشهباء، وكان أولئك الرحّالة العرب كعادتهم، أكثر ما يركّزون على النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية. وهذا ما كان يميّزهم عن غيرهم من الرحّالة الأجانب. وقد قدَّم الرحّالة العرب، في مضمار الرحلات، خدمات جليلة إلى علوم الجغرافيا والاجتماع والتاريخ، وأضفوا على أعمالهم طابع البحث والتقصّي، حتّى عرفت حركة الرحلات في العالم طريق البحث العلمي على يدهم. وقد طبّقوا هذه الطريقة لمّا زاروا مدينة حلب فوصفوها بأنّها مدينة جميلة، كبيرة واسعة، مزدحمة بالسكّان، متلاصقة البنيان، مركز التجّار من بلاد الشام والروم ومصر وديار بكر والعراق، ولذلك كانت أسواقها حافلةً بالتجار مكتظّة بالبضائع. وكان بعض أسواقها مسقوفاً بالخشب، وكان في حوانيتها خزائن من الخشب البديع النقش.
وبعد أن أسهب الرحّالة في وصف مدينة حلب، وما بلغته من شهرة تجارية، قاموا بتفصيل واسع عن شهرتها الثقافية، فذكر لنا ابن بطّوطة جملة من العلماء والفقهاء فيها، مثل شرف الدين بن العجمي، ونقيب الأشراف بدر الدين بن الزهراء، وعدَّد مدارسها وأشهرها المدرسة الحنفية.
وكان في المدينة أيضاً مارستان كبير لمعالجة المرضى. وأمّا جوامعها وكنائسها، فقد ذكرها كثير من الرحّالة، وأشهرها الجامع الكبير، الذي تحيط به القيساريات الخشبية من كلّ جانب، ويقع في مركز المدينة، وهو من أجمل المساجد، في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع، ومنبره بديع العمل مرصّع بالعاج والأبنوس (2) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn2) ولبلاط المسجد أبواب تزيد على الخمسين باباً.
وأتى الرحّالة العرب على ذكر الأهمّية الاستراتيجية لمدينة حلب وشهرتها الحربية التي نالتها بسبب قلعتها. ويقول بعض الرحّالة إنّ هذه القلعة الحصينة قد بُنيت على ربوةٍ عالية بداخلها جبلان بهما نبعان ولهما سوران وخندق (3) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn3). وكانت هذه العلالي منيعة جدّاً، والأبراج مأهولة إذ توجد فيها المساكن السلطانية. وشبّه ابن جبير قلعة حلب بقلعة رحبة مالك بن طوق على نهر الفرات. وناصر خسرو شبّهها بقلعة بلخ في بلاد فارس لمنعتها وحصانتها. ويذكر التاريخ أنّ هذه القلعة كثيراً ما صدّت عن مدينة حلب نفسها الجيوش الغازية والجحافل المغيرة التي عجزت أن تنال منها شيئاً. ويذكر ابن بطّوطة بالتفصيل كيف حاصر (قازان) طاغية التتر هذه القلعة أيّاماً وعاد عنها خائباً. كما يذكر غيره من الرحّالة كيف عجز الروم والإفرنج والأتراك والتتر، عن دخول المدينة والاستيلاء على قلعتها المنيعة. وقد تفنّن بوصفها الشعراء، ويكفي ما قاله أبو الطيّب المتنبّي فيها في عهد سيف الدولة الحمداني. وأمّا الشاعر الحلبي المعروف بالخالدي وهو أحد شعراء سيف الدولة أيضاً، فقد وصف قوّتها ومنعتها فقال في قصيدة لـه:
فكم من جنودٍ قد أماتت بغصّةٍ
وذي سطوات قد أباتت على عقب
واسمع ما قالـه في حلب وقلعتها الشيخ سعد الدين محمّد ابن الشيخ محيي الدين ابن العربي:
حلبٌ تفوق بمائها وهوائها
ظلَّت نجومُ النصرِ منْ أبراجها
والسورُ باطنهُ ففيهِ رحمةٌ
بلدٌ يظلُّ بهِ الغريبُ كأنّهُ
وبنائها والزُّهرِ من أبنائها
فبروجها تحكي بروجَ سمائها
وعذابُ ظاهرهِ على أعدائها
في أهلهِ، فاسمعْ جميلَ ثنائها
وزيادة في المنعة والتحصين، كان يحيط بالمدينة كلّها سور عظيم، وصفه ناصر خسرو بالتفصيل وقال: إنّ ارتفاعه خمسة وعشرون ذراعاً.
