nour
09-05-2010, 02:47 PM
"المفلس فينا من لا درهم له ولا دينار"
مفهوم أوليٌ للإفلاس يشبه إلى حدّ بعيد مفهوم العطاء عند القوم، حين أقبل وافدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلقّنهم مفهوماً جديداً للعطاء، ويبين أن أسمى مراتب العطاء : أن تعطي من نفسك؛ من حبّك، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلق، أن تكون حريصا على الآخرين، ولو أن تميط الأذى عن طريقهم، فأبواب الصدقات مفتوحة مشرعة لكلّ إنسان، ولو كان مُعدِماً بالمنظور المادي.
وإذا كان العطاء عطاءَ النفس الإنسانيّة، فالإفلاس هو الآخر إفلاسها!
وفي تعريف المفلس يقول صلى الله عليه وسلم : (إنّ المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقضِي ما عليه، أَخَذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثمّ طُرِحَ في النار).
لله ما أعظم بيان رسول الله! وما أعمق تربيته !
إنها لتربيةٌ تتجاوز سطوح السلوك، إلى أعماق النفس البشرية.
انظر إلى بيانه وهو يكشف حقيقة المفلس؛ إنه ليس ذاك الذي لا يجد ما ينفق من مال، بل هو مَن لا يجد خيراً يقدّمه للناس، فيستعيض عن ذلك بسلبهم فضائلهم، فيُعمل فيهم لسانه غيبة وبهتاناً، ويده أذًى، فإذا المفلس ينفق من حسناته ولا يشعر، ويوفّر رصيده في مصرف المكتسبات كي يمنحه للآخرين!
إنه ليس يكفي المسلم أن يأتي بالأعمال الصالحة وحسب، بل يلزمه المحافظة عليها كي يخرج من حالة الإفلاس.
والمفلسون بهذا المعنى كثير: أمّ عجزت عن إقناع ابنها فضربته..و مغمور لا يعرفه أحد، يتناول بالسوء أحد العظماء، علّ اسمه يرتفع إن اقترن باسمه..! وفاشل لم يبلغ مراده السياسي يتهم الآخرين بالخيانة..
ومن المفلسين أيضا: متخلّف لم يلحق بركب الحضارة، يتوعّدها بالسقوط والزوال، وينهمك في تَعداد مفاسدها، متغاضياً عن مآثرها! وعجز عن أكل العنب فلام الناطور! والأمر أشدّ إذا أمعن في إعلان إفلاسه، وجعل هدفه ضربَ الناطور، لا التخطيط لأكل العنب!
وهو موقف غاية في السلبيّة؛ لأنه يحيد بك عن الهدف تمامًا ليضعك أمام هدف آخر لا يحقق لك أيّ مكسب في النهاية، و لو قُدِّر له النجاح.
إنه موقف لا يمنعك من تحقيق مكتسبات إضافيّة وحسب، بل أكثر من ذلك، هو يستهلك ما جمعتَ من مكتسبات ويجعلك مفلساً تماماً، كالبقرة تحلب الحليب بعد عناء، ثم ترفسه بقدمها!
والمسلمون اليوم عزلوا حضارتهم عن ركب الحضارة العالمية الإنسانيّة حين انشغلوا بالحديث عن تفرد حضارتهم، والزعم بأنها الحضارة الوحيدة، وما عداها فباطل لا يلبث أن يزول..ولكنّه لم يَزُلْ، مع أننا منذ القرن التاسع عشر نتوعّده بالزوال!
والذي زال فعلًا هو حضورنا في صناعة الحضارة؛ حيث لن تجد لنا أيّ بصمة أو توقيع، بخلاف سائر أمم الأرض، في حين أفاد الغربيون من مكتسباتنا الحضاريّة كلّ الإفادة. ولعلّ الأوان قد حان لنفكر: ماذا نريد أن نقدّم لأنفسنا، لمجتمعاتنا وللبشرية، ونحن المستخلفون في الأرض؛ فقد انهمكنا طويلًا في إعلان حالة الإفلاس؛ في تعاملنا مع النفس و الآخرين، والإفلاس الحضاري في تعاملنا مع الحضارات القائمة.
وللخروج من حالة الإفلاس هذه، علينا أن نفقه الحقائق التالية:
- حقيقة أنّه لا يوجد فاشلون، لكن هناك أناس بدأوا من القاع وبقوا فيه، فعليهم الأخذ بأسباب النجاح ليصلوا إلى القمة، وبذلك ينشغلون عن التعرّض
للآخرين.
