المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ممو زين ملحمة الحب الجزء الاول



abouhassan
09-02-2010, 12:56 AM
الاهداء :

إلى كل قلب كتب عليه أن يتجرع الحب علقماولا يذوقه رحيقا
وأن يحترق في ناره ولا يقطف مرة من ثماره
أقدم هذه القصة
عسى أن يجد فيها بردا من العزاء والسلوى


محمد سعيد رمضان البوطي<o></o>


حياة أحمد خاني :



صاغ أحداث هذه القصة شعرا , شاعر كردي كبير هوأحمد خاني, وهو واحد من علماء الأكراد الذين برعوا في علومالفقه والفلسفة والتصوف والأدب . وكان من آثاره ديوان شعر باللغة الكردية دون فيهأحداث هذه القصة .
في مدينة بيازيد ,التي أخذت مكانها على صدر منطقة هكاريبكردستان تركيا . المضطجعة في أحضان الجبال الشاهقة , والمتزينة بأبهى حلة منالسندس والياسمين , وبأشجار الصنوبر والسنديان , أضافت الحياة الى قائمة المشردينطفلا آخر , مشردا جديدا زاد في صفوف الفقراء الجائعين , هو أحمد خاني . نعم .. ولدأحمد جائعا , عاريا كغيره من أبناء الفقراء , حتى ان أحدا لم يبالي به فيدون يوممولده , مما أدى الى اختلاف كبير من قبل من جاء بعده في تحديد ذلك اليوم الذي شهدتشمسه ولادة طفل غير عادي , سوف يغدو شاعرا كبيرا , وعبقريا فذا وصوتا من أصوات الحقينادي بحرية شعبه . ولكن ما اتفق عليه المؤرخون هو 1650 م .
كغيره من أبناءعصره , تلقى خاني علومه الإبتدائية في الكتاتيب والجوامع , على أيدي شيوخ زمانه , ثم في المدارس التي كانت متوفرة أنذآك في المدن الكبيرة, مثل تبريز وبدليس , حيثظهرت فيه علائم النبوغ مبكرة , وهو لم يتجاوز الربيع الرابع عشر من عمره . وسعياوراء المزيد من العلم , زار مدنا كثيرة , وتجول فيها , وأقام في مرابعها ردحا منالزمن , مثل الآستانة-استانبول- ودمشق . كما زار مصر أيضا , فاطلع على علوم عصره . وتلقفها فجمع بين الأدب ولا سيما الشعر , وبين الفقه والتصوف , فذاعت شهرته مقرونةبالثقافة الواسعة والمعرفة العميقة في الأمور الأدبية والفلسفية والدينية .
فيهذه الفترة من التاريخ كانت كردستان ملعبا من ملاعب الصراع بين الدولة العثمانية , والدولة الصفوية , اللتين قسمتاها بينهما إثر معركة جالديران الشهيرة 1514 م , وراحت كل منهما تحاول أن تضم اليها الإمارات الكردية . فكانت الدماء الكردية تراقمدرارا على الرغم من انه لم يكن للأكراد في كل ذلك أي شأن وطني أو إنساني , بل كانتالخسارة تحصدهم من الطرفين في كلتا الحالتين . وكان خاني يتأمل هذا الوضع المترديويقلبه على كل اوجهه , عسى أن يجد فيه بعضا مما يستحق أن تراق , من أجل الوصول إليه , هذه الدماء , ولكن أنى له ذلك !! ليس في كل ذلك شيئ مما يخص الأكراد في أمورحياتهم , بل عليهم الطامة , وضياع البلاد , ولعل ذلك الواقع المر , بل ولادته فيخضمه , ثم تأمله فيه وتفاعله معه وإنفعاله به كان من أهم عوامل تكوينه الفكري .
كانت اللغات العربية والتركية والفارسية بالإضافة الى اللغة الكردية هي اللغاتالسائدة في المنطقة . فإنكب خاني عليها جميعا , وغرف من معينها إلى أن أتقنها كلها . ثم التفت للأطفال , فجسد حبه لهم من خلال تعليمهم وتلقينهم مبادئ اللغتين الكرديةوالعربية , فوضع قاموسه الكردي - العربي , الذي خصهم به , حتى انه أسماه ( الربيعالجديد للصغار ) وراح يفتح المدارس , ويتطوع للتعليم فيها بنفسه دون مقابل مجسدابذلك حبه للعلم .
