ساميا
03-12-2010, 03:26 AM
الشيخ فيصل مولوي (حفظه الله)
السلام على أهل الكتاب، من الموضوعات التي تلقى أهمية كبيرة في بلد كلبنان، وفي بلاد أخرى كثيرة لا يشكّل فيها المسلمون أكثرية عددية، رغم أن هذا الموضوع لا يقلّ في رأينا أهمية في البلاد ذات الأكثرية الإسلامية، لأنه أحد الأسباب التي يدخل منها العدو الخارجي من أجل تفتيت المجتمع من الداخل، عن طريق افتعال أنواع من العداوة تمزّق الشرائح الاجتماعية، وتكبّر الخلافات القائمة بينها.
ولقد تجاوز المسلمون في لبنان بواقعهم هذه المسألة منذ زمن بعيد، فكانت التحيّة المتبادلة بينهم وبين غير المسلمين سبباً في زيادة التآلف وشيوع روح التسامح بين جميع اللبنانيين، ولو أن بعضهم كان يستعمل ألفاظاً أخرى، غير التحية المعتمدة بين المسلمين(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). إلاّ أنه مع نموّ ظاهرة الصحوة الإسلامية، ظهرت مجموعات من الشباب المسلم الملتزم، في نطاق الحركات الإسلامية المعروفة أو الجمعيّات الإسلامية المتناثرة هنا وهناك، تقف من هذا الموضوع أمام نصّ واحد هو الحديث الصحيح المشهور: (لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام ـ وإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) وهو حديث كثرت رواياته الصحيحة ولكنها كلها وردت في مناسبات متقاربة كان يطغى فيها الحقد اليهودي - رغم وجود العهود معهم - فيقولون للمسلمين عند التحية: (السام عليكم) والسام هو الموت. هذا النص فهمه كثير من العلماء، من خلال الحرب التاريخية التي كان يعيشها المسلمون، فاعتبروه النص الحاكم الذي يدفع إلى تأويل النصوص الأخرى المعارضة أو تخصيصها، وأخذه بعض المسلمين اليوم بهذا الفهم الخاطئ.
ولذلك رأيت من الضروري، أن أتناول هذا الموضوع من زاوية علمية محضة، فأبدأ بمناقشة هذا الرأي، ثم أضع هذه القضية الجزئية في إطارها العام، ثم أتناول ما ورد فيها من نصوص عامة وخاصة وأحاول الجمع بينها لتشكّل لكل مسلم ثقافة شرعية متكاملة غير متناقضة. وصدق الله العظيم القائل عن كتابه الكريم: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }
أولاً : أسباب منع المسلم من ابتداء أهل الكتاب بالسلام
لقد انتشر في تراثنا الفقهي الإسلامي القول بعدم جواز ابتداء غير المسلم بالسلام، وذلك استناداً لحديث (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام). ونظراً لغرابة هذا القول في ظل العلاقات الإنسانية الطبيعية بين المسلمين وغيرهم، لجأ بعض العلماء إلى تحليل أسباب ذلك فقالوا :
1. السلام على أهل الذمة مكروه لما فيه من تعظيمهم، ولا بأس أن يسلّم على الذمّي إن كانت له حاجة، لأن السلام عندئذ لأجل الحاجة لا لتعظيمه. (ابن عابدين في الحاشية 5/264 الطبعة المصرية).
2. السلام تحية، والكافر ليس من أهلها. (حاشية العدوي على الخرشي 3/110 طبعة بولاق).
3. الابتداء بالسلام نوع من الإكرام، وهو بسط له وإيناس وإظهار ودّ، والله تعالى يقول: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة].(نهاية المحتاج 8/49 طبعة المكتبة الإسلامية).
4. لا يجوز فعل ما يستدعي مودة الكافر ومحبّته لأن المسلم مأمور بمعاداة الكافر. (فتح الباري 11/19). وإفشاء السلام يؤدّي إلى التحابب لقول رسول الله : (ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم) [رواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري وعن ابن مسعود]. وفي الروايتين ضعف لكن تؤيّده رواية أخرى في كتاب التوبة، وحديث آخر عن ابن الزبير في نفس المعنى رواه البزار بإسناد جيد.
