أبو عربي
29-11-2010, 02:49 AM
السلام عليكم
من كثرة ما تكلم الدعاة عن التّقيّه عند الشيعة الروافض ، ظن البعض أن هذا الأمر لا يجوز بحال أو أنه غير موجود في دين الله.
فقمت لكم بهذا النقل .....
من كتاب "مُصْطَلَحَاتٌ ومَفَاهِيمٌ شَرْعِيَّةٌ عَلاهَا غُبَارُ تَأوِيلاتِ وَتَحْرِيفَاتِ المُبْطِلِين" للطرطوسي.
التَّقيَّةُ وفِقْهُ الاستِضعَافِ:
التقية ـ بضوابطها وشروطها الشرعية ـ حق .. وكذلك لمرحلة الاستضعاف فقهها وأحكامها المختلفة عن فقه وأحكام مرحلة القوة والتمكين .. لكن مفهوم التقية والاستضعاف ـ كغيره من المفاهيم والمصطلحات الشرعية ـ قد طالته أيادي التحريف والتشويه والتأويل من قبل أهل الأهواء، ومرضى القلوب .. ففريق توسع في فهم وشرح وممارسة التقية ـ من غير ضوابط ولا قيود ـ حتى وقعوا وأوقعوا غيرهم في النفاق؛ فأدخلوا في التقية من المعاني والأفهام السقيمة والممارسات الخاطئة ما هو الصق بالنفاق منه إلى التقية الشرعية!
فكان لذلك النهج أسوأ الأثر على الأمة وأبنائها؛ فلا الأمة قامت برسالتها ووظيفتها الموكولة بها كما ينبغي .. ولا الشعوب تكاد تنكر على الطواغيت الظالمين طغيانهم وظلمهم .. وكفرهم .. أو ينتصفون منهم لحقوقهم وحرماتهم المهدورة .. حتى أن كثيراً ممن يُصنّفون على أنهم من الدعاة والشيوخ .. نراهم قد داهنوا .. وركنوا إلى الظالمين .. ودخلوا في موالاة من يجب البراء منه .. وكتموا كثيراً من الحق مما يجب عليهم أن يصدعوا به .. فساد بسبب ذلك الجهل والظلم والخوف والفقر .. حتى أصبح واقعاً مفروضاً على الناس لا فكاك لهم منه .. مواجهته ومحاولة تصحيحه .. ضرب من الجنون والتهور .. والتهلكة .. ويتم ذلك كله تحت مسمى " التقية "، وفقه الاستضعاف كما يزعمون!
وفريق آخر مقابل .. كردة فعل على الفريق الأول ـ الآنف الذكر أعلاه ـ أراد أن يلغي استثناء التقية، وفقه الاستضعاف من الشريعة، وواقع الناس .. فضيقوا واسعاً .. وتشددوا على أنفسهم وعلى الناس فيما لا ينبغي ولا يجوز .. فوقعوا في الغلو والإفراط من حيث يدرون أو لا يدرون .. وأساؤوا الظنَّ والحكمَ على كل من يَترخَّص لنفسه برخصة التقيّة في ظروف الاستضعاف والإكراه!
فالمسألة ـ كغيرها من المسائل ـ بين إفراط وتفريط .. وغلو وجفاء .. مما حملنا على أن نعني هذا المفهوم اهتمامنا ودراستنا فنميط عنه ـ بإذن الله ـ غلو الغالي، وجفاء الجفاة من أهل التفريط والإرجاء، والله تعالى وليُّ التوفيق، فأقول:
التقيّة لغة: الخوف الذي يحمل على الحذَر، والاحتماء، والاتّقاء.
وهي اصطلاحاً تعني: إظهار الموالاة والمداراة للمشركين والظالمين باللسان لخوف محقق منهم على النفس، والعِرض، والمال، بالقَدْرِ الذي يدفع الضرر، مع إضمار العداوة والبغضاء لهم في القلب
.
والتقية تقوم على ركنين: الاستضعاف، والخوف من ضررٍ محقق في حال لم يُؤخذ بالتقية .. إن انتفى واحد منهما انتفت التقية بانتفائه .. كما ينتفي العمل برخصة التقية؛ أي أن التقية لا تُذكَر ولا يُلجأ إليها مع القوة .. ووجود الشوكة والمنعة .. ولا مع وجود وتوفر دار وأجواء الأمن والأمان.
قال تعالى:{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }آل عمران:28.
