المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الجامع المنصوري في طرابلس مركز العلماء



فؤاد طرابلسي
15-11-2009, 09:47 PM
الجامع المنصوري في طرابلس




عمر تدمري



تمهيد :

طرابلس مدينة لبنانية تقع في الشمال اللبناني على ساحل البحر المتوسط، ولها أهمية استراتيجية كميناء وكمدخل إلى المنطقة كانت منذ الفتح الإسلامي لها عام 25 هـ على يد سفيان بن مجيب الأزدي حاضرة في الذاكرة الإسلامية، لقيت من الفاتحين المسلمين الأوائل كل عناية وإعمار وتطوير، شأنها في ذلك شأن عموم المدن التي رفرفت فوقها راية التوحيد..
وقد شهدت طرابلس تقلبات الزمن وتغير الدول الحاكمة وتوالي الملوك السلاطين، منذ الفتح الإسلامي إلى أن سقطت بأيدي الصليبيين عام 502هـ، عندما غلبت جموع الغازين الهائجة مقاومة أهلها الضعيفة، فتعرض بعض المدينة إذ ذاك للدمار، وبعضها للإحراق، على يد كل من ( برتراند ) الابن الأكبر (لريمون) الصنجيلي و( وليم غوردن ) ابن أخت ريمون المذكور و( تنكر يد ) أمير أنطاكية واللاذقية، وغدت بعد ذلك عاصمة للامارة الصليبية الرابعة في الشرق المسلم..
واستمرت كذلك طيلة 180عاماً تعاني من كابوس المحتلين الذين بالتأكيد لم يتركوا أثراً يدل على الإسلام إلا وتعقبوه بكل ما عرف عنهم من بطش وجبروت وعنجهية متناهية، بل إنهم إمعاناً في الغيّ أطلقوا على طرابلس أيام احتلالها اسم ( مدينة الكنائس ).

الفرج القريبة.. والسلطان قلاوون الناصري:

ولما جاء عام 688 هـ جاء الفرج معه لهذه المدينة المسلمة، فما كاد يصل إلى سمع الناصر قلاوون أحد أشهر سلاطين المماليك تولى السلطة عام 678هـ ، أن الفرنج في طرابلس نقضوا الهدنة، وأخذوا جماعة من التجار وغيرهم، وصار بأيديهم عدة أسرى، حتى صمم على فتح طرابلس وتخليصها من الأسر مهما كلفه ذلك من ثمن، وهكذا سار إليها، فحاصرها بجيش لجب مجهز أحسن تجهيز ودك حصونها خلال 34 يوماً، ثم أقتحمها يوم الثلاثاء في الرابع من شهر ربيع الثاني سنة 688هـ ليعيدها إلى المسلمين إلى يوم الدين.
وكان فتحها حدثاً مدوياً ترك أثراً طيباً في نفوس المسلمين.
وإذا كان المنصور قلاوون قد أمر بإعادة بناء مدينة طربلس عقب فتحها بعد أن دمرتها في الحرب، فإن مسجد طرابلس الكبير، المعروف باسم الجامع المنصوري، ينسب إليه وإن كان الذي أمر ببنائه السلطان خليل ابن قلاوون وهوالملقب بالأشرف، وقد نسب الجامع إلى المنصور لما كان لفتح طرابلس الذي تم على يديه من وقع عظيم وبشارة طيبة. ومن هنا كانت نسبة الجامع إليه اعترافاً بفضله وتخليداً لذكره لذا يقال له الجامع المنصوري الكبير.


البداية الأولى... أرض منخفضة:

وقد استغرق بناء هذا الجامع قرابة أربع سنين، من عام 689هـ إلى عام 693هـ، وكان الانتهاء منه في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون شقيق السلطان خليل بن قلاوون.
وقد اختيرت له بقعة من الأرض منبسطة ومنخفضة قليلاً عما جاورها من المناطق، حتى إن الداخل إليه يحتاج إلى النزول بالدرج ليصل إلى أرضه.. وهو ـ أي الجامع المنصوري في طرابلس ـ أكبر جوامع البلدة على الإطلاق، كما أنه أقدم جامع بناه المماليك في طرابلس...
وقد أقيم في الأصل على انقاض كنيسة تعرف باسم كنيسة القديسة (ماري دي لاتور) أصابها الدمار بسبب زلزال ضرب طرابلس عام 552هـ، ثم عاودها ثانية في عام 597هـ، وثالثة عام 687هـ، كما تضررت بواقيها بحصار وضرب أسوار المدينة قبل فتحها.

لذلك فإنه لم يبق من الكنيسة بعد كل تلك الحوادث مما بني عليه المسجد إلا القليل وهو الباب الشمالي الرئيسي للجامع والمئذنة.


الباب الرئيسي للكنيسة السابقة:

أما الباب الرئيسي للجامع، والذي قدمنا أنه من بقايا الكنيسة الخربة، فقد أبقى عليه المماليك عند بناء المسجد مع الجدار الشمالي الواقع فيه.
ويرجح الدكتور سالم (في كتابه طرابلس الشام) أن الباب نقل من مدخل الكنيسة، ووضع في مدخل الجامع، ليسجل للتاريخ انتصار المسلمين على الصلبيين.
وقد فعل مثل ذلك الإشرف خليل حينما نقل بوابة كنيسة سان جان بعكا إلى القاهرة، حيث نصبت في مدرسة زين الدين كتبغا..
وتوجد فوق عتبة باب المسجد المنصوري في طرابلس كتابة عثمانية نصها الشهادتان :( لا إله إلا الله محمد رسول الله ). كما أن على جانبي الباب نفسه عمودان من رخام تتوجهما زخرفة قوطية، وتشكل الأفاريز والخطوط أقواساً فوق البوابة.
هذا وتوجد اللوحة التاريخية لبناء الجامع فوق الباب بطول 260سم وعرض 39 سم وترتكز على افريزين ناتئين.


المئذنة التاريخية:

وأما مئذنة الجامع المنصوري في طرابلس ـ وهي ايضاً من بقايا الكنيسة القديمة ـ فإنها كما جاء في كتاب تاريخ وآثار مساجد ومدارس طربلس للأستاذ عمر عبد السلام التدمري تتكون حالياً من أربعة طوابق:
الطابق الأول خال من النوافذ، أما الطابق الثاني فله نافذتان في جهاته الأربع، والطابق الثالث به عشرة نوافذ: ثلاثة منها في الجهة القبلية، وثلاثة في الجهة الشمالية، وفي كل من الجهتين الشرقية والغربية نافذتان، وكذلك في الطابق الرابع.

والمئذنة في هذا المسجد ليست مربعة كما يخيل للناظر بل هلي مستطيلة نوعا ما، وقمة المئذنة تأخذ شكلاً يشبه القمع في أسفله دائرة تحيط بالبرج الأسطواني الذي يعلوه الشكل القمعي، وهذا القسم حديث البناء.

غرفة المؤقت (المؤذن):
ويوجد جنوبي المئذنة فوق الأروقة الشمالية غرفة صغيرة، تعلوها قبة صغيرة أيضاً، وعلى يمينها على أعلى واجهة الأروقة الشمالية المطلة على حصن الجامع لوحة بها خطوط تمثل ساعة شمسية، وإذا ربطنا بين تلك الغرف وهذه الساعة أمكن القول: إن من المرجح أن تلك الغرفة كانت مخصصة لمؤقت الجامع المكلف بضبط أوقات الأذان، حسبما يراه من ظل الشمس على اللوحة المصنوعة.
وبيت الصلاة في الجامع المنصوري بطرابلس يبلغ طوله 51.50 متراً وعرضه 11.5 متراً.
وينقسم إلى ثلاثة أقسام: وسط منخفض بمستوى أرض صحن الجامع، وجانبان مرتفعان، وتتكون واجهة بيت الصلاة التي تطل على صحن المسجد من سبعة عقود، تحتها سبعة أبواب، منها خمسة تفضي إلى الصحن وواحد يؤدي إلى الرواق الشرقي، وآخر اقيمت عنده غرفة تعرف بغرفة الأثر الشريف..
ويتكون سقف بيت الصلاة من 14 اسطوان، واسطوان المحراب منها تعلوه قبة قائمة على مقرنصات مقوسة.

محرابان في بيت الصلاة ومنبر:

وفي منتصف جدار القبلة يقع المحراب الذي يوجد على جانبيه عمودان رخاميان مزخرفان بزخرفة نباتية كأنها النبات الشوكي وفوق المحراب دائرة أحيطت بثلاثة خطوط دائرية متعرجة، كأنها مع الدائرة الغائرة في وسطها زهرة دوار الشمس المعروفة.
وفي الجامع أيضاً محارب آخر في الجانب الشرقي من الرخام وفوقه حجارة سود وبيض على شكل قوس وفي أعلاه لوحة من رخام أبيض فيها بيان صانعه تاريخه.
أما منبر الجامع فهو قديم يقارب تاريخ بناء الجامع نفسه، فقد عمل سنة 726هـ وهو من خشب مزين بهندسة دقيقة، وله جمال وبهاء لزخرفته وأناقته، وهذا ما هو المنبر من خشب طوله ثلاثة أمتار، وعرضه متر واحد، وعلى مصراعي الباب نقش تاريخ صنعه، كما حفرت صورة تقريبية للكعبة المشرفة.
صحن المسجد ورواقاته وأبوابه:

وصحن المسجد تتوسطه بركة ماء تستخدم للوضوء، وفوقها قبة محمولة على أربعة أعمدة ضحمة، وهذه البركة من الرخام الأبيض وفي وسطها نافذة من طبقات ثلاث.
وتحيط بصحن المسجد رواقات بناها السلطان محمد بن قلاوون عام 715هـ.
وللروان الشمالي منها 8 عضادات، فوقها سبعة عقود.
أما الرواقان الشرقي والغربي فلكل منها خمسة عقود. وعلى إحدى عضادات الرواق الشرقي نقشت لوحة فيها خطوط منحنية لمعرفة وقت آذان العصر، وإلى يمنيها لوحة سطر فيها بالخط النسخي المملوكي تاريخ عمارة الأروقة واسم السلطان واسم المهندس المباشر.
ولصحن المنصوري في طرابلس من جهة الشرق بابان: أحدهما يفضي إلى بيت الصلاة، والآخر إلى صحن المسجد.
وفوق الأول المؤدي إلى حرم المسجد لوحة نقش عليها مرسوم السلطان المؤيد شيخ المحمودي في سنة 817هـ، يقضي برفع ما أحدث على أهل طرابلس من مظالم تشمل أنواعاً من القوت، كاللحم والقمح والخبز وغير ذلك.
وفوق الباب الثاني المؤدي إلى صحن المسجد لوحة مماثلة كتبت عام 908هـ، وفيها أيضاً الإعلان عن رفع عدة مظالم عن أهالي البلدة، مما يدفعنا إلى الاعتقاد بأن جامع المنصوري في طرابلس كان من أعظم وسائل إعلان الأوامر والتعليمات وتعميمها على السكان.

خيانة عظمى لم تتم ‍:

ويذكر مؤرخو هذا الجامع أنه سنة 793هـ حاول الأمير اياس الجرجاوي ـ لعنه الله ـ الاستيلاء على الجامع المنصوري، وتسليمه للفرنجة ليعيدوه كنيسة لقاء إشباع طمعه ونهمه من الذهب الكثير الذي وعد به من قبلهم، فتصدى له قضاة المدينة (قاضي الشافعية المعري، وقاضي الأحناف الجمال محمود العجمي) مع كبار البلد والعامة من الشعب وحاصروه، وأرادوا أن يرجموه فبلغ ذلك السلطان الظاهر برقوق، فأمر بعزله ونقله إلى دمشق على الفور، ثم نقله إلى القاهرة وصادر أمواله وأهانه، حتى مات ذليلاً سنة 799هـ.


فتنة داخلية طائشة:

وقد شهد الجامع المنصوري في طرابلس فتنة كبرى عام 802هـ راح ضحيتها مئات القتلى وعدد لا يحصى من المصابين.
وكان بين القتلى بعض قضاة المدينة وأعيانها. وقد وقعت هذه الفتنة الطائشة في عهد السلطان فرج بن برقوق في السنة الأولى لحكمه وكان نائبه على طرابلس الأمير يونس بلطا الرماح.


الجامع المنصوري مركز علمي رائد:

ولا يفوتنا أن نذكر هنا ما للجامع المنصوري في طرابلس من دور علمي وأثر في نشر المعرفة واشاعة العلم.
ويدلنا على ذلك أن خطباءه خلال فترات طويلة كانوا من أجلة علماء العلوم... فمن خطبائه: ابن المقري المتوفى سنة 784هـ، ويستدل من النقول التاريخية أنه كان يلقي دروس الحديث في الجامع المذكور.
ومن خطبائه: الشمس ابن زهرة محمد بن يحيى توفي سنة 848هـ وكان فقيهاً شافعياً انتفع به خلق كثير، وتولى قضاء الشافعية فترة من الزمن، ودفن في جوار المسجد، ومن خطبائه أيضاً: الشيخ محمد بن هبة الله العالم الحنفي الذي كان أيضاً مفتي طرابلس في حوالي عام 1112هـ، وكان يتناوب خطبة الجامع المنصوري فيها مع الشيخ مصطفى الشافعي... وغير هؤلاء كثير.
وقد نقل لنا أسماء كثير ممن قاموا بالتدريس ورواية الحديث في الجامع المنصوري في طرابلس.
فمنهم الشيخ محمد بن مشرّف بن بيان الأنصاري الدمشقي روى الصحيح غير مرة، وروى عنه كثير منهم الصلاح العلائي وتقي الدين السبكي وخليل بن كيكلدي.
ومن محدثي الجامع سيف الدين بهادر القرمي.
ومنهم الشيخ ابراهيم بن عمر بن ابراهيم المعروف بالبرهان السوبيني نسبة إلى سوبين (قرية من نواحي حماه) وله مؤلفات كثيرة، كشرح فرائض المنهاج، والكامل في شرح الشامل في الجبر والمقابلة.
ومن المدرسين الشيخ عمر بن مصطفى المعروف بابن كرامة توفي بعد عام 1160هـ، كان مفتي طرابلسي، وله مؤلفات منها نظم متن السراجية.
ومن المدرسين الشيخ عبدالقادر الرافعي، كان من أكابر العلماء شاعراً متصوفاً أديباً. ومن المدرسين كذلك الشيخ محمود بن محمد بن عبدالدائم نشابة، من العلماء الأعلام، له حاشية على متن البيقونية في مصطلح الحديث وغيرها.


الموقتون للصلوات:

كما ذكر المؤرخون بعض من اشتغلوا في الجامع المنصوري بطرابلس بحفظ مواقيت الصلاة، وتحديد مواعيد الأذان، لإعطاء الإشارة للمؤذن برفع الأذان.

وكانت وسيلة الإعلام بدخول الوقت هي رفع العلم على السارية المثبتة في رأس المئذنة.
ولم يكن يتولى مهمة التوقيت إلا شيوخ عرفوا بأبناء الميقاتي، وجدهم الأعلى هو الشيخ محمد الميقاتي، أحضره السلطان قلاوون من مصر، وعهد إليه بجميع وظائف الجامع لعلمه وشهرته في الفضل ثم تتابع أبناؤه من بعده في ذلك...
ويذكر أنه كان بالجامع المنصوري إثنا عشر مؤذناً يتناوبون الأوقات والأيام فيما بينهم. ويذكر من غريب ما وقع في طرابلس أنه ألمّ بها قحط في أوائل هذا القرن، فضج الناس لانحباس المطر، وعندما طالت مدته ـ يضيف الاستاذ عمر التدمري ـ صعد المئذنة 40 رجلاً، كان اسم كل واحد منهم "محمد"، ورفعوا الأذان لصلاة العصر، ثم صلى بهم الإمام صلاة الاستسقاء بعد العصر، وابتهلوا إلى الله أن يسقيهم، فلم يأت المغرب حتى مطروا وسقي الناس.


غرفة الأثر النبوي الشريف:

وأخيراً فإن في الجامع المنصوري الكبير في طرابلس غرفة في الجهة الجنوبية من الرواق الغربي، سعتها 7.30 طولاً و4.30 متراً عرضا، تعرف باسم غرفة الأثر الشريف، تضم شعرتين من أثر الرسول صلى الله عليه وسلم أهداهما إلى طرابلس السلطان العثمان عبدالحميد في علبة من الذهب الخالص، وأرسلهما إليها مع أحد الباشوات في فرقاطة خاصة... ويحتفل في هذا الجامع كل سنة مرتان بخصوص زيارة هذا الأثر.
الأولى: خلال شهر رمضان يوم الجمعة الأخيرة منه بعد صلاة العصر.
والثانية: بعد صلاة الصبح من اليوم السابع والعشرين منه في ليلة القدر، ويجري الاحتفال بحضور عامة أهل البلد وعلمائها وكبرائها.