مشاهدة النسخة كاملة : قلعة طرابلس حصن عربي الأساس والموقع
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:21 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الأساس والموقع(1)
بقلم الدكتور عمر تدمري
تعتبر القلعة أهم آثار طرابلس وأقدمها، وأضخمها على الإطلاق، وهي رابضة على كتف رابية تقوم عند الطرف الغربي من نهر أبو علي، شرقي المدينة القديمة. وتبعد عن ساحل البحر نحو ميلين. وهي ليست صليبية، لا في الموقع، ولا في الأساس، كما يزعم بعض المؤرخين، وكما تقول وزارات الإعلام والثقافة والتربية والسياحة، وكما تدّعي النشرات السياحية، والمقالات الإعلامية في الصحف والمجلات، وفي الأخبار الناطقة والمرئية... بل هي عربية الموقع والأساس. بل إن أغلب عمارتها القائمة الآن هي مملوكية -عثمانية. ومن يقرأ تاريخ طرابلس، ويتتبع مراحل بناء قلعتها سيتبين ما لحق بهذا الصرح الأثري من سياسة تزوير وتشويه وتضليل إعلامي لعشرات السنين بكل الوسائل، حتى في الكتب المدرسية التي قرأناها ونحن في مقاعد الدراسة الابتدائية، حتى وَقَر في ذاكرتنا ووعينا أن قلعتنا هي قلعة "سان جيل" أو قلعة "ريموند دي تولوز" وأن الصليبيين هم الذين بنوها، وقد شمل التزوير وطمس الحقائق أيضاً قلعة جبيل، وقلعة صيدا البحرية، وغيرهما، وكلها حصون عربية في الأساس.
فالقائد الفرنجي "الفرنسي" (الصليبي) ريموند دي سان جيل التولوزي -المعروف في المصادر بـ"الصّنجيلي" لم يكن أول من اختار الموقع الحالي للقلعة ليقيم حصنه عليه في أواخر القرن الخامس الهجري (أوائل القرن الثاني عشر الميلادي)، وبالتحديد في سنة 497هـ/ 1103م، بل سبقه إليه القائد الصحابي سفيان بن مجيب الأزدي، من قبيلة أزد العربية اليمنية، بأكثر من أربعة قرون ونصف القرن، حين أتى لفتح طرابلس في عهد الخليفة الراشدي عثمان بن عفان رضي الله عنه حوالي سنة 24هـ/ 645 م.
وبعملية حسابية بسيطة نجد أن بناء "سفيان" للحصن قد سبق بناء "صنجيل" له بـ 473 سنة هجرية أو 458 سنة ميلادية!
وهنا يسأل الكثيرون: ما الدليل على هذا الكلام؟ وهل ما تعلّمناه في المدارس غير صحيح؟ وهل كتاب التاريخ يزوّر الحقائق؟ إلى ما هناك من تساؤلات كثيرة.
وجواباً على ذلك نقول: إن الذين وضعوا كتب التاريخ المدرسية لأجيالنا لم يرجعوا إلى المصادر الأساسية التي صنّفها ثقاتُ المؤرخين المسلمين والرواة الإخباريين الأوائل، ولم يطّلعوا على المخطوطات القديمة المتفرقة في مكتبات العالم، واكتفوا بالعودة إلى كتابات المؤلفين المتأخرين، وما كتبه المستشرقون، وأخذوا بما لفّقه بعضهم، وعلّمونا أن قلعة طرابلس صليبية، وأن قلعة جبيل صليبية، وأن قلعة صيدا البحرية صليبية، وأن برج الأمير "برسباي" على ساحل طرابلس صليبي، وأنه من بناء "ريموند التولوزي" وأن شعاره كان الأسد، ولهذا سمي برج السباع، وصدقنا هذه الفرية وهذا الإدعاء الكاذب. بل زعم أكثرهم أن جميع أبراج طرابلس الساحلية هي صليبية، وما إلى ذلك من افتراءات وطمس للحقائق، وتزوير للتاريخ.
ولا عجب.. فإن جميعهم -بلا استثناء- لم يطّلعوا على كتاب "فتوح البلدان" للبلاذري، ولا على كتاب "الفتوح" المنسوب لابن أعثم الكوفي، ولا على كتاب الخراج وصناعة الكتابة "لقدامة بن جعفر"، ولا على الكتاب الموسوعي الضخم "تاريخ مدينة دمشق" للمؤرخ والمحدث والحافظ الكبير والعملاق ابن عساكر الدمشقي، وقد بقي هذا الكتاب مخطوطاً، وهو في 80 مجلداً ولم يُطبع إلا قبل 13 عاماً من الآن.
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:22 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الأساس والموقع (2)
يُعتبر "أبو مطيع معاوية بن يحيى الاطرابلسي" أقدم محدّث إخباري روى خبر بناء الحصن العربي الإسلامي في موقع القلعة الحالي، وهو من أهل القرن الثاني الهجري/ الثامن الميلادي، قال عنه المؤرخ شمس الدين الذهبي إنه توفي بُعيد سنة 170هـ (786م)، فهو إذن مولود في أول القرن الثاني الهجري، أو في أوائله، وبينه وبين فتح طرابلس أقل من قرن، فهو أقرب المؤرخين لهذا الحدث من كل المؤرخين والباحثين والمستشرقين على الإطلاق، وهو من رواة الحديث النبوي، وشيوخه من طبقة التابعين وتابعي التابعين، وهم ثقات في الحديث، ومن يكن كذلك فهو صادق الرواية والإخبار، وعنه يروي المؤرخون خبر فتح طرابلس على يد الصحابي الجليل "سفيان بن مجيب الأزدي" من أزد اليمن، وهو الذي أول من بنى الحصن في مكان القلعة ونُسب إليه وعُرف بإسم "حصن سفيان"، كما يذكر المؤرخ الكبير "ابن عساكر الدمشقي" بسنده، عن معاوية الاطرابلسي، فيقول: ان الصحابي "سفيان" أتى إلى طرابلس وهي من ثلاثة حصون في شبه جزيرة على البحر، وذلك في أول خلافة "عثمان بن عفان" سنة 24هـ/ 645م. وكان سفيان آنذاك أميراً وقاضياً في بعلبك، ووصل عبر سهل عكار إلى مرج السلسلة، وهو السهل الممتد بين المنية والبداوي بسفح جبل تربل، ومن هناك بدأ بحصار الروم البيزنطيين المتحصنين وراء أسوار طرابلس القديمة (الميناء) وبحصونها الثلاثة، ولكن هؤلاء لم يتأثروا بالحصار، إذ كانت الإمدادات تأتيهم من البحر، كما تأتيهم المؤن والزاد براً من جهة الشرق، والمسلمون يرابطون على مسافة 5 أميال من المدينة (الميناء) وهم يعانون من مطر الشتاء والبرد وينامون في العراء، واستمروا على ذلك أشهراً، إلى أن كتب سفيان إلى عامل الشام معاوية بن أبي سفيان يعرض له الأمر ويستشيره، فكتب اليه معاوية أن يبني له ولأصحابه حصناً يأوي إليه ليلاً، ويغزو الروم نهاراً، فتقدم سفيان وعبر نهر طرابلس، وبنى حصناً فوق التلة، فقيل له "حصن سفيان" وهو على مسافة ميلين من المدينة الساحلية، كما يؤكد المحدث الاطرابلسي "أبو مطيع"، فهو بجوار النهر مباشرة يأخذ منه حاجته، ويشرف على الطرق المؤدية إلى المدينة من جهة الشرق، ويمنع عن أهلها الإمدادات، وجاء بناء الحصن عربياً خالصاً، وكان أول حصن حربي يبنيه المسلمون في كل فتوحاتهم التي امتدت شرقاً وغرباً، ولم يسبق لهم أن بنوا حصناً قبله.
اشتد الحصار على البيزنطيين، وانقطعت الإمدادات عنهم، وسفيان يغازيهم بجنوده كل يوم، حتى كتبوا إلى الامبراطور البيزنطي يطلبون منه أن يُنجدهم بقواته، فاكتفى بإرسال مراكب أتت ليلاً إلى المينا وحملت جميع سكان المدينة بعد إشعال النيران في البيوت، وفروا إلى سواحل آسية الصغرى (تركيا)، وفي صباح اليوم التالي خرج سفيان وجنوده من الحصن لقتال الروم فلم يلقوا مقاومة، ودخلوا المدينة وهي خاوية على عروشها، وعندما قاموا بتفتيشها عثروا على يهودي عجوز مختبئاً في سَرَبٍ منها، فأخبرهم بهرب الروم تحت جنح الظلام، وكان الفتح عام 25هـ/ 646م.
وأتى معاوية بجماعة من يهود الأردن وأسكنهم في طرابلس، ولم يسكنها غيرهم لعدة سنوات، حسب قول "البلاذُري" في "فتوح البلدان"، ثم نزلها بعد ذلك العرب والفرس والروم وأمم شتى. وبقي حصن سفيان قائماً إلى ما بعد منتصف القرن الثاني الهجري، على الأقل، وقال "أبو مطيع الاطرابلسي" إنه صار في أيامة يُسمى "حصن كفر قدح" ولم يذكر سبباً لهذه التسمية الجديدة*.