وعلى الرغم من تمكنه من اللغات العربية والفارسية والتركية , تراه قد آثر أن يكتب مؤلفاته باللغة الكردية , ليؤكد بذلك مساهمة الأكراد في بناءالحضارة الإنسانية . فخلف من بعده أروع ما كتب في الأدب الكردي . مبدعا الشعرالقصصي في هذا الأدب وذلك من خلال ( ممي آلان ) و (ممو زين ) ديوانه الذائع الصيتالآن في الشرق والغرب , والمنتشر بين الآداب العالمية .
ويبدو أن المدينة التيانجبته قد استاثرت به طيلة حياته , ولم تستغن عنه إلا لبعض الوقت وآثرت أن يوارى فيثراها , فاختطفته يد المنون وتوفي - رحمه الله - في مدينة بيازيد مسقط راسه سنة 1708 م .



إن لبطلي هذه القصة المؤثرة قبرين معرفين في جزيرة ابنعمر . وقد أقيم عليهما , فيما بعد , مدرسة كبيرة لطلاب العلوم الشرعية . والقبرانجاثمان هناك لكل من يريد رؤية الحب الذي نبت في الأرض , وأينع في السماء .<o></o>


في محراب الإلهام



تعال ايها الساقي فاملأ هذا الجام خمرا ... املأه من تلكالخمرة الوردية التي اعتصرت من جنى الروح , واستخلصت من ذوب سر القلوب .ثم اسقنيهامن شفاه كؤوسك الدرية المجوهرة أقداحا إثر أقداح , اسقنيها نشوة تهيج مني فؤاديالغافي وتسكر عقلي الحيران .(1)
وأنت أيها الشادي ...تعال فاجلس الى جانبي لتتمسكرة الروح بشجي من غنائك , أسمعني أنغام الناي والكمان , أطربني بوقع الدفوفوالألحان .
أبهجوا عيني بمرآى الورود الفاتنة والأغصان المتمايلة , دعوا كل هذاياخذ بمشاعري وإحساسي ليسكرني عن هذا الوجود الذي حولي , فعسى أن تضمحل مني كثافةهذه المادة والجسم فأظل قلبا وروحا , وأبقى معنى وإحساسا . وعسى أن يدكرني إذيدركني إذ ذاك فيض من نور القدس , فيعكس إلى نفسي قبسا من إشراقه ويقذف فيها نورامن ضيائه , فيصفو مني القلب وتجلو أمام عيني أسرار هذه الحياة . لكي أغدو مع كلصباح فأترجم للناس حديث النسيم مع الأغصان , وأشرح لهم مغازلة الطيور للأزهار , ولكي أسير مع الأصائل فأقرأ لهم آيات الشمس المنبسطة فوق صفحة الخمائل والغدران , وأردد مع العنادل والبلابل أنغام الحب والجمال , ولكي أسكرهم من جمال هذا الكونبخمر من مداد قلمي , وأطربهم من ألحانه ببيان قلبي ولسني .
هات أيها الساقي... هاتها كؤوسا مترعة من هذه الراح , لكي أنفض بها من قلبي أحزانه , ولكي أغدو مخمورابحرارة لذعها ويسكر مني العقل بنشوتها .
هاتها ليهيج مني الفكر فأنطق بأسرارالقلوب , ولتستعلي مني الروح فأنثر من مكنون المعاني ودرها , وأكشف عن خلجات النفوسووجدها , وأبين عن آلام الأفئدة وحبها .
سأرسلها أنغاما تطرب القلوب من غيرأوتار , سأبعثها شذى عطرا يبهج النفوس من دون أزهار , سأبعث اليوم تاريخا منالحسرات والآلام أغمض عينيه من دهر ونام , سأشعل من جديد زفرات لمعت في صدور .. ونارا الهبت في قلوب , ثم خمدت بعد أن أحالتها إلى رماد ! سأعيد الحياة بروح منبياني إلى ( ممو ) و ( زين ) ضحيتي نار الحب والغرام . لأدواي قلبيهما بفيض من شعريوإحساسي , إذ لم يرحمهما أحد بدواء الوصل والإسعاد , سأزيح للناس الحجاب عن قلب ذلكالمسكين الذي كواه الحب المستعر وسحقه الكيد والحقد , وعن قلب تلك البريئة الطاهرةطهارة المزن بين السحب . تلك التي أذابها الشقاء واعتصرتها يد الظلم كما تعتصرالوردة الناعمة في كف غليظة قاسية . سألبس كلا من هذين الحبيبين ثوبا مطرزا منبياني , ثم أرفعهما إلى أوج التاريخ فليخلدا وليخلد صدى زفراتهما مدى الدهر والحياة , ثم ليمر من أمامهما كل مستعرض وناظر . فليبك أناس حرمانهما واحتراقهما , وليفتتنآخرون بلطف (زين ) وجمالها .
