أبو محمد القلموني
06-10-2010, 07:29 PM
الحمد لله الذي لا طاعة لغيره و لا انقياد إلا لأمره و نهيه و الصلاة و السلام على من لا نبي من بعده وعلى آله و صحبه. و بعد:
المسألة التي نحن بصدد دراستها هنا هي كيف نتصور العمل التنظيمي أولا و كيف نحكم عليه بالنصوص ثانيا.
فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإذا كان تصوره ملتبسا جاء الحكم عليه ملتبسا و إن كان خاطئا ففي الأعلم الأغلب سيأتي الحكم عليه خاطئا كذلك.
فلأن قوما تصوروا أن العمل التنظيمي هو بحد ذاته أمر تعبدي محض يجب أن نتلقى بشأن إنشائه أمرا إلهيا واضحا و صريحا ، قالوا أنه يحتاج إلى دليل . ثم لما نظروا في أدلة بعض من يقول بوجوبه ، رأوها ضعيفة فأداهم هذا إلى عده بدعة .
ورأى قوم أن أساس حركتهم هو العمل التنظيمي فقالوا بوجوبه لوجوب حركتهم و تعينها شرعا في نظرهم.
ولكن ما هو العمل التنظيمي؟ و ما هو الذي لا يتوقف إنشاؤه على نصوص الشريعة و إن كانت تبقى حاكمة عليه؟ وما الفارق الدقيق بين كون الشيء ناشئا لا عن نص شرعي و بين ما لا يجوز إنشاؤه إلا بنص؟!
هذه الاسئلة و غيرها مما يتعلق بها يمكن الإجابة عليها من وجهة نظرنا إذا أحكمنا تصور العمل التنظيمي.
و الآن نشرع في المقصود فنقول بعون الله و توفيقه:
العمل التنظيمي هو اجتماع مجموعة من الأفراد و تعاونهم لتنظيم الخطوات التي يمكن تحقيق الهدف المشترك عبرها.
فالمنطلق الواقعي العملي للعمل التنظيمي هو وجود أفراد من البشر يجمهم هم تحقيق هدف ما يؤمنون به. فلو اتفق أن تشارك عدد من الأفراد في محلة ، على ضرورة حفر بئر رأوا جميعا بأدلتهم الخاصة أنها موجودة في بقعة معينة. فإن السلوك الطبيعي الذي سيحكم حركتهم هو اجتماعهم و تعاونهم على تحقيق هذا الهدف. فيكلف أحدهم بمتابعة استصدار الإذن من الجهات المعنية و الآخر يبحث عن مقاول و فيهم من قد يكلف بحراسة المكان و الخ ...
فما هي حقيقة هذا السلوك في ما بينهم؟
إنه في الحقيقة مبني على تعارفهم الواعي الذي يقتضي تنظيم و توزيع الأدوار في ما بينهم كل بحسب ما عنده من قوة و طاقة و خبرة و معرفة. ولذلك قال تعالى ( و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ) أي تنوعكم هو الدافع للتعارف. لأنه لو كانوا على نوع واحد امتنع عليهم التعارف. فالتعارف في المنظومة الإنسانية يدفع عليه فقر الإنسان في جانب ، فيطلب استكماله عند من يملكه. فتنوع فقر الناس على مستوى التفاصيل دافع لهم ليتعارفوا فينتفع بعضهم ببعض.
وهو مبني كذلك على تشاركهم الإيمان بذات الهدف.
فهاهنا أمران : الهدف المشترك ، و التعارف الحكيم الذي يقتضي تنظيم الخطوات إلى الهدف بحسب التنوع الذي يتباينون به.
ولذلك قال تعالى عقبها : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) أي فليكن هذا هو هدفكم حين تتعارفون. فحينها يبنى تعاونكم لتحقيق التقوى على تعارف لا على تجاهل فيزهر و يثمر بمشيئة الله تعالى. فالآية يمكن الإستدلال منها على القاعدة التي نقررها ، لأن المنطق القرآني في الآية يبني و يؤسس عليها.
و هذه القدرة على التعارف إنما هي أحد أوجه التسخير الذي كرم به الإنسان في مثل قوله تعالى: ( و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض )
فثبات السنن الكونية و انفعالها المنضبط المطرد للإنسان ، و قدرته على فهمها و تناغم طاقاته و قدراته معها ، و قدرته على تبين مواقع أفراد جنسه و مستوى انتفاعهم من هذه السنن . كل هذا هو محض فضل الله على الإنسان و محض تكريمه سبحانه له.