ويذكر المقدسـي أنّ عدد أبواب هذا السور سبعـة وهي: باب حمص، وباب الرقّـة، وباب قنّسرين، وباب اليهود وباب العراق، وباب دار البطّيخ، وباب أنطاكية. وذكروا باباً مسدوداً اسمه بـاب الأربعين. وقال عن باب الله باب العراق. وعن باب الجنان باب دار البطّيخ.
هذه هي مدينة حلب من خلال ما ذكره عنها زوّارها من الرحّالة العرب الأقدمين، وكلّهم يؤكّدون أنّها كانت مدينةً عظيمة بذلت جهوداً جبَّارة في حماية الثغور والحدود الشمالية للوطن العربي. وما زالت حلب إلى الآن، على عظَمتها وقوّتها المادّية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والثقافية، فاعتبرت بحقّ المدينة الثانية للقطر العربي السوري.
حلبٌ مقرُّ النابغينَ
سُئِلَ الخلودُ بمَن تُبا
يشع ُّ في الدنيا سناها
هي؟ قال: بالشهبا وتاها
عبد الله يوركي حلاّق
(1) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref1) من المرجَّح أنّ كلمة حلب محرّفة عن لفظة "حلبا" السريانية، ومعناها البيضاء، ثمّ حذفت ألفها فصارت حلب. أمّا "الشهباء" فنسبة إلى بياض أبنية حلب، لا إلى بقرة إبراهيم الخليل، ولا إلى غنمات كان يحلبها ويسقي من لبنها الفقراء.
(2) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref2) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي.
(3) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref3)ابن بطّوطة.
حلب مدينةٌ قديمة، سُكنت منذ أقدم العصور التاريخية. وتُعتبر من أمّهات مدن بلاد الشام، وقاعدة كبرى من قواعدها المرابطة في الشمال. ولقد افتتن بجَمالها ابن جبير، وذكر عظَمتها وخطورتها وقلعتها، وتذكّر عزَّها ومجدها في عهد آل حمدان وشعرائهم، وتعجّب من فعل الدهر في فناء الدول وتقلّب الحكّام والأسر المالكة عليها، وهي ما زالت باقية خالدة. وأكثر ما ركّز في وصفه على طبيعتها البديعة ومناظرها الخلاّبة.
ولمّا مرَّ بها الرحّالة الفارسي ناصر خسرو، أعجبته كثيراً، فوصفها وصفاً رائعاً. ونقل لنا ابن جزي في رحلة ابن بطّوطة أبياتاً للشعراء قيلت في محاسنها وطبيعتها، ومنها ما قاله الشاعر أبو بكر الصنوبري:
وكمْ مُسْتطاب منَ العيشِ لذَّ
إذا نشرَ الزَّهرُ أعلامَهُ
غدا وحواشيهِ منْ فضَّةٍ
بها لي إذ العيشُ لم يستطبْ
بها ومطارفَهُ والعذبْ
تروقُ وأوساطهُ منْ ذهبْ
وقال أبو العلاء المعرّي:
يا شاكيَ النوَبِ انهضْ طالباً حلباً
واخلعْ حذاءكَ إذ حاذيتها ورعاً
نهوضَ مُضنى لحسمِ الداءِ ملتمسِ
كفعل موسى كليم الله في القدسِ
والشاعر أبو الفتيان بن حيّوس قال في وصف هوائها العليل:
يا صاحبيَّ إذا أعياكما سقمي
فلقّياني نسيمَ الصبحِ منْ حلبِ
وقال الشاعر أبو الفتح كشاجم:
هيَ الخلدُ تجمعُ ما تشتهي
فزُرْها فطوبى لمَنْ زارها
وأكثر ما أطنب في وصفها الرحّالة العربي الشهير ابن بطّوطة، حيث سطّر في كتابه المعروف وصفاً رائعاً عنها وعن نشاطها وحركة أسواقها وحيوية أهلها. وأتى مع غيره من الرحّالة، على ذكر الطبيعة الغنّاء التي كانت تحيط بالمدينة. فوصفوا حولها السهول الفسيحة المليئة بالمزروعات من جميع أنواع الحبوب والخُضر والأشجار، ومن هذه الأخيرة ذكروا أشجار الفستق والكرمة المنتشرة على نهر قويق ممّا جعل ضفافه متنزّهات عجيبة جميلة كان يُضرب المثل بها آنذاك. وقد وصفها الشاعر البحتري بدوره أبدع وصف. وممّا قالـه فيها:
يا برْقُ أسفِرْ عن قويقَ ومِل إلى
عنْ منبتِ الوردِ المعصْفَرِ صِبْغُه
حلبٍ وأعلى القصرِ منْ بطياسِ
في كلّ ضاحيةٍ ومجنى الآسِ
وكان نهر قويق نهراً غزير المياه، يسقي المدينة وسهولها وبساتينها، ويدير الطواحين العديدة، التي تحدَّث عنها ابن جبير.