وعسى أن يسأل لي الرحمة أيضا كل من يسترحم لهما , وعسى أن يدركني أنا أيضا أثر من عطفهم وقبس من دعائهم , وعسى أن يقول أناس : رحمهالله فقد وشى حياتهما بوشي جميل , وغرس قصتهما في بستان الخلود .
وعسى أن يتلطفالناقدون لسفري هذا في نقدهم , فهو وإن لم يبلغ درجة الكمال ولكنه طفلي الغالي ... عزيز الى نفسي , مدلل عند قلبي , جميل في عيني . وهو بستان وإن كان قد يرى بينثماره ما هو فج غير يانع , غير يانع , غير أنها حديقة فؤادي وأزهار فكري ولبي . وحسبهما من جهدي ما قدمت , وحسبي منها ما أثمرت<o></o>


الجزيرة الخضراء


حدث ذلك في حوالي عام 1393 م في جزيرة ( بوطان ) المعروفة اليوم باسم - جزيرة ابن عمر - تلك التي تقع على شاطئ دجلة , وتمتد فياتساع شاسع بين الهاب والتلال الخضر الواقعة في شمال العراق .
واسم هذه الجزيرةيتألق في مقدمة ربوع كردستان التي يمتاز معظمها بقسط وافر من جمال الطبيعة وبهائها , اذ ننشعب بين ريض طبيعية بديعة , وينعكس اليها من شائر أطرافها بريق دجلة الذييحف بمعظم جهاتها , كما يزيد في روعة جمالها جبالها الشاهقة في جو السماء , التيتفاخر في علوها العجيب وفتنتها الخضراء معظم جبال العالم , وتنتشر من حولها سرالخلود وآيات الجلال .
وانبعثت حوادث هذه القصة من قصر أمير الجزيرة ( الأميرزين الدين ) , حيث كانت بلا الأكراد آنذاك وما بعد ذلك العصر إلى أواسط عهدالعثمانيين منقسمة إلى عدة إمارات , يتولى إدارة كل منها أمير يتمتع بالجدارةوالقوة .
ولم يكن الأمير زين الدين ذا كفاءة عاليه فحسب ... بل كان يتمتع إلىذلك بغنى واسع وبمظهر كبير من القوة والسلطان . والغريب أن ذلك لم يكن ليمنعه منامتلاكه العجيب لقلوب أمته , واكتسابه محبة سائر طبقات شعبه , مما أذاع اسمه مقرونابالهيبة والإجلال لا في بوطان وحدها , بل في سائر أنحاء كردستان وإماراتها .
ولميكن قصره الذي كان يرى من بعيد كأنه برج هائل , كقصور بقية الأمراء من أمثاله , وإنما كان آية من آيات الفن والإبداع .. كان منتهيا إلى أقصى حد في البذخ المبذوللتصميمه وتشييده وإقامة أبهته ..!
ولم تكن في داخله أبهاء وقيعان فاخرة فحسب , وإنما كان يزدان أيضا بمتاحف تضم مختلف العجائب والنوادر , وأنواع المجوهراتالغريبة والفاخرة ..!
أما رحابه وشرفاته فكانت تميس بعشرات الغلمان .. وبمثل ذلكمن أجمل الجواري والفتيات ... يجبن في أنحائه , ويضفن على رحابه جوا سحريا يشعبالفتنة والجمال .