فإذا عرفنا هذا ظهر به أن العمل التنظيمي بالتعريف المتقدم هو بداهة ضرورة بشرية و مقتضى واضحا من مقتضيات الإستخلاف الإلهي للإنسان في هذه الأرض.
والشريعة إنما تحكم عليه من خلال الهدف الذي يجمع أفراده أولا و من خلال الخطوات التي ينفذونها ثانيا و كذلك من خلال تعاملهم مع بعضهم البعض.
فإذا كان في الهدف ما يغضب الله فإن الحكم الشرعي لن يكون إلا التحريم.
وإذا كانت الخطوات المعمول بها مما حرمه الله فتحرم هي لا أصل العمل التنظيمي الذي هو التعاون المبني على تعارف يهدف لتحقيق مشترك من الغايات.كأن يكون في هذه الخطوات تفرقة لأهل الهدف الواحد و الرؤية المشتركة. فإن هذا قد وردت النصوص بتحريمه في ما نعلم.
و إذا كان التعامل في ما بينهم يتعارض مع التصورات الدقيقة التي جاء التوحيد بها ، كأن يربب من في القيادة نفسه و يقبل ربوبيته البقية . فيحرم و يجرم بسببه هذا التعامل المنحرف دون غيره.
فأما إذا قيل :
فهذا قبل أن يرد النص و يأتي الرسول و تظهر دلالة الكتاب. فاليوم عندنا من الله برهان لا نعدل به غيره و لا نروم عنه إلى سواه. فهذه صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يبيعون و يشترون في سوق ذي المجاز ، فلما دخلوا في الإسلام تأثموا. و البيع و الشراء ينطبق عليه الوصف الذي أطلقته على العمل التنظيمي!
فنقول:
ظاهر هذا الكلام حق و باطنه قبح يتفطنه من دقق فيه. فإن هذا يعني تعارض الشريعة المنزلة مع طبيعة الوجود البشري كما فطره الله و ملابسات معيشته و تعلقه بما حوله! و البيع و الشراء هما ضرورة فطرية لا يتوقف إنشاؤها على تحريض النص عليها. و إنما النص حاكم عليها منظم لها. و ليس في سؤال الصحابة ما يعارض كلامنا هذا بل يوافقه أتم موافقة. فبين غير خاف أنهم سألوه عن سوق معينة في وقت معين لا عن أصل البيع و الشراء ! قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يدخلوا في حجهم التجارة حتى نزلت . أي قوله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ).
فإن قال قائل :
بل نحتاج في إنشائه إلى نص. فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) دال على افتقارنا إلى النص على مستوى الإنشاء كذلك.
فنقول:
بل هذا فهم سقيم للحديث. لأن الحديث لا يتحدث عن ضرورة إنشاء التنظيم و إنما يدلك على ما يعززه و يقويه. فمن البديهي أنه إذا اجتمع ثلاثة نفر في سفر واحد مشترك ، أنهم يتعاونون لتنظيم شؤونهم . كما فعل الفتية أصحاب الكهف مثلا. فهذا الحديث جاء بفائدة منظمة لا منشئة و أعني بها فائدة التأمير. و الله تعالى أعلم و أحكم.
وقال بعضهم:
بل العمل التنظيمي بحد ذاته مفرق للأمة مولد للعصبيات المقيتة و هذا ما يراه كل ذي عينين يبصر بهما لا بهواه.
ونقول:
أما العصبيات فهي مذمومة مطلقا لأن مبناها على الهوى و الميل القلبي ، و ليس على الدليل و البرهان و مقتضى تحريك السمع و البصر و الفؤاد. بل في بعض المحازبين من يسخر ممن يتجرأ فيعمل عقله ناقدا و محاكما! ومثل هؤلاء وبال على تنظيماتهم و شرهم أعظم من العدو المتربص لو يتفطن عقلاؤهم إليه!
ولكن ما لهذا و ما نتحدث فيه ؟! ألا ترى أن الروابط الفطرية المحضة التي تنتظم العلاقات الاسرية و العائلية قد يصيب افرادها مثل هذا الداء؟! فهل يؤثر مثل هذا على أصل هذه التجمعات الفطرية ؟! و هل يقدر أحد في الدنيا أن يذمها لأنه قد يحتمل تطرق العصبيات إليها؟!
يتبع إن شاء الله و لكن نفسح المجال للنقاش و التعليق. علما أنني قد أتأخر بالإجابة على بعض ما قد يرد من تساؤلات و مداخلات لأنني على سفر.
المسألة التي نحن بصدد دراستها هنا هي كيف نتصور العمل التنظيمي أولا و كيف نحكم عليه بالنصوص ثانيا.
فالحكم على الشيء فرع عن تصوره. فإذا كان تصوره ملتبسا جاء الحكم عليه ملتبسا و إن كان خاطئا ففي الأعلم الأغلب سيأتي الحكم عليه خاطئا كذلك.
فلأن قوما تصوروا أن العمل التنظيمي هو بحد ذاته أمر تعبدي محض يجب أن نتلقى بشأن إنشائه أمرا إلهيا واضحا و صريحا ، قالوا أنه يحتاج إلى دليل . ثم لما نظروا في أدلة بعض من يقول بوجوبه ، رأوها ضعيفة فأداهم هذا إلى عده بدعة .
ورأى قوم أن أساس حركتهم هو العمل التنظيمي فقالوا بوجوبه لوجوب حركتهم و تعينها شرعا في نظرهم.
ولكن ما هو العمل التنظيمي؟ و ما هو الذي لا يتوقف إنشاؤه على نصوص الشريعة و إن كانت تبقى حاكمة عليه؟ وما الفارق الدقيق بين كون الشيء ناشئا لا عن نص شرعي و بين ما لا يجوز إنشاؤه إلا بنص؟!
هذه الاسئلة و غيرها مما يتعلق بها يمكن الإجابة عليها من وجهة نظرنا إذا أحكمنا تصور العمل التنظيمي.
و الآن نشرع في المقصود فنقول بعون الله و توفيقه:
العمل التنظيمي هو اجتماع مجموعة من الأفراد و تعاونهم لتنظيم الخطوات التي يمكن تحقيق الهدف المشترك عبرها.
فالمنطلق الواقعي العملي للعمل التنظيمي هو وجود أفراد من البشر يجمهم هم تحقيق هدف ما يؤمنون به. فلو اتفق أن تشارك عدد من الأفراد في محلة ، على ضرورة حفر بئر رأوا جميعا بأدلتهم الخاصة أنها موجودة في بقعة معينة. فإن السلوك الطبيعي الذي سيحكم حركتهم هو اجتماعهم و تعاونهم على تحقيق هذا الهدف. فيكلف أحدهم بمتابعة استصدار الإذن من الجهات المعنية و الآخر يبحث عن مقاول و فيهم من قد يكلف بحراسة المكان و الخ ...
فما هي حقيقة هذا السلوك في ما بينهم؟
إنه في الحقيقة مبني على تعارفهم الواعي الذي يقتضي تنظيم و توزيع الأدوار في ما بينهم كل بحسب ما عنده من قوة و طاقة و خبرة و معرفة. ولذلك قال تعالى ( و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا ) أي تنوعكم هو الدافع للتعارف. لأنه لو كانوا على نوع واحد امتنع عليهم التعارف. فالتعارف في المنظومة الإنسانية يدفع عليه فقر الإنسان في جانب ، فيطلب استكماله عند من يملكه. فتنوع فقر الناس على مستوى التفاصيل دافع لهم ليتعارفوا فينتفع بعضهم ببعض.
وهو مبني كذلك على تشاركهم الإيمان بذات الهدف.
فهاهنا أمران : الهدف المشترك ، و التعارف الحكيم الذي يقتضي تنظيم الخطوات إلى الهدف بحسب التنوع الذي يتباينون به.
ولذلك قال تعالى عقبها : ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) أي فليكن هذا هو هدفكم حين تتعارفون. فحينها يبنى تعاونكم لتحقيق التقوى على تعارف لا على تجاهل فيزهر و يثمر بمشيئة الله تعالى. فالآية يمكن الإستدلال منها على القاعدة التي نقررها ، لأن المنطق القرآني في الآية يبني و يؤسس عليها.
و هذه القدرة على التعارف إنما هي أحد أوجه التسخير الذي كرم به الإنسان في مثل قوله تعالى: ( و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض )
فثبات السنن الكونية و انفعالها المنضبط المطرد للإنسان ، و قدرته على فهمها و تناغم طاقاته و قدراته معها ، و قدرته على تبين مواقع أفراد جنسه و مستوى انتفاعهم من هذه السنن . كل هذا هو محض فضل الله على الإنسان و محض تكريمه سبحانه له.
فإذا عرفنا هذا ظهر به أن العمل التنظيمي بالتعريف المتقدم هو بداهة ضرورة بشرية و مقتضى واضحا من مقتضيات الإستخلاف الإلهي للإنسان في هذه الأرض.
والشريعة إنما تحكم عليه من خلال الهدف الذي يجمع أفراده أولا و من خلال الخطوات التي ينفذونها ثانيا و كذلك من خلال تعاملهم مع بعضهم البعض.
فإذا كان في الهدف ما يغضب الله فإن الحكم الشرعي لن يكون إلا التحريم.
وإذا كانت الخطوات المعمول بها مما حرمه الله فتحرم هي لا أصل العمل التنظيمي الذي هو التعاون المبني على تعارف يهدف لتحقيق مشترك من الغايات.كأن يكون في هذه الخطوات تفرقة لأهل الهدف الواحد و الرؤية المشتركة. فإن هذا قد وردت النصوص بتحريمه في ما نعلم.
و إذا كان التعامل في ما بينهم يتعارض مع التصورات الدقيقة التي جاء التوحيد بها ، كأن يربب من في القيادة نفسه و يقبل ربوبيته البقية . فيحرم و يجرم بسببه هذا التعامل المنحرف دون غيره.
فأما إذا قيل :
فهذا قبل أن يرد النص و يأتي الرسول و تظهر دلالة الكتاب. فاليوم عندنا من الله برهان لا نعدل به غيره و لا نروم عنه إلى سواه. فهذه صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم كان يبيعون و يشترون في سوق ذي المجاز ، فلما دخلوا في الإسلام تأثموا. و البيع و الشراء ينطبق عليه الوصف الذي أطلقته على العمل التنظيمي!
فنقول:
ظاهر هذا الكلام حق و باطنه قبح يتفطنه من دقق فيه. فإن هذا يعني تعارض الشريعة المنزلة مع طبيعة الوجود البشري كما فطره الله و ملابسات معيشته و تعلقه بما حوله! و البيع و الشراء هما ضرورة فطرية لا يتوقف إنشاؤها على تحريض النص عليها. و إنما النص حاكم عليها منظم لها. و ليس في سؤال الصحابة ما يعارض كلامنا هذا بل يوافقه أتم موافقة. فبين غير خاف أنهم سألوه عن سوق معينة في وقت معين لا عن أصل البيع و الشراء ! قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يدخلوا في حجهم التجارة حتى نزلت . أي قوله تعالى ( ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ).
فإن قال قائل :
بل نحتاج في إنشائه إلى نص. فهذا حديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : ( إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم ) دال على افتقارنا إلى النص على مستوى الإنشاء كذلك.
فنقول:
بل هذا فهم سقيم للحديث. لأن الحديث لا يتحدث عن ضرورة إنشاء التنظيم و إنما يدلك على ما يعززه و يقويه. فمن البديهي أنه إذا اجتمع ثلاثة نفر في سفر واحد مشترك ، أنهم يتعاونون لتنظيم شؤونهم . كما فعل الفتية أصحاب الكهف مثلا. فهذا الحديث جاء بفائدة منظمة لا منشئة و أعني بها فائدة التأمير. و الله تعالى أعلم و أحكم.
وقال بعضهم:
بل العمل التنظيمي بحد ذاته مفرق للأمة مولد للعصبيات المقيتة و هذا ما يراه كل ذي عينين يبصر بهما لا بهواه.
ونقول:
أما العصبيات فهي مذمومة مطلقا لأن مبناها على الهوى و الميل القلبي ، و ليس على الدليل و البرهان و مقتضى تحريك السمع و البصر و الفؤاد. بل في بعض المحازبين من يسخر ممن يتجرأ فيعمل عقله ناقدا و محاكما! ومثل هؤلاء وبال على تنظيماتهم و شرهم أعظم من العدو المتربص لو يتفطن عقلاؤهم إليه!
ولكن ما لهذا و ما نتحدث فيه ؟! ألا ترى أن الروابط الفطرية المحضة التي تنتظم العلاقات الاسرية و العائلية قد يصيب افرادها مثل هذا الداء؟! فهل يؤثر مثل هذا على أصل هذه التجمعات الفطرية ؟! و هل يقدر أحد في الدنيا أن يذمها لأنه قد يحتمل تطرق العصبيات إليها؟!
يتبع إن شاء الله و لكن نفسح المجال للنقاش و التعليق. علما أنني قد أتأخر بالإجابة على بعض ما قد يرد من تساؤلات و مداخلات لأنني على سفر.