ولم يكتفِ الرحّالة بوصف مظاهر مدينة حلب وطبيعتها، بل تعمّقوا في تاريخها فبيَّنوا سبب تسمية – حلب – وذكر لنا ابن بطّوطة أنّ هذه التسمية تعود إلى أنّ إبراهيم الخليل سكنها وكان لـه أغنام كثيرة يسقي من لبنها الطرّاق والفقراء الذين كانوا يجتمعون ويسألون: (حلب إبراهيم) فسمّيت بذلك. وقال قبله ابن جبير: "كانت القلعة ربوة يأتيها إبراهيم الخليل بغنماته فيحلبها ويتصدَّق بلبنها، فلذلك سمّيت حلب" (1) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn1). وقال بعضهم، إنّ لقب حلب بالشهباء نسبة إلى قلعتها التي كانت تسمّى الشهباء، وكان أولئك الرحّالة العرب كعادتهم، أكثر ما يركّزون على النواحي الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والعمرانية. وهذا ما كان يميّزهم عن غيرهم من الرحّالة الأجانب. وقد قدَّم الرحّالة العرب، في مضمار الرحلات، خدمات جليلة إلى علوم الجغرافيا والاجتماع والتاريخ، وأضفوا على أعمالهم طابع البحث والتقصّي، حتّى عرفت حركة الرحلات في العالم طريق البحث العلمي على يدهم. وقد طبّقوا هذه الطريقة لمّا زاروا مدينة حلب فوصفوها بأنّها مدينة جميلة، كبيرة واسعة، مزدحمة بالسكّان، متلاصقة البنيان، مركز التجّار من بلاد الشام والروم ومصر وديار بكر والعراق، ولذلك كانت أسواقها حافلةً بالتجار مكتظّة بالبضائع. وكان بعض أسواقها مسقوفاً بالخشب، وكان في حوانيتها خزائن من الخشب البديع النقش.
وبعد أن أسهب الرحّالة في وصف مدينة حلب، وما بلغته من شهرة تجارية، قاموا بتفصيل واسع عن شهرتها الثقافية، فذكر لنا ابن بطّوطة جملة من العلماء والفقهاء فيها، مثل شرف الدين بن العجمي، ونقيب الأشراف بدر الدين بن الزهراء، وعدَّد مدارسها وأشهرها المدرسة الحنفية.
وكان في المدينة أيضاً مارستان كبير لمعالجة المرضى. وأمّا جوامعها وكنائسها، فقد ذكرها كثير من الرحّالة، وأشهرها الجامع الكبير، الذي تحيط به القيساريات الخشبية من كلّ جانب، ويقع في مركز المدينة، وهو من أجمل المساجد، في صحنه بركة ماء، ويطيف به بلاط عظيم الاتساع، ومنبره بديع العمل مرصّع بالعاج والأبنوس (2) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn2) ولبلاط المسجد أبواب تزيد على الخمسين باباً.