غير أن الآية الكبرى للجمال في ذلك القصر لم تكن منبعثة عن أيواحدة من تلك اجواري والحسان , وإنما كانت سرا لدرتين شقيقتين غير كل أولئك . خلقهما الله في ذلك القصر ، بل في تلك الجزيرة كلها مثلا أعلى للجمال ، ونموذجاكاملا للفتنة والسحر الإلهي في اسمى مظاهرهما ، وكأنما أبدعتهما يد الخلاق هذاالإبداع العجيب في ذلك القصر الرائع ليؤمن كل فنان بارع ، ومبدع وصانع ، بأن الجمالإنما هو هذا ..! لا رصف الأحجار وفن النقش وصنعة التلميع ، هذه فتنة تبهر القلوبوتسكر الألباب ، وذلك رونق يبرق في الأعين ويزيغ بالأبصار ، وشتان ما بينهما من فرق .
ولم تكن هاتان الشقيقتان سوى أختين للأمير زين الدين . كان اسم كبراهما ( ستي ) وكانت بين البياض الناصع والسمرة الفاتنة / قد أفرغ الجمال في كل جارحة من جسمهاعلى حدة ، ثم أفرغ بمقدار ذلك كله على مجموع جسمها وشكلها ، فعادت شيئا أبرع منالسحر وأبلغ من الفتنة .
وأما الصغرى واسمها ( زين ) فقد كانت وحدها البرهانالدال على أن اليد الإلهية قادرة على خلق الجمال والفتنة في مظهر أبدع من أختهاوأسمى .
كانت هيفاء بضة ذات قوام رائع ، قد ازدهر في بياضها الناصع حمرة اللهب ،ذات عينين دعجاوين أودعهما الله كل آيات الفتك واللطف التي تتسامى على التعبير .
ولم تكن شقراء ، غير أن شعرها الاسود الفاحم - وقد أحاط كسحر الليل بوجههاالذي قسمت ملامحه أبدع تقسيم وامتزج فيه عند الشفاه ولهب الوجنتين ببياضه الناصع - كان يثخن الألباب فتكا ويغمر العقل سكرا .
وكانت لها الى ذلك كله رقة عجيبة فيروحها ، وخفة متناهية في دمها . فكانت في مجموعها خلاصة لأروع أمثلة المال والخفةواللطف .
وعلى الرغم من أن هاتين الغادتين كانتا لؤلوتين محجوزتين في صدفة ذلكالقصر عن معظم الأبصار ، فقد كان اسماهما ذائعين منتسرين في سائر أطراف الجزيرة بلفي كثير من بلاد كردستان ، يتخذون من شهرتهما المقياس الأعلى والمثل الكامل للجمال .
وقد كان من الغريب في الواقع أن تخلق تلك الفاتنتان في قصر أمير بوطان لتصبحاأجمل زهرتين تحبسان في رحابه عن الأنظار ، لولا أن الشعب الكردي عامة وأولي الزعامةفيهم خاصة غرست في طبيعتهم غيرة ملتهبة لا تكاد تفارق جوانحهم ، مما يجعلهم يتحرجونمن اختلاط الجنسين ألا بمقدار ... هذا ألى أن شقيقهما الأمير كان قد أوتي مزيدا منهذه الغيرة بين جانبيه ، وزادها ما كانت تتمتع به اختاه من ذلك الجمال النادر الذيأبى إلا أن يذيع اسميهما في الجزيرة كلها وفي معظم البلاد الاخرى .. ولذلك فقد كانمن العسير جدا أن يكون لعشاق ذلك القصر الكثيرين نصيب منه غير السماع ... وتسقطالأخبار<o></o>


عيد الربيع ( النوروز )



كان الوقت أصيلا ، والناس يودعون يوم 20 مارسليستقبلو من ورائه ربيع سنة جديدة ، وكانت أعمالهم وحركات طرقهم وأسواقهم قد اتخذتمظهرا لنشاط جلي غير معهود . فقد كان عليهم جميعا أن يتهيئوا ويستعدوا للخروج معصباح اليوم الثاني إلى ظاهر المدينة . ويقضوا بياض نهارهم فوق المهاد الخضر الوارفة، وعلى ضفاف دجلة وفي سفوح تلك الجبال . وذلك جريا وراء تلك العادة السارية في جميعأنحاء كردستان من الإحتفال في مثل ذلك اليوم بشروق الربيع ويومه الجديد . فالطبيعةلها عليهم حق ومنة كبرى . ومن واجبها عليهم أن يحتفلوا بها في مولدها الجديد ،فينطلقوا جميعا من كبير وصغير ورجل وأنثى تاركين ورائهم كل آثار التصنع والتكلفالتي تعج بها دنيا المدن والعمران ، الى حيث تلوح صفحات الإبداع الإلهي الساحر . فيخشعون لها وحدها ، ويظلون معها في نشوة ومرح إلى أن تتوارى عنهم شمس ذلك اليوم ...
وكان مظهر هذا النشاط الملموح عاما في كل أرجاء الجزيرة وأطرافها ،لا سيما حول قصر الأمير . فقد كان على رجال القصر وحاشيته أن يفرغوا مساء ذلك اليوممن تنظيم منهاج لموكب الأمير الذي سيشرف بنفسه على مهرجان الربيع . وقد ينتهزالفرصة فيقوم أيضا برحلة إلى الصيد مع جمع من رجاله وحاشيته . أما داخل القصر ، فقدكان أهدأ ناحية فيه القسم الأعلى منه . كان خاليا تماما ليس فيه أحد إلا الأميرتانزين و ستي ، كانت منحازتين إلى إحدى الشرفات ومتخذتين مجلسهما على بعض متكآت تلكالشرفة ترقبان ساعة الغروب ، وترنوان إلى الأصيل والآكام ، وعلى صفحة دجلة الذييتشعب ملتويا حول معظم أطراف الجزيرة .
قالت ستي : ’’ يبدو أنني لن أعثرعلى الرجل الذي أعجب به إلا أذا بلغ أثر جماله لدي مبلغ فتنة هذه الطبيعة الحالمةوأثرها في نفسي ..‘‘
فأجابتها زين : ’’ ولكن ويحك إن هذا يعني أن يكونذلك الرجل بالغ الذروة في الجمال . وأين تجدين من قد استقر فوق هذه الذروة ..؟ أملعلك تحسبين أن الرجال كلهم يعيشون في قصر مثل قصرك هذا ، وينشؤون في مثل ما أنتفيه من نعمة ؟ ‘‘
قالت : ’’ ولكن لا بد عند البحث أن يوجد مثل هذا الرجلالذي أتخيله وأعنيه .‘‘
فأجابتها زين مستضحكة : ’’ ولكن كيف تستطيعين أنتبحثي عن رجل خيالك هذا ..؟ أم أنك قد أصبحت رجلاًً كالرجال .. تداخلينهموتستعرضينهم في أنديتهم ومجامعهم حتى إذا ما عثرتي عليه أتيت به وركنت اليه ..؟!‘‘
فأطرقت ستي متكئة ، وهي تداعب خصلات من شعرها ، ثم هزت رأسها وهيتقول : ’’ أجل ، فالمشكلة إنما هي هذه فقط ...‘‘
وعادت إلى السكوت .
وبعد قليل انفجرت زين بضحكة عاليه .. ثم أسرت إلى أختها قائلة :
’’ لقد وجدت لهذه المشكلة حلا فاسمعي ...‘‘
واعتدلت في جلستها، ثم دنت إلى أختها ، كأنما تخشى أن يسمعها أحد . وأخذت تقول :
’’ تعلمينأن غدا هو عيد الربيع ، وأن أهل الجزيرة كلها سيخرجون في هذه المناسبة إلى الحقولوالرياض . ولا شك أن ذلك أجمل فرصة لما تفكرين فيه ..‘‘
فقالت : ’’ ويحكوأين الحل في هذا ..؟؟ فمتى كانت النساء يمتزجن بالرجال في مثل هذا اليوم الإمتزاجالذي تظنين ..! وهل تجهلين أنه ستكون لنا أمكنة خاصة من دون الرجال ، أم ..‘‘
فقاطعتها زين قائلة : ’’ ولكنني لم أقل لك الحل بعد . أريد أن أقول إنأحدا من الناس لن يبقى غدا في هذه المدينة ، وسيتلاقى كلهم في هذا الفضاء . فماعلينا إلا أن نتأخر عن موكب القصر غدا متظاهرتين بفتور وانحطاط جسمي يمنعنا منالخروج ، حتى إذا خلا القصر خرجنا متنكرتين في لباس الرجال وهيآتهم ، ثم نندس فيصفوفهم ولا شك أنهم سيحسبوننا من شباب القصر وغلمانه . وأكبر الظن أننا سننجح فيالفكرة ، وسيتاح لكل منا أن تجد من بين مختلف شباب هذه الجزيرة الواسعة الأطراف منيروقها ويعجبها .. ‘‘
ولم تكد زين تعرض الفكرة على أختها حتى أعجبت بها، وسرعان ما اتفقتا على تطبيقها في الصباح الباكر .