وهنا أودّ التنويه ببعض المبادرات الطيبة نحو إحياء ذكر القائد الصحابي "سفيان"، فقد أطلقت ثانوية الإيمان اسم هذا الصحابي الجليل على فوج كشافتها، وسُمي أحد مساجد أبي سمراء حديثاً بإسم "سفيان الأزدي" كما قامت بلدية طرابلس في عهد رئيسها السابق العميد سمير الشعراني بإطلاق اسم هذا الصحابي الفاتح على الشارع المحاذي لقلعة طرابلس حيث بنى حصنه مكانها، وذلك بناءً لاقتراحنا.
(يتبع)
(*) أنظر: مسند معاوية الاطرابلسي في الحديث والفوائد والتاريخ -باعتنائنا - طبعة دار الإيمان بطرابلس، ودار ابن حزم ببيروت 1997
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:23 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الأساس والموقع (3)
في سنة 1970 اكتشفت المديرية العامة للآثار أثناء التنقيب داخل قلعة طرابلس (مشهداً) = "مسجداً" فاطمياً كان مطموراً بالتراب وفيه ضريح فاطمي من الرخام نُقشت عليه آيات قرآنية، وأسماء أئمة الشيعة الإثني عشر.
والمعروف أن الداعية والرحالة الغارسي "ناصر خسرو علوي" زار طرابلس وهو في طريقه إلى مصر في سنة 438هـ/ 1047م ووصف المدينة وصفاً رائعاً، وهي آنذاك طرابلس المينا، وفي نهاية وصفه لها قال إنه لا يوجد خارجها سوى "مشهدين" أو "ثلاثة مشاهد" ويقصد بالمشهد عند الفرس والشيعة عموماً "المسجد" أو المقام الذي يُدفن فيه أحد الائمة.
والمرجّح لدينا أن المسجد الذي عثرت عليه مديرية الآثار داخل القلعة هو واحد من "المشاهد" التي رآها "ناصر خسرو" أو أنه من بناء الأمير "جلال المُلك ابن عمّار" الذي حكم طرابلس (464/492هـ/ 1071/1099م) حيث توجد لوحة بإسمه في "المتحف الوطني" تؤرّخ لبناء مسجد، نُقشت بالخط الكوفي، نصّها: "بسم (الله الرحمن الرحيم)... (هذا ما أنشأه) تقرباً إلى الله ورغبة في ثـ(ـوابه القاضي... جلال) (الملك) أبو الحسين علي بن محمد بن عـ(ـمار.. في سنة)... (وأ)ربع ماية. وجرى عـ(ـلى يدي)...الله".
إن اكتشاف "المشهد =المسجد" الفاطمي في وسط القلعة هو دليل مادي قاطع بأن المسلمين هم أول من بنى فوق هذا الموقع وأسسوا الحصن قبل الإفرنج الصليبيين.
حصن صنجيل
اعتباراً من سنة 492هـ/ 1099م. بدأت طلائع الحملات الصليبية بالوصول إلى طرابلس، وكان الحصن هدفاً لغاراتهم وهجماتهم حتى استولوا عليه.
وكما فعل الصحابي "سفيان الأزدي" حين أتى قبل نيّف وأربعة قرون لحصار طرابلس وفتحها، فبنى حصنه، فعل الأمير التولوزي "ريموند دي سان جيل"، حيث بنى حصنه فوق أطلال حصن سفيان، وحول "المشهد =المسجد" الفاطمي، وكان قد عقد اتفاقاً مع أمير طرابلس "فخر المُلك عمّار بن محمد بن عمّار" أن تكون له المدينة (المينا)، وأن يكون لريموند التلّة عند النهر، على أمل أن يصبح ملكاً على بيت المقدس بعد الاستيلاء عليها. ولما لم يتحقق أمله، وانتخب الفرنج "غودفري دي بويّون" ملكاً عاد "ريموند" إلى ضواحي طرابلس وصمّم على احتلالها لتكون عاصمة لإمارته، ولتحقيق ذلك قام ببناء الحصن، وذلك اعتباراً من سنة 497هـ/1103م. فأبقى على "المشهد" الفاطمي المثمّن الأضلاع، وهو شبيه بمسجد قبة الصخرة في القدس، ولكنه ألغى محرابه وحوّله إلى كنيسة، وصار شبيهاً بكنيسة المهد (Saint Sépuicre) في بيت المقدس، وبنى الحصن من حوله، وأعانه على بنائه الامبراطور البيزنطي "الكسيُوس كومنين" حيث أرسل إليه الميرة والأخشاب والمعدّات اللازمة من جزيرة قبرس. كما نزل اليه نصارى القرى من الموارنة، وخاصة من "بشري" وجبال الجرد، وحضّوه على عمارة الحصن واحتلال طرابلس وساعدوه على ذلك.
ولدينا نصان تاريخيان كتبهما مؤرخ "لبناني" معاصر للحروب الصليبية من بلدة يونين القريبة من مدينة بعلبك، هو "قطب الدين اليونيني" نذكر النص الأطول منهما، وهو ما يلي:
"حُكي لي أن سبب أخذ الفرنج لها بعد الخمسماية أن ابن صنجيل كان من ملوك البحر وله به بلاء، فجرى له أمر أوجب خروجه عن بلاده، فركب البحر ولجّج فيه، وتوقفت عليه الريح بحيث يكاد يهلك ومن معه. ثم رماه الموج إلى ساحل طرابلس فنزل في ساحل طرابلس، فسيّر اليه ابن عمّار يسأله عن سبب نزوله، فعرفه أنه قد هلك من طول المقام في البحر، وأنه نزل يستريح ويتزود ويرحل، وسأل أن يخرج اليه من يبيع ما يحتاجه، فخرج اليه جماعة من أهل البلد، ثم نزل اليه أهل جبّة بشري وهم نصارى فبايعوه وعرّفوه أمر البلد وان رعيته نصارى، وأن متملِّكه متغلِّب ليس من بيت الملك، وحسّنوا له المقام، ووعدوه المساعدة على تملُّكه، فأقام وحضر اليه خلق كثير من نصارى البلاد، وعجز ابن عمّار عن ترحيله، فبنى الحصن المشهور به ظاهر طرابلس، وأقام به واستولى على برّ طرابلس، ولازال مصابراً لها، وكلما مرّ وقت قوي وكثر جمعه، وضعُفَ مَن بطرابلس وابن عمار يطلب النجدة فلا يُنجده أحد..".
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:25 PM
قلعة طرابلس: حصن عربي الأساس والموقع (4)
قال المؤرخ "ابن الفوطي" إن الفرنجي ريموند تأنّق في بناء حصنه فجعل بعض سقوفه من الذهب، وشحنه بالأموال والرجال والسلاح. وأقام حوله معسكرات للجند وأسواقاً، واحتفر له الخنادق، وأطلق عليه اسمه فأصبح يعرف بحصن صنجيل.
وفيما كان ريموند بعيداً عن الحصن إذ بفخر الملك ابن عمار يخرج ذات ليلة ومعه ثلاثمائة فارس من عسكره وأهل البلد، وقاموا بهجوم مباغت فأشعلوا النيران ف المعسكرات عند ربض الحصن، واقتحموا الحصن نفسه وقتلوا من به من الفرنج ونهبوه، ثم وأحرقوه، وأخذوا منه السلاح والمال والديباج والفضة وأشياء أخرى كثيرة، وعادوا إلى المدينة غانمين في 19 من شهر ذي الحجة 497هـ/ 1104م.
ولما عاد ريموند من سفرته إلى طرطوس دخل الحصن ليتفقده فصادف أن وقف على بعض سقوفه المذهبة المحترقة ومعه جماعة من العمامصة (الأمراء القادة) والفرسان، فانخسف بهم وأصيب ريموند بجروح وحروق جعلته طريح الفراش مدة عشرة أيام مات بعدها داخل الحصن في الرابع من شهر جمادى الأولى سنة 498هـ/1105م. فحُمل إلى القدس ودُفن هناك. وقيل دفن داخل حصنه. ولم يبق من أبنائه الشرعيين سوى ألفونسوجوردان من زوجته الكونتيسة الفيرا. وبما أنه كان طفلاً صغيراً لم يمض على ولادته في الحصن إلا شهور قليلة، فقد اختار الفرنج وليم جوردان ابن خالة ريموند قائداً لهم، وهو المعروف في المصادر العربية بالسرداني، فأعاد بناء الحصن وترميم ما تهدم منه ومن الربض، وزاد عليه حتى أضحى قريباً من قلعة.