قوله تعالى:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } استثناء من النهي؛ أي لا توالوهم ولا يجوز لكم أن تُوالوهم إلا أن تكونوا في سلطانهم، ولا تستطيعون الهجرة أو الخروج من سلطانهم، فخفتم على أنفسكم وحرماتكم منهم خوفاً محققاً أو راجحاً، وكان هذا الخوف لا يندفع إلا بعد أن تُظهروا لهم نوع موالاة في اللسان .. فحينئذٍ يجوز لكم أن توالوهم باللسان بالقدر الذي يدفع عنكم الضرر من غير زيادة ولا نقصان، بشرطين: على أن لا تُعينوهم على المسلمين .. وأن تُضمروا لهم العداوة في القلب .. وهذا ما قال به أهل العلم والتفسير:
قال ابن جرير الطبري في التفسير 3/227:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل.
وعن السدي قال: إلا أن يتقي تقاةً؛ فهو يُظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءة من المؤمنين.
وعن ابن عباس قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وعنه قال: فالتقية باللسان؛ من حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان.
وعن عكرمة في قوله:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } قال:ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحل ماله ا- هـ.
وقال ابن كثير في التفسير:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم.
وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع ابن أنس. وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير: وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }غافر:28.
فهذا الرجل المؤمن للاستضعاف والخوف كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه .. علماً أنه كان من قومِ فرعون " الأقباط "، ومن المقربين إليه وإلى قصره .. وقيل أنه كان من أقربائه .. يعيش مع فرعون وطغيانه بالتقية .. لكن لما هم الطاغية بقتل موسى -عليه السلام- .. وأراد أن يقتله .. :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }غافر:26. هنا أخذت هذا الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه غضبة لله .. وآثر أن يصدع بالحق .. وإن عُرِف إيمانه .. وتعرض بسبب ذلك للأذى أو القتل .. ليقينه أن حياة موسى -عليه السلام- أهم من حياته .. وهي تستحق منه التضحية والفداء .. فقال صارخاً بوجه الطاغية:{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }؟!
وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفْسَهُ "، قالوا: وكيف يُذلُّ نفْسَه؟ قال:" يَتعرَّضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ "[1].
ومن تعريض النفسِ للذل، تعريضها للأخذ بالشدة والعزيمة في موضع الرخصة، مع علمه أنه ليس أهلاً للأخذ بالعزيمة .. وأنه لو فعلَ لفُتِن وفشِل .. وعرَّض نفسه للحرج والذل .. وكان ـ شرعاً ـ في مندوحة عن ذلك![2].
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رجلاً استأذَنَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا رآهُ قال:" بئسَ أخو العشيرةِ، وبئسَ ابنُ العشيرَةِ ". فلما جلسَ تَطَلَّقَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في وجههِ وانبسَطَ إليه، فلما انطلقَ الرجلُ قالت له عائشةُ يا رسولَ الله، حين رأيتَ الرجلَ قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقتَ في وجهه وانبسَطتَ إليه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" يا عائشَةُ، متى عهدتِني فحَّاشاً، إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلةً يومَ القيامةِ من تركَه الناسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ، واتِّقاء فُحْشِه " متفق عليه.
وفي الأثر عن أبي الدرداء، قال:" إنَّا لنكشِّرُ في وجوه أقوامٍ ونضحكُ إليهم، وإنَّ قلوبَنا لتلعنهم ".
وعن محمدٍ بن الحنفيّة، قال:" ليس بحكيمٍ من لا يُعاشِر بالمعروف مَن لا يجدُ من معاشرته بُدَّاً، حتى يجعل اللهُ له فرجاً أو مخرجاً "[3].
[1] رواه الترمذي وابن ماجه، صحيح سنن الترمذي: 1838.
[2] الأدلة الشرعية التي تبين أن الأخذ بالعزيمة في مواطن الإكراه والتقية أولى من الأخذ بالرخصة .. محمولة على من يأخذ بالعزيمة ويوفي شرطها وحقها .. أما من عرف في نفسه ضعفاً .. وأنه لن يستطيع أن يوفي العزيمة شرطها وحقها ـ ومنه الثبات من غير انتكاس ـ الأولى بحقه حينئذٍ أن يأخذ بالرخصة .. فإن لم يَفعل .. ثم انتكس .. يكون كمن أذلَّ نفسه بنفسه، وعرَّض نفسه لما لا طاقة لها به .. وحُمِل عليه الحديث أعلاه " ليس بمؤمن .... ". وغيره من النصوص التي تبين أن الله تعالى لا يُكلف نفساً إلا وسعها!
[3] صحيح الأدب المفرد: 682.
من كثرة ما تكلم الدعاة عن التّقيّه عند الشيعة الروافض ، ظن البعض أن هذا الأمر لا يجوز بحال أو أنه غير موجود في دين الله.
فقمت لكم بهذا النقل .....
من كتاب "مُصْطَلَحَاتٌ ومَفَاهِيمٌ شَرْعِيَّةٌ عَلاهَا غُبَارُ تَأوِيلاتِ وَتَحْرِيفَاتِ المُبْطِلِين" للطرطوسي.
التَّقيَّةُ وفِقْهُ الاستِضعَافِ:
التقية ـ بضوابطها وشروطها الشرعية ـ حق .. وكذلك لمرحلة الاستضعاف فقهها وأحكامها المختلفة عن فقه وأحكام مرحلة القوة والتمكين .. لكن مفهوم التقية والاستضعاف ـ كغيره من المفاهيم والمصطلحات الشرعية ـ قد طالته أيادي التحريف والتشويه والتأويل من قبل أهل الأهواء، ومرضى القلوب .. ففريق توسع في فهم وشرح وممارسة التقية ـ من غير ضوابط ولا قيود ـ حتى وقعوا وأوقعوا غيرهم في النفاق؛ فأدخلوا في التقية من المعاني والأفهام السقيمة والممارسات الخاطئة ما هو الصق بالنفاق منه إلى التقية الشرعية!
فكان لذلك النهج أسوأ الأثر على الأمة وأبنائها؛ فلا الأمة قامت برسالتها ووظيفتها الموكولة بها كما ينبغي .. ولا الشعوب تكاد تنكر على الطواغيت الظالمين طغيانهم وظلمهم .. وكفرهم .. أو ينتصفون منهم لحقوقهم وحرماتهم المهدورة .. حتى أن كثيراً ممن يُصنّفون على أنهم من الدعاة والشيوخ .. نراهم قد داهنوا .. وركنوا إلى الظالمين .. ودخلوا في موالاة من يجب البراء منه .. وكتموا كثيراً من الحق مما يجب عليهم أن يصدعوا به .. فساد بسبب ذلك الجهل والظلم والخوف والفقر .. حتى أصبح واقعاً مفروضاً على الناس لا فكاك لهم منه .. مواجهته ومحاولة تصحيحه .. ضرب من الجنون والتهور .. والتهلكة .. ويتم ذلك كله تحت مسمى " التقية "، وفقه الاستضعاف كما يزعمون!
وفريق آخر مقابل .. كردة فعل على الفريق الأول ـ الآنف الذكر أعلاه ـ أراد أن يلغي استثناء التقية، وفقه الاستضعاف من الشريعة، وواقع الناس .. فضيقوا واسعاً .. وتشددوا على أنفسهم وعلى الناس فيما لا ينبغي ولا يجوز .. فوقعوا في الغلو والإفراط من حيث يدرون أو لا يدرون .. وأساؤوا الظنَّ والحكمَ على كل من يَترخَّص لنفسه برخصة التقيّة في ظروف الاستضعاف والإكراه!
فالمسألة ـ كغيرها من المسائل ـ بين إفراط وتفريط .. وغلو وجفاء .. مما حملنا على أن نعني هذا المفهوم اهتمامنا ودراستنا فنميط عنه ـ بإذن الله ـ غلو الغالي، وجفاء الجفاة من أهل التفريط والإرجاء، والله تعالى وليُّ التوفيق، فأقول:
التقيّة لغة: الخوف الذي يحمل على الحذَر، والاحتماء، والاتّقاء.
وهي اصطلاحاً تعني: إظهار الموالاة والمداراة للمشركين والظالمين باللسان لخوف محقق منهم على النفس، والعِرض، والمال، بالقَدْرِ الذي يدفع الضرر، مع إضمار العداوة والبغضاء لهم في القلب
.
والتقية تقوم على ركنين: الاستضعاف، والخوف من ضررٍ محقق في حال لم يُؤخذ بالتقية .. إن انتفى واحد منهما انتفت التقية بانتفائه .. كما ينتفي العمل برخصة التقية؛ أي أن التقية لا تُذكَر ولا يُلجأ إليها مع القوة .. ووجود الشوكة والمنعة .. ولا مع وجود وتوفر دار وأجواء الأمن والأمان.
قال تعالى:{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }آل عمران:28.
