المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رحلات الشيخ محمد رشيد رضا في الجزيرة العربية



أبو حسن
06-04-2011, 11:48 PM
رحلات الشيخ محمد رشيد رضا في الجزيرة العربية

الأستاذ الدكتور محمد بن عبدالله السلمان [1] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn1)



مقدمة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبيِّنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

وبعد:
يتناول البحث رحلات الشيخ رشيد رضا في الجزيرة العربية التي شملت ثلاث رحلات، هي:
1- رحلته إلى عُمَان والكويت في طريق عودته من الهند عام 1330هـ/ 1913م.
2- رحلته إلى الحجاز للمرة الأولى عام 1334هـ/1916م.
3- رحلته إلى الحجاز للمرة الثانية عام 1344هـ/1925م.

واقتضى الأمر الحديث عن هذه الرحلات للشيخ رشيد رضا وما له صلة بالموضوع كرحلاته في العالم الإسلامي، وكذلك موقفه من الاستعمار الأوربي؛ لصلته برحلتيه إلى عمان والكويت اللتين كانتا تحت الاستعمار الإنجليزي، وكذلك علاقته بالشريف حسين أمير مكَّة، والملك عبدالعزيز آل سعود لصلته برحلتيه الثانية والثالثة، وقد جاءت موضوعات البحث على النحو التالي:
أولاً: موجز حياة الشيخ محمد رضا.
ثانيًا: موجز رحلاته في العالم الإسلامي وغيره وأهدافها.
ثالثًا: رحلته إلى عمان والكويت وموقفه من الاستعمار الأوربي.
رابعًا: رحلته الأولى إلى الحجاز وعلاقته بالشريف حسين.
خامسًا: رحلته الثانية إلى الحجاز وعلاقته بالملك عبدالعزيز آل سعود.

كما ألحقتُ بالبحث بعض الملاحق المتَّصلة برحلاته، واللهَ أسألُ التوفيق والسداد والعصمة من الزلل في القول والعمل، إنه سميع مجيب.


الهوامش:




[1] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref1) بكالوريوس في التاريخ من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1395هـ.
• ماجستير في التاريخ من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1399هـ.
• دكتوراه في التاريخ من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية عام 1406هـ.
• يعمل الآن في قسم التاريخ بكلية العلوم الاجتماعية في القصيم.

أبو حسن
06-04-2011, 11:50 PM
أولاً: نبذة عن حياة الشيخ محمد رشيد رضا:

وُلِد الشيخ محمد رشيد رضا في قرية القلمون قرب طرابلس لبنان عام 1282هـ، 1865م، ونشأ فيها نشأة دينية علمية درس في كتَّابها ثم انتقل إلى طرابلس، ودرس في مدارسها وعلى شيوخها خاصة الشيخ حسين الجسر، وحصل منه على الإجازة بالتدريس[2] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn2).

وفي شبابه المبكِّر مالَ إلى التصوُّف، ولكنَّه لم يلبث أن اتَّجه إلى السلفية بعد قراءته لأعداد "مجلة العروة الوثقى" التي أصدرها جمال الدين الأفغاني وتلميذه الشيخ محمد عبده في باريس، ثم تعمَّق اتجاه رشيد رضا السلفي بعد دراسته لدعوة وكتب شيخ الإسلام ابن تيميَّة والشيخ محمد بن عبدالوهَّاب، وقد اتَّضح ذلك أكثر بعد هجرة رشيد إلى مصر حيث اطَّلع على كتب هذين العالمين عن كثَب[3] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn3).

كانت هجرة رشيد إلى مصر عام 1315هـ قد جاءت بسبب عدم قدرته على التعبير عن آرائه السلفية والسياسية، وكان ذلك في عهد السلطان عبدالحميد الثاني، وبهذا ما كاد يصل إلى مصر حتى أصدر بالاتِّفاق مع شيخه الشيخ محمد عبده "مجلة المنار" لينشر فيها مع شيخه نفثات قلميهما وخطرات فكرهما، وكان من أهداف تلك المجلة بيان أمراض الأمَّة الإسلامية الدينية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وأسبابها وعلاجها[4] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn4).

وذلك عن طريق أبواب المجلَّة المختلفة، وصارَت المجلة منبرًا من منابر السلفية في مصر خاصَّة والعالم الإسلامي عامَّة، واستمرَّت في الصدور حتى وفاة الشيخ رشيد رضا؛ أي: لمدة أربعين سنة.

وكان ينشر على صفحات "مجلة المنار" تفسيرًا للقرآن عُرِف بـ(تفسير المنار) وهو من تأليف الشيخ رشيد رضا، مع إيراده لأفكار أستاذه الشيخ محمد عبده وآراء رشيد رضا السلفية، كما كان له عناية بالعلوم الاجتماعية والطبيعية والإشارة إليها في أماكنها، مع توسُّعه في ردِّ شبهات أعداء الإسلام؛ فجاء هذا التفسير تراثيًّا عصريًّا معًا، واستمرَّ رشيد رضا في نشر تفسيره حتى وفاته بعد أن وصل إلى الآية رقم 101 من سورة يوسف ﴿ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ﴾ [يوسف: 101].

وكانت آخِر جملة فسَّر الآية بها قوله: "فنسأله - تعالى - أن يجعل لنا خير حظ منه بالموت على الإسلام"[5] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn5).