- حقيقة أنّ الحياة دار ابتلاء لا حساب، لا يُحرم فيها من عطاء الله أحد؛ كي يحظى كلّ إنسان بفرصته في توظيف نِعَم الله، فإما إلى إيمان، وإما إلى كفر.
إن فقه هذه الحقيقة يجعلنا ندرك كم هو مفلس ذاك الذي يحسد الناس على ما أعطاهم الله، أو يتهم ربه بسوء التقدير؛ إذ أعطى عاصيًا وحرم مطيعًا، وندرك كم هو مفلس ذاك الذي ينشغل بعيوب الناس؛ يحصيها صادقاً وكاذباً. وكم هو مفلس ذاك الذي لم يحسن من ردات الفعل إلا الشتم والضرب والأذى.
- حقيقة أنّ الآخرين إذًا- وقد نالهم عطاء الله- دائمًا قادرون على تقديم ما لا نستطيع تقديمه، ولو كانوا كفاراًا وكنّا مسلمين؛ فكوننا مسلمين لا يجعلنا الأكفأ في كلّ مجال من مجالات الحياة، لكن الله وزّع على الناس حظوظهم من نعمه وعطاياه؛ مسلمِهم وكافِرِهم، قال تعالى: (كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) .وأننا بالمقابل لدينا ما نقدّمه مما لا يستطيع الآخرون تقديمه، وعلينا أن نبحث في أنفسنا عما نستطيع تقديمه، وعندها فقط ننتصر على إفلاسنا النفسيّ، ولو كان ما نستطيع مجرّد إماطة الأذى عن طريق الناس، أو إحياء الجانب الروحي من الحضارة المغرقة في مادّيتها، بدل الانشغال بنطح الصخر بقرنين واهِيَيْن، وحجب الشمس بإصبع الوعيد.
أقول: ولو.. وأؤمن بأننا نستطيع تقديم الكثير الكثير.. وفي الإسلام مما نقدّمه كفاية.
سنا محمد طوط
http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-11406.htm
مفهوم أوليٌ للإفلاس يشبه إلى حدّ بعيد مفهوم العطاء عند القوم، حين أقبل وافدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله، ذهب أهل الدثور بالأجور، يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون من فضول أموالهم.
لكن رسول الله صلى الله عليه وسلّم يلقّنهم مفهوماً جديداً للعطاء، ويبين أن أسمى مراتب العطاء : أن تعطي من نفسك؛ من حبّك، ولو أن تلقى أخاك بوجه طَلق، أن تكون حريصا على الآخرين، ولو أن تميط الأذى عن طريقهم، فأبواب الصدقات مفتوحة مشرعة لكلّ إنسان، ولو كان مُعدِماً بالمنظور المادي.
وإذا كان العطاء عطاءَ النفس الإنسانيّة، فالإفلاس هو الآخر إفلاسها!
وفي تعريف المفلس يقول صلى الله عليه وسلم : (إنّ المفلس من أمتي مَن يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيُعطَى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يَقضِي ما عليه، أَخَذَ من خطاياهم فطُرِحَتْ عليه، ثمّ طُرِحَ في النار).
لله ما أعظم بيان رسول الله! وما أعمق تربيته !
إنها لتربيةٌ تتجاوز سطوح السلوك، إلى أعماق النفس البشرية.
انظر إلى بيانه وهو يكشف حقيقة المفلس؛ إنه ليس ذاك الذي لا يجد ما ينفق من مال، بل هو مَن لا يجد خيراً يقدّمه للناس، فيستعيض عن ذلك بسلبهم فضائلهم، فيُعمل فيهم لسانه غيبة وبهتاناً، ويده أذًى، فإذا المفلس ينفق من حسناته ولا يشعر، ويوفّر رصيده في مصرف المكتسبات كي يمنحه للآخرين!
إنه ليس يكفي المسلم أن يأتي بالأعمال الصالحة وحسب، بل يلزمه المحافظة عليها كي يخرج من حالة الإفلاس.
والمفلسون بهذا المعنى كثير: أمّ عجزت عن إقناع ابنها فضربته..و مغمور لا يعرفه أحد، يتناول بالسوء أحد العظماء، علّ اسمه يرتفع إن اقترن باسمه..! وفاشل لم يبلغ مراده السياسي يتهم الآخرين بالخيانة..
