تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : التَّقيَّةُ عند أهل السنة!!



أبو عربي
29-11-2010, 02:49 AM
السلام عليكم
من كثرة ما تكلم الدعاة عن التّقيّه عند الشيعة الروافض ، ظن البعض أن هذا الأمر لا يجوز بحال أو أنه غير موجود في دين الله.
فقمت لكم بهذا النقل .....


من كتاب "مُصْطَلَحَاتٌ ومَفَاهِيمٌ شَرْعِيَّةٌ عَلاهَا غُبَارُ تَأوِيلاتِ وَتَحْرِيفَاتِ المُبْطِلِين" للطرطوسي.

التَّقيَّةُ وفِقْهُ الاستِضعَافِ:

التقية ـ بضوابطها وشروطها الشرعية ـ حق .. وكذلك لمرحلة الاستضعاف فقهها وأحكامها المختلفة عن فقه وأحكام مرحلة القوة والتمكين .. لكن مفهوم التقية والاستضعاف ـ كغيره من المفاهيم والمصطلحات الشرعية ـ قد طالته أيادي التحريف والتشويه والتأويل من قبل أهل الأهواء، ومرضى القلوب .. ففريق توسع في فهم وشرح وممارسة التقية ـ من غير ضوابط ولا قيود ـ حتى وقعوا وأوقعوا غيرهم في النفاق؛ فأدخلوا في التقية من المعاني والأفهام السقيمة والممارسات الخاطئة ما هو الصق بالنفاق منه إلى التقية الشرعية!

فكان لذلك النهج أسوأ الأثر على الأمة وأبنائها؛ فلا الأمة قامت برسالتها ووظيفتها الموكولة بها كما ينبغي .. ولا الشعوب تكاد تنكر على الطواغيت الظالمين طغيانهم وظلمهم .. وكفرهم .. أو ينتصفون منهم لحقوقهم وحرماتهم المهدورة .. حتى أن كثيراً ممن يُصنّفون على أنهم من الدعاة والشيوخ .. نراهم قد داهنوا .. وركنوا إلى الظالمين .. ودخلوا في موالاة من يجب البراء منه .. وكتموا كثيراً من الحق مما يجب عليهم أن يصدعوا به .. فساد بسبب ذلك الجهل والظلم والخوف والفقر .. حتى أصبح واقعاً مفروضاً على الناس لا فكاك لهم منه .. مواجهته ومحاولة تصحيحه .. ضرب من الجنون والتهور .. والتهلكة .. ويتم ذلك كله تحت مسمى " التقية "، وفقه الاستضعاف كما يزعمون!

وفريق آخر مقابل .. كردة فعل على الفريق الأول ـ الآنف الذكر أعلاه ـ أراد أن يلغي استثناء التقية، وفقه الاستضعاف من الشريعة، وواقع الناس .. فضيقوا واسعاً .. وتشددوا على أنفسهم وعلى الناس فيما لا ينبغي ولا يجوز .. فوقعوا في الغلو والإفراط من حيث يدرون أو لا يدرون .. وأساؤوا الظنَّ والحكمَ على كل من يَترخَّص لنفسه برخصة التقيّة في ظروف الاستضعاف والإكراه!

فالمسألة ـ كغيرها من المسائل ـ بين إفراط وتفريط .. وغلو وجفاء .. مما حملنا على أن نعني هذا المفهوم اهتمامنا ودراستنا فنميط عنه ـ بإذن الله ـ غلو الغالي، وجفاء الجفاة من أهل التفريط والإرجاء، والله تعالى وليُّ التوفيق، فأقول:

التقيّة لغة: الخوف الذي يحمل على الحذَر، والاحتماء، والاتّقاء.

وهي اصطلاحاً تعني: إظهار الموالاة والمداراة للمشركين والظالمين باللسان لخوف محقق منهم على النفس، والعِرض، والمال، بالقَدْرِ الذي يدفع الضرر، مع إضمار العداوة والبغضاء لهم في القلب
.
والتقية تقوم على ركنين: الاستضعاف، والخوف من ضررٍ محقق في حال لم يُؤخذ بالتقية .. إن انتفى واحد منهما انتفت التقية بانتفائه .. كما ينتفي العمل برخصة التقية؛ أي أن التقية لا تُذكَر ولا يُلجأ إليها مع القوة .. ووجود الشوكة والمنعة .. ولا مع وجود وتوفر دار وأجواء الأمن والأمان.

قال تعالى:{ لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ }آل عمران:28.

قوله تعالى:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } استثناء من النهي؛ أي لا توالوهم ولا يجوز لكم أن تُوالوهم إلا أن تكونوا في سلطانهم، ولا تستطيعون الهجرة أو الخروج من سلطانهم، فخفتم على أنفسكم وحرماتكم منهم خوفاً محققاً أو راجحاً، وكان هذا الخوف لا يندفع إلا بعد أن تُظهروا لهم نوع موالاة في اللسان .. فحينئذٍ يجوز لكم أن توالوهم باللسان بالقدر الذي يدفع عنكم الضرر من غير زيادة ولا نقصان، بشرطين: على أن لا تُعينوهم على المسلمين .. وأن تُضمروا لهم العداوة في القلب .. وهذا ما قال به أهل العلم والتفسير:

قال ابن جرير الطبري في التفسير 3/227:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تُعينوهم على مسلم بفعل.

