المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : انقسام النّاس في الصلاة أربع فرق



حامل المسك
15-02-2010, 03:04 PM
بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمدُ لله الذي جَعَلَ الصَلاةَ تَالِيَةَ الإيمَانِ فِي الذِّكرِ الحَكِيمِ , مُتَضَمِّنَةً لِحَقِيقَةِ الحَمدِ وَ أَنوَاعِ الشُكرِ وَ التَعظِيمِ , فِي ثَنَاءٍ بِاللسَانِ , وَ اعتِقَادٍ بَالجَنَانِ , وَ عَمَلٍ بِالأَركَانِ , مَا خَلَت عَنهَا شَرِيعَةٌ مِن شَرَائِعِ الأَنبِيَاءِ وَ المُرسَلِينَ , فَهِيَ فَرِيضَةٌ مُحكَمَةٌ بَاقِيَةٌ إلى يَومِ الدِّين , قَد اشتَمَلَت عَلى الرُكُوعِ وَ السُجُودِ , وَ هُمَا غَايَةُ الذُلِّ وَ الخُضُوعِ لِلمَعبُودِ .
وَ الصَلاةُ وَ السَلامُ عَلى رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ الذي بَلَّغَ فَأَحسَنَ التَبلِيغَ عَن رَبِّهِ وَ عَلَى آلِهِ وَ حِزبِهِ .
و بعد
اعلَم أَيُّهَا السَّاعِي فِي طَلَبِ الآخِرَةِ , أَنَّ النَّاسَ يَنقَسِمُونَ فِي الصَلاةِ أَربَعُ فِرَقٍ :
الفِرقَةُ الأولى : مَن يُصَلِي صَلاةَ الغَافِلِينَ – عِيَاذاً بِالله مِن ذلك – وَ هُم أَهلُ الوَسَاوِسِ وَ جَوَاذِبُ الأفكَارِ الدُنيَوِيَّة , تَجذِبُهُمُ الأفكَارُ إلى الدُّنيَا , فَهُؤلاءِ لَيسَ لَهُم مِن صَلاتِهِم إلا مَا عَقَلُوا مِنهَا .
الفِرقَةُ الثَّانِيَة : قُلُوبُهُم غَائِبَةٌ فَيُطَالِبُونَهَا بِالحُضُورِ وَ هِيَ تَشرُدُ , كُلَّمَا شَرَدَت إلى أَودِيَةِ الدُّنيَا مِن بَينِ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ رَدُّوهَا , وَ هذه صَلاةُ المُرِيدِينَ المُجَاهِدِينَ المُحَارِبِينَ لِعَدُوِّهِم وَ نُفُوسِهِم , وَ أَحَدُهُم غَالِبٌ تَارَّةً وَ مَغلُوبٌ أُخرَى , يَجذِبُونَ نُفُوسَهُم إلى الحَقِّ تَارَةً , وَ تَجذِبُهُم النُّفُوسُ إلى غَيرِ الله .
الفِرقَةُ الثَّالِثَة : قَد لَطُفَت قُلُوبُهُم وَ تَخَلَّصَت مِن أَسرِ نُفُوسِهِم , فَهِيَ المُصَلِّيَةُ وَ التَّالِيَةُ وَ الفَاهِمَةُ وَ المُنَاجِيَةُ , هِيَ النَّاطِقَةُ بِالتَكبِيرِ وَ الفَاتِحَةِ , وَ اللسَانُ مُتَرجِمٌ عَمَّا استَكَنَّ فِي القَلبِ مِن العِبَادَةِ للهِ عَزَّ وَ جَلَّ , بِخِلافِ الذينَ قَبلَهُم , فَإنَّهُم يَقرَأونَ بِأَلسِنَتِهِم وَ يُطَالِبُونَ قُلُوبَهُم بِالمُوَاطَأَةِ وَ الحُضُورِ مَعَ أَلسِنَتِهِم , وَ هَؤلاءِ قُلُوبُهُم هِيَ النَّاطِقَةُ وَ اللسَانُ مُعَبِّرٌ عَنهَا .
الفِرقَةُ الرَابِعَة : إذَا دَخَلًوا فِي الصَّلاةِ غَابُوا بِمَا تَجَلَّى عَلى قُلُوبِهِم مِن آثَارِ الصِفَاتِ مِنَ الهَيبَةِ وَ الإجلالِ وَ التَعظِيمِ , فَتُخطَفُ قُلُوبُهُم وَ أَروَاحُهُم , تَخطِفُهَا أَنوَارُ العَظَمَةِ , وَ تَبقَى المُنَاجَاةُ وَ الفَهمُ فِي مَحَلِّ النَّفسِ الطَاهِرَةِ المُزَكَّاةِ , لأنَّ نُفُوسَهُم صَارَت فِي مَحَلِّ القَلبِ , وَ القَلبُ صَارَ فِي مَحَلِّ الرُّوحِ , وَ الرُّوحُ فِي مَحَلِّ القُرَبِ .
فَلا تَسَل عَن حاَلِهِم فِي الرُّكُوعِ وَ السُّجُودِ . فَإِذَا اِنحَنَى أَحَدُهُم أَو تَدَلَّى بَينَ يَدَيِ الحَقِّ عَزَّ وَ جَلَّ تَجِدُهُ خَاضِعاً مُتَوَاضِعاً بِقَلبِهِ وَ قَالَبِهِ , فَيَتَّصِفُ قَلبُهُ بِالانحِنَاءِ المَعنَوِيِّ – الذي هو صورة الذلّة و الخضوع – كَمَا اتَّصَفَ الظَّاهِرُ بِالانحِنَاءِ الصُّوَرِيِّ فَيُطَابِقُ حَينَئِذٍ ظَاهِرَهُ بَاطِنَهُ , وَ يَستَوِي سِرُّهُ وَ عَلانِيَّتُهُ . بِخِلافِ مَن يَنحَنِي بِجِسمِهِ صُورَةً وَ لَم يَخضَعَ بِقَلبِهِ مَعنىً , فَكَأَنَّهُ رَكَعَ بِنِصفِهِ وَ تَخَلَّفَ عَن الرُّكُوعِ النِّصفُ الآخَرُ , رَكَعَ بِجسمِهِ الذي هُوَ مِن عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَ لَم يَركَعَ بِقَلبِهِ الذي هُوَ مِن عَالَمِ الغَيبِ .
رُكُوعُهُم وََ سُجُودُهُم وَ تَشَهُّدُهُم حُضُورٌ بَينَ يَدَيِ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ , وَ مُنَاجَاةٍ لَهُ وَ سُؤَالٍ مِنهُ فَإذَا رَكَعَ أَو سَجَدَ أَحَدُهُم لا يُحَدِّثُ نَفسَهُ بِالاعتِدَالِ لِطِيبَةِ قَلبِهِ فِيه وَ لَذَّتِهِ بِه , فَذَلِكَ مِن إِكمَالِ هَيئَاتِ الصَلاةِ وَ أَسرَارِهَا وَ حَقَائِقِهَا .
وَ عَلامَةُ مَن صَلَّى بِقَلبِهِ وَ قَالَبِهِ أَن يَبقَى بَعدَ السَلامِ زَمَناً لِيَعُودَ رَوعُهُ إِلَيهِ , لِكَمَالِ استِغرَاقِهِ وَ حُضُورِهِ فِي الصَّلاةِ .
فَمَن وَفَّقَهُ اللهُ تَعَالَى لِلصَلَوَاتِ الخَمسِ عَلى هَذِهِ الصِفَةِ يُرجَى لَهُ أَن يَبقَى فِي نُورِ كُلِّ صَلاةٍ إِلى الصَّلاةِ الأُخرَى , فَلا يَزَالُ نَهَارُهُ وَ لَيلُهُ مَغمُوراً فِي لَوَامِعِ الأَنوَارِ , مَغمُورَ الظَّاهِرِ وَ البَاطِنِ فِي حَضرَةِ المَلِكِ الجَبَّارِ .
فَانظُر نَفسَكَ أَيُّهَا الحَبِيبُ مِن أَيِّ الفِرَقِ أَنتَ ؟ وَ عَالِج قَلبَكَ وَ تَرَقَّ مِنَ المَرَاتِبِ النَّازِلَةِ إلى المَرَاتِبِ العَالِيَةِ بِالتَدَرُّجِ , وَ افتَقَرَ إلى اللهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ تَبلُغُ إن شَاءَ الله .