وأتى الرحّالة العرب على ذكر الأهمّية الاستراتيجية لمدينة حلب وشهرتها الحربية التي نالتها بسبب قلعتها. ويقول بعض الرحّالة إنّ هذه القلعة الحصينة قد بُنيت على ربوةٍ عالية بداخلها جبلان بهما نبعان ولهما سوران وخندق (3) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftn3). وكانت هذه العلالي منيعة جدّاً، والأبراج مأهولة إذ توجد فيها المساكن السلطانية. وشبّه ابن جبير قلعة حلب بقلعة رحبة مالك بن طوق على نهر الفرات. وناصر خسرو شبّهها بقلعة بلخ في بلاد فارس لمنعتها وحصانتها. ويذكر التاريخ أنّ هذه القلعة كثيراً ما صدّت عن مدينة حلب نفسها الجيوش الغازية والجحافل المغيرة التي عجزت أن تنال منها شيئاً. ويذكر ابن بطّوطة بالتفصيل كيف حاصر (قازان) طاغية التتر هذه القلعة أيّاماً وعاد عنها خائباً. كما يذكر غيره من الرحّالة كيف عجز الروم والإفرنج والأتراك والتتر، عن دخول المدينة والاستيلاء على قلعتها المنيعة. وقد تفنّن بوصفها الشعراء، ويكفي ما قاله أبو الطيّب المتنبّي فيها في عهد سيف الدولة الحمداني. وأمّا الشاعر الحلبي المعروف بالخالدي وهو أحد شعراء سيف الدولة أيضاً، فقد وصف قوّتها ومنعتها فقال في قصيدة لـه:
فكم من جنودٍ قد أماتت بغصّةٍ
وذي سطوات قد أباتت على عقب
واسمع ما قالـه في حلب وقلعتها الشيخ سعد الدين محمّد ابن الشيخ محيي الدين ابن العربي:
حلبٌ تفوق بمائها وهوائها
ظلَّت نجومُ النصرِ منْ أبراجها
والسورُ باطنهُ ففيهِ رحمةٌ
بلدٌ يظلُّ بهِ الغريبُ كأنّهُ
وبنائها والزُّهرِ من أبنائها
فبروجها تحكي بروجَ سمائها
وعذابُ ظاهرهِ على أعدائها
في أهلهِ، فاسمعْ جميلَ ثنائها
وزيادة في المنعة والتحصين، كان يحيط بالمدينة كلّها سور عظيم، وصفه ناصر خسرو بالتفصيل وقال: إنّ ارتفاعه خمسة وعشرون ذراعاً.
ويذكر المقدسـي أنّ عدد أبواب هذا السور سبعـة وهي: باب حمص، وباب الرقّـة، وباب قنّسرين، وباب اليهود وباب العراق، وباب دار البطّيخ، وباب أنطاكية. وذكروا باباً مسدوداً اسمه بـاب الأربعين. وقال عن باب الله باب العراق. وعن باب الجنان باب دار البطّيخ.
هذه هي مدينة حلب من خلال ما ذكره عنها زوّارها من الرحّالة العرب الأقدمين، وكلّهم يؤكّدون أنّها كانت مدينةً عظيمة بذلت جهوداً جبَّارة في حماية الثغور والحدود الشمالية للوطن العربي. وما زالت حلب إلى الآن، على عظَمتها وقوّتها المادّية والاجتماعية والاقتصادية والعمرانية والثقافية، فاعتبرت بحقّ المدينة الثانية للقطر العربي السوري.
حلبٌ مقرُّ النابغينَ
سُئِلَ الخلودُ بمَن تُبا
يشع ُّ في الدنيا سناها
هي؟ قال: بالشهبا وتاها
عبد الله يوركي حلاّق
(1) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref1) من المرجَّح أنّ كلمة حلب محرّفة عن لفظة "حلبا" السريانية، ومعناها البيضاء، ثمّ حذفت ألفها فصارت حلب. أمّا "الشهباء" فنسبة إلى بياض أبنية حلب، لا إلى بقرة إبراهيم الخليل، ولا إلى غنمات كان يحلبها ويسقي من لبنها الفقراء.
(2) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref2) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي.
(3) (http://www.addadonline.com/admin/editor/fckeditor.html?InstanceName=article_des&Toolbar=Default#_ftnref3)ابن بطّوطة.