وعن السدي قال: إلا أن يتقي تقاةً؛ فهو يُظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءة من المؤمنين.
وعن ابن عباس قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبه مطمئن بالإيمان.
وعنه قال: فالتقية باللسان؛ من حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقية باللسان.

وعن عكرمة في قوله:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } قال:ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحل ماله ا- هـ.
وقال ابن كثير في التفسير:{ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً }؛ أي من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته، كما قال البخاري عن أبي الدرداء أنه قال: إنا لنكشر في وجوه أقوامٍ وقلوبنا تلعنهم.

وقال الثوري: قال ابن عباس: ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان، وكذا رواه العوفي عن ابن عباس إنما التقية باللسان، وكذا قال أبو العالية وأبو الشعثاء، والضحاك، والربيع ابن أنس. وقال البخاري: قال الحسن التقية إلى يوم القيامة ا- هـ.

وقال الشوكاني في التفسير: وفي ذلك دليل على جواز الموالاة لهم مع الخوف منهم، ولكنها تكون ظاهراً لا باطناً ا- هـ.
وكذلك قوله تعالى:{ وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ }غافر:28.

فهذا الرجل المؤمن للاستضعاف والخوف كان يكتم إيمانه عن فرعون وقومه .. علماً أنه كان من قومِ فرعون " الأقباط "، ومن المقربين إليه وإلى قصره .. وقيل أنه كان من أقربائه .. يعيش مع فرعون وطغيانه بالتقية .. لكن لما هم الطاغية بقتل موسى -عليه السلام- .. وأراد أن يقتله .. :{ وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى }غافر:26. هنا أخذت هذا الرجل المؤمن الذي يكتم إيمانه غضبة لله .. وآثر أن يصدع بالحق .. وإن عُرِف إيمانه .. وتعرض بسبب ذلك للأذى أو القتل .. ليقينه أن حياة موسى -عليه السلام- أهم من حياته .. وهي تستحق منه التضحية والفداء .. فقال صارخاً بوجه الطاغية:{ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ }؟!
وفي الحديث، فقد صحَّ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" لا ينبغي للمؤمنِ أن يُذِلَّ نفْسَهُ "، قالوا: وكيف يُذلُّ نفْسَه؟ قال:" يَتعرَّضُ من البلاءِ لما لا يُطِيقُ "[1].

ومن تعريض النفسِ للذل، تعريضها للأخذ بالشدة والعزيمة في موضع الرخصة، مع علمه أنه ليس أهلاً للأخذ بالعزيمة .. وأنه لو فعلَ لفُتِن وفشِل .. وعرَّض نفسه للحرج والذل .. وكان ـ شرعاً ـ في مندوحة عن ذلك![2].
وعن عائشة رضي الله عنها، أنَّ رجلاً استأذَنَ على النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فلمَّا رآهُ قال:" بئسَ أخو العشيرةِ، وبئسَ ابنُ العشيرَةِ ". فلما جلسَ تَطَلَّقَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- في وجههِ وانبسَطَ إليه، فلما انطلقَ الرجلُ قالت له عائشةُ يا رسولَ الله، حين رأيتَ الرجلَ قلت له كذا وكذا، ثم تطلَّقتَ في وجهه وانبسَطتَ إليه؟ فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:" يا عائشَةُ، متى عهدتِني فحَّاشاً، إنَّ شرَّ الناس عند الله منزلةً يومَ القيامةِ من تركَه الناسُ اتِّقاءَ شَرِّهِ، واتِّقاء فُحْشِه " متفق عليه.

وفي الأثر عن أبي الدرداء، قال:" إنَّا لنكشِّرُ في وجوه أقوامٍ ونضحكُ إليهم، وإنَّ قلوبَنا لتلعنهم ".
وعن محمدٍ بن الحنفيّة، قال:" ليس بحكيمٍ من لا يُعاشِر بالمعروف مَن لا يجدُ من معاشرته بُدَّاً، حتى يجعل اللهُ له فرجاً أو مخرجاً "[3].

[1] رواه الترمذي وابن ماجه، صحيح سنن الترمذي: 1838.
[2] الأدلة الشرعية التي تبين أن الأخذ بالعزيمة في مواطن الإكراه والتقية أولى من الأخذ بالرخصة .. محمولة على من يأخذ بالعزيمة ويوفي شرطها وحقها .. أما من عرف في نفسه ضعفاً .. وأنه لن يستطيع أن يوفي العزيمة شرطها وحقها ـ ومنه الثبات من غير انتكاس ـ الأولى بحقه حينئذٍ أن يأخذ بالرخصة .. فإن لم يَفعل .. ثم انتكس .. يكون كمن أذلَّ نفسه بنفسه، وعرَّض نفسه لما لا طاقة لها به .. وحُمِل عليه الحديث أعلاه " ليس بمؤمن .... ". وغيره من النصوص التي تبين أن الله تعالى لا يُكلف نفساً إلا وسعها!
[3] صحيح الأدب المفرد: 682.

أبو عربي
29-11-2010, 03:04 AM
دار التقية وبيئتها:

هي دار الاستضعاف والخوف؛ التي يكون فيها المؤمن ضعيفاً خائفاً .. وضعفه وخوفه يمنعانه من أن يصدع بالحق كاملاً .. وربما يحملانه على أن يقول كلاماً بخلاف الحق .. ولا يُشترط في الدار أن يكون دار كفر، أو دار إسلام .. فقد يكون دار إسلام فيه ظلم .. والسلطان فيه ينصر الظلم والظالمين .. ويمتحن الناس على الظلم والباطل .. كما كان في عهد الحجاج .. وعهد بعض الحكام العباسيين الذين حملوا الناس بالقوة على أن يقولوا أن القرآن مخلوق .. وقد ثبت أن من العلماء الكبار من آثر الصمت وقال تقية ـ خوفاً على النفس من القتل أو السجن ـ أن القرآن مخلوق .. ومما يُروى في ذلك أن أصحاب بِشر بن الحارث قالوا له حين ضُرِب الإمام أحمد في المحنة: يا أبا نصر، لو أنك خرجت فقلت إني على قول أحمد بن حنبل! قال بشر: أتريدون أن أقوم مقام الأنبياء .. حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه. أي أن الإمام أحمد قد قام مقام الأنبياء عندما أخذ بالعزيمة وصدع بالحق، وتحمل تبعاته .. وأنا لا أقدر على هذا الموقف ..!

كما لا يلزم من دار الكفر أن يكون دار تقية على الاطلاق؛ إذ أن من ديار الكفر ما ينتفي فيها عن المؤمن صفتي الاستضعاف والخوف .. أو إحداهما .. كما كان في الحبشة زمن النجاشي .. حيث كان الصحابة الذين هاجروا إلى الحبشة آمنين على أنفسهم وحرماتهم .. قد استطاعوا أن يُظهروا دينهم أكثر مما كانوا عليه في دارهم الأصلي .. الذي كان وقتئذٍ دار كفر أيضاً .. لكن كان كفره مغلظاً ومركباً .. يمنع المؤمنين من مجرد التعريف عن أنفسهم كمؤمنين وإظهار إيمانهم!
وفي زماننا ـ للإنصاف ـ المسلم في بعض البلاد الغربية .. يستطيع أن يُظهر دينه بصورة أفضل بكثير مما لو كان في بلده الأصلي المسمى زوراً بالإسلامي .. ومن كان كذلك لا يجوز له أن يعمل بالتقية لمجرد أنه يُقيم في دولة غير إسلامية.

وعليه فإن مجرد وجود المسلم في دار الكفر لا يستلزم بالضرورة أن يأخذ بالتقية من دون النظر إلى عنصري الاستضعاف والخوف، ومدى عجزه وضعفه عن رد الظلم والأذى عن نفسه إذا ما نزل بساحته بسبب إظهاره لدينه .. كذلك النظر إلى حجم هذا الظلم أو الأذى ونوعه .. ومدى قدرته على تحمله.

أبو عربي
30-11-2010, 02:03 AM
بما أني نقلت لكم عن التقية و بيئتها, سأتابع نقل شروطها و ضوابطها.

شروط وضوابط العمل برخصة التَّقية:
للعمل بالتقية شروط وضوابط نجملها في النقاط التالية:

1- للعمل بالتقية ـ إضافة إلى عنصري الاستضعاف والخوف ـ ينبغي أن يتحقق العجز عن التحول من دار التقية إلى دار الأمن والأمان الذي يستطيع أن يُظهر فيه دينه على الوجه الأكمل والأحسن مما هو عليه في دار التقية .. أما إن كان قادراً على أن يتحول من دار التقية إلى دار الأمن والأمان .. ثم لا يَفعل .. لا يُعذر حينئذٍ لو عمل بمقتضى التقية، كما قال تعالى:{ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ }العنكبوت:56. فمن غايات توسعة الله تعالى للأرض .. تحقيق سلامة العبادة والدين من دون خوف .. ولا تقية.
وقال تعالى:{ إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً النساء:97. فهؤلاء لم يُعذروا بالاستضعاف؛ لأنهم كانوا يستطيعون أن يُهاجروا من دار التقية والاستضعاف إلى دار الأمن والإيمان .. لكنهم لم يفعلوا شحاً بالدنيا والأوطان .. أما المستضعفون حقّاً الذين لا يستطيعون الهجرة .. ولا يجدون سبيلاً آمناً للخروج من دار التقية والاستضعاف إلى دار الأمن والأمان .. فهؤلاء معذورون ومستثنون من الوعيد الوارد في الآية أعلاه، كما قال تعالى:{ إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً }النساء:98. فهؤلاء لا حرج عليهم لو لم يُهاجروا .. كما لا حرج عليهم لو لجؤوا للعمل بالتقية إن وجدت الضرورة لاستخدامها.

2- الاستضعاف أمر نسبي، كذلك الخوف فهو أمر نسبي يختلف من شخص لآخر .. ومن مكان لآخر .. حيث كلما ازداد الاستضعاف، وازداد الخوف، وتحققت دواعيه، كلما أمكن استخدام رخصة التقية بصورة أوسع .. والعكس كذلك؛ كلما ضاقت مساحة الاستضعاف والخوف، وانتفت دواعيه، كلما قلت وضاقت فرص استخدام التقية .. وبالتالي في المجتمع الواحد .. والمكان الواحد الذي يسود فيه الظلم .. قد يجوز لشخص ما لا يجوز للآخر .. بحسب قوة كل واحد منهما .. وما لكل منهما من ركن يأوي إليه .. فمن كان لا ركن له يأوي إليه أو كان ركنه الذي يأوي إليه ضعيفاً .. يجوز له استعمال التقية ما لا يجوز لمن كان له ركن شديد يأوي إليه .. والدليل على هذا كله، إضافة لما تقدم من أدلة، قوله تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }التغابن:16. وقوله تعالى:{ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا }البقرة:286.

3- التقية تكون باللسان .. دون القلب أو العمل بالجوارح .. لأن القلب أمر باطني لا سلطان لمخلوق عليه .. وبالتالي لا مبرر لممارسة التقية في القلب تحت أي ظرف من الظروف .. ومن يتوسع .. فيمارس التقية في القلب .. يقع في الزندقة والنفاق ولا بد .. ويكون ممن شرح بالكفر صدراً.
وقولنا " دون العمل "؛ أي لا يوالي ـ في أجواء وظروف التقية ـ المشركين والظالمين بالعمل .. كأن يُعينهم على المسلمين بقتال أو نحوه .. ولا يُعنى بالعمل هنا نفي مطلق العمل .. كأن تضطره ظروف التقية أن لا يلتزم بالهدي الظاهر من لباس أو تقصير لحية أو حلقها .. أو أن يُصلي جالساً أو إيماءً برأسه .. أو أن يُكشر بوجوه الظالمين ويَضحك لهم .. أو يحتفي باستقبالهم .. ونحو ذلك .. فهذا عمل .. وهو مباح في ظروف وأجواء التقية .. ونفي العمل ـ الذي أطلقه بعض السلف ـ لا يشمل ولا يعني هذا النوع من العمل .. وإنما يعني نفي موالاة المشركين والظالمين على الإسلام والمسلمين بالعمل.
كذلك قولنا:" التقية تكون باللسان "؛ أي الموالاة تكون باللسان .. ولا يعني ذلك مطلق الموالاة باللسان .. بما في ذلك موالاتهم باللسان على المسلمين .. كأن يدلهم على عورات المسلمين .. أو يعينهم باللسان على قتل مسلم .. ونحو ذلك .. فهذا لا يجوز وإن سُمي موالاة باللسان .. لمساواتهما في الحرمة .. إذ لا يجوز للمستضعَف الذي يعمل بالتقية أن يفدي نفسه من ضرر المشركين بقتل أخيه أو إنزال الضرر به .. لمساواتهما في الحقوق والحرمة.
قال الشيباني في السِّيَر 4/245: ولو قالوا لأسير مسلم: اقتل لنا هذا الأسير المسلم أو لنقتلنك، لم يسعه أن يقتله لما جاء في الأثر ليس في القتل تقية، وكذلك لو أمروه بربط يديه أو رجليه، ولو كانت يد الذي يضرب بالسيف ضعيفة، فقيل له: أمسك بيدك على يديه، حتى نضربه وإلا قتلناك، لم يسعه أن يفعل هذا .. ولو هرب منهم أسير فقالوا لأسير آخر يعرف مكانه: دلنا عليه لنقتله وإلا قتلناك، لم يسعه أن يدلهم عليه. انتهى.
وقال القرطبي في التفسير 5/529: أجمع العلماء على أن من أُكره على قتل غيره أنه لا يجوز له الإقدام على قتله، ولا انتهاك حرماته بجلدٍ أو غيره، ويصبر على البلاء الذي نزل به، ولا يحلُّ له أن يفدي نفسَه بغيره، ويسأل الله العافية في الدنيا والآخرة ا- هـ.
قلت: وفي ذلك تحذير لمن يقع من المسلمين أسيراً عند العدو .. الذي يتهاون بتدليلهم على عورات المسلمين والمجاهدين .. تحت عنوان التقية .. وذريعة دفع الضرر والأذى عن نفسه .. لا تقيَّة في أذى العباد!