ثم أخذتا تتحدثان عنوسائل تنفيذ الفكرة وعما يجب اتخاذه حيال ذلك من تدابير .. غير أنهما اضطرتا أخيراإلى قطع الحديث عندما تنبهتا إلى أن الشمس قد توارت في غيبها منذ فينة ، وإلى أنالظلام الذي امتد على سطح الجزيرة وتكاثف فوق بيوتها التي راحت تختفي عن الأعينمخلفة آثارها من الأضواء المتفرقة التي تشع هنا وهناك . وخشيتا أن يحوم حول مجلسهماذاك من يسمع شيئا من حديثهما الذي ينبغي أن يكون سرا لا يطلع عليه أحد ، فطوتاالحديث ، وغادرتا الشرفة ، وأخذتا تتدرجان في الممشى الفسيح الذي يؤدي إلى البهو .
وهناك رأتا بعض غلمان القصر فسألتاه : ’’ أخرج الأمير من الديوان أم لا ..؟؟‘‘ فأجابهما بأنه لا يزال في الديوان مع بعض رجاله ، يتحدثون عما يختص برحلةالصيد التي عقد عليها العزم مع بعض أصفيائة في صباح الغد . ثم حياهما بانحناءةوانصرف .
فسرهما هذا النبأ ... إذ كان ذلك من جملة الأسباب التي ستيسرلهما النجاح في تنفيذ الفكرة التي اتفقتا عليها .. تلك الفكرة التي لم تكن سوى أثرلما تتمتعان به من الجمال النادر ، إذ كانتا تتصوران أنه لا يكافئهما إلا من كان فيمثل ذلك الجمال أو نحوه . ولذلك فقد كانتا تتمنعان على كثير من الراغبين فيهماوالطامعين بهما ، انتظارا للفتى المناسب ....
ثم إنهما تبادلتا التحية .. وإنصرفت كل منهما إلى مقصورتها الخاصة ، على أن موعدهما الصباح ...
وفيصباح اليوم التالي أشرقت شمس بوطان على أسواق خالية ، وميادين خاوية . . فقد خرججميع من فيها يستجلون العيد الذي أقبل يحييهم من فوق مسارح الطبيعة الغناء التيانتشت وازدهرت من جديد بعد أن ظلت منكمشة متوارية شهورا عديدة تحت أعاصير الشتاءوركام الثلوج .
كان الناس كلهم ينتشرون بين أجواء خمرية ساحرة ، تتهادىعلى ضفاف النهر الفضي .. وفوق الروابي الخضر ..المطرزة بأبدع نقوش الزهور ، وفوقسفوح’’ جودي ‘‘ المفروشة بأبهىديباجة من السندس المتألق .
وكنت تنظر إليهم فتمتد بهم العين في الجهات الأربع ،ثم لا تكاد تبلغ النهاية . تراهم خليطا متضاربا من شتى الطبقات والأشكال والاتجاهات، قد امتزج فيهم الغني والفقير ، وتحاذى الصغير والكبر وتلاقى المثقف والجاهل . فيهم العاشق الذي جاء ليغمر جراح قلبه بكؤوس من خمر النسيان .. وفيهم الشاعر الذيأطرق خاشعا يرنو إلى الفتنة الحالمة ، يستوحي منها آيات الإلهام ، وفيهم الفيلسوفالذي أسرته الحيرة وملكه الذهول ، فهوى ساجدا لخالق هذا السحر والجمال ...!!
ولابدع .. فالطبيعة أمهم جميعا من دون تفريق ، تحنو عليهم حنوا واحدا وتبتسم لهمابتسامة واحدة ، وتسقيهم حمياها من كأس لا تختلف . فلهم جميعا أن يثملوا اليومبرحيقها ويرقصوا في أحضانها ، وأن يجد كل في سرها دواء قلبه ، وعلى كل مظاهر الجمالالزائف وأشكاله المصطنعة أن تنتبذ عنهم إلى مكان قصي .. فالخمر هنا ليس إلا مااعتصر من شذاها ، والجمال ليس إلا ما انعكس من بهائها ...