قوله تعالى:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } استثناء من النهي؛ أي لا توالوهم ولا يجوز لكم أن تُوالوهم إلا أن تكونوا في سلطانهم، ولا تستطيعون الهجرة أو الخروج من سلطانهم، فخفتم على أنفسكم وحرماتكم منهم خوفاً محققاً أو راجحاً، وكان هذا الخوف لا يندفع إلا بعد أن تُظهروا لهم نوع موالاة في اللسان .. فحينئذٍ يجوز لكم أن توالوهم باللسان بالقدر الذي يدفع عنكم الضرر من غير زيادة ولا نقصان، بشرطين: على أن لا تُعينوهم على المسلمين .. وأن تُضمروا لهم العداوة في القلب .. وهذا ما قال به أهل العلم والتفسير:
قال ابن جرير الطبري في التفسير 3/227:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل.
وعن السدي قال: إلا أن يتقي تقاةً؛ فهو يُظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءة من المؤمنين.
وعن ابن عباس قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وعنه قال: فالتقية باللسان؛ من حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان.
وعن عكرمة في قوله:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } قال:ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحل ماله ا- هـ.
وقال ابن كثير في التفسير:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم.
وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع ابن أنس. وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة ا- هـ.
وقال الشوكاني في التفسير: وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }غافر:28.
فهذا الرجل المؤمن للاستضعاف والخوف كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه .. علماً أنه كان من قومِ فرعون " الأقباط "، ومن المقربين إليه وإلى قصره .. وقيل أنه كان من أقربائه .. يعيش مع فرعون وطغيانه بالتقية .. لكن لما هم الطاغية بقتل موسى -عليه السلام- .. وأراد أن يقتله .. :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }غافر:26. هنا أخذت هذا الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه غضبة لله .. وآثر أن يصدع بالحق .. وإن عُرِف إيمانه .. وتعرض بسبب ذلك للأذى أو القتل .. ليقينه أن حياة موسى -عليه السلام- أهم من حياته .. وهي تستحق منه التضحية والفداء .. فقال صارخاً بوجه الطاغية:{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }؟!
وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفْسَهُ "، قالوا: وكيف يُذلُّ نفْسَه؟ قال:" يَتعرَّضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ "[1].
ومن تعريض النفسِ للذل، تعريضها للأخذ بالشدة والعزيمة في موضع الرخصة، مع علمه أنه ليس أهلاً للأخذ بالعزيمة .. وأنه لو فعلَ لفُتِن وفشِل .. وعرَّض نفسه للحرج والذل .. وكان ـ شرعاً ـ في مندوحة عن ذلك![2].
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رجلاً استأذَنَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا رآهُ قال:" بئسَ أخو العشيرةِ، وبئسَ ابنُ العشيرَةِ ". فلما جلسَ تَطَلَّقَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في وجههِ وانبسَطَ إليه، فلما انطلقَ الرجلُ قالت له عائشةُ يا رسولَ الله، حين رأيتَ الرجلَ قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقتَ في وجهه وانبسَطتَ إليه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" يا عائشَةُ، متى عهدتِني فحَّاشاً، إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلةً يومَ القيامةِ من تركَه الناسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ، واتِّقاء فُحْشِه " متفق عليه.
وفي الأثر عن أبي الدرداء، قال:" إنَّا لنكشِّرُ في وجوه أقوامٍ ونضحكُ إليهم، وإنَّ قلوبَنا لتلعنهم ".
وعن محمدٍ بن الحنفيّة، قال:" ليس بحكيمٍ من لا يُعاشِر بالمعروف مَن لا يجدُ من معاشرته بُدَّاً، حتى يجعل اللهُ له فرجاً أو مخرجاً "[3].
[1] رواه الترمذي وابن ماجه، صحيح سنن الترمذي: 1838.
[2] الأدلة الشرعية التي تبين أن الأخذ بالعزيمة في مواطن الإكراه والتقية أولى من الأخذ بالرخصة .. محمولة على من يأخذ بالعزيمة ويوفي شرطها وحقها .. أما من عرف في نفسه ضعفاً .. وأنه لن يستطيع أن يوفي العزيمة شرطها وحقها ـ ومنه الثبات من غير انتكاس ـ الأولى بحقه حينئذٍ أن يأخذ بالرخصة .. فإن لم يَفعل .. ثم انتكس .. يكون كمن أذلَّ نفسه بنفسه، وعرَّض نفسه لما لا طاقة لها به .. وحُمِل عليه الحديث أعلاه " ليس بمؤمن .... ". وغيره من النصوص التي تبين أن الله تعالى لا يُكلف نفساً إلا وسعها!
[3] صحيح الأدب المفرد: 682.