وجوابنا على ذلك :
1. أن السلام بالنسبة للمسلم هو التحية المعروفة بين جميع الشعوب، ولا علاقة له بالتعظيم. وقد روي أن رسول الله قال: (تحية المسلم السلام). وكان هو يسلّم على اليهود، ولم يمتنع إلاّ عندما حوّروا هم كلمة السلام إلى السام. ومع ذلك كان يرد عليهم بكلمة (وعليكم)، وهذا الرد لا يمكن أن يكون تعظيماً لهم. والله تعالى يقول: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} والتعارف لا يكون إلاّ بنوع من التحية. والمسلم لا يحيد عن تحيّته الخاصة (السلام) إلاّ لسبب وهو وجود الحرب، لأن السلام تأمين، وهو لا يكون مع الحرب. ويجمع الفقهاء على وجوب رد تحية الكافر بأحسن منها أو مثلها استناداً للآية الكريمة { وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسنَ منها أو رُدّوها..} [سورة النساء، الآية 86].
2. السلام تحية. هذا صحيح. ولكن القول أن الكافر ليس من أهلها لا يمكن أن يكون مقبولاً، لأنه يناقض الآية السابقة { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ..} ويناقض فعل الرسول الثابت أنه كان يسلّم على غير المسلمين ويردّ عليهم السلام، ويناقض فعل الصحابة والسلف وسيأتي بيان ذلك.
3. الابتداء بالسلام ليس إكراماً للمسلَّم عليه، بل هو إكرام للمسلِّم نفسه، لقول الرسول : (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه].
أما أنه بسط وإيناس لهم، فليس هذا مستغرباً على المسلم، إنه داعية إلى الله. ومن واجب الداعية أن يتلطّف في دعوته ويرفق بالناس، ويؤنسهم ويتباسط معهم، وإلاّ فما هي الحكمة والموعظة الحسنة التي أمر الداعية بها؟
وليس ضرورياً أن يكون السلام إظهار ودّ. بل قد يكون مجرّد تحية للتعارف. على أن المودّة المنهي عنها هي مودّة الكافرين المحاربين، وليس كل كافر. فالآية الكريمة تنهى عن مودة من يحادّ الله { لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة]. وهؤلاء جمعوا مع الكفر المحاربة. والآية الثانية التي نهت عن مودّة الكافر قوله تعالى: {.. لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإيّاكم..} فهؤلاء أيضاً قد جمعوا بين الكفر والمحاربة.
أما مجرّد الكفر، فقد يوجد معه سبب للمودّة، كما في حال الزوجة الكتابية، فقد يودّها زوجها ولو كانت كتابية، والله تعالى يقول: { وجعل بينكم مودّة ورحمة } فإذا وجدت المودّة من الزوج المسلم لزوجته الكتابية لا ينهى عن ذلك، على أن ينتبه المسلم أن المودّة المشروعة هنا هي بسبب رباط الزوجية وما إذا كانت تقوم بحقها، وليس لكفرها.
4. أما القول بأنه لا يجوز للمسلم فعل ما يستدعي مودّة الكافر ومحبّته اعتماداً على أن (إفشاء السلام يؤدي إلى التحابب) فهو منقوض بقول رسول الله : (تهادوا .. تحابّوا ..) فالتهادي أيضاً يؤدي إلى التحابب.
ومن الثابت أن رسول الله (أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة حين كان بمكة محارباً، واستهداه أدماً) [ذكر ذلك السرخسي في المبسوط 10/92]. واتفق الأئمة الأربعة على صحة الهبة للحربي وهي هدية، كما أجاز جمهور الفقهاء قبول الهدية من الكفّار الحربيين لأن النبي قبل هدية المقوقس عظيم القبط، وأهدى له كسرى وقيصر فقبل منهما، وأهدت له الملوك فقبل منها كما روى أحمد والترمذي.
فتبين أن التهادي مع الكفار ليس ممنوعاً، وإن أدّى إلى شيء من الحب، لأن الحب الممنوع هو الذي يتعلّق بالكفر، أما إذا كان للحب سبب آخر فليس ممنوعاً. كحب الرجل زوجته الكتابية، وحب المسلم لأقربائه الكفّار. والله تعالى لم يطلب من المسلم الامتناع عن الحب البشري وهو حب الآباء والأولاد والأزواج والعشيرة والأموال، بل طلب أن يكون حب الله ورسوله هو الأقوى عند التعارض { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين} [سورة التوبة، الآية 24]. ومن المعروف أن الآباء والأبناء والإخوان الزوجات والعشيرة يمكن أن يكونوا كفاراً. وأن الأموال والتجارة والمساكن يمكن أن تكون في بلاد غير إسلامية فيحب المسلم هذه البلاد لوجود أمواله وتجارته ومساكنه فيها. ولكن عند التعارض يجب أن يتغلّب حبّ الله ورسوله ولو تخلّى المسلم عن كل هؤلاء.