ولكن أمرا واحدا غيرهذا استطاع أن يلفت عقول الناس في ذلك اليوم في حيرة بالغة ، فقد كان في ذلك الجمعشابان لو أن تلك الطبيعة الخلابة استجمعت كل فتنها وسحرها ثم أرادت أن تقذف بجميعذلك إلى الدنيا في مظهر شابين فيهما كل تلك الفتنة وذلك السحر لما استطاعت أن تجودبأبدع منها وأجمل ..!!
كانا يثيران عواصف الدهشة لدى كل من يلمحهما مما آتاهماالله من ذلك الجمال الغريب ..!! وكان لا يمر أحد من أولئك الحشد إلا وقفة الذهولفترة .. كأنما يتسائل : من عسى أن يكون هذان الشابان اللذان لا يبدو فيهما شيئ منكثافة الدنيا ..؟؟ ألعلهما ملكان نزلا من سمائهما للمشاركة في هذا العيد ؟ !! أمهما توأمان لهذه الطبيعة الخلابة .. جسدتهما في مظهر هذين الشابين هدية إلينا وشكرالاحتفائنا بها ..؟!!
ولقد كان لهم في الواقع أن يعجبوا كل ذلك .. فإن ذينكالشابين لم يكونا سوى الأميرتين ستي وزين ..! خرجتا تشتركان في ذلك الإحتفال بعد أنتنكرتا في لباس الرجال وأشكالهم ، ليسهل عليهما استعراض ذلك الجمع الحاشد الذي قدتجد فيه كل منهما فتى أحلامها ، والشاب الملائم لجمالها .
بيد أن الأميرتيناللتين سحرتا الألباب لم تستطيعان العثور في ذلك اليوم على أي شاب بين ذلك الجمعالغفير يسحر لبهما ويحوز إعجابهما ..!! إذ كانتا تنظران إلى معنى الجمال بمقياسهماالخاص ، وتقدرناه بالنظر للمعجزة التي اختصهما الخلاق بها ! وأنى للمعجزة الخارقةأن تظهر هنا وهناك ؟ وكيف يتأنى للمثل الأعلى أن يتخذ مظهره في أفراد عديدة .. كأيشيء آخر غير معجز أو غريب ..؟!
وهكذا ظل الناس بياض نهارهم ذاك يلهون ويمرحونعلى شطآن الأنهار وبين الورود والأزهار ، وفوق الآكام والتلال وتحت ظلال الأشجار ،إلى أن هب النهار ليدبر ، وأخذت أشعة الشمس تتقلص نحو المغيب ، وظهرت ظلال الروابيوالأشجار شاحبة متطاولة بين الحشائش والأزهار ، وأخذت الشمس ترنو إليهم من فوقمنحدرها صفراء ذاوية ، تحييهم تحية الوداع وتوقظهم من غمزة الخيال الحالم إلىمواجهة الحقيقة .. الحقيقة التي تطبع كل شيء بطابع الزوال والفناء ، وتحرمه من عظمةالخلود والبقاء .
ومع تلك التحية التي راحت الشمس تلوح إليهم بها قام الناسجميعا منصرفين إلى دورهم .
وعند الرجوع حيث كانت الطرق والشعاب تهدر بتلك الجموعمن الرجال والنساء والولدان ، عائدين إلى بيوتهم ، وقد انحازت الأميرتان في سيرهماإلى طريق بعيدة قليلا عن زحام أولئك النساء اللواتي امتزجن مع الرجال في ذلك الطريق، حدث امر غريب ...!!!
فقد انتبهت الأميرتان إلى أن فتاتين من بين ذلك الحشدتقبلان نحوهما في خطى متعثرة ووجهين مشدوهين ..! فأحرجتا .. ولك تشكا في أنهمافتاتين قد عرفتنا وألمتا بأمرهما .
ولكن الفتاتين ما إن دنتا منهما حتى أصابهماما يشبه الدوار ، وظلتا تتقدمان إليهما ، ثم وقفتا أمامهما ، وشخصت عيناهما فيشكليهما ، ثم أخذت تترنح من كل منهما القامة ... ثم سقطت كل منهما على الأرضالواحدة تلو الأخرى ، في غيبوية كاملة عن الدنيا وما فيها ..!