وبجانب "مجلة المنار" و"تفسير المنار" أخرج رشيد مؤلفات أخرى نُشِرت أكثرها في "مجلة المنار" ("السنة والشيعة"، و"الوهَّابيون والحجاز"، و"تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده"، "المنار والأزهر"، و"الوحي المحمدي"، و"حقوق المرأة في الإسلام"، و"حقيقة الربا")، وغيرها[6] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn6).

وكان للشيخ رشيد رضا دورٌ في ميدان الإصلاح الديني والسياسي والعلمي؛ مثل سعْيِه للوحدة الإسلامية على هدي من القرآن الكريم والسنة النبوية وعدم التعصُّب للمذاهب، والاهتمام بالمفيد من وسائل الحضارة الغربية، ونشر الإسلام في ربوع العالم؛ من أجل ذلك أسَّس كلية الدعوة والإرشاد في القاهرة لهذا الغرض عام 1330هـ/1912م، التي استمرَّت حتى عام 1335هـ، كما كان لرشيد رضا جهودٌ في إصلاح الأزهر ونشْر السلفية بين ربوعه، وإصلاح نظام التعليم فيه[7] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn7).

وقد أجبرت الظروف التي يعيشها العالم الإسلامي رشيدًا في الدخول في ميدان الإصلاح السياسي؛ فظهرتْ له مواقف واتجاهات سياسية نحو الدولة العثمانية، ثم الشريف حسين بن علي، ثم الملك عبدالعزيز آل سعود الذي كان الشيخ رشيد رضا من أكبر المؤيِّدين له ولأتباعه، وكانت العلاقة بينهما وطيدة، كما كان لرشيد جهودٌ في محاربة مكايد الاستعمار الأوربي بأنواعه وأشكاله المختلفة.

توفي الشيخ رشيد رضا - رحمه الله تعالى - في جمادى الأولى عام 1354هـ/1935م بعد أن ترك مدرسة فكرية تُعرَف به وهي (مدرسة المنار) التي كان لها تأثير كبير في عددٍ من أقطار العالم الإسلامي، فبجانب مصر والمملكة العربية السعودية وُجِد لها تأثير في بلاد الشام وشمال أفريقيا وأندونيسيا والهند، بل وصل تأثيرها إلى المسلمين في أوربا[8] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn8).

والحق أن انتشار هذه المدرسة انتشارٌ للدعوة السلفية في العالم الإسلامي؛ لأن الشيخ رشيد رضا يُعَدُّ ركنًا من أركانها في عصرنا الحديث، وعلمًا بارزًا من دعاتها، وما زالت تلك الدعوة بحاجة إلى أمثاله في علمه واطِّلاعه الواسع وقدرته على الإقناع - رحمه الله، وغفر لنا وله.


الهوامش:



[2] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref2) رشيد رضا، "المنار والأزهر": ص139، وما بعدها.

[3] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref3) للتوسُّع في ذلك انظر: "رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب"؛ لكاتب هذه السطور ص: 229، ط الكويت، والشرباصي، "رشيد رضا، صاحب المنار": ص145.

[4] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref4) انظر: افتتاحية العدد الأول من "مجلة المنار"، المجلد الأول.

[5] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref5) رشيد رضا، "تفسير المنار": 12/130.

[6] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref6) صلاح المنجد، ويوسف خوري، "فتاوى الإمام رشيد رضا": 1/19.

[7] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref7) "مجلة المنار"، المجلد 35/188.

[8] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref8) رشيد رضا، "المنار والأزهر": ص200، و"الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية": ص119.

أبو حسن
10-04-2011, 11:16 PM
ثانيًا: موجز رحلاته في العالم الإسلامي وغيره وأهدافها:


كانت الوحدة الإسلامية من أكبر آمال الشيخ محمد رشيد رضا، الوحدة التي تقوم على هدي الإسلام وتعاليمه الخالدة، وكان ذلك الأمل قد بدأ مع الشيخ رشيد في شبابه المبكِّر بتأثيرٍ من "مجلة العروة الوثقى" التي أسَّسها كلٌّ من جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وقد أبرز رشيد ذلك الأمل في العدد الأوَّل من مجلته "المنار" في افتتاحيته لذلك العدد[9] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn9).

ومن أجل هذا الهدف سعى للاتِّفاق بين السنة والشيعة[10] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn10)، كما أسَّس واشترك في جمعيات مختلفة تظهر فيها الصبغة الإسلامية[11] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn11).

كما قام الشيخ رشيد رضا بعدَّة رحلات إلى أقطار عديدة من العالم الإسلامي وغيره، وكان لها تأثير كبير في حياة الشيخ رشيد، فقد انتفع من هذه الرحلات انتفاعًا كبيرًا، حيث اتَّسع أفُقُه وكسب الكثير من التجارب والمشاهدات ومعرفة الرجال الأعلام في دنيا العروبة والإسلام[12] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn12).

وبجانب ذلك كان لهذه الرحلات تأثيرٌ على الناحية الأدبية والعلمية لرشيد رضا؛ فقد كانت وقائعها وموضوعاتها مادَّة دسمة لرشيد رضا في بعض مؤلفاته، كتب عنها فصولاً كثيرة في "مجلة المنار"[13] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn13).