ثانياً : نصوص من القرآن الكريم
1. { يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ..} [سورة النور، الآية 27]
{.. فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم، تحية من عند الله مباركة طيّبة، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون} [سورة النور، الآية 61].
فكلمة (بيوت) هنا تشمل أي بيت ندخل إليه سواء كان بيت مسلم أو غير مسلم.
وكلمة (أنفسكم) استعملها القرآن بمعنى الناس جميعاً وليس فقط المسلمين. قال تعالى مخاطباً العرب المشركين: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }.
فالآية نص عام في وجوب السلام عند دخول البيوت سواء على مسلمين أو غير مسلمين.
وقد ذكر الطبري في تفسير هذه الآية عن إبراهيم: إذا دخلت بيتاً فيه يهود فقل: السلام عليكم. وإن لم يكن فيه أحد فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
2. { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [سورة القصص، الآية 55].
فهذه الآية نص عام في كل مسلم يستمع من غير المسلمين إلى حديث لا يرضي الله، عليه أن يفارقهم ولا يبقى في هذا المجلس. قال بعض المفسّرين: السلام هنا للمتاركة لا للتحية. ونقول: إن المتاركة يمكن أن تكون مع الشتائم، ويمكن أن تكون على الأقل بدون هذه الكلمة الطيبة (السلام) ولكن الله تعالى شرع لنا عند مفارقة الكفّار أن نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وإذا كانت تحية المتاركة (السلام) فتحية الاستقبال كذلك من باب أولى، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخيرة) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه النسائي].
3. { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]
أورد القرطبي في تفسير هذه الآية قول بعض العلماء أنها منسوخة بآية السيف. ثم ذكر قول ابن العربي: ( لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلّموا على المشركين، ولا نهوا عن ذلك. بل أمروا بالصفح والهجر الجميل. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحيّيهم ويدانيهم ولا يداهنهم). ورجح القرطبي، رأي ابن العربي فقال: قلت: هذا القول ـ أي قول ابن العربي ـ أشبه بدلائل السنّة. وقد بيّنا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفّار. فلا حاجة إلى دعوى النسخ والله أعلم.
4. { وقيله : يا رب، إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. فاصفح عنهم وقل : سلام، فسوف يعلمون ..} [سورة الزخرف، الآية 89].
يقول الشنقيطي في تفسير هذه الآية في أضواء البيان أنها: "تضمّنت ثلاثة أمور منها: أن يقول للكفار: سلام. وقد بيّن الله تعالى أن السلام للكفّار هو شأن عباده الطيّبين. ومعلوم أنه سيّدهم، قال تعالى: {… وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]. {… سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين …} [سورة القصص، الآية 55]. وقال إبراهيم لأبيه: {.. سلام عليك }.
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفّار من أذاهم. ومن مجازاتهم لهم بالسوء. أي سلمتم منّا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وكثير من أهل العلم يقولون: إن قوله تعالى: { فاصفح عنهم …} وما في معناه منسوخ بآيات السيف. وجماعات من المحققين يقولون: هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك".
5. { قال : سلام عليك. سأستغفر لك ربّي، إنّه كان بي حفيّاً } [سورة مريم، الآية 47].
ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية: (الجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة، لا التحية. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال بعضهم تسليمه: هو تحية مفارق. وأجاز تحيّة الكافر، وأن يبدأ بها. وقيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم، قال الله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحبّ المقسطين } [سورة الممتحنة، الآية 7]. وقال تعالى: { لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ..} { وقال إبراهيم لأبيه : سلام عليك}.
ورجّح القرطبي قول سفيان بن عيينة في جواز التحية للكافر، وذكر ممن يرى ذلك: الطبري ونسبه إلى السلف، وابن مسعود وأبو أمامة والحسن البصري والأوزاعي.
6. أما التفريق في التحية بين المسلم (السلام عليكم) وبين غير المسلم (مرحباً أو سواها) فهي مخالفة للأدب القرآني. فقد نصّ الله تعالى على التحية للمسلم فقال: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل : سلام عليكم ..} [سورة الأنعام، الآية 54]. وذكر نفس النص في تحية غير المسلمين { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ..} بالإضافة للآيات الأخرى المذكورة سابقاً.