ثم شهد الحصن صراعاً بين وليم جوردان وبرتراند الابن الأكبر غير الشرعي لريموند، وكان وصل من تولوز بفرنسا في 60 مركباً مشحونة بالمقاتلة الفرنسيين والايطاليين من جنوا إلى مياه طرابلس، وانزل قوة من فرسانه إلى البر وقام بمحاصرة جوردان وهو في الحصن، ولكن هذا استطاع الإفلات وخرج إلى طرطوس، وتمكن برتراند من دخول الحصن والاستيلاء عليه وأصبح سيده دون منازع، ثم وصل بلدوين ملك بيت المقدس ومعه 500 فارس إلى الحصن وأعلن تحالفه مع برتراند، واحتاج الفرنج أن يبنوا الأرباض والمعسكرات والأسواق، وهي القياسر والخانات المغلقة لتستوعب نزول الجموع الكثيرة من الجند القادمين من أنحاء أوربة ومن الإمارات الصليبية في الشرق، حيث اجتمع عند طرابلس أربعة آلاف فارس بروفنسي وصلوا مع برتراند إلى جانب عدد غير معروف من الجنوية الذين أتوا معه في عشرين سفينة، إلى سفنه الأربعين، ويمكن تقدير جنوده بألفي رجل و500 فارس أتى بهم بلدوين من القدس، ومعهم جمع كبير من الرجالة و700 فارس من فرسان تانكرد قدموا من إمارة انطاكية، وغيرهم أتوا مع أمير الرُها، ومع أمير قلعة تل باشر، بالإضافة إلى حراسهما، واجتمعوا كلهم في الحصن وحوله، حتى أطلق على الحصن اسم "تلة الحجاج" على اعتبار أن الفرنج أتوا من أوروبة إلى الشرق بهدف الحج إلى الأماكن المقدسة في فلسطين. وهكذا نشأ على ضفة النهر الغربية في المحلة المعروفة الآن بتحت السباط، وباب الحديد، وفي الربض الواقع عند السفح الغربي للقلعة وهو المحلة المعروفة الآن بالمهاترة، وصولاً إلى محلة التربيعة، وبذلك نشأ الحي اللاتيني، وهو يؤيد قول "متى الرهاوي" من أن محيط الحصن صار مدينة مأهولة.
وما إن سقطت طرابلس بيد الفرنج آخر سنة 502هـ/ تموز 1109م حتى اتخذوا من الحصن شعاراً صكوه على وجه من نقودهم التي ضربوها في إمارة طرابلس اللاتينية.
وفي النصف الأول من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر الميلادي كتب الشريف الادريسي عن الحصن في كتابه العظيم الذي رسم فيه خارطة العالم في عصره وقدمه لـ"روجر" ملك جزيرة صقلية، وهو بعنوان "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" فقال: ..في جهة الجنوب حصن بناه ابن صنجيل الافرنجي، ومنه افتتح أطرابلس، وبينهما أربعة أميال، وهو حصن منيع جداً وهو بين واديين.
وقد اتخذ أمراء طرابلس الفرنج من الحصن مقر إقامتهم وسكناهم، وعنه تصدر الأوامر وإدارة شؤون الإمارة، وفيه دار ضرب النقود التي تحمل صوراً للحصن، ومن هنا انتشر اسمه إعلامياً، ونسي الناس حصن سفيان المؤسس الأول، فكان علينا واجب إحياء هذا الأمر وإعادة اسمه إلى ذاكرة أبناء هذه المدينة، وكتابة التاريخ ليست اجتراراً وإنما هي رسالة نأمل أن نؤديها بأمانة.
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:25 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الأساس والموقع (5)
غارات المسلمين على الحصن
في شهر رجب من سنة 531هـ/ آذار أو نيسان 1137م. قام أتابك العساكر بدمشق (القائد العام)، ويُدعى "شجاع الدولة ابن بزواج" بمهاجمة الحصن والاستيلاء على ما فيه، وقتل من فيه من المقدّمين والعساكر، وأسر بعضهم الآخر، ونصب كميناً في نواحي الكورة لأمير طرابلس "بونص" ووقع قتيلاً.
وانتقاماً من نصارى الكورة قام "ريموند الثاني" ولد "بونص" بهجوم شمل جميع قراهم، فقتل الأهالي الذين ارتاب في مساعدتهم المسلمين، وسبى نساءهم وأولادهم، وألقى بهم في الحصن رهن الاعتقال، بل وصلت حملته إلى بلدة بشري وحدث الجبّة، حيث تبين أن "شجاع الدولة" وجنوده انطلقوا من دمشق وتسلّقوا جبال الأرز وانحدروا إلى طرابلس وفاجأوا الفرنج، فأراد "ريموند الثاني" أن ينتقم من أهل الجرد الموارنة أيضاً، وأخذ منهم أسرى ومن بينهم طفل عمره عشر سنوات، كان أبوه من علماء النصارى، وأسلم أولاده الثلاثة، والطفل أصغرهم، فسيق إلى الحصن وسُجن فيه، فأسلم وهو في السجن، وبعد مدّة بيع رقيقاً في أسواق طرابلس، ثم سُبي منها واشتراه أحد شيوخ دمشق، فحفظ القرآن بجامع الحنابلة، فاشتراه عالم دمشقي وأعتقه، فسافر إلى همذان وتصدّر لإقراء القرآن هناك، ثم عاد إلى بغداد، ومنها إلى أصبهان ودرّس ووعظ وأفاد وأجاز وتخرّج على يديه كبار علماء عصره، وتوفي بأصبهان سنة 605هـ/ 1209م وهو "عبد الله بن أبي الحسن بن أبي الفرج الجُباني الطرابلسي الشامي"(1).
وفي سنة603هـ/ 1207م. قام الملك العادل شقيق الناصر صلاح الدين الأيوبي بمحاصرة الحصن، ونصب المجانيق ودكّت حجارتها أسوار الحصن، وتقدّم إليه وفتحه واستولى على جميع ما كان فيه، ومنه قام بمحاصرة طرابلس وأغار على القرى والبساتين، فقطع أشجارها، وهدم كل الأبنية في الحي اللاتيني أسفل الحصن، وكل ما هو بظاهر المدينة القديمة (المينا)، وقطع مياه العين التي تسقيها، وخرّب الطرق الموصلة إليها، ثم رحل عنها.
ونتيجة لما أصاب الحصن والربض من تدمير وتخريب، فقد قام الإفرنج بإعادة ما تهدّم، وترميم ما تشعّث، واحتفروا الخنادق حول أسوار المدينة نفسها، وكانوا يسخّرون جماعات من اليهود والاسرى المسلمين في أعمال الحفر والبناء. ويخبرنا الشاعر الفارسي المشهور "سعدي الشيرازي" أنه كان بين الأسرى وأجبره الفرنج على العمل إلى جانب اليهود في حفر خندق يحيط بالحصن، وذلك في النصف الأول من القرن السابع الهجري /الثالث عشر الميلادي. وقد ذكر ذلك في كتابه "جوبستان" (حديقة الورود).
وفي 14 من شهر شعبان 666هـ/ 1268م. خرج الملك الظاهر بيبرس من دمشق ووصل إلى طرابلس فأغار على المدينة نفسها يوم وصوله، وفي اليوم التالي اقتحم الحصن، وضرب أعناق جميع من كان فيه من الإفرنج، ثم عاد وحاصر المدينة عدة أيام، ورحل بعد أن خرّب الحصن وخرّب الربض من حوله، وقطّع الأشجار، وغوّر الأنهار، وهدم الكنائس التي بناها الفرنج على جانبي النهر، كما يذكر "المقريزي"، وخرّب القناطر الرومانية التي كانت في ناحية الجنوب الشرقي من الحصن، وهي بناء عظيم لم يُر مثله، حسب تعبير المؤرخ "ابن عبد الظاهر"، وعُرفت على عهد الفرج بـ"قناة" أو "قناطر البرنس".
وانكمش الفرنج بعد هذه الغارة الصاعقة والمدمّرة، فأخلوا كل الأراضي خارج أسوار المدينة، ولم يتجرأوا على العودة إلى الحصن وبنائه من جديد، فبقيت الأسواق اللاتينية التي أقاموها حوله خاوية على عروشها، ومهملة إلى أن تمّ تحرير طرابلس منهم.
وقد عمد الفرنج -بعد أن خسروا حصن صنجيل -إلى بناء برج دفاعي داخل المدينة (المينا)، ولهذا قام "بوهموند السادس" أمير طرابلس وأنطاكية بجمع الأموال من الأهالي، وبنى برجاً على ساحل البحر، وعثر على لوحة تؤرخ لبنائه كتبت باللاتينية، وهذا نص تعريبها:
"باسم الروح القدس، أنا بيموند (بوهمند)، بنعمة الله، أمير أنطاكية، وكونت طرابلس، أمرت بصنع هذا البرج من أموال مشيخة (رعية) أهل طرابلس (سنة) 1268 لتجسّد سيدنا المسيح".
ويظهر أن فرسان تنظيم المستشفى، وهو تنظيم عسكري عند الفرنج، هم الذين تولّوا حراسته والدفاع عنه، ولهذا نُسب إليهم فعرف ببرج الإسبتارية الجديد، كما سيأتي.