والشيء المهمُّ في رحلاته هو أن رشيدًا أقبَل عليها وهو يريد الاستفادة منها في التأثير على مجرى الأمور والأحداث التي كانت تموج في محيط العالم الإسلامي حينذاك، وبهذا يمكِنه - قَدْرَ استطاعته - تكييف هذه الأوضاع وفقًا لمبادئه وأفكاره الإسلامية[14] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn14).

ومن هنا كانت رحلات رشيد إحدى الأعمال التي قام بها في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية والدعوة إليها، وقد يكون بجانب هذا الغرَض في رحلاته أغراض أخرى ثانوية، ولكنها مع ذلك يمكن الانتفاع بها في سبيل هدف رشيد نحو الاتِّفاق والاتِّحاد الإسلامي، ونبْذ الخلافات والعداوات الدينية والسياسية التي مزَّقت شمل المسلمين أمام أعدائهم.

والحديث عن رحلات رشيد رضا بتفاصيلها وأحداثها حديث طويل لا يتَّسع له هذا المكان، ولكن المهم هنا أن نُبرِز صلة هذه الرحلات في سعي رشيد نحو الوحدة الإسلامية، وأهم تلك الرحلات هي:
أ- رحلته إلى سوريا[15] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn15): وقد بدأها في شعبان سنة 1326هـ (سبتمبر 1908م)، وذلك عقب خَلْعِ السلطان عبدالحميد وإعلان الدستور العثماني، وزار في رحلته بيروت وطرابلس الشام والقلمون، وتمكَّن في هذه الرحلة من زيارة أهله وموطن صبَاه بعد غياب دامَ أحد عشر عامًا، وقد ألقى في المدن التي زارها العديد من الدروس والمحاضرات الدينية والسياسية، وفي طرابلس دعا إلى تأسيس جمعية خيرية إسلامية كمثيلتها في مصر، وتمكَّن من تأسيسها بعد أن بدأ الاكتتاب للجمعية.

وفي 27 من رمضان 1326هـ سافَر رشيد لزيارة دمشق، وألقى في مساجدها وجوامعها دروسًا ومحاضرات دينية وسياسية، وفي أحد دروسه الدينية في المسجد الأموي بدمشق ركَّز على الدعوة السلفية، ومحاربة جميع الأمور التي تُنافِي التوحيد؛ ومنها: اتِّخاذ البشر مشرِّعين يشرِّعون للناس من الدين ما لم يأذن به الله، فاستغلَّ ذلك بعض المعادين لدعوة رشيد السلفية، وأرادوا أن يثيروها فتنة على رشيد، فقام رجل منهم وقطع على رشيد كلامه داعيًا إلى زيارة القبور والتوسُّل بالصالحين الميِّتين، كما دعا إلى تقليد الأئمَّة المجتهدين، وتبيَّن لرشيد أن هذا الرجل اسمه (صالح التونسي)، وكان مشهورًا بمعاداته لآراء الشيخ محمد عبده ورشيد رضا، وحدثت في المسجد الأموي ضجَّة كبيرة أنهتْ محاضرة رشيد واستدعت الحكومة (صالح التونسي) لاستجوابه وأُشِيع بين الناس أنه اغتِيل فهاجَت العامَّة، فركب والي دمشق عربة وبجواره (صالح التونسي) ومرَّ في المدينة ليهدأ الناس.

وقد تضارَبت الآراء حول السبب في هذه الفتنة، فإذا كان البعض يراها مؤامرة مدبَّرة من الحشوية الجامدين الذين يحاربون كلَّ مصلح ومجدِّد، وبالتالي يعادون رشيدًا بدعوته وآرائه السلفية المحارِبة لمذهبهم[16] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn16)، فإن رشيد رضا يرى أن سببها الحقيقي هو أن الذين قاموا بالفتنة رجال كانوا مستفيدين من عهد البلاد السابق أيام السلطان عبدالحميد وتحكُّم (أبي الهدى الصيادي) في البلاد، فكرهوا الحكم الحاليَّ وتحيَّنوا أيَّة فرصة لإثارة البلبلة[17] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn17)ضده.

وفي رأينا أن الجمْع بين الرأيين السابقين قد يكون سببًا معقولاً للفتنة؛ بمعنى: أن الذين قاموا بها قد يكونون من أولئك الجامدين المحاربين لكلِّ مصلح ومجدِّد، وكذلك هم ممَّن استفادوا من مساوئ العهد السابق للبلاد، وقد أفقدهم العهد الجديد مركزهم الديني والسياسي معًا.

ب- رحلته إلى القسطنطينية[18] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn18): قام رشيد بهذه الرحلة في رمضان سنة 1327هـ (1909م)، وقد ذكر أنه رحل إلى الآستانة ليسعى في أمرين: إزالة سوء التفاهم بين عنصري الدولة الأكبرين العرب والترك.