7. ومن أعجب الأمور قول بعض المسلمين بعدم جواز رد التحية على غير المسلم بلفظ السلام. مع أن الله تعالى يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها ..} [سورة النساء، الآية 86].
وجمهور الفقهاء يوجبون ردّ التحية بأحسن منها أو بمثلها. وقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية : "التحية مصدر حيّاه، إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل، ثم صارت التحية اسماً لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل عليه … وجعلت تحية المسلمين السلام، للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان، وأنهم أهل السلم ومحبّو السلامة …"
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخيّر، وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء،ورد عين التحية لمن دونهم.
وروي عن قتادة وابن زيد: أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين، وردّها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفّار عامّة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنّة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها } [مجمع الزوائد - كتاب الأدب. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير إسحق بن أبي إسرائيل وهو ثقة].
أقول - والكلام للشيخ رشيد رضا - وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين. - راجع سورة النساء من الآية 74 حتى 94 - ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمّنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى، والوفاء من أخلاقهم الراسخة. ولذلك عدّ الإمام - الشيخ محمد عبده - ذكر التحية مناسباً للسياق، بكونها من وسائل السلام.
ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوّة إفشاء السلام إلاّ مع المحاربين، لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه. فإذا فتك به بعد ذلك كان خائناً ناكثاً للعهد. وكان اليهود يسلّمون على النبي فيرد عليهم السلام، حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت، فكان النبي يجيبهم بقوله (وعليكم). وسمعت عائشة واحداً منهم يقول له: السام عليكم. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبيّناً لها أن المسلم لا يكون فاحشاً ولا سبّاباً، وأن الموت علينا وعليهم.
وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنه كان يقول للذّمي: السلام عليك. وعن الشعبي عن أئمة السلف أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: فحيّوا بأحسن منها (للمسلمين) وردّوها (لأهل الكتاب). وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة" .
قال ابن القيّم متحدثاً عن ردّ للسلام على الكتابي إذا بدأ هو به: (الذي تقتضيه الأدلّة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام. فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: {وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها}. فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الرد (وعليكم) بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم - وهو قولهم السام عليكم - … فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: السلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه).
السلام على أهل الكتاب، من الموضوعات التي تلقى أهمية كبيرة في بلد كلبنان، وفي بلاد أخرى كثيرة لا يشكّل فيها المسلمون أكثرية عددية، رغم أن هذا الموضوع لا يقلّ في رأينا أهمية في البلاد ذات الأكثرية الإسلامية، لأنه أحد الأسباب التي يدخل منها العدو الخارجي من أجل تفتيت المجتمع من الداخل، عن طريق افتعال أنواع من العداوة تمزّق الشرائح الاجتماعية، وتكبّر الخلافات القائمة بينها.
ولقد تجاوز المسلمون في لبنان بواقعهم هذه المسألة منذ زمن بعيد، فكانت التحيّة المتبادلة بينهم وبين غير المسلمين سبباً في زيادة التآلف وشيوع روح التسامح بين جميع اللبنانيين، ولو أن بعضهم كان يستعمل ألفاظاً أخرى، غير التحية المعتمدة بين المسلمين(السلام عليكم ورحمة الله وبركاته). إلاّ أنه مع نموّ ظاهرة الصحوة الإسلامية، ظهرت مجموعات من الشباب المسلم الملتزم، في نطاق الحركات الإسلامية المعروفة أو الجمعيّات الإسلامية المتناثرة هنا وهناك، تقف من هذا الموضوع أمام نصّ واحد هو الحديث الصحيح المشهور: (لا تبدأو اليهود والنصارى بالسلام ـ وإذا سلّموا عليكم فقولوا: وعليكم) وهو حديث كثرت رواياته الصحيحة ولكنها كلها وردت في مناسبات متقاربة كان يطغى فيها الحقد اليهودي - رغم وجود العهود معهم - فيقولون للمسلمين عند التحية: (السام عليكم) والسام هو الموت. هذا النص فهمه كثير من العلماء، من خلال الحرب التاريخية التي كان يعيشها المسلمون، فاعتبروه النص الحاكم الذي يدفع إلى تأويل النصوص الأخرى المعارضة أو تخصيصها، وأخذه بعض المسلمين اليوم بهذا الفهم الخاطئ.