أما الأميرتان فقدانتابهما ذهول شديد لذلك وتعلقتا بمعرفة تينك الجاريتين ومن عسى تكونان .. ومن أيطبقة هما ..؟ ولكنهما خشيتا لأن تقفا قليلا إلى جانبهما للوقوف على سرهما ، فيلفتذلك نظر الناس الذين يمرون على مقربة منهما ويجتمعوا عليهم .. فتظاهرتا بعدالانتباه إلى شيء غير طبيعي وأخذتا تواصلان سيرهما غير مكترثتين .. حتى إذا ابتعدالناس عن مكان الجاريتين وأدركتا أن الجموع قد تجاوزتهما عادتا أدراجهما خلسة إلىمصرعهما وقد داخلتهما رحمة وشفقة شديدة عليهما .
ووصلتا إلى مكانهما .. وهما لاتزالان في غشيتهما تلك ، فجلستا إلى جانبهما تسرحان النظر في ملامحهما ، وتمعنان فيشكل كل منهما وهيئتهما التي قد تكشف لهما الستار عن شخصيتهما ولعلهما تذكرانأتعرفانهما أم لا ؟ .. ولكنهما لم تعرفا عنهما شيئا ، ولم تستطع إحداهما أن تتذكرأنها كانت رأتهما أو رأت واحدة منهما في يوم ما في أي مكان .!
كانت على وجه كلمنهما مسحة رائعة من الجمال مشوب بسيما الجلال ومعنى العزة . مما يدل على أنهماتتمتعان بمكانة ذات سمو ..! وكانت ثيابهما متشابهة في طرازها وشكلها ، مما يدل علىأنهما شقيقتان أو قريبتان .. أما أناقة ذلك الهندام وبداعة وشيه وطرزه فقد كانت تدلدلالة واضحة على مبلغ النعمة التي تتقلبان فيها ..!!
وأخذت الأميرتان ترنواناليهما بعين من الأسى والإشفاق ، وهما مطروحتان فوق تلك الأرض ، وقد غمر كل منهماالإحساس في بحر لجي من الذهول المطبق . وليس من حركة فيهما إلا تنفس الصعداء الذييمر في صدرهما جيئة وذهابا . وراح ذلك الإشفاق يستحيل تدريجا بقدرة خالق الأرواحإلى حب غريب غير مفهوم .!!
وأخذت نظراتهما وهما جالستان إلى جانبهما في تلكالبيداء تتسائل في عجب : أي روض ترى إخضر فيه هذان الغصنان ؟ وفي أي خميلة تفتحتهاتان الوردتان .!؟ أم أي الجداول والغدران أكسبتهما سحرها ؟!!
ولم يطل جلوسهما .. فقد لمحتا على البعد فرسانا تجري بهم الخيول في بعض تلك الشعاب باتجاه المدينة . فأدركتا أنهم الأمير وصحبه عائدين من الصيد ، وتذكرتا أن من الأنسب عودتهما إلىالقصر قبل وصول الأمير . فنهضتا تودعان الجاريتين اللتين لم تزالا في غيبة عنرشدهما ، بعد أن عمدت كل منهما إلى الخاتم النادر الثمين الذي يتلألأ في أصبعهما ،والذي نقشت عليه بوشي دقيق رائع من حجارة الماس والياقوت اسم صاحبته فألبسته إصبعكل من الجاريتين ، واستبدلتا به خاتمين بسيطين كانتا في يد كل منهما ، لينوب ذلكعنهما في التعبير عن تقديرهما والعطف عليهما ، ثم ليكون وسيلة لهما فيما بعد إلىمعرفتهما والإهتداء إلى أصلهما . وهكذا مضت الأميرتان بعد أن استعاضتا عن الدروالألماس النادرين خرزا وزجاجا بسيطين



* عيدالربيع الذي أشار اليه الخاني هنا هو عيد نوروز .. يحتفل به الأكراد والفرس فيالحادي والعشرين من آذار من كل سنة ... يحتفل به أبناء الشعب الكردي بالخروج إلىالطبيعة متزينين بالحلى الفلكلورية ...يعقدون حلقات الرقص والدبكات .. ويشعلونالنار التي ترمز إلى النار التي أشعلها ( كاوا الحداد ) قبل آلاف السنين معلنانهاية الظلم والإستبداد .. رمزا للنصر والتحرر .<o>:p</o>