ومن المفلسين أيضا: متخلّف لم يلحق بركب الحضارة، يتوعّدها بالسقوط والزوال، وينهمك في تَعداد مفاسدها، متغاضياً عن مآثرها! وعجز عن أكل العنب فلام الناطور! والأمر أشدّ إذا أمعن في إعلان إفلاسه، وجعل هدفه ضربَ الناطور، لا التخطيط لأكل العنب!
وهو موقف غاية في السلبيّة؛ لأنه يحيد بك عن الهدف تمامًا ليضعك أمام هدف آخر لا يحقق لك أيّ مكسب في النهاية، و لو قُدِّر له النجاح.
إنه موقف لا يمنعك من تحقيق مكتسبات إضافيّة وحسب، بل أكثر من ذلك، هو يستهلك ما جمعتَ من مكتسبات ويجعلك مفلساً تماماً، كالبقرة تحلب الحليب بعد عناء، ثم ترفسه بقدمها!
والمسلمون اليوم عزلوا حضارتهم عن ركب الحضارة العالمية الإنسانيّة حين انشغلوا بالحديث عن تفرد حضارتهم، والزعم بأنها الحضارة الوحيدة، وما عداها فباطل لا يلبث أن يزول..ولكنّه لم يَزُلْ، مع أننا منذ القرن التاسع عشر نتوعّده بالزوال!
والذي زال فعلًا هو حضورنا في صناعة الحضارة؛ حيث لن تجد لنا أيّ بصمة أو توقيع، بخلاف سائر أمم الأرض، في حين أفاد الغربيون من مكتسباتنا الحضاريّة كلّ الإفادة. ولعلّ الأوان قد حان لنفكر: ماذا نريد أن نقدّم لأنفسنا، لمجتمعاتنا وللبشرية، ونحن المستخلفون في الأرض؛ فقد انهمكنا طويلًا في إعلان حالة الإفلاس؛ في تعاملنا مع النفس و الآخرين، والإفلاس الحضاري في تعاملنا مع الحضارات القائمة.
وللخروج من حالة الإفلاس هذه، علينا أن نفقه الحقائق التالية:
- حقيقة أنّه لا يوجد فاشلون، لكن هناك أناس بدأوا من القاع وبقوا فيه، فعليهم الأخذ بأسباب النجاح ليصلوا إلى القمة، وبذلك ينشغلون عن التعرّض
للآخرين.
- حقيقة أنّ الحياة دار ابتلاء لا حساب، لا يُحرم فيها من عطاء الله أحد؛ كي يحظى كلّ إنسان بفرصته في توظيف نِعَم الله، فإما إلى إيمان، وإما إلى كفر.
إن فقه هذه الحقيقة يجعلنا ندرك كم هو مفلس ذاك الذي يحسد الناس على ما أعطاهم الله، أو يتهم ربه بسوء التقدير؛ إذ أعطى عاصيًا وحرم مطيعًا، وندرك كم هو مفلس ذاك الذي ينشغل بعيوب الناس؛ يحصيها صادقاً وكاذباً. وكم هو مفلس ذاك الذي لم يحسن من ردات الفعل إلا الشتم والضرب والأذى.
- حقيقة أنّ الآخرين إذًا- وقد نالهم عطاء الله- دائمًا قادرون على تقديم ما لا نستطيع تقديمه، ولو كانوا كفاراًا وكنّا مسلمين؛ فكوننا مسلمين لا يجعلنا الأكفأ في كلّ مجال من مجالات الحياة، لكن الله وزّع على الناس حظوظهم من نعمه وعطاياه؛ مسلمِهم وكافِرِهم، قال تعالى: (كلّاً نمدّ هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا) .وأننا بالمقابل لدينا ما نقدّمه مما لا يستطيع الآخرون تقديمه، وعلينا أن نبحث في أنفسنا عما نستطيع تقديمه، وعندها فقط ننتصر على إفلاسنا النفسيّ، ولو كان ما نستطيع مجرّد إماطة الأذى عن طريق الناس، أو إحياء الجانب الروحي من الحضارة المغرقة في مادّيتها، بدل الانشغال بنطح الصخر بقرنين واهِيَيْن، وحجب الشمس بإصبع الوعيد.
أقول: ولو.. وأؤمن بأننا نستطيع تقديم الكثير الكثير.. وفي الإسلام مما نقدّمه كفاية.
سنا محمد طوط
http://islamtoday.net/nawafeth/artshow-43-11406.htm