ولذلك رأيت من الضروري، أن أتناول هذا الموضوع من زاوية علمية محضة، فأبدأ بمناقشة هذا الرأي، ثم أضع هذه القضية الجزئية في إطارها العام، ثم أتناول ما ورد فيها من نصوص عامة وخاصة وأحاول الجمع بينها لتشكّل لكل مسلم ثقافة شرعية متكاملة غير متناقضة. وصدق الله العظيم القائل عن كتابه الكريم: { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً }
أولاً : أسباب منع المسلم من ابتداء أهل الكتاب بالسلام
لقد انتشر في تراثنا الفقهي الإسلامي القول بعدم جواز ابتداء غير المسلم بالسلام، وذلك استناداً لحديث (لا تبدؤوا اليهود والنصارى بالسلام). ونظراً لغرابة هذا القول في ظل العلاقات الإنسانية الطبيعية بين المسلمين وغيرهم، لجأ بعض العلماء إلى تحليل أسباب ذلك فقالوا :
1. السلام على أهل الذمة مكروه لما فيه من تعظيمهم، ولا بأس أن يسلّم على الذمّي إن كانت له حاجة، لأن السلام عندئذ لأجل الحاجة لا لتعظيمه. (ابن عابدين في الحاشية 5/264 الطبعة المصرية).
2. السلام تحية، والكافر ليس من أهلها. (حاشية العدوي على الخرشي 3/110 طبعة بولاق).
3. الابتداء بالسلام نوع من الإكرام، وهو بسط له وإيناس وإظهار ودّ، والله تعالى يقول: { لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة].(نهاية المحتاج 8/49 طبعة المكتبة الإسلامية).
4. لا يجوز فعل ما يستدعي مودة الكافر ومحبّته لأن المسلم مأمور بمعاداة الكافر. (فتح الباري 11/19). وإفشاء السلام يؤدّي إلى التحابب لقول رسول الله : (ألا أدلّكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشو السلام بينكم) [رواه الطبراني عن أبي موسى الأشعري وعن ابن مسعود]. وفي الروايتين ضعف لكن تؤيّده رواية أخرى في كتاب التوبة، وحديث آخر عن ابن الزبير في نفس المعنى رواه البزار بإسناد جيد.
وجوابنا على ذلك :
1. أن السلام بالنسبة للمسلم هو التحية المعروفة بين جميع الشعوب، ولا علاقة له بالتعظيم. وقد روي أن رسول الله قال: (تحية المسلم السلام). وكان هو يسلّم على اليهود، ولم يمتنع إلاّ عندما حوّروا هم كلمة السلام إلى السام. ومع ذلك كان يرد عليهم بكلمة (وعليكم)، وهذا الرد لا يمكن أن يكون تعظيماً لهم. والله تعالى يقول: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} والتعارف لا يكون إلاّ بنوع من التحية. والمسلم لا يحيد عن تحيّته الخاصة (السلام) إلاّ لسبب وهو وجود الحرب، لأن السلام تأمين، وهو لا يكون مع الحرب. ويجمع الفقهاء على وجوب رد تحية الكافر بأحسن منها أو مثلها استناداً للآية الكريمة { وإذا حُيّيتم بتحيّة فحيّوا بأحسنَ منها أو رُدّوها..} [سورة النساء، الآية 86].
2. السلام تحية. هذا صحيح. ولكن القول أن الكافر ليس من أهلها لا يمكن أن يكون مقبولاً، لأنه يناقض الآية السابقة { وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ..} ويناقض فعل الرسول الثابت أنه كان يسلّم على غير المسلمين ويردّ عليهم السلام، ويناقض فعل الصحابة والسلف وسيأتي بيان ذلك.
3. الابتداء بالسلام ليس إكراماً للمسلَّم عليه، بل هو إكرام للمسلِّم نفسه، لقول الرسول : (إن أولى الناس بالله من بدأهم بالسلام) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه].