4- تُمارَس التقية بالقدْر الذي يدفع الضرر أو الاذى عن المُستَضعَف .. إذ لا يجوز له أن يتوسع في استخدام التقية أكثر مما هو مطلوب منه؛ فإذا كان مثلاً ـ الضرر ـ يُزال ويندفع عنه بخمس كلمات .. لا يجوز حينئذٍ أن يتطوع فيُعطيهم عشر كلمات؛ فحينئذٍ يُحاسب على الكلمات الزائدة التي أعطاها لهم من غير حاجة ولا ضرورة.
مثال آخر: إن كانت التقية ـ مثلاً ـ تبرر للمرء أن يمدح طنوساً .. كما طُلب منه .. والضرر يُرفع ويُزال عنه بمجرد أن يمدح طنوساً وحسب .. فيقوم هو فيزيد فيمدح طنوساً .. وحنَّا .. وبطرس .. وجورج .. فهو حينئذٍ يُلام على الزيادة التي أعطاها من تلقاء نفسه ومن غير ضرورة.
كذلك يُقال: إن كان يستطيع أن يستخدم المعاريض فيما طُلب منه .. وكان في استخدام المعاريض كفاية ومندوحة عن استخدام التصريح أو العبارات الصريحة .. فحينئذٍ يتعين عليه أن يستخدم المعاريض .. فإن لم يفعل أثم .. أما إن كان لا يُحسن استخدام المعاريض .. أو لا يستطيع أن يستعمل المعاريض فيما طُلب منه .. أو فيما يدفع عنه الضرر والأذى .. فحينئذٍ لا يُلزَم ولا يُطالَب باستخدام المعاريض .. ومدار أدلة المسألة على قوله تعالى:{ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ }التغابن:16.
قال القرطبي في التفسير 5/533: قال المحققون من العلماء: إذا تلفظ المكره بالكفر فلا يجوز له أن يجريه على لسانه إلا مجرى المعاريض، فإن في المعاريض لمندوحة عن الكذب، ومتى لم يكن كذلك كان كافراً، لأن المعاريض لا سلطان للإكراه عليها، مثاله: أن يُقال له: اكفر بالله، فيقول: باللاهي؛ فيزيد الياء. وكذلك إذا قيل له: اكفر بالنبي، فيقول: هو كافر بالنبيِّ؛ مشدداً وهو المكان المرتفع من الأرض .. ا- هـ.
قلت: يُصار إلى ما قال به القرطبي عندما يكون المُكره أو المبتلى خبيراً بالمعاريض .. وقادراً على استخدام المعاريض فيما يُسأل عنه .. أما إن كان لا يُحسن ولا يستطيع أن يستعمل المعاريض .. أو لم تحضره المعاريض لحظة الإكراه .. فلا حرج عليه حينئذٍ من استخدام التصريح .. وبخاصة أننا نعيش في زمانٍ غلبت فيه العجمة على الناس .. فالناس لم يعد يُحسنون التحدث بالعربية الفصحى .. فضلاً عن كونهم يُحسنون استخدام المعاريض .. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

5- التقية رخصة .. يجوز العمل بها بشروطها وضوابطها الآنفة الذكر .. لكن أيهما أولى وأحب: العمل بها .. أم تركها والأخذ بالعزيمة؟
أقول: بحسب المصالح والمفاسد المتوخاة من العمل بالتقية أو تركها .. فإن كانت مصالح العمل بالتقية ترجح على مصالح تركها .. وكان في تركها فتنة على المرء لا يُطيقها .. فحينئذٍ يكون العمل برخصة التقية وترك العزيمة هو الأولى شرعاً وعقلاً .. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في عمار -رضي الله عنه- الذي اختار العمل برخصة الإكراه:" ما خُير عمَّار بين أمرين إلا اختار أرشدَهما "[1].
وإن كان العكس؛ أي المصلحة ترجح وتكمن في ترك العمل بالتقية والأخذ بالعزيمة .. وكان الأخذ بالعزيمة ممكناً ومقدوراً عليه .. ولا يترتب عليه فتنة لا طاقة للمعتزِم بها .. فحينئذٍ يكون الأخذ بالعزيمة هو الأولى شرعاً وعقلاً .. ومن الأدلة الدالة على أن العزيمة هي الأولى في هذا الموضع، قوله -صلى الله عليه وسلم-:" ثلاثة من كنَّ فيه وجد حلاوة الإيمان "، منها: " أن يَكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يُقذَفَ في النار " متفق عليه.
وعن أبي الدرداء قال: أوصاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتسعٍ، منها:" لا تُشرك بالله شيئاً وإن قُطِّعتَ أو حُرِّقتَ "[2].
وعليه فإن القول على الإطلاق ـ كما يفعل البعض ـ بأن الأخذ بالعزيمة هو الأولى وهو الأحسن .. بغض النظر عن النتائج .. والمضاعفات .. والنظر إلى المصالح والمفاسد المترتبة عن الأخذ أو الترك .. هو قول خاطئ، مردود بالنقل والعقل.

6- العالِم قد يأخذ بالتقية .. فهو غير مستثنى من المسلمين .. فالرخصة تشمله ـ بشروطها ـ كما تشمل غيره .. لكن لا يجتمع العلماء ـ ولا يجوز لهم أن يجتمعوا ـ على التقية .. إذ لا بد لبعضهم من أن يشذ .. ويستشرف العزيمة .. وتبعاتها .. ويُظهر اللهُ الحق على يديه .. فأمة الإسلام كما لا تجتمع على ضلالة .. كذلك لا تجتمع على كتمان علم أو حق ينبغي أن يُقال أو يظهر .. وهذا من معاني ومقتضيات حفظ الله تعالى للتنزيل، كما قال تعالى:{ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ }الحجر:9.
وفي الحديث، فقد صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة "[3]. ومن ذلك أنها لا تجتمع على كتمان العلم والحق تحت أي ظرف من الظروف .. فأمة محمدٍ -صلى الله عليه وسلم- محفوظة وممنوعة من ذلك ولله الحمد، كما في قوله -صلى الله عليه وسلم-:" لا تزال طائفةٌ من أمتي قَوَّامةً على أمرِ الله لا يضُرُّها مَن خالَفَها "[4].
وقال -صلى الله عليه وسلم-:" لا يزالُ الله يَغرسُ في هذا الدين غرساً يستعملُهم في طاعتِه "[5].

[1] أخرجه الترمذي، وابن ماجه، السلسلة الصحيحة: 835.
[2] صحيح الأدب المفرد: 14.
[3] رواه الترمذي وغيره، وصححه الشيخ ناصر في تخريج المشكاة: 173.
[4] صحيح سنن ابن ماجه: 7.
[5] صحيح سنن ابن ماجه: 8.

قلموني
01-12-2010, 11:43 PM
من كثرة ما تكلم الدعاة عن التّقيّه عند الشيعة الروافض ، ظن البعض أن هذا الأمر لا يجوز بحال أو أنه غير موجود في دين الله.


وهل من خلاف في التعريف بين المذاهب؟

أبو عربي
02-12-2010, 12:59 AM
أخي قلموني.
سؤالك بحاجة الى توضيح. فهل تقصد بالمذاهب : الشافعية و الحنابلة و الأحناف و المالكية من مذاهب أهل السنة المعروفة؟
أم أنك تقصد الشيعة و الباطنية فهذه طوائف و ملل فيها أيضاً مذاهب و فرق . فإن كان هذا القصد فالخلاف معهم قد لا يكون في تعريفها الاصطلاحي من إظهار الموالاة والمداراة باللسان مع إضمار العداوة والبغضاء في القلب و لكن بشروط العمل بها و ضوابطها.
.فالتقية عندنا للمستضعف الخائف و المكره هي حالة استثنائية و هي بالقدر الذي يدفع الضرر. أما عند طائفة الإثنى عشرية مثلاً فهي تسعة أعشار الدين. فتأمل!

أبو عربي
02-12-2010, 01:04 AM
وإليك أخي الكريم تتمة الموضوع ففيه جواب سؤالك.


مسائل وتنبيهات:

1- مما تقدم أعلاه يُعلم الفارق الضخم والكبير بين التقية في شرع الله .. وبين التقية التي يمارسها الشيعة الروافض .. ويدعون إليها .. ويعتبرونها ركناً من أركان دينهم .. وأن من لا تقية له لا دين له .. والتي تعني عندهم إضمار الكفر .. والبغض .. واللعن .. والتكفير لأخيار الأمة من الصحابة والتابعين .. في القلب .. وإظهار الإسلام باللسان .. وهذا عين النفاق والزندقة .. وبالتالي لا يجوز إدراج التقية التي يتكلم عنها الشيعة الروافض ضمن التقية المشروعة بضوابطها وشروطها الآنفة الذكر.

2- كذلك يوجد فرق كبير بين النفاق وبين التقية: النفاق هو إضمار الكفر في القلب وإظهار الإسلام على اللسان أو الجوارح. بينما التقية، هي إضمار الإيمان واليقين في القلب .. وإظهار ما يُخالف ما وقر في القلب باللسان .. لضرورة التقية بشروطها الشرعية.
3- اعلم أن حالات ومراحل الاستضعاف لها أحكامها وفقهها .. ومن أحكامها وفقهها التقية .. وحالات ومراحل القوة والتمكين لها أحكامها وفقهها .. ومن أحكامها وفقهها الأخذ بالعزيمة .. والخلط بين المرحلتين والحالتين وبين أحكامهما .. وحمل أحكام كل مرحلة على الأخرى .. مؤداه إلى الوقوع في أخطاء فادحة لا تُحمد عواقبها .. قد تكلف العمل الإسلامي الشيء الكثير!

4- التقية ـ بشروطها ـ تبرر بعض الكلمات القليلات .. أو بعض البسمات والضحكات للظالمين .. أو الأعمال القليلة وبقدر الحاجة والضرورة كما تقدم .. لكنها لا تبرر إقامة المناظرات المطوّلة في الجدال عن الطغاة والظالمين .. أو كتابة المراجعات والمخطوطات والتأصيلات المطولة في الجدال عن الطواغيت .. وعن أنظمتهم الفاسدة .. ومناهجهم الباطلة .. فالتقية لا تبرر مثل هذه الأفعال .. ولا يمكن لها ـ مهما وسّعنا بها ـ أن تستوعب مثل هذه الأفعال .. كما أن هذه الأفعال لا يُمكن ولا يُقبل أن تُدرج في خانة التقية!

كذلك فإن الاستضعاف وأجواء التقية لا تبرر التخلي عن العقيدة والتوحيد .. أو الانسلاخ عن المبادئ والثوابت التي جاء بها الإسلام .. كما لا تبرر انتهاج طرق أهل الباطل والبدع والزيغ والأهواء.
إذ أن ممن مروا في ظروف بلاء وجهاد .. تراهم لكي يصرفوا عيون الظالمين عنهم ينخرطون في جماعات، وطرق مُحدثة ما أنزل الله بها من سلطان .. تميل في مجملها إلى التجهم الإرجاء .. أو التصوف .. أو التشيع .. وغير ذلك من التجمعات الديمقراطية المعاصرة .. التي تعمل للإسلام عن طريق الديمقراطية .. والانتخابات النيابية التشريعية .. فهذا لا يجوز .. والتقية لا تبرر لهم أن يفعلوا ذلك!

5- الاستضعاف حالة مرضية شاذة .. واستثنائية .. لا تجتمع الأمة عليها .. كما لا يجوز الاستسلام لها أو الرضى بها .. وإنما يجب العمل على دفعها وإزالتها .. ما أمكن إلى ذلك سبيلاً .. وأمرُ الله تعالى عباده المؤمنين بالإعداد، كما في قوله تعالى:{ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ }الأنفال:60. هو من قبيل رفع صفة الاستضعاف عن المسلمين .. فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله تعالى من المؤمن الضعيف.

وبالتالي فإن التعايش مع الاستضعاف وأحكامه مع وجود القدرة على دفعه وإزالته .. ذنب ووزر يطال المتعايشين .. وكل من رضي بتعايشهم وواقعهم .. فأحكام الاستضعاف يجوز اللجوء إليها مع العجز والضعف لا مع القدرة والقوة .. وهي رخصة للمستضعفين .. لا للأقوياء المقتدرين.
والسؤال الذي يطرح نفسه، ما الذي يجب على المسلمين في أجواء الاستضعاف والتقية .. هل يجوز لهم الاستسلام للأمر الواقع المريض .. أم يجب عليهم شيء نحو أمتهم ودينهم؟
أقول: تجب عليهم أمور عدة: منها: تشخيص أسباب الاستضعاف بدقة .. والعمل قدر الاستطاعة على دفعها وإزالتها، لاستئناف حياة إسلامية راشدة من جديد .. ومن ذلك بذل الإعداد ببعديه المادي والمعنوي ـ كما تقدم ـ والاستعانة على قضاء حوائجهم بالكتمان.
ومنها: الثبات على التوحيد الخالص، والاعتقاد الصحيح ..
ومنها: القيام بكل ما هو ميسور ومقدور عليه، فالميسور لا يسقط بالمعسور .. كنشر الدعوة بين الناس .. ودعوتهم إلى التوحيد الخالص .. وتربية الأبناء والأجيال على آداب وتعاليم الإسلام ما أمكن لذلك سبيلاً .. وغير ذلك من الأعمال الممكنة.

6- العالِم ـ كما تقدم ـ كغيره من المسلمين يجوز له أن يأخذ بالتقية بشروطها .. لكن كلما كان العالم في موضع القدوة والأسوة .. كلما كانت العزيمة هي الأولى بحقه .. وكانت المصلحة الشرعية تقتضي منه أن يقدم العزيمة على التقية.

7- الشخص الذي يعيش ظروف التقية وأجواءها ـ وبخاصة إن كان من المجاهدين وممن لهم سابقة جهاد وبلاء في سبيل الله ـ ثم يُصرح ببعض التصريحات الخاطئة للصحافة أو بعض وسائل الإعلام .. والتي تنم عن نوع موالاة أو مداهنة للطغاة الظالمين .. ينبغي أن يتسع بحقه التأويل .. وأن لا يتعدى الإنكار عليه ـ إن كان ولا بد ـ إلى درجة التكفير!

لا ضير في أن يُخطّأ .. أو يُنصَح .. ويبين له حدود التقية الشرعية التي يجوز استخدامها في مثل هذه المواضع .. لكن لا أرى جواز التسرع إلى تكفيره .. أو تجريمه .. لخطورة التكفير وما يترتب عليه .. ولأن النصوص الشرعية ذاتها تنهى عن التكفير في مواضع الظن والشبهات والاحتمالات .. والتي منها أجواء التقية والإكراه.
بعض قادة العمل الجهادي والإسلامي .. قد يضطرون ـ في ظروف وأجواء الخوف، والقهر، والإرهاب، والمطاردة، والجوع، والحصارات الجائرة ـ أن يستشرفوا العمل السياسي والإعلامي .. فليس كلما كشَّرَ أحدهم بوجه طاغية أو ظالم .. أو ضحك له ـ وفي قلبه يلعنه ـ نبادر إلى رميه بالكفر والنفاق .. والخروج من الإسلام .. ونحمل عليه نصوص وأدلة الموالاة والمعاداة .. كما يفعل البعض .. غفر الله لنا ولهم!
آن الأوان للعاملين في حقل الدعوة إلى الله .. أن يترفعوا عن هذا المستوى .. وهذه السلوكيات التي لا يطرب لها إلا الغُلاة!

8- لا يجوز أن تُمارس التقية من أجل خوف موهوم مظنون .. أو خشية موهومة .. فيُخيّل للمرء أنه في خطر لا طاقة له به .. فيلتجئ للعمل بالتقية .. وفي الحقيقة أنه ليس كذلك .. وهو بغنى عن استعمال التقية أو اللجوء إليها!

كم من مسلم يعيش في مجتمع آمن نسبياً .. يمكنه أن يُمارس فيه عبادته لربه بصورة صحيحة .. كما يمكنه أن يلتزم بالهدي الظاهر من غير ضرر أو حرج .. ثم هو مع ذلك تراه يهجر الجمعة والجماعات .. ولا يلتزم بالهدي الظاهر .. لخوف موهوم مظنون .. مصدره وساوس الشيطان!

لما دخل يحيى بن معين ـ وكان ممن ترخص لنفسه فعمل بالتقية في فتنة خلق القرآن ـ على الإمام أحمد بن حنبل وهو مريض، فسلَّم عليه فلم يرد السلام، فما زال يعتذر، ويقول: حديث عمار، وقال الله:{ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ }النحل:106. فقلب أحمد وجهه إلى الجانب الآخر .. فقال يحيى: لا يقبل عذراً! فلما خرج يحيى قال أحمد: يحتج بحديث عمَّار؛ وحديث عمَّار مررتُ بهم وهم يسبونك، فنهيتهم فضربوني، وأنتم قيل لكم: نريد أن نضربكم .. فقال يحيى: والله ما رأيت تحت أديم السماء أفقه في دين الله منك!

الاستضعاف الناتج عن جُبنٍ غير مبرر .. لا يُبرر اللجوء إلى استعمال التقية .. وإنما يستدعي التحرر من الجبن .. ومن ثم العمل والنهوض .. بما يتعين النهوض به .. قال تعالى:{ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ }التوبة:13.

9- لا نستطيع أن نشير إلى مجتمع من المجتمعات على أنه دار تقية على الإطلاق، أو أنه العكس .. وبالتالي نلزم جميع من فيه أن يلتزموا بالتقية أو العكس .. لأننا قد ذكرنا من قبل أن القوة وكذلك الضعف أمر نسبي يختلف من شخص لآخر .. ومن جماعة لأخرى .. وبالتالي ما يجوز للضعيف لا يجوز للقوي .. وما يجب على القوي لا يجب على الضعيف .. ومن كان له منعة أو ركناً شديداً يأوي إليه من قبيلة أو عشيرة قوية أو زعيم قوي .. أو مكانة عالية قوية في المجتمع .. يختلف عمن ليس كذلك .. ولا عنده شيء من ذلك .. ومن كان يعيش في مجتمع من المجتمعات خفية وبإقامة مزورة .. وجواز سفر مزور .. وحيداً طريداً .. يتوقع أن يتخطفه الظالمون في أي وقت .. ليس كمن يكون من أهل البلد .. ولا يعيش شيئاً من تلك الظروف!

10- التقية درجات أعلاها إظهار الكفر .. وأدناها التبسّم في وجوه الظالمين والفاجرين اتقاء فجورهم وظلمهم وفحشهم .. وبالتالي لا يجوز استعمال أعلى درجات التقية .. في المواضع التي يُكتَفى فيه باستعمال أدنى درجات التقية .. أو ما يُقاربها من الدرجات .. كالضحك لهم .. مثلاً .. والذي هو أعلى درجة من التبسم!

أي لمن يريد أن يستعمل التقية .. عليه أن يجتهد في تحديد مستوى درجة التقية التي يحتاجها .. وكم يحتاج منها .. في دفع الأذى والضرر عنه .. فيلتزمها ـ نوعاً وكمَّاً ـ من غير جنوحٍ إلى زيادة أو نقصان!
كذلك لا يجوز الالتجاء إلى استعمال أعلى درجات التقية المتمثلة بإظهار الكفر باللسان .. إلا لضرورة ماسّة كبيرة .. أو لدفع ضرر بليغ محقق غير محتمل أو يصعب احتماله .. إذ ليس لأدنى ضررٍ محتمل أو حاجة يجوز أن يُتلفّظ بالكفر .. أو يجوز الالتجاء إلى استعمال أعلى درجات التقية .. والله تعالى أعلم.