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:26 PM
قلعة طرابلس: حصن عربي الساس والموقع(6)
إن الذي يدعم قولنا من أن الفرنج أخلوا الربض الذي في سفح "حصن صنجيل" وأن الحصن نفسه بقي خرباً وخالياً من المدافعين عنه بعد غزوة "الظاهر بيبرس"، هو أن المنصور قلاوون حين جاء لمحاصرة المدينة لم يتعرض للحصن ولا للحي اللاتيني أسفل منه، بدليل عدم الإشارة إلى ذلك في جميع المصادر المعاصرة لفتح طرابلس وتحريرها من الفرنج. بل إن تلك المصادر أجمعت كلها على أن جنود المنصور وجّهوا قذائف المنجنيقات نحو المدينة الساحلية (المينا) والتي ليس عليها قتال في البر إلا من جهة الشرقي، وهو مقدار قليل حسب عبارة الملك المؤيد أبي الفداء صاحب حماة، وكان شاهد عيان، مشاركاً في الحصار، ودخل المدينة بنفسه بعد فتحها، وركب البحر وتنقل بين الجزر، وأن النقابين والحجارين والزراقين (الذين يشعلون النار وينفخونها بالمزاريق للإحراق) وكان عددهم ألفاً وخمس مائة رجل قاموا بنقب سور المدينة وفتح ثغرة في جداره، وكان عرضه بمقدار ما يسوق عليه ثلاثة فرسان بالخيل "حسب المؤرخ ابن أيبك الدواداري، وكان مشاركاً في القتال بنفسه. ونجحت القذائف المنهمرة من "قبة النصر" على المدينة في هدم برج الأسقف الواقع في الركن الجنوبي الشرقي من السور، وبرج الاسبتارية الجديد الذي بني قبل سنتين فقط، وهو يقع بين برج الاسقف والبحر مع السور الممتد بينهما.
أسندمر يحول الحصن إلى قلعة بقي حصن صنجيل مخرباً منذ هاجمه الملك الظاهر 666هـ/ 1367م. بإعادة بناء الحصن وزاد عليه أبراجاً وحوّله إلى "قلعة" حسب قول المقريزي، وكان شهاب الدين النويري قال قبله:"...فوّضت نيابة السلطنة إلى الأمير سيف الدين كرجي المنصوري فاستمر بها إلى سنة تسع وسبعمائة وعمّر بها حمّاماً عظيماً أجمع التجار ومن يجوب البلاد أنه ما عمّر مثله في بلد من البلدان، وعمّر أيضاً قيسارية (أي سوقاً مغلقاً) وطاحوناً وأنشأ مماليكه بها مساكن حسنة البناء تجري إليها المياه بالقنوات، ومنها ما تطلع إلى أعلاها وتجري في طبقاتها، وعمّر أيضاً بعض القلعة وأقام أبراجاً، وهذه مجاورة لدار السلطنة بطرابلس..". وكان من الطبيعي أن يبني المسلمون مسجداً داخل القلعة للصلاة، وكان لها قائد أعلى يعرف بأتابك العساكر، ويدخل تحت قيادته جميع قادة الأبراج الحربية على ساحل طرابلس. ولم يكن للقلعة نائب مستقل كما هو الحال بقلعتي دمشق وحلب، بل كان نائب السلطنة بطرابلس يجمع بين نائبي المدينة والقلعة معاً، ولهذا كان النائب يتخذ من القلعة مقراً له، وبها دار للسلطنة تعرف بـ"دار السعادة" وهي عالية تشرف على المدينة، ثم أقيمت "دار السعادة" بالقرب من القلعة. وكان يرابط داخل القلعة جنود يعرفون ببحرية القلعة، وهم من المماليك كانوا ينامون حول دهاليز دار السعادة لحراسة نائب السلطنة. وفي السنة التي تولّى فيها الأمير سيف الدين قماري بن عبد الله الناصري نيابة السلطنة بطرابلس سنة 746هـ/ 1345م. أصدر السلطان شعبان بن محمد بن قلاوون مرسوماً أمر فيه بمسامحة جميع جيوش دولة المماليك، والأمراء والمماليك السلطانية والجند بالحلقات (من الحرس السلطاني الخاص) والأصحاب (أي النظّار على ديوان السلطان الخاص) والأمراء والأتباع بما لعلّه يتعين للديوان السلطاني على كل شخص منهم من يبقيه خدمه أو تفاوت الدوران ما بين السنين الشمسية والقمرية. وقد نقش نص هذا الأمر فوق العقد الكبير للبرج المملوكي من القلعة. (يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:27 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الاساس والموقع (10)
يتبيّن لنا مما تقدم من حلقات ان القلعة كانت تُستخدم لعدة أغراض، منها مقر أمير طرابلس وقائد الجيش، وتُستخدم في بعض أنحائها مستودعاً ومخزناً للمواد الحساسة التي تساعد في صناعة الأسلحة، والى جانب هذا وذاك كانت تُتخذ سجناً للعُصاة والخارجين عن القانون، ففي سنة 1050هـ/1640م. أعتُقل المتكلم على جُبّة بشري "الشيخ أبو كرم الحدثي"، لامتناعه عن النزول الى والي طرابلس الجديد "محمد باشا الارناؤوط" ووُضع في سجن القلعة مدة، ثم قُتل بعد ذلك.
وفي سنة 1063 هـ/1653م. أُعتقل في القلعة "الشيخ أبو رزق الترتجي" وأولاده وأصحابه ومجموعهم (90) شخصاً.
ويذكر التاجر الفرنسي "تيفينو Thevenot " أثناء مروره بطرابلس سنة 1071هـ/ 1660م. ان حامية القلعة تُقدّر بمائتي رجل من المسلحين بأسلحة جيدة.
وتفيدنا وثيقة في سجلات المحكمة الشرعية ان الجنود في القلعة وفي الابراج الساحلية عند الميناء كانوا يلبسون الجوخ المسمى "النيم لُنْدرين" من كلمتين، الاولى تركية "النيم" ومعناها: "نصف" و لُنْدرين" الاسم التقليدي للأجواخ الإنكليزية المشهورة المصنوعة في لندن.
وكان قائد القلعة يلقّب في الكتابات الديوانية بـ "فخر الثقات والمستحفظين الدَّزْدار بقلعة طرابلس الشام"، وهو يقبض المبلغ السنوي المتوجَّب للجُند عن مهام الحراسة والمرابَطَة المعبَّر عنها بـ "اليَقْلَمَة" ثم يؤدي لهم رواتبهم. وحتى يُبرئ ذمته نحو جنوده وأنفاره كانوا يحضرون أمام الحاكم الشرعي ويشهدون أمامه بقبض جميع ما يتوجب لهم من يده.
وفي سنة 1096هـ/ 1684م. قام مشايخ بني حمادة بمهاجمة القلعة، وتمكنوا من إطلاق سراح جماعة لهم كانوا رهائن فيها، وعاد والي طرابلس "أرسلان باشا بن آحمد آغا المطرجي" فقبض في سنة 1110هـ/ 1698م. على جماعة منهم وحبسهم داخل القلعة.
"ارسلان باشا" هذا هو الجّد الأعلى لصديقنا الفاضل الأديب الاستاذ "المعتز بالله المطرجي" حفظه الله.
وفي سنة 1141هـ/1729م. جرى الكشف على القلعة بعد ان عمّ الخراب معظم نواحيها، بحيث تهدمت قطع كبيرة من أسوارها وأبراجها، وأقبيتها، وجامعها، وغُرف الحراسة والتحصينات، ومستودعات السلاح والذخائر، والنوافذ الحربية، وقُدرت تكاليف إعادة بناء ما تهدم منها وإصلاحه بمبلغ (396111) ثلاث مئة وستة وتسعين الفاً ومئة وأحد عشر قرشاً.
وقد شمل الكشف أيضاً أبراج طرابلس الحربية الستة التي على ساحل البحر، ووُضعت التقديرات اللازمة لإعادة بناء ما هدّم منها وترميمه.
وبعد سنتين من الكشف على القلعة وترميمها، صدر الأمر السلطاني بعزل "إبراهيم باشا العظم" عن ولاية طرابلس سنة 1143هـ/ 1731م. وفُرِضت عليه الإقامة الجبرية داخل القلعة لمحاسبته على الأموال التي جمعها خلال ولايته. فكان مجلس القضاء يعقد جلساته فيها بحضور أصحاب الحقوق، والشهود، واستمر التحقيق من ثمانية أشهر بحضرة "حمزة آغا" القبوجي باشي بالباب العالي و"علي آغا" دَزْدار القلعة.