أمَّا الأمر الأول فنرجِئ الحديث عنه إلى مكانه من هذا البحث ولكن الذي يهمُّنا هنا هو الأمر الثاني، ذلك أنه بعد وصول الاتحاديين إلى الحكم أخذ فريقٌ من الأتراك يُثِيرون النزعة التركية التي سموها (الطورانية) ويدعون إلى تَتْرِيك الدولة، واتَّسعت هذه الدعوات ممَّا أثَّر على نفسية العرب تجاه الدولة وأساؤوا بها الظنون، وأخذ الاتحاديون من جمعية الاتحاد والترقِّي يستشعرون روح التفرقة بين الترك والعرب، وقد أخذ رشيد يكتب مقالات عديدة في هذه الناحية محذِّرًا وداعيًا لإزالة ما وقع من سوء التفاهم بين العرب والترك، ومفصِّلاً الأسباب العامَّة والخاصَّة التي أدَّت إلى ذلك[19] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn19)، وفي أواسط عام 1910م شاعت الفتنة وتحرَّكت عوامل التفرقة بين الترك والعرب؛ ممَّا جعل العرب يعتزُّون بقوميَّتهم أكثر ممَّا سبق، فأخذ الاتحاديون يتنكَّرون للعرب وللجامعة الإسلامية، ويتعصَّبون للوطنية التركية، وواصل رشيد رضا مع ذلك نصحه وتحذيره موضِّحًا أن الاستعمار الأوربي هو الذي يستفيد من هذه الحالة؛ لأن رجال الاستعمار يبثُّون في البلاد العربية العثمانية فكرة استقلال العرب عن الدولة العثمانية مخادعة للعرب حتى يضعوا العرب تحت حمايتهم، وأنهم يسعون بكلِّ قواهم إلى تدمير الرابطة العثمانية[20] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn20).

ويحاول رشيد أن يُقنِع الاتحاديين بحسن نيَّة العرب ووجوب اتِّفاقهم فلم يستطع، واستمرَّ الاتحاديون في سياستهم بكلِّ قوَّة، بل أرادوا إزالة الكلمات العربية من اللغة التركية محاربة للغة الإسلام.

مكَث رشيد رضا في الأستانة عامًا كاملاً لا عمل له إلا السعي في سبيل الأمرين السابقين، وقد نشر مقالات كثيرة في الصحف التركية هناك تحمل نصحه وتحذيره معًا، وعاد رشيد إلى القاهرة بعد ذلك دون أن يحقِّق مطلوبه في الأمرين معًا، وأخذ يُسِيء الظن بالاتحاديين، ويكتب عن أخطارهم على العالم الإسلامي كله، ويصفهم بأنهم ملاحدة[21] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn21).

ولم تلبث الأيام أن أثبتتْ صدق تحذير رشيد؛ فقد قامت الحرب العالمية الأولى وانضمَّ العرب إلى الحلفاء مخدوعين، فانتهت الحرب بهزيمة تركيا، ووقوع البلاد العربية تحت براثن الاستعمار الأوربي البغيض.

ج- رحلته إلى الهند[22] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn22): وُجِّهت الدعوة إلى رشيد لزيارة الهند من (جمعية ندوة العلماء) في لكهنو بالهند، وعرض رشيد الأمر على (جماعة الدعوة والإرشاد) التي نجح في تأسيسها فوافقتْ على أن يكون ممثِّلاً لها.

وبدأ رشيد سفره إلى الهند بالباخرة في 23 ربيع الأول سنة 1330هـ (1912م)، وقد احتفى به هناك كثيرٌ من الهنود المسلمين والجاليات العربية في الهند وعلى رأسهم الشيخ (قاسم بن محمد آل إبراهيم) في بومبي، وقد ألقى رشيد هناك كثيرًا من المحاضرات عن التربية والتعليم، والاتحاد الإسلامي ووسائل النهوض بالمسلمين، ووجوب نشر اللغة العربية لغة القرآن.

وفي أثناء عودة رشيد إلى القاهرة مرَّ في طريقه بمسقط والكويت ومناطق أخرى، وكان يمكث في كلِّ بلد منها عِدَّة أيام يُلقِي في مساجدها دروسًا ومواعظ، ولم يصل القاهرة إلاَّ في 19 شوال 1330هـ (1912م)، وكان قد غادَر بومبي في الهند 9 جمادى الأولى من السنة المذكورة.

د- رحلته الأولى إلى الحجاز[23] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn23): كان رشيد يمنِّي نفسه بالحج منذ شبابه لولا أن هناك - كما يقول - عقبات سياسية لا يسهل اقتحامها[24] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn24)، وقد زالت تلك العقبات حين استولى الاتحاديون على الحكم، وخلعوا السلطان عبدالحميد سنة 1317هـ (1909م)، ولكن رشيدًا لم يحجَّ إلا بعد مُضِيِّ ثلاث سنوات، وبعد أن انفصمت العلاقة بين الترك والعرب بثورة (الحسين بن علي) شريف مكة سنة 1334هـ (1916م).

وكان رشيد قد أبدى إعجابه بهذه الثورة ضدَّ الاتحاديين، ووصَفَها بأنها أعظم خدمة للإسلام؛ لأن فيها إنقاذًا للحرمين الشريفين وجزيرة العرب بعد أن أحاط الخطر بالدولة[25] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn25)؛ لذلك أُثِيرت الأقوال حول حجِّ رشيد هذا بأنه قصد به مبايعة شريف مكة بالخلافة، غير أن هذا كذَّبه رشيد، وذكر أنه ذاهب ليحجَّ مع والده وشقيقته فقط، وليقوم بنصح المسلمين وحثِّهم على التضامن والتكاتف والاتحاد في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخهم، وقد أثبتت الأحداث صدق رشيد؛ فقد حج وأكرمه شريف مكة وقام رشيد بالنصح والإرشاد هناك وألقى الخطب الدينية والسياسية، وكانت عودته من الحجاز في النصف الثاني من ذي الحجة عام 1334هـ (1916م).

هـ- رحلته الثانية إلى سوريا[26] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn26): بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بانتصار إنجلترا وحلفائها أراد العرب تحقيق الوعود البرَّاقة التي وعدهم بها الحلفاء، فزحف الملك فيصل بن الحسين بن علي بجيشه العربي إلى دمشق، وتَمَّ تنصيبه ملكًا على سوريا فواتَت الفرصة رشيدًا للسفر إلى موطنه الأصلي مرَّة ثانية وذلك عام 1338هـ- 1919م، وتمكَّن رشيد في هذه الرحلة من زيارة المدن نفسها التي زارَها في رحلته الأولى، وفي دمشق انتُخِب رئيسًا للمؤتمر السوري العام الذي كان بمثابة مجلس الأمة (أو الشعب) في مملكة سوريا، ويذكر شكيب أرسلان بأن في ذلك دلالة على مكانة رشيد العظيمة في نظر أهل بلاده[27] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn27).

لكن الأمور لم تستمرَّ على هذه الحال، ولم يلبث الاستعمار أن كشَّر عن أنيابه الخفية؛ فقد زحف الجيش الفرنسي على الشام - بمقتضى معاهدة (سايكس بيكو) المشهورة - وتمكَّن من القضاء على المقاومة العربية المستميتة له، ودخل دمشق محتلاًّ، وأسقط حكومة سوريا والمؤتمر السوري العام سنة 1339هـ (1920م)، ولم يستطع رشيد العودة إلى مصر إلاَّ بصعوبة[28] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn28) بعد عام كامل قضاه في سوريا.

و- رحلته إلى أوربا[29] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn29): فكَّر بعض زعماء العرب المصلحين في عقد مؤتمر للاحتجاج على احتلال فرنسا لسوريا وإنجلترا لفلسطين، وقد جاءت تلك الفكرة من رشيد رضا وصديقه شكيب أرسلان، واستقرَّ الرأي على عقد المؤتمر في جنيف مع جماعة من المصريين، وعُقِد المؤتمر في أغسطس سنة 1921م (1340هـ)، وانتخب (ميشيل لطف الله) رئيسًا للمؤتمر و(رشيد رضا) نائبًا أوَّلاً للرئيس، و(توفيق حمادة) نائبًا ثانيًا و(شكيب أرسلان) ناموسًا أوَّلاً للمؤتمر، و(توفيق اليازجي) ناموسًا ثانيًا، وأُطلِق على المؤتمر (المؤتمر السوري الفلسطيني).

وقد أصدر المؤتمر نداءً إلى المجمع الثاني العام لجمعية الأمم في سويسرا طالَب فيه بوفاء الحلفاء لوعودهم واستقلال سوريا ولبنان وفلسطين، وإلغاء وعد بلفور لليهود في فلسطين وطالبوا بأن تُرسِل عصبة الأمم لجنة لدراسة ميول الأهالي في تلك البلاد.

وقد اجتمع رشيد رضا بعددٍ من مندوبي الدول إلى مجمع الأمم في سويسرا فاجتمع بمندوب بريطانيا والصين وهولندا وأسبانيا وإيران، وعرض عليهم مطالب المؤتمر وبسَطَها معهم، يُشارِكه في ذلك بعض أعضاء المؤتمر.

ولم يقتصر رشيد في هذه الرحلة على زيارة جنيف، بل طاف مع صديقه شكيب أرسلان - بدعوة[30] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn30) منه - سويسرا وألمانيا ثم عاد إلى مصر.

ز- رحلته الثانية إلى الحجاز[31] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn31): بعد استيلاء الإمام عبدالعزيز آل سعود على الحجاز سنة 1344هـ (1925م) دعا إلى عقد مؤتمر إسلامي عام في مكة المكرمة للنظر في مستقبل الحجاز، وقد شارَك رشيد رضا في المؤتمر الذي عُقِد في موسم حج عام 1344هـ وانتهى في 24 ذي الحجة 1344هـ، واشترك فيه مندوبون من الأقطار الإسلامية وعددها 33 قطرًا[32] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn32) إسلاميًّا ومجموعة إسلامية، وقد أظهر رشيد في المؤتمر نشاطًا كبيرًا، واستغلَّ رشيد فرصة المؤتمر ووجوده في الحجاز لإنهاء الخلاف بين الإمام عبدالعزيز آل سعود والإمام يحيى إمام اليمن ونجح في ذلك إلى حدٍّ كبير، كما أظهر رشيد إعجابه بالإمام عبدالعزيز آل سعود وقال: "إنه ما وُجِد في بلاد العرب بعد صدر الإسلام مَن يقدر على حفظ الأمن في الحجاز ونجد مثل السلطان"، ووافَقَه شكيب أرسلان على هذا الرأي[33] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn33).

وبعد انتهاء موسم الحج وانتهاء المؤتمر عاد رشيد رضا إلى القاهرة وهو مطمئنٌّ بأن الحرمين الشريفين والحجاز كله في يد أمينة.

ح- رحلته إلى فلسطين[34] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn34): في عام 1350هـ، 1931م وجَّه الحاج أمين الحسيني مفتي فلسطين - وهو ممَّن تتلمذ على رشيد - دعوة إلى رشيد رضا لحضور المؤتمر الإسلامي الذي دعا لعقْده في مدينة القدس بفلسطين؛ لبحث قضية فلسطين وقضايا إسلامية أخرى، ولبحث إنشاء جامعة إسلامية في القدس، وقد انتُخِب رشيد عضوًا في اللجنة التنفيذية للمؤتمر، وبذل جهدًا كبيرًا ونشاطًا ملحوظًا في نجاح المؤتمر، وإزالة الخلاف بين أعضائه المشتركين من الأقطار الإسلامية المختلفة.

وممَّا تقدَّم نُدرِك أن الغرض والهدف الأسمى في رحلات رشيد رضا كلها هو الدعوة إلى تضامن المسلمين واتحادهم، ووسائل النهوض بهم، ومعالجة الأسباب التي أدَّت إلى ضعفهم.


الهوامش:




[9] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref9) "مجلة المنار"، المجلد الأول، العدد الأول ص9-13.

[10] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref10) انظر: كتاب رشيد رضا: "السنة والشيعة والوهَّابية والرافضة": ص14، 15.

[11] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref11) انظر: "مجلة المنار" 2/14، 728.

[12] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref12) عبدالله الرويشد، "قادة الفكر الإسلامي عبر القرون": ص314.

[13] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref13) جمع الدكتور يوسف أيبش هذه الرحلات في كتاب أسماه "رحلات الإمام محمد رضا" ط 1971م، في 384 صفحة.

[14] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref14) يوسف أيبش: "رحلات الإمام محمد رشيد رضا": ص8، وعبدالله الرويشد: "قادة الفكر الإسلامي عبر القرون": ص314.

[15] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref15) "مجلة المنار"، المجلد 11 ص706 و874 و936 والمجلد 12 ص150.

[16] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref16) ظافر القاسمي: جمال الدين القاسمي وعصره ص446، دمشق 1385هـ، وأحمد الشرباصي: "رشيد رضا، صاحب المنار": ص147.

[17] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref17) "مجلة المنار"، المجلد 11 ص936 - 953، وتوفيق علي برو: "العرب والترك": ص113، و114.

[18] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref18) "مجلة المنار": المجلد 12، ص956، والمجلد 13، ص145، و313، و748.

[19] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref19) "مجلة المنار"، المجلد 12 ص913- 932.

[20] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref20) "مجلة المنار"، المجلد 12 ص820- 831.

[21] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref21) "مجلة المنار"، المجلد 16 ص 145، والمجلد 14 ص35- 67.

[22] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref22) "مجلة المنار"، المجلد 16 ص 77، و104، و396، والمجلد 19 ص567.

[23] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref23) "مجلة المنار"، المجلد 19 ص307، و466، و563، والمجلد 20 ص108، و150، و192، و236، و316، و352.

[24] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref24) "مجلة المنار"، المجلد 16 ص687.

[25] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref25) "مجلة المنار"، المجلد 20 ص282.

[26] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref26) "مجلة المنار"، المجلد 21 ص337 و498، والمجلد 22 ص155، و390، و617، و768، والمجلد 23 ص141 و235 و313 و390.

[27] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref27) شكيب أرسلان: "السيد رشيد رضا": ص156.

[28] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref28) انظر أحمد الشرباصي: "رشيد رضا الصحفي، المفسر، الشاعر اللغوي": ص65 وما بعدها.

[29] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref29) "مجلة المنار"، المجلد 23 ص114 و306 و441 و553 و635 و696.

[30] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref30) شكيب أرسلان: مرجع سابق ص264.

[31] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref31) "مجلة المنار"، المجلد 32 ص116، وشكيب أرسلان: مرجع سابق: ص442-450.

[32] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref32) المؤتمر الإسلامي الأول "جريدة الرياض" العدد 4736، في 5 ربيع الأول 1401هـ، 11 يناير 1981م، ص9.

[33] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref33) المرجع السابق ص423.

أبو حسن
13-04-2011, 11:21 PM
ثالثًا: رحلته إلى عمان والكويت وموقفه من الاستعمار الأوربي:

1- رحلته إلى عُمان والكويت عام 1330هـ/1913م:
كانت الهند ضمن الأقطار التي زارها رشيد رضا في رحلاته - كما سبق - وفي طريق عودته من الهند إلى مصر مرَّ بعمان والكويت وكلها بلاد كانت مستعمرة من الإنجليز.

وكان وصوله إلى مسقط في 12 جمادى الأولى عام 1330هـ بواسطة سفينة إنجليزية حملتْه من الهند إلى مسقط، والتَقَى في مسقط بسلطانها السيد فيصل وبعض رجالها، كما قام بإلقاء بعض الخُطَب والمواعظ في بعض مساجد مسقط[35] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn35).

وبعد أن مكث الشيخ رشيد سبعة أيام في مسقط سافَر منها إلى الكويت، واجتمع في الكويت بالشيخ مبارك الصباح وبعض رجالها، وأقام في الكويت أسبوعًا أيضًا، ألقى فيه العديد من الخطب والمواعظ في بعض مساجد الكويت، كان عليها إقبال كبير من الناس[36] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn36)، كما يذكر ذلك الشيخ رشيد رضا نفسه عند حديثه عن رحلته إلى عمان والكويت، وقد تطرَّق الشيخ رشيد في حديثه إلى بعض الأمور السياسية والتاريخية التي لها صلة بالموضوع.

ونترك الشيخ رشيد رضا نفسه يتحدث عن شيء من رحلته إلى عمان والكويت في "مجلة المنار" تحت عنوان (رحلتنا العربية الهندية)[37] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn37).


الهوامش:




[34] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref34) "مجلة المنار"، المجلد 32 ص117-132، وشكيب أرسلان: مرجع سابق: ص157.

[35] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref35) "مجلة المنار"، المجلد 16، ص396.

[36] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref36) "مجلة المنار"، المجلد 16، ص398.

[37] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref37) "مجلة المنار"، المجلد 16، ص396- 399.

أبو حسن
13-04-2011, 11:56 PM
رحلتنا الهندية العربية[38] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn38)

شكر علني لأهل عمان والكويت



شكرنا في الجزأين الأول والثاني لإخواننا مسلمي الهند حفاوتهم بنا وحسن ضيافتنا، ووعدنا بأن نشكر مثل هذه الحفاوة لإخواننا العرب الكرام في مسقط والكويت والعراق، وقضتْ كثرة المواد التي لا يمكن تأخيرها أن نرجئ الوفاء بهذا الوعد إلى هذا الجزء.

سافرت من بمبي صباح الجمعة لتسع خلَوْن من جمادى الأولى للعام الماضي في سفينة إنكليزية قاصدًا مسقطًا عن طريق كراجي، وكنت حريصًا على السفر في إحدى بواخر الشركة العربية التي يُدِيرها في بمبي مؤسِّسُها من أصدقائنا تجار العرب، وكان ذلك يسرُّهم أيضًا، وقد تحدثنا به مع مدير الشركة الهمام الشيخ محمد المشاري في قصر الزعيم الكبير صديقي ومُضِيفي الشيخ قاسم إبراهيم، فعلمنا أن انتظار مواعيدها يضيع عليَّ أيامًا كثيرة، وقد انتقلنا في ميناء كراجي إلى سفينة إنكليزية أخرى حملتنا إلى مسقط، فوصلنا إليها ضحوة يوم الاثنين (12 ج29 أبريل) وعندما رسَت كان قد وصل إليها زورق بخاري من السلطان الكريم السيد فيصل ملك عمان يحمل بعض رجاله لاستقبالي، وكان كلَّف مَن يعتمد عليه في بمبي أن يخبره عن سفري منها ببرقية يعرف بها موعد وصولي، فصعدوا ومعهم صديقي الفاضل السيد يوسف الزواوي أكبر سادات مسقط بعد أسرة السلطان، وأكبر تجارها قدرًا وجاهًا وشهرة، فعرَّف الجماعة بي وبعد السلام نزلنا إلى الزورق فحملنا إلى رصيف قصر السلطان فصعدنا القصر، وبعد السلام والمكث مع السلطان ساعة من الزمان ذهبنا إلى دار ضيافته التي أعدَّها لنا، وكان صديقنا السيد الزواوي أعدَّ دارًا جديدة له على الطراز الحديث لأكون فيها مدَّة وجودي في مسقط فنفس عليه السلطان ولم يسمح له بذلك.

أقمت في مسقط أسبوعًا كان يختلف إليَّ كل يوم وكل ليلة منه وجهاء البلد وأذكياؤه ويلقون عليَّ الأسئلة الدينية والفلسفية والأدبية والاجتماعية، وزارني السلطان في دار الضيافة أيضًا ومكث معي عدَّة ساعات، وزرته في مجلس حكمه عدَّة مرات، وكان يلقي عليَّ في كلِّ مرَّة الأسئلة المختلفة، وكان يكون معه في مجلسه أخوه السيد محمد، وهو كثير المطالعة في الكتب ولكنه لا يحب البحث في المجالس في كل ما يطَّلع عليه من المسائل، وقد عهد السلطان إلى كاتبه الخاص من أهل السنة الزبير بن علي أن يتولَّى أمر العناية بضيافتي، وإلى كاتبه الآخَر الشيخ إبراهيم بأن يتعاهدني معه أيضًا.

وأدب لي صديقي السيد الزواوي مأدبتين حافلتين: إحداهما في داره العامرة في نفس مسقط دعا إليها علماء ووجهاء البلد، والأخرى في دارٍ له بقرية (سداب) وهي على مسافة ميل من مسقط، ذهبنا إليها بزورق السلطان في البحر، وعدت أنا ماشيًا مع بعض المدعوِّين برًّا؛ لأجل الرياضة ورؤية ثنية الجبل التي يسلك منها إلى مسقط المطوَّقة بالجبل وقد دعا إلى هذه المأدبة معي وجهاء القرى المجاورة لها فأجاب الدعوة عشرات منهم، وكان الغرض من ذلك أن يسمعوا كلامي وتذكيري بآيات الله، وقد فاض معين السخاء العربي الهاشمي في هذه المأدبة على فقراء القرية الذين اعتادوا أن يعشوا إلى ضوء نار السيد الزواوي الذي هو مظهر لقول الشاعر[39] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn39):

مَا أَحْسَنَ الدِّينَ وَالدُّنْيَا إِذَا اجْتَمَعَا = .........................

فتراه بين مظاهر الكرم والنعيم، لا يغفل عن مراعاة ما يمكن تحصيله من فوائد العلم والدين، بنى لنفسه عِدَّة دور فخمة جميلة في مدخل البلد على البحر، وهو موقع غير واسع يشارك هو فيه السلطان وقنصل الإنكليز في الملك، ويسكن في دارٍ له فيه قنصل أمريكا، وبنى لله مسجدًا هو أنظف مساجد البلد وأزهاها، وقد جرَّ إليه الماء بأنابيب الرصاص (المواسير)، وجعل له عِدَّة حنفيات، وعلى هذه الطريقة اقترح عليَّ يوم المأدبة الأولى، وكانت للغداء في يوم الجمعة أن أعظ الناس في مسجده بعد صلاة الجمعة فأجبت، وكان من تأثير الكلام فيهم أن ارتفعت أصواتهم بالبكاء والنحيب والنشيج، واقترح عليَّ أيضًا أن أتكلم وأذكِّر مَن يحضر المأدبة الثانية من الوجهاء والخواص فأجبت، ونجله الكبير الشيخ عبدالقادر له ذوق في النظام وميل إلى الصناعة، وقد مدَّ من دارهم في سداب إلى دارهم في مسقط مسرَّة (تلفون) فكانت هي الوحيدة في تلك القرية.

وسافرت من مسقط ضحوة يوم الاثنين لتسع عشرة خلون من الشهر ومكثت في مجلس السلطان زهاء ثلاث ساعات من أوَّل نهار السفر، كان يلقي عليَّ الأسئلة الكثيرة في العقائد وما يتعلق بها والأحكام الشرعية والاجتماعية والتاريخية، وتارة يشي إلى رجاله بأن يسألوا وكانوا جميعًا يسرون من الأجوبة، ثم نزلنا إلى البحر فودَّعني السلطان على رصيف قصره، ونزل معي في زورقه البخاري جميع مَن كان ثَمَّ من أنجاله الكرام وهم خمسة أكبرهم السيد نادر، ومعهم بعض كتَّابه وحاشيته (ومن سوء حظي أن كان ولي عهده السيد تيمور مسافرًا فلم أرَه) وظلَّ هو واقفًا على الرصيف حتى بَعُدَ الزورق عنه، فودَّعته الوداع الأخير بالإشارة، ونزل معنا أيضًا صديقنا السيد الزواوي ونجله السيد علي ابن عم السلطان وصهره وقد سافر معنا قاصدًا البصرة، فرأيت منه رفيقًا تقيًّا نقيًّا صفيًّا، وقد مكث معنا أولاد السلطان والزواوي ساعة من الزمن في الباخرة، ثم ودعناهم الوداع الأخير وعادوا إلى مسقط موشَّحين بجلابيب شكري الخالص ووُدِّي الدائم إن شاء الله تعالى (وسنصف مسقط ونتكلَّم عن حالة أهلها الاجتماعية في الرحلة).

جرت السفينة بنا من مسقط ظهر يوم الاثنين وهي إنكليزية تقطع في الساعة 12 ميلاً فقط، وفي ضحوة اليوم الثاني خرجت بنا عن محاذاة جبال عمان ودخلت في الخليج الفارسي، فصرنا نرى بر فارس عن اليمين وبر العرب عن اليسار، ووقفت بنا فجر يوم الخميس في موضع من عرض البحر كان ينتظرنا فيه مركب شراعي كبير أرسله إلينا الشيخ مبارك الصباح صاحب الكويت، وكان قد عَلِم بأننا نصل إليه في هذا الوقت في هذه الباخرة ممَّا كتب إليه من بمبي ومسقط، فنزلنا فيه قبل طلوع الشمس فأقلع بنا والريح لينة والبحر رهو، ثم قويت الريح قليلاً في النهار فبلغ بنا الكويت قبل غروب الشمس.

وكان رجال الشيخ مبارك حملوا فيه خروفين كبيرين وكثيرًا من الحلوى والمشمش والخيار فأفطرنا وتغدينا فيه (وقد أعجبني جدًّا طبخ الطاهي الذي كان معهم للخروف بالرز الهندي وهو طاهٍ متفنِّن وطبخ للعشاء ألوانًا متعدِّدة لئلاَّ نتأخَّر إلى الليل فبقيت للبحارة)، وقد استقبلنا أولاد الشيخ مبارك وبعض الوجهاء في زورق صغير خارج الميناء.

أنزلني الشيخ مبارك في قصره الجديد الذي هو قصر الإمارة وتولى مؤانستي ومجالستي في عامَّة الأوقات نجله الشيخ ناصر رئيس لجنة مدرسة الكويت؛ لأنه هو الذي يشغل عامة أوقاته في مدارسة العلم ومراجعة الكتب حتى صار له مشاركة جيدة في جميع العلوم الإسلامية، وأقمت في الكويت أسبوعًا كