المعتز بالله
29-12-2009, 04:26 AM
الزلزلة
" لا أجد كلمة أعبر بها عن تجربة أيام الحرب الثلاثة والعشرين في غزة أصدق من كلمة الزلزلة، ليس لمشاهد الدمار الهائل الذي يفوق في شدته آثار زلزال من أعلى درجات مقياس ريختر، ولكن لأن هذه الحرب أحدثت زلزلة في الأفكار والقناعات، حتى استحالت المحنة إلى منحة تمايز فيها الخبيث من الطيب، وفقاً للحكمة الإلهية. عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيرا".
وعندما أتأمل الخير الكثير الذي يختفي وراء الركام والدمار أحمد الله أنه لم يكلنا لأنفسنا، وأنه هو من يدبر الأمر لما فيه صلاحنا.
(1) مع الضربة الجوية الأولى في تمام الحادية عشرة من صباح السبت السابع والعشرين من كانون الأول 2009م ومع أكثر من مائتي شهيد رحل الداعية والخطيب الشيخ نظير اللوقا، الذي كان لروحي بمنزلة الغذاء والدواء، حيث كان في مهمة إصلاح بين عائلتين في أحد مقرات الشرطة..
الشيخ نظير هو أهم إنسان في حياتي الفكرية على الإطلاق، وقد كنت حريصاً على ألا تفوتني خطب الجمعة والأعياد عنده، حتى إن عدد الجمع التي لم أصلها في مسجده منذ نشأتي وحتى استشهاده تكاد لا تتجاوز العشرين..
كنت وأصحابي نتعجل انقضاء الأسبوع ونحن ننتظر قدوم الجمعة لننهل من معين فكره وثقافته ونستمع لمواقفه من الأحداث، فإذا قضيت الصلاة ظلت كلماته حديث مجالسنا..
دفعني رحيله المفاجئ للتساؤل: لماذا يرحل هذا الصنف من الناس في اللحظة التي نشعر أننا أحوج ما نكون إليهم فنبقى كالأيتام من بعدهم؟ لماذا يبدو المشهد في بعض الأوقات وكأن الدنيا تضيق بالطيبين والصالحين فتستعجل إزاحتهم بينما تمنح أوقاتاً إضافية للمجرمين والفاسدين للتنعم فيها؟؟
هداني ربي إلى أن ثمة علاقة بين هذا الأمر وقانون التوحيد الذي قامت السماوات والأرض عليه, فخط سير الأحداث في هذا الكون يتجه نحو تحقيق التوحيد ،والله يسير الأحداث في حياة عباده لتساعدهم على التخلص من الارتهان لغيره من الأشخاص والهيئات والصور، مهما علا شأنها وعظم أثرها، حتى تظل قلوبهم معلقة به وحده، وربما نزع الله من حياتنا أعز الناس على قلوبنا، لتتحرر من التعلق بهم وتبقى خالصة له وحده، وهذا هو مفهوم القلب السليم الذي ذكره القرآن، وضرب له مثلاً إبراهيم عليه السلام الذي استعد لذبح ابنه بيده، بعد أن خلا قلبه من كل أحد غير الله.
(2) رأيت المباني والمصانع والمزارع التي أفنى أصحابها سنين عمرهم في إنشائها تنهار في ثوان معدودة, فأدركت كم هي الدنيا هينة.. ينفق الإنسان عليها كل عمره وجهده وماله ثم في لحظة واحدة تصير هباء منثوراً؛ فيقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها. وأدركت أن الضمانة الوحيدة لراحة الإنسان وعدم انهياره أمام الصدمات هي أن يخرج الدنيا من قلبه، ويتقلل منها، وأن يوطن نفسه على الثبات عند المصائب وإن عظمت.
(3) خاب أملي في الأشقاء العرب والمسلمين، وأدركت أن الشقة لا تزال بعيدة بينهم وبين التحرر من الأغلال, وأسفت على سذاجتي حين كنت أتصور أن الصهاينة يحسبون حساباً لهذه الشعوب، وأن عدوانهم لن يتجاوز مستوى محدوداً خشية استيقاظ الأمة، حتى إن كل المشاهد القادمة من غزة لم تعد كافية لإحداث صدمة في وعيها وأنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجرعات.
(4) لم أكن أتصور حتى في أبشع كوابيسي أن لنا أعداء آخرين غير الصهاينة من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وأن مصابنا هو من عند أنفسنا.
(5) أدركت كم السياسة كاذبة ومنافقة إلى حد القرف، وكم الحضارة الغربية عديمة الأخلاق والقيم ، وعلمت أن مناداتهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان ليست أكثر من شعارات زائفة، فهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل قتل إسرائيلي معتد أو إصابته بالهلع، بينما يعتبرون إبادة شعب كامل حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس، لا يستحق جلسة طارئة لمجلس الأمن إلا حين تأذن أمريكا بذلك.
(6) أدركت أكثر من أي وقت مضى مدى عجز الصهاينة و إفلاسهم، وكم هي خياراتهم محدودة وإن امتلكوا أعتى الأسلحة،كما هو حال أصحاب الباطل دائماً، وفهمت قوله تعالى "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" فهماً سننياً, صحيح أنهم يقتلون ويدمرون ويحرقون، لكنهم لا يستطيعون فعل أكثر من ذلك إذا اصطدموا بفئة مؤمنة تقاتل عن حق, فسبب اندحار الباطل ذاتي لأنه باطل كما أن علة ظهور الحق ذاتية.
(7) استبشرت خيراً أن الله يهيئ غزة وفلسطين لأمر عظيم, وأن هذه المحنة ليست سوى محطة لتمحيص الذين آمنوا وصقل نفوسهم, لأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, وقد رأيت من نماذج التضحية والثبات, والتكافل بين الناس والمسارعة لفعل الخيرات ما أثلج فؤادي وأفرح قلبي، فازددت اعتزازاً بالانتماء لهذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وعلمت أن هذه الحرب تخفي في طياتها معنى من معاني هذه البركة بزلزلتها للمبادئ والأفكار وكشفها حقائق النفوس والمجتمعات ، وإثارتها كوامن الخير أو النفاق، ليس في فلسطين وحدها وإنما في العالم كله.
إن من يولدون في العواصف ..
لا يخشون من هبوب الرياح ..
أخوكم : علي الكثيري ( أبو سليمان )
غزة المجاهدة
" لا أجد كلمة أعبر بها عن تجربة أيام الحرب الثلاثة والعشرين في غزة أصدق من كلمة الزلزلة، ليس لمشاهد الدمار الهائل الذي يفوق في شدته آثار زلزال من أعلى درجات مقياس ريختر، ولكن لأن هذه الحرب أحدثت زلزلة في الأفكار والقناعات، حتى استحالت المحنة إلى منحة تمايز فيها الخبيث من الطيب، وفقاً للحكمة الإلهية. عسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيرا كثيرا".
وعندما أتأمل الخير الكثير الذي يختفي وراء الركام والدمار أحمد الله أنه لم يكلنا لأنفسنا، وأنه هو من يدبر الأمر لما فيه صلاحنا.
(1) مع الضربة الجوية الأولى في تمام الحادية عشرة من صباح السبت السابع والعشرين من كانون الأول 2009م ومع أكثر من مائتي شهيد رحل الداعية والخطيب الشيخ نظير اللوقا، الذي كان لروحي بمنزلة الغذاء والدواء، حيث كان في مهمة إصلاح بين عائلتين في أحد مقرات الشرطة..
الشيخ نظير هو أهم إنسان في حياتي الفكرية على الإطلاق، وقد كنت حريصاً على ألا تفوتني خطب الجمعة والأعياد عنده، حتى إن عدد الجمع التي لم أصلها في مسجده منذ نشأتي وحتى استشهاده تكاد لا تتجاوز العشرين..
كنت وأصحابي نتعجل انقضاء الأسبوع ونحن ننتظر قدوم الجمعة لننهل من معين فكره وثقافته ونستمع لمواقفه من الأحداث، فإذا قضيت الصلاة ظلت كلماته حديث مجالسنا..
دفعني رحيله المفاجئ للتساؤل: لماذا يرحل هذا الصنف من الناس في اللحظة التي نشعر أننا أحوج ما نكون إليهم فنبقى كالأيتام من بعدهم؟ لماذا يبدو المشهد في بعض الأوقات وكأن الدنيا تضيق بالطيبين والصالحين فتستعجل إزاحتهم بينما تمنح أوقاتاً إضافية للمجرمين والفاسدين للتنعم فيها؟؟
هداني ربي إلى أن ثمة علاقة بين هذا الأمر وقانون التوحيد الذي قامت السماوات والأرض عليه, فخط سير الأحداث في هذا الكون يتجه نحو تحقيق التوحيد ،والله يسير الأحداث في حياة عباده لتساعدهم على التخلص من الارتهان لغيره من الأشخاص والهيئات والصور، مهما علا شأنها وعظم أثرها، حتى تظل قلوبهم معلقة به وحده، وربما نزع الله من حياتنا أعز الناس على قلوبنا، لتتحرر من التعلق بهم وتبقى خالصة له وحده، وهذا هو مفهوم القلب السليم الذي ذكره القرآن، وضرب له مثلاً إبراهيم عليه السلام الذي استعد لذبح ابنه بيده، بعد أن خلا قلبه من كل أحد غير الله.
(2) رأيت المباني والمصانع والمزارع التي أفنى أصحابها سنين عمرهم في إنشائها تنهار في ثوان معدودة, فأدركت كم هي الدنيا هينة.. ينفق الإنسان عليها كل عمره وجهده وماله ثم في لحظة واحدة تصير هباء منثوراً؛ فيقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها. وأدركت أن الضمانة الوحيدة لراحة الإنسان وعدم انهياره أمام الصدمات هي أن يخرج الدنيا من قلبه، ويتقلل منها، وأن يوطن نفسه على الثبات عند المصائب وإن عظمت.
(3) خاب أملي في الأشقاء العرب والمسلمين، وأدركت أن الشقة لا تزال بعيدة بينهم وبين التحرر من الأغلال, وأسفت على سذاجتي حين كنت أتصور أن الصهاينة يحسبون حساباً لهذه الشعوب، وأن عدوانهم لن يتجاوز مستوى محدوداً خشية استيقاظ الأمة، حتى إن كل المشاهد القادمة من غزة لم تعد كافية لإحداث صدمة في وعيها وأنها لا تزال بحاجة إلى مزيد من الجرعات.
(4) لم أكن أتصور حتى في أبشع كوابيسي أن لنا أعداء آخرين غير الصهاينة من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا وأن مصابنا هو من عند أنفسنا.
(5) أدركت كم السياسة كاذبة ومنافقة إلى حد القرف، وكم الحضارة الغربية عديمة الأخلاق والقيم ، وعلمت أن مناداتهم بالديمقراطية وحقوق الإنسان ليست أكثر من شعارات زائفة، فهم يقيمون الدنيا ولا يقعدونها من أجل قتل إسرائيلي معتد أو إصابته بالهلع، بينما يعتبرون إبادة شعب كامل حقاً مشروعاً للدفاع عن النفس، لا يستحق جلسة طارئة لمجلس الأمن إلا حين تأذن أمريكا بذلك.
(6) أدركت أكثر من أي وقت مضى مدى عجز الصهاينة و إفلاسهم، وكم هي خياراتهم محدودة وإن امتلكوا أعتى الأسلحة،كما هو حال أصحاب الباطل دائماً، وفهمت قوله تعالى "ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين" فهماً سننياً, صحيح أنهم يقتلون ويدمرون ويحرقون، لكنهم لا يستطيعون فعل أكثر من ذلك إذا اصطدموا بفئة مؤمنة تقاتل عن حق, فسبب اندحار الباطل ذاتي لأنه باطل كما أن علة ظهور الحق ذاتية.
(7) استبشرت خيراً أن الله يهيئ غزة وفلسطين لأمر عظيم, وأن هذه المحنة ليست سوى محطة لتمحيص الذين آمنوا وصقل نفوسهم, لأن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, وقد رأيت من نماذج التضحية والثبات, والتكافل بين الناس والمسارعة لفعل الخيرات ما أثلج فؤادي وأفرح قلبي، فازددت اعتزازاً بالانتماء لهذه الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، وعلمت أن هذه الحرب تخفي في طياتها معنى من معاني هذه البركة بزلزلتها للمبادئ والأفكار وكشفها حقائق النفوس والمجتمعات ، وإثارتها كوامن الخير أو النفاق، ليس في فلسطين وحدها وإنما في العالم كله.
إن من يولدون في العواصف ..
لا يخشون من هبوب الرياح ..
أخوكم : علي الكثيري ( أبو سليمان )
غزة المجاهدة