يقول خادم علم الانساب فؤاد طرابلسي: خلافا لما ذكره الدكتور عمر تدمري اؤكد ان ارسلان باشا المطرجي ليس الجد الاعلى لال المطرجي بطرابلس و ان مشجرة نسب اعقاب الباشا المذكور موجودة في لاذقية العرب و هي مشجرة محكمية مضبوطة و مصادق عليها اتى بها الى طرابلس منذ فترة وجيزة الاستاذ نعيم المطرجي من اهالي اللاذقية و قدم نسخة منها للاستاذ معتز و هي لا تشتمل على اجداد ال المطرجي بطرابلس فلا يجوز شرعاً ان ننسب الاسرة الطرابلسية للباشا المذكور لعدم توفر الادلة الشرعية على ذلك فال المطرجي بطرابلس لا يملكون وثيقة او حجة او وقفية او مشجرة تثبت ذلك بل ان الوثائق المحكمية بطرابلس ترفع نسبهم بالتسلسل الى جد اعلى يدعى عمر المطرجي و هو معاصر للباشا المذكور مما يؤكد عدم انتسابهم اليه (اي الباشا)فنرجو من المعتنين بهذا الشأن ان يتنبهوا الى ذلك و السلام عليكم و رحمة الله.
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:29 PM
قلعة طرابلس حصن عربي الاساس والموقع(11)
في إحصائية أُجريت سنة 1144هـ/1731م. نعرف منها ان عدد الأنفار العاملين في القلعة - عدا قائدها "الدَّزْدار" - كان 58 رجلاً منهم: كاتب أوجاق، وجاوِش، وخَزْنَدار، وطُوبجية عددهم 7، ودامرجي، ونجار، وجرّاح، وحّممجي، وبلو كباشي، وقبوجي، وكتْخدا، وغيرهم. يضاف إليهم الموظفون في جامع القلعة، وهم 6 رجال: الإمام وهو الخطيب أيضا، ومؤذنان، ومبخّر، وفرّاش، وقندلجي.
وفي سنة 1152هـ/ 1739م جرت فتنة بطرابلس تزّعمها واحد من الأشقياء يُدعى "يوسف بن وهبه" وخرج على الدولة معلناً العصيان، وجرى القبض عليه وأودع سجن القلعة، ولكنه تمكّن من الفرار بعد مدة، ثم قُبض عليه وسُجن ثانية بعد خمس سنين 1157هـ/1744م.
وفي سنة 1163هـ/1750م. توفي الشيخ عبد القادر بن الشيخ عبد الرحمن إمام وخطيب جامع القلعة، فالتمس ولده الشيخ ابراهيم ان يُعيَّن مكان أبيه، وحصل على براءة إمامة وخطابة جامع القلعة من والي طرابلس "سعد الدين باشا العظم" عن طريق نائبه السيد مصطفى، على الراتب الذي كان يأخذه والده، وهو 6 أقجات يومية، و6 مكاكيك، (مفردها مكُّوك) حنطة، بواقع 4 أقجات يومياً، و3 مكاكيك حنطة سنوياً عن مهمة الإمامة، وأقجتان يومياً، و3 مكاكيك حنطة سنوياً عن الخطابة. وهذا الراتب يُصرف من خزينة الولاية، وليس من صندوق الأوقاف.
وفي سنة 1177هـ/1763م. جرت عملية فرار أخرى من سجن القلعة، واتُّهم قائدها آنذاك "يوسف آغا الدَّزْدار" بالتواطؤ مع الفارين وتسهيل هربهم. وبسبب خيانته صدر الأمر بعزله وتعيين قائد آخر مكانه يُدعى "سليمان آغا". ثم ما عَتمَ ان صدر أمر القائد العام لعسكر الإنكشارية بتعيين القائد العسكري العام السابق لمدينة القدس "أحمد آغا" قائداً للجند في قلعة طرابلس، واعتباراً من غُرّة شهر شعبان 1177هـ/1763م. الى إنتهاء 1764م. ثم أعيد "سليمان آغا" فتولى قيادة القلعة من جديد للسنوات 1179 و 1180 / 1181هـ، 1765/ 1767م.
وفي سنة 1185هـ/1771م. جرت فتنة عظيمة في طرابلس بعد أن وصل إليها واليها المعيّن "فتّاح باشا" قادماً من الموصل، وقد كلّفته الدولة بالمسير الى بلاد الشام لمحاربة "علي بك الكبير" صاحب مصر، وأنعم عليه السلطان بالوزارة وولاّه مدينة طرابلس إضافة للموصل، وأرسل له مئة الف قرش ليأخذ بها ذخائر للحجّ، ولكنه لم يكتف بذلك، فحين دخل طرابلس طلب من أهلها مئة كيس (الكيس = 500 قرش)، وطلب مثلها من القناصل الأجانب، ومثلها من مأمور الضرائب "الصاليانجي"، فرفض الاهالي الإستجابة لطلبه، وملكوا القلعة، وضربوه بالمدافع، وأخرجوه من البلد.
وقد استغل جماعة من الأشقياء تلك الفتنة لتحقيق مآربهم الشخصية، يتزعمهم شخص يُدعى "مصطفى القصاب"، وكان سابقاً رئيس طائفة القصّابين، ومعه شخص آخر يُدعى "بازبوز" وعجز "فتّاح باشا" عن التخلص منهم، وخرج من طرابلس، وتوّلى عليها "عبد الرحمن باشا" سنة 1186هـ/1772م. فاحتال على "مصطفى القصاب" وتخلص منه بقتله بعد ان استدرجه الى اللاذقية.
يقول خادم علم الانساب فؤاد طرابلسي: الشيخ عبدالقادر امام القلعة هو الشيخ عبدالقادر المغربي والد مفتي طرابلس الشيخ عبدالرحمن المغربي .
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:30 PM
قلعة طرابلس: حصن عربي الساس والموقع(12))
بعد مقتل "مصطفى القصاب"، جمع "بازبوز: شرذمة من أعوانه بهدف الانتقام لصاحبه واستولوا على القلعة وتحصنوا بها، وأرهبوا الناس، فنهبوا بيوتهم ومتاجرهم واستباحوها، ونشروا الخوف والرعب في أرجاء المدينة، ونصبوا المتاريس عند مداخلها ليمنعوا الباشا من دخولها، وراحوا يقذفون الحجارة من القلعة نحو عسكره المتقدم من الشمال نحو محلّة باب التبانة، فارتاع الأهالي لخطورة الأمر، واصبحوا بين شقّي الرحى، فاعتصموا في بيوتهم ثلاثة أيام لا يخرجون منها. حتى تمكن جماعة من أهل العلم والصلاح أن يخرجوا من المدينة سراً، واجتمعوا بالباشا، وعرضوا عليه الأمر الخطير الذي يعاني منه الأهالي، وطلبوا منه إنهاء الأمر، فاستجاب لرغبتهم ودخل المدينة بعسكره، ففرّ من العُصاة، وألقي القبض على "بازبوز" وبعض اعوانه، واستُرجعت القلعة من أيديهم، وصدرت الأوامر بتعقّب الفارين، واخذ الباشا من سكان كل محلة من محلات طرابلس تعهداً بعدم إيواء أحد من العصاة الأشقياء، ويُطلق عليهم "الزُرْب"، وإذا ثبت خلاف ذلك فإن كل محلة تتحمل مسؤولية هدر دم خمسة أنفار من سكانها، فضلاً عن دفع مبلغ 2500 قرش لصالح المطبخ السلطاني. وقد شمل هذا التعهد الجُند المرابطين في القلعة وقائدهم في تلك السنة "أحمد باشا".
وفي إحصاء سنة 1186هـ/ 1772م انخفض رجال القلعة إلى 43 نفراً بما فيهم الدزدار "أحمد آغا" ومؤذن الجامع بها.
وفي وثيقة كُتبت سنة 1208هـ/ 1793م كان في القلعة (12) إثنا عشر نفراً، يضاف اليهم: قائدها، وكاتب الأوجاق بها. ولكن هذا الرقم ليس هو الرقم الحقيقي، إذ نصّت الوثيقة المؤرخة في غرّة شهر ذي القعدة على أن هناك عشرين نفراً كانوا غائبين أثناء إجراء الإحصاء في بلاد الحجاز لتأدية فريضة الحج، وغيرهم من أنفار القلعة والأبراج الحربية التي على ساحل البحر، فضلاً عن بعض الأنفار العاجزين غير الذين جرى تعدادهم.
وكان تأمين الزاد والعلايف لجنود قلعة طرابلس مقرراً على مدينة حماة بموجب أمرٍ عالٍ من السلطان. أما الأنفار فكانوا يُعينون لقاء إقطاعات يمنحها السلطان، أو والي المدينة، او دزْدار القلعة. ويُعرف الإقطاع الممنوح بموجب براءة سلطانية بـ"تيمار بتذكرة" والممنوح من الوالي بـ"تيمار بدون تذكرة" والذي يعينه الدَّزْدار يعتبر تيماره "عَرَض" أي غير ثابت. وهم يتناولون مرتباتهم بـ"الأقجة" وهي الوحدة للعملة العثمانية.
***
ومع بداية ولاية "مصطفى آغا بربر" لطرابلس اعتباراً من سنة 1213هـ/ 1798م. يدخل تاريخ القلعة في مرحلة جديدة حافلة بالأحداث.
( يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:31 PM
قلعة في عهد مصطفى آغا بربر
يرتبط تاريخ القلعة بتاريخ حاكم طرابلس "مصطفى آغا بربر" اعتباراً من سنة 1213هـ/ 1798م. إذ في تلك السنة كان باشا طرابلس "عبد الله العظم" يُكثر من الظلم والإعتساف. ومتسلمه بها "ابراهيم آغا سلطان" قد ضاق الناس به ذرعاً، وتطلعوا إلى ابن مدينتهم -الذي كان نجمه أخذ يسطع في سماء الشجاعة والنجدة "مصطفى القرق" المعروف ببربر، وكان يومذاك قائداً لعسكر الانكشارية في بيروت، فاستنجدوا به ليرفع عنهم الظلم الواقع بهم، فلبّى نداء مدينته وجاءها بجماعة من أصحابه بموافقة من صديقه والي عكا "أحمد باشا الجزار" واتفق معهم على أن يستولي على القلعة، وبعدها تسقط طرابلس بيدهم.
ولما كانت أبواب القلعة تُقفل عند حلول المساء، فقد قرر أن يفتح أبوابها من الداخل عن طريق مكيدة، حيث أرسل واحداً من جنده هو "محمد آغا القوندقجي" ليبيت فيها مع الحامية في ليلة اتفقوا عليها، وعند حلول الظلام في تلك الليلة تقدّم "بربر" برجاله نحو القلعة وكمن بهم عندها، وفي الساعة المتفق عليها قام "القوندقجي" بتنفيذ مهمته، فربط حبلاً متيناً غليظاً بأحد المدافع الثقيلة ودلاّه من فوق السور إلى الخارج، فتسلقه "بربر" ورجاله، وقصدوا "دزدار" (قائد) القلعة فخنقوه وهو نائم، وخنقوا بقية الضباط والأنفار الذين بلغ عددهم ثلاثين رجلاً، ثم أمر "بربر" بإطلاق ثلاثين إطلاقة مدفع بعدد القتلى، وذلك بمثابة إعلام للأهالي، وترهيب لمن يفكر بالعصيان عليه.
وكانت العادة في ذلك الوقت أن تُطلق المدفعية عند إعدام كل مجرم أو شقي أو غيره. وأرسل "بربر" متسلّم المدينة "ابراهيم آغا سلطان" بالخروج فوراً من طرابلس، فانصاع للأمر خوفاً على حياته، وفرّ منها، وتسلّم المدينة "مصطفى آغا الدلبة"، وبقي "بربر" دزْداراً على القلعة إلى أن قُتل "مصطفى الدلبة"(1)، وتفرّد هو بحكم طرابلس والقلعة معاً سنة 1215هـ/ 1800م.
وفي السنة التالية بنى "بربر" مسجداً صغيراً داخل القلعة بين البرج الشمالي "العثماني" والبرج الكبير المماليكي، على يسار الداخل عبر ممر القلعة، ووضع فوق المحراب لوحة رخامية بيضاء طولها 76سم. وعرضها (عمودياً) 20 سم. وقد نُقش عليها بيتان من الشعر، يتوسطهما تاريخ سنة البناء، على النحو التالي:
ادخل مقاماً نيّراً ومسجداً محترماً
أحياه بعد درسه وبرَّ بِرّاً قد نما
سنة 1216
الشهْم أعني مصطفى آغا سليل الكُرَما
طوبى (كذا) له نال به أرْقت أجراً عُظما
ومن المؤسف أن يد الإفساد امتدت إلى هذه اللوحة وسرقتها حول منتصف سنة 1991، ولدينا صورة عنها.
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:33 PM
قلعة طرابلس 14
في سنة 1217هـ/1802 م صدر عن "ابراهيم كِتخدا التحريات الجهادية" وقائد الانكشارية الأعلى في الاستانة مرسوم مؤرخ في شهر ذي القعدة يطلب من "بربر" أن: "...تنهض إلى المحافظة على القلعة السلطانية كما يلزم، وأن تُحكم الضبط والربط وبالجند، تأخذ وتؤدّب العصاة، وتنظّم المحافظة على حدود البلاد، وتأمين راحة العباد...".
وبعد هذا المرسوم العسكري راح "بربر" يوقّع كتُبه بعبارة: "الفقير مصطفى بربر ينكجريان أغاسي ومتسلم طرابلس الشام حالاً".
ثم قام بترميم القلعة في صيف سنة 1218هـ/ 1803م بعد أن ورد إليه كتاب "أحمد باشا الجزار" يبلّغه فيه ان معلومات وصلته بأن الخراب لحق ببعض نواحيها، وعليه أن يتدارك الأمر ويقوم بعملية الترميم والتأهيل قبل أن يحلّ الشتاء فيتعذّر العمل أثناءه.
وحين قرر "بربر" السفر إلى عكا لمقابلة "الجزار" أصدر أمراً بتعيين "مصطفى آغا زهرة زاده" وكيلاً عنه وسلمه "حفظ وحراسة القلعة السلطانية، وتأديب الخوارج، والخروج من حقهم. وننهي إليكم أنتم جميعاً، بجمع الأنفار في نوبتهم، ومن الغروب إلى الصباح يدور القَبِقول لحفظ البلدة وحراستها وصيانة الرعايا من غير إغماض ولا إغفال. وتكونوا بأجمعكم يداً واحدة، وساعد ورأي واحد (كذا) في حفظ وحراسة القلعة السلطانية والبلدة من سائر الوجوه الى حضورنا بالسلامة. تعلموه والسلام".
اغتنم "عبد الله باشا العظم" والي دمشق فرصة غياب "بربر" وسفره إلى عكا، فقام بالغارة على طرابلس وحاصرها، وبلغ ذلك مسامع "بربر"، فعاد مسرعاً واستطاع أن ينفذ من الحصار ويدخل القلعة، وتحصّن بها، وأخذ يقاوم هجمات عبد الله باشا ويحاربه، مما جعل أهل طرابلس يخرجون منها هرباً بعد أن طالت الحرب وأضرّ بهم الحصار. وقد حاول "الجزار" أن يُنجد حليفه "بربر" مرتين عن طريق البحر، ولكن سوء الحظ رافق "بربر" في هذه الحرب، فلم تتمكن النجدة من تخفيف الحصار عليه، إذ استطاع "يوسف باشا الكنج" القائد لقوات "عبد الله باشا العظم" أن يُوقع بالعساكر الأرنؤوط التابعين لبربر مقتلة عظيمة، ولجأ الناجون إلى برج الميناء(1) فاحتموا فيه. وشدد "عبد الله باشا العظم" هجماته على القلعة حتى اضطر بربر أن يخرج منها هارباً إلى جهة غير معروفة.
وفي السنة 1219هـ/ 1804م صدر مرسوم جديد من القائد الأعلى للانكشارية في الأستانة بإعادة "بربر" محافظاً على القلعة. ثم توالت بعد ذلك المراسيم بتثبيت "بربر" محافظاً على القلعة وسائر شؤون إيالة طرابلس.
وفي سنة 1220هـ/ 1805م توفي أحد الشيوخ الصالحين ودُفن داخل القلعة، ونُقش على تربته ما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم. كل مَن عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. دُفن في هذا المكان وليّ الله تعالى الشيخ سليمان العريان، عليه الرحمة والرضوان، في غرّة شهر ربيع الاول سنة 1220"
(يتبع)
(1) برج الميناء يراد به برج رأس النهر الذي بناه السلطان قايتباي.
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:34 PM
رحّالة نمساوي في القلعة
زار الرحالة النمساوي "أولرخ يسبار سيتزن" طرابلس في سنة 1220هـ- 1805م. وترك وصفاً عن لقائه بربر داخل القلعة وكان يومذاك مهتماً بإعادة ترميم القلعة وبناء المسجد فيها، فقال: "بعث الحاكم يطلبني عن يد القنصل ليستشيرني في مسألة طبية، فسرّني أنه أتيحت لي واسطة للتعرف به. واسم هذا الحاكم مصطفى بربر، وهو من صنف الانكشارية. وقد كان قبلاً بستانياً لا أهمية له، وكان كثير من معارفي يعرفونه في حالته هذه، لكن خدمه الحظ، والحظ يخدم في هذه البلاد أكثر مما يخدم في أوربة، فارتفع إلى هذه المنزلة الممتازة، وصار منذ أربع سنوات حاكماً مستقلاً على بلاد مترامية الأطراف، وكانت الأوامر ترد من الباب العالي إلى بقية الباشاوات بوجوب مهاجمته، ولكن كل مساعيهم ذهبت هباءً منثوراً، وعادوا يتعثرون بأذيال الخيبة والفشل. وربما تبادر إلى الذهن أنه كان لديه قوة عسكرية هائلة، والحقيقة أنه لم يكن لديه أكثر من ستين رجلاً يلازمونه بصورة دائمة في القلعة. وقد زرته في أحد الأيام مصحوباً بأحد أبناء القنصل واثنين آخرين أوربيين، فوجدناه جالساً وعليه طربوش حلبي تحيط به عمامة تبنية اللون من نوع الشال، وعلى بدنه جبّة زرقاء من الحرير المقلّم، تحته سراويل (كذا) أزرق، وقدماه عاريتان. ونظرة واحدة اليه تكفي للدلالة على أنه رجل بلغ المنصب الذي هو فيه وأحرز لقب باشا بقوة ساعده وبطشه. وقد أظهر لنا أثناء الزيارة كل تلطّف وأمرنا بالجلوس حذاءه، ثم بالقهوة. وكانت مقابلتنا الأولى له أمام باب القلعة الخارجي فوجدنا محفوفاً برجاله كلهم، فلما رآنا هشّ وبشّ، مع ان كبار رجال الشرق جميعهم، لا سيما الحكام منهم يؤثرون العبوس على الابتسام لإلقاء المهابة في نفوس مُجالسيهم. وكان بربر يمرض في كليتيه، قاسى منه آلاماً مبرحة مدّة خمس عشرة سنة، فطلب مني أن أصف له علاجاً فوصفته له، ولكنه اعتقد أن وصفتي بسيطة، فطلب مني وصفة تحوي كثيراً من العقاقير، ففعلت حسب رغبته، وترجمت له هذه الوصفة بالفرنسية ثم بالعربية، وأشرت عليه تركيب الدواء إما في حلب وإما في دمشق، حيث يقيم طبيب فرنساوي. أما طرابلس فلم يكن بها أي طبيب قانوني، بل كان هناك مشعوذون ودجّالون. وقلت للحاكم: إذا عملت بموجب نصيحتي فإني أضمن لك أحسن نتيجة، على أني لا أدري إذا كان قد عمل بها واستفاد من العلاج. ثم استأذناه أن يسمح لنا بأن نشاهد (الجامع) الجديد فأذن، وقد ناداني وجهاً لوجه "يا كوكو يا فرنجي" بينما المسلم الذي تربى تربية راقية لا ينطق بمثل ذلك مواجهة. ولما وصلنا إلى الجامع دخلنا من الباب الكبير الذي كان مُلقى أمامه خمسة مدافع من الحديد وقد علاها الصدأ بسبب الإهمال. (يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:35 PM
تابع زيارة رحّالة نمساوي للقلعة
...أمام الجامع فإنه مع كونه صغير المساحة من الداخل، لكنه على جانب عظيم من الجمال، لا سيما أبوابه ومحرابه المزدانة بأشغال الفسيفساء. وكان في المحراب بين الفسيفساء قطعتا رخام معرّقتان بلون أخضر طبيعي وهما قديمتان جداً، تبتهج بمرآهما العين.
وكان على سطح القلعة ستة مدافع من الحديد والبرونز طولها فوق المعتاد، وهي منصوبة على دكّات، وكانت هذه المدافع نظيفة جداً. والحاكم ينام في خيمة مضروبة له على السطح الذي يشرف على ما حوله من البساتين والبلد والبحر. والقلعة نفسها مبنية على هضبة مرتفعة مشرفة على ما حولها. وكان عند بربر غزالان مدجّنان يتجولان في فناء القلعة بحرية تامة.
والحاكم المذكور مغرم بتشييد الأبنية، إلا أنه حين زيارتنا لم يكن قد أكمل العمل بالقلعة لأنه كان يبني فيها من جهة ويهدم من جهة أخرى، فكان الهدم والبناء فيها عملين مستمرين، وكان بربر قد سبق أن هدم سراية الباشا ونقل حجارتها إلى القلعة.
وكان بربر قبل زيارتنا بسنتين في عكا عند "الجزار" الذي كان عازماً على قطع رأسه لو لم يهرب ليلاً قبل الوقت المعين لذلك بساعات معدودة".
وحدث في سنة 1221هـ/ 1806م أن تولى على دمشق "يوسف باشا الكنج" الذي هزم قوات "الجزار" في ميناء طرابلس -كما مرّ- فأرسل إلى "بربر" ليمثُلَ أمامه في دمشق ويقدّم خضوعه بين يديه، فامتنع، وكان ذلك كافياً لأن يحقد "الكنج" عليه، واغتنم خصوم "بربر" الفرصة وعلى رأسهم "علي بك الأسعد المرعبي" وأبناء عمه من إقطاعيي عكار-وكانوا ينازعون بربر على حكم طرابلس- فحرّضوا والي دمشق الوزير "الكنج" على محاربته وإخراجه من المدينة. وفي المقابل خرج من طرابلس أحد أعيانها ويُدعى "المُلا اسماعيل" مع جماعة من أصحاب بربر لمقابلة "الكنج" والتوسط معه في الصلح، وعملوا على أن يُثنوا عزمه على مهاجمته "لأن قلعة مدينة طرابلس محصّنة للغاية، ومملوّة من الذخاير ما ينوف عن الكفاية، ومصونة بالأسوار العوالي، والمدافع الثقال، وتمليكها يُرى أنه نوع من المحال". فاقتنع "الكنج" بقولهم، واكتفى بطلب ثمانمائة كيس من المال لرفع الحصار.
ولكن بني المرعبي واصلوا تحريض "الكنج" ضد "بربر" فخرج معهم في أول شهر آب سنة 1222هـ/ 1808م، وحين وصل إلى بلدة المنية أرسل يطلب منه تسليم القلعة والخروج منها، على أن يبقى "متسلماً" على المدينة فقط.
وكان "بربر" يعرف أنه متى خرج من القلعة فلن تبقى المدينة بيده، ولذلك رفض عرض "الكنج" بقوله: وإنما القلعة لا يمكنّي أن أسلمها ولا أخرج منها لأن بها حافظ حياتي".
وتآمر "الكنج" مع اثنين من أنفار القلعة هما "أحمد آغا الحجّة" وأخوه -وكانا من أقرب الأصدقاء لبربر- ليقتلاه ويتسلما القلعة مكانه، وعندما أقترب من طرابلس طلب منهما أن يحزما أمرهما ويقتلاه...
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:37 PM
قلعة طرابلس حصن عربيّ الأساس والموقع 17
...أطْلع "أحمد آغا الحجّة" وأخوه صديقهما " مصطفى زهرة" المعروف بأبي ديّة على سّرهما، واتفق الثلاثة على الغدر بـ" بربر" وقبل أن يتسنى لهم تنفيذ مؤامراتهم وقع الشقاق بينهم وتنافروا، فأفشى "مصطفى زهرة" الأمر، فقام" بربر" بقتل الأخوين "الحّجة "وسجن "ابن زهرة" وأخرج جميع الأنفار الذين كانوا في القلعة من المسلمين، وأتى بجماعة من أهالي البرّ والفلّاحين النصارى وشحن بهم القلعة، ولهذا نجد حتى الآن في مواضع متفرّقة داخل القلعة نحو عشرة قبور للنصارى كُتب عليها بالخط الكرشوني أسماء أصحابها وتواريخ وفَيَاتهم. ثم استقدم "بربر" في البحر خمسمائة نفر من الأرنؤوط من مصر، وعيّن لهم الرواتب واسكنهم في المباني المجاورة للقلعة وخارجها، بعد أن أخلاها ساكنوها هرباً من سوء العاقبة والحرب التي ستحاصرهم من كل جانب.
تقدّم "الكنج" بعساكره لمهاجمة القلعة، فتصدى له الأرنؤوط من حولها ، وبعد موقعة عنيفة تمكن من قتل جماعة منهم واستسلم الباقون، واحاطت قواّته بالقلعة وشدد الحصار عليها ليل نهار، ولكنه لم يتمكّن من اقتحامها، واضطر أن يطلب المساعدة من والي صيدا " سليمان باشا العادل" فأرسل إليه جماعة من الخبراء في الالغام (لغمجّية) فعملوا له ألغاماً لفتح ثغرة في الأسواق فاصطدم أول لغم بالصخر الذي تقوم عليه القلعة، فذهب هباءً، ووقع اللغم الثاني في الماء فبطل عمله ،وفي أثناء التحضير لزرع اللغم الثالث، فتح "بربر" الماء فغمرته وعطّلته، وإزاء هذا الفشل الذريع ارتّّد اللّغامة إلى بلادهم خائبين، وبقيت القلعة صامدة . وعند ذلك عرض القنصل الفرنسي المقيم في طرابلس " غييس" guys على الوزير "الكنج" تقديم خبراء له بسلاح المدفعية لضرب أسوار القلعة، وتعهّد بهدمها في غضون وقت قصير وأتى بضابط فرنسي ، وأرسل الوزير فأحضر مدافع عظيمة من جزيرة أرواد، وبنى لها المتاريس، وحمل الرمال بيديه ليشجّع عسكره على العمل بسرعة ونشاط، وأقيم تلّ رمليّ عالٍ، وضع فوقه المدافع ، وابتدأ الضرب على القلعة، فلم يؤثّر في أسوارها.