أما أنه بسط وإيناس لهم، فليس هذا مستغرباً على المسلم، إنه داعية إلى الله. ومن واجب الداعية أن يتلطّف في دعوته ويرفق بالناس، ويؤنسهم ويتباسط معهم، وإلاّ فما هي الحكمة والموعظة الحسنة التي أمر الداعية بها؟
وليس ضرورياً أن يكون السلام إظهار ودّ. بل قد يكون مجرّد تحية للتعارف. على أن المودّة المنهي عنها هي مودّة الكافرين المحاربين، وليس كل كافر. فالآية الكريمة تنهى عن مودة من يحادّ الله { لا تجدُ قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حادّ الله ورسوله ..} [سورة المجادلة]. وهؤلاء جمعوا مع الكفر المحاربة. والآية الثانية التي نهت عن مودّة الكافر قوله تعالى: {.. لا تتخذوا عدوّي وعدوّكم أولياء، تلقون إليهم بالمودة، وقد كفروا بما جاءكم من الحق، يخرجون الرسول وإيّاكم..} فهؤلاء أيضاً قد جمعوا بين الكفر والمحاربة.
أما مجرّد الكفر، فقد يوجد معه سبب للمودّة، كما في حال الزوجة الكتابية، فقد يودّها زوجها ولو كانت كتابية، والله تعالى يقول: { وجعل بينكم مودّة ورحمة } فإذا وجدت المودّة من الزوج المسلم لزوجته الكتابية لا ينهى عن ذلك، على أن ينتبه المسلم أن المودّة المشروعة هنا هي بسبب رباط الزوجية وما إذا كانت تقوم بحقها، وليس لكفرها.
4. أما القول بأنه لا يجوز للمسلم فعل ما يستدعي مودّة الكافر ومحبّته اعتماداً على أن (إفشاء السلام يؤدي إلى التحابب) فهو منقوض بقول رسول الله : (تهادوا .. تحابّوا ..) فالتهادي أيضاً يؤدي إلى التحابب.
ومن الثابت أن رسول الله (أهدى إلى أبي سفيان تمر عجوة حين كان بمكة محارباً، واستهداه أدماً) [ذكر ذلك السرخسي في المبسوط 10/92]. واتفق الأئمة الأربعة على صحة الهبة للحربي وهي هدية، كما أجاز جمهور الفقهاء قبول الهدية من الكفّار الحربيين لأن النبي قبل هدية المقوقس عظيم القبط، وأهدى له كسرى وقيصر فقبل منهما، وأهدت له الملوك فقبل منها كما روى أحمد والترمذي.
فتبين أن التهادي مع الكفار ليس ممنوعاً، وإن أدّى إلى شيء من الحب، لأن الحب الممنوع هو الذي يتعلّق بالكفر، أما إذا كان للحب سبب آخر فليس ممنوعاً. كحب الرجل زوجته الكتابية، وحب المسلم لأقربائه الكفّار. والله تعالى لم يطلب من المسلم الامتناع عن الحب البشري وهو حب الآباء والأولاد والأزواج والعشيرة والأموال، بل طلب أن يكون حب الله ورسوله هو الأقوى عند التعارض { قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربّصوا حتى يأتي الله بأمره، والله لا يهدي القوم الفاسقين} [سورة التوبة، الآية 24]. ومن المعروف أن الآباء والأبناء والإخوان الزوجات والعشيرة يمكن أن يكونوا كفاراً. وأن الأموال والتجارة والمساكن يمكن أن تكون في بلاد غير إسلامية فيحب المسلم هذه البلاد لوجود أمواله وتجارته ومساكنه فيها. ولكن عند التعارض يجب أن يتغلّب حبّ الله ورسوله ولو تخلّى المسلم عن كل هؤلاء.
ثانياً : نصوص من القرآن الكريم
1. { يا أيّها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها ..} [سورة النور، الآية 27]
{.. فإذا دخلتم بيوتاً فسلّموا على أنفسكم، تحية من عند الله مباركة طيّبة، كذلك يبيّن الله لكم الآيات لعلّكم تعقلون} [سورة النور، الآية 61].
فكلمة (بيوت) هنا تشمل أي بيت ندخل إليه سواء كان بيت مسلم أو غير مسلم.
وكلمة (أنفسكم) استعملها القرآن بمعنى الناس جميعاً وليس فقط المسلمين. قال تعالى مخاطباً العرب المشركين: { لقد جاءكم رسول من أنفسكم }.
فالآية نص عام في وجوب السلام عند دخول البيوت سواء على مسلمين أو غير مسلمين.
وقد ذكر الطبري في تفسير هذه الآية عن إبراهيم: إذا دخلت بيتاً فيه يهود فقل: السلام عليكم. وإن لم يكن فيه أحد فقولوا: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين.
2. { وإذا سمعوا اللغو أعرضوا عنه، وقالوا: لنا أعمالنا ولكم أعمالكم، سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين } [سورة القصص، الآية 55].
فهذه الآية نص عام في كل مسلم يستمع من غير المسلمين إلى حديث لا يرضي الله، عليه أن يفارقهم ولا يبقى في هذا المجلس. قال بعض المفسّرين: السلام هنا للمتاركة لا للتحية. ونقول: إن المتاركة يمكن أن تكون مع الشتائم، ويمكن أن تكون على الأقل بدون هذه الكلمة الطيبة (السلام) ولكن الله تعالى شرع لنا عند مفارقة الكفّار أن نقول لهم: سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين.
وإذا كانت تحية المتاركة (السلام) فتحية الاستقبال كذلك من باب أولى، لأن الرسول (صلى الله عليه وسلم) يقول: (ليست الأولى بأحق من الأخيرة) [رواه أبو داود والترمذي وحسّنه النسائي].
3. { وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]
أورد القرطبي في تفسير هذه الآية قول بعض العلماء أنها منسوخة بآية السيف. ثم ذكر قول ابن العربي: ( لم يؤمر المسلمون يومئذ أن يسلّموا على المشركين، ولا نهوا عن ذلك. بل أمروا بالصفح والهجر الجميل. وقد كان عليه الصلاة والسلام يقف على أنديتهم ويحيّيهم ويدانيهم ولا يداهنهم). ورجح القرطبي، رأي ابن العربي فقال: قلت: هذا القول ـ أي قول ابن العربي ـ أشبه بدلائل السنّة. وقد بيّنا في سورة مريم اختلاف العلماء في جواز التسليم على الكفّار. فلا حاجة إلى دعوى النسخ والله أعلم.
4. { وقيله : يا رب، إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون. فاصفح عنهم وقل : سلام، فسوف يعلمون ..} [سورة الزخرف، الآية 89].
يقول الشنقيطي في تفسير هذه الآية في أضواء البيان أنها: "تضمّنت ثلاثة أمور منها: أن يقول للكفار: سلام. وقد بيّن الله تعالى أن السلام للكفّار هو شأن عباده الطيّبين. ومعلوم أنه سيّدهم، قال تعالى: {… وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا: سلاماً } [سورة الفرقان، الآية 63]. {… سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين …} [سورة القصص، الآية 55]. وقال إبراهيم لأبيه: {.. سلام عليك }.
ومعنى السلام في الآيات المذكورة، إخبارهم بسلامة الكفّار من أذاهم. ومن مجازاتهم لهم بالسوء. أي سلمتم منّا لا نسافهكم، ولا نعاملكم بمثل ما تعاملوننا.
وكثير من أهل العلم يقولون: إن قوله تعالى: { فاصفح عنهم …} وما في معناه منسوخ بآيات السيف. وجماعات من المحققين يقولون: هو ليس بمنسوخ.
والقتال في المحل الذي يجب فيه القتال، والصفح عن الجهلة، والإعراض عنهم، وصف كريم، وأدب سماوي لا يتعارض مع ذلك".
5. { قال : سلام عليك. سأستغفر لك ربّي، إنّه كان بي حفيّاً } [سورة مريم، الآية 47].
ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية: (الجمهور على أن المراد بسلامه المسالمة التي هي المتاركة، لا التحية. وعلى هذا لا يبدأ الكافر بالسلام. وقال بعضهم تسليمه: هو تحية مفارق. وأجاز تحيّة الكافر، وأن يبدأ بها. وقيل لابن عيينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال نعم، قال الله تعالى: { لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم. إن الله يحبّ المقسطين } [سورة الممتحنة، الآية 7]. وقال تعالى: { لقد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم ..} { وقال إبراهيم لأبيه : سلام عليك}.
ورجّح القرطبي قول سفيان بن عيينة في جواز التحية للكافر، وذكر ممن يرى ذلك: الطبري ونسبه إلى السلف، وابن مسعود وأبو أمامة والحسن البصري والأوزاعي.
6. أما التفريق في التحية بين المسلم (السلام عليكم) وبين غير المسلم (مرحباً أو سواها) فهي مخالفة للأدب القرآني. فقد نصّ الله تعالى على التحية للمسلم فقال: { وإذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا، فقل : سلام عليكم ..} [سورة الأنعام، الآية 54]. وذكر نفس النص في تحية غير المسلمين { سلام عليكم لا نبتغي الجاهلين ..} بالإضافة للآيات الأخرى المذكورة سابقاً.
7. ومن أعجب الأمور قول بعض المسلمين بعدم جواز رد التحية على غير المسلم بلفظ السلام. مع أن الله تعالى يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها ..} [سورة النساء، الآية 86].
وجمهور الفقهاء يوجبون ردّ التحية بأحسن منها أو بمثلها. وقد ذكر الشيخ رشيد رضا في تفسير هذه الآية : "التحية مصدر حيّاه، إذا قال له حيّاك الله. هذا هو الأصل، ثم صارت التحية اسماً لكل ما يقوله المرء لمن يلاقيه أو يقبل عليه … وجعلت تحية المسلمين السلام، للإشعار بأن دينهم دين السلام والأمان، وأنهم أهل السلم ومحبّو السلامة …"
علم من الآية أن الجواب عن التحية له مرتبتان: أدناهما ردها بعينها، وأعلاهما الجواب عنها بأحسن منها. فالمجيب مخيّر، وله أن يجعل الأحسن لكرام الناس كالعلماء والفضلاء،ورد عين التحية لمن دونهم.
وروي عن قتادة وابن زيد: أن جواب التحية بأحسن منها للمسلمين، وردّها بعينها لأهل الكتاب، وقيل للكفّار عامّة. ولا دليل على هذه التفرقة من لفظ الآية ولا من السنّة. وقد روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال: من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً، فإن الله يقول: { وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها } [مجمع الزوائد - كتاب الأدب. قال الهيثمي: رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح غير إسحق بن أبي إسرائيل وهو ثقة].
أقول - والكلام للشيخ رشيد رضا - وقد نزلت هذه الآية في سياق أحكام الحرب ومعاملة المحاربين والمنافقين. - راجع سورة النساء من الآية 74 حتى 94 - ومن قال لخصمه السلام عليكم فقد أمّنه على نفسه، وكانت العرب تقصد هذا المعنى، والوفاء من أخلاقهم الراسخة. ولذلك عدّ الإمام - الشيخ محمد عبده - ذكر التحية مناسباً للسياق، بكونها من وسائل السلام.
ومن آداب الإسلام التي كانت فاشية في عهد النبوّة إفشاء السلام إلاّ مع المحاربين، لأن من سلّم على أحد فقد أمّنه. فإذا فتك به بعد ذلك كان خائناً ناكثاً للعهد. وكان اليهود يسلّمون على النبي فيرد عليهم السلام، حتى كان من بعض سفهائهم تحريف السلام بلفظ (السام) أي الموت، فكان النبي يجيبهم بقوله (وعليكم). وسمعت عائشة واحداً منهم يقول له: السام عليكم. فقالت له: وعليك السام واللعنة. فانتهرها عليه الصلاة والسلام مبيّناً لها أن المسلم لا يكون فاحشاً ولا سبّاباً، وأن الموت علينا وعليهم.
وروي عن بعض الصحابة كابن عباس أنه كان يقول للذّمي: السلام عليك. وعن الشعبي عن أئمة السلف أنه قال لنصراني سلّم عليه: وعليك السلام ورحمة الله تعالى. فقيل له في ذلك فقال: أليس في رحمة الله يعيش؟ وروى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: فحيّوا بأحسن منها (للمسلمين) وردّوها (لأهل الكتاب). وعليه يقال للكتابي في رد السلام عين ما يقوله وإن كان فيه ذكر الرحمة" .
قال ابن القيّم متحدثاً عن ردّ للسلام على الكتابي إذا بدأ هو به: (الذي تقتضيه الأدلّة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له: وعليك السلام. فإن هذا من باب العدل، والله يأمر بالعدل والإحسان. وقد قال تعالى: {وإذا حيّيتم بتحية فحيّوا بأحسن منها أو ردّوها}. فندب إلى الفضل وأوجب العدل. ولا ينافي هذا شيئاً من أحاديث الباب بوجه ما، فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الرد (وعليكم) بناءً على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيّتهم - وهو قولهم السام عليكم - … فإذا زال هذا السبب، وقال الكتابي: السلام عليكم ورحمة الله، فالعدل في التحيّة يقتضي أن يردّ عليه نظير سلامه).