وكان لدى "بربر" خبير بالمدفعية ، فأخذ يقصف بمدفعية القلعة على التلّة فهدم قسماً منها،.وعطّل أحد المدافع الكبار،.وعاد عسكر الوزير فأقاموا متاريس جديدة، وعاد الضرب المتبادل من الطرفين، وحاول عسكر الوزير أن يتقدّم نحو " باب السرّ" للقلعة تحت غطاء من قذائف المدفعية، ولكن المدافعين عن القلعة قذفوهم بالمدافع والبُندق(الرصاص) وقتلوا قائد العسكر " درويش علي" وعدداً موفوراً من رجاله.
وأمام فشل جميع المحاولات لاقتحام القلعة أشار "علي بك الأسعد المرعبي."على الوزير "الكنج" أن ينقل المدافع من البلد إلى محلّة "قبة النصر" العالية المشرفة على القلعة من الجهة الشمالية الشرقية، فنقلها وأقام هناك متاريس ضخمة، ولكنّ مدفعية القلعة تمكّنت من إصابتها إصابة مباشرة أدّت إلى مقتل اثنين من ضباط عسكر الوزير (يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:38 PM
قلعة طرابلس 17
شعر الوزير "الكنج" باليأس والندم معاً لطول الوقت الذي قضاه في الحصار والحرب دون طائل، وعاد باللائمة على "ابن الأسعد" الذي أغراه بهذه الحرب، فخشي "ابن الأسعد" أن يتحول غضب الوزير عليه، ولهذا أشار عليه أن يعود إلى دمشق ويكتب إلى الشيخ بشير جنبلاط زعيم جبل الدروز، يستمده ضد "بربر"، وأن يتولى هو هذه المهمة، ويتابع الحرب بدلاً منه.
وقبل أن يأتي جواب الشيخ الجنبلاطي بالاعتذار عن المشاركة في الحرب، كان الوزير قد نقل المدافع من "القبة" إلى "تل الرمل" الواقع بين القلعة والمينا (أي موقع التل العليا الآن)، وأطلق من هناك جملة من القذائف استطاعت أن تهدم ثلاثة أبراج خارجية من القلعة، فانتعشت آماله بقرب سقوطها بيده، ولكن المدة طالت أكثر مما كان يتوقع، ولم يجد بداً من العودة إلى دمشق، فعيّن علي بك الأسعد المرعبي متسلماً على طرابلس، وأمر العسكر بطاعته ومداومة الحرب. وقبل أن يتحرك لمبارحة المدينة، انهار سور القلعة، فثنى عزمه عن السفر ليشهد سقوط القلعة بنفسه، وينتقم من خصمه بيده، خاصة وأنه حصل على قرار من السلطنة بقتله.
وإزاء الخطر الذي أضحى محدقاً بـ"بربر" ورجاله، أرسل إلى "سليمان باشا العادل" ،وهو خليفة "أحمد باشا الجزار"، على عكا يطلب منه المساعدة على إنقاذه، فاستجاب لذلك، وأرسل أحد مساعديه على رأس مائتين من الخيّالة، فقام بالتفاوض مع الوزير "الكنج" على أن يوقف الحرب مقابل أن يُخلي "بربر" القلعة ويخرج من طرابلس سالماً بجماعته، ونجحت المفاوضات، وخرج "بربر" من القلعة بجميع أهل بيته وأعوانه، وكانوا نحو الألفين من الرجال والنساء، وحمل معه جميع أمواله بعد أن قبض ثمن جميع ما تركه في القلعة من آلات الحرب والأثاث وغيره، وركب البحر من ميناء طرابلس إلى صيدا، ومنها انتقل إلى عكا، فاستضافه "سليمان باشا العادل" عنده.
وتسلم الوزير "يوسف باشا الكنج" قلعة طرابلس بعد حصار دام عدة أشهر، قيل إنه استغرق خمسة أشهر كاملة، من أول شهر آب إلى آخر كانون الأول سنة 1808م. وقيل إنه امتد أحد عشر شهراً.
وجاء في تقرير بعث به قنصل فرنسا في طرابلس "هنري غيز" إلى حكومته أنه لم يعد عند "بربر" في القلعة سوى مدفعين قبل أن يخرج منها، وأن بيت القنصل نفسه كان يقع في محيط المنطقة التي كانت هدفاً لمدفعية القلعة، حيث كانت قوات الوزير "الكنج" ترابط. وقد أصابت إحدى الطلقات من مدفعية القلعة بيت القنصل الفرنسي وتسببت في جرح أحد الخدم جرحاً بليغاً.
وفي أثناء حصار القلعة وانتشار عساكر "يوسف باشا الكنج" في طرابلس ونواحيها تعرّضت بعض الأماكن للنهب والسرقة، وجاء عن ذلك إشارة موجزة في حاشية كُتبت على مخطوط "تفسير بشارة متّى الإنجيلي" نصّها: إن ابراهيم برباري ابن ميخائيل برباري الطرابلسي اشترى المخطوط المذكور "في الشقعة من نهبت طرابلوس من واحد عسكري حين كان الوزير يوسف باشا دخل إلى طرابلوس وحاصر القلعة على مصطفى آغا بربر، وكان مشتراه في 16 تشرين الثاني 1808 وردّه إلى محلّه عن روحه وروح والديه في الدير"، اي "دير البلمند".
(يتبع)
فؤاد طرابلسي
19-06-2010, 05:39 PM
قلعة طرابلس
لم يَطل غياب "بربر" عن طرابلس سوى أقل من سنتين، حيث غضبت الدولة على "يوسف باشا الكنج" فضعف بالتالي موقف "علي بك الأسعد المرعبي" متسلّم طرابلس، فقام "اسماعيل باشا العادل" بإعادة "بربر" متسلّماً لطرابلس سنة 1225هـ/ 1810م. ولكنه لم يسلّمه القلعة معها "لأنه كان قد حدث شغب بسببها" كما يقول "الشدياق" في تاريخه.
وحدث في السنة التالية 1226هـ/ 1811م. ان انتصر "بربر" على طائفة النُصَيريّة الخارجين على الدولة العثمانية في بلاد المَرْقب بنواحي جَبَلة، فأجرى "سليمان باشا" تعديلاً على ولايته، فضم اللاذقية وما يتبعها من البلاد إلى طرابلس، وأعاد القلعة إلى "بربر". وفي المقابل سلخ عن ولايته كلاً من بلاد جبيل وعكار، فألحقهما بولاية صيدا. وما إن استعاد "بربر" سلطته على القلعة حتى اهتمّ بإعادة عمارتها وترميمها وشحنها بالأسلحة والذخائر، وصرف على ذلك من ماله الخاص، ولما لم يكفِه ذلك اقترض من أهل طرابلس ما لزمه لإتمام عمله، ثم وفى ما عليه من الديون لأصحابها.
وتفيدنا إحدى الوثائق أن المهندس المعماري الذي تولّى عمارة القلعة يدعى "حسن آغا ابن أحمد" بموجب براءة سلطانية، وقد مُنح تيمار (أي إقطاع) قرية دير طمرة في الكورة من أعمال طرابلس، لقاء عمله. وهذا نص الأمر:
بيُورَلْدي
افتخار الأماجد والأعيان متسلّمنا في طرابلس واللاذقية حللاً بربر زاده السيد مصطفى آغا زيد مجدُه.
غبّ التحية والتسليم بمزيد الاعزاز والتكريم والسؤال عن خاطركم المنهي اليكم بخصوص رافع مرسومنا هذا قدوة الأماثل والأقران حسن آغا ابن احمد زيد قدرُه بيده براءة سلطانية أنه معمار إلى قلعة طرابلس ويتصرف في تيمار قرية دير طمرة الكاين بناحية الكورة من أعمال طرابلس ولا أحد يُداخله بوجه من الوجوه ولا سبب من الأسباب ولا جنساً من الأجناس ولا نوعاً من الأنواع ولا شخصاً من الأشخاص لا يكون له مزاحم بهذا التيمار. فاقتضى الآن على مقتضى البراءة الشريفة المخلّدة بيده مصدرين لكم مرسومنا هذا لكي تعلموا أن المذكور معمار قلعة طرابلس ويكون متصرف بمحصول التيمار المذكور ولا يعارضه به معارض بوجه من الوجوه. وبعد إطلاعكم على مرسومنا هذا سجّلوه بالسجل المحفوظ وترجعوه له ليكون محفوظاً عنده لمحل الحاجة اليه هذا ما لزم إخباركم. والسلام في 13 محرم 1233
الحاج سليمان باشا العادلي
والي صيدا وطرابلس حالاً
وتقدم لنا وثيقة أخرى مؤرخة في أوائل سنة 1233هـ/ 1816م معلومات قيمة عن عدد المدافع الموجودة آنذاك في القلعة وأنواعها، وغير ذلك من الذخائر، وعن أبراج القلعة وأماكنها وأسمائها، وتوزيع المَدافع عليها، وعددها 63 مدفعاً بقذائف مختلفة الأوزان. والأهم هو أسماء الأبراج: برج الآخور، برج رجال الأربعين، برج رجال الساطورة، برج ضهر الجامع، برج الجديد، برج الناصر، برج فوق البوابة، برج القشلي، ضهرالزنديان؟
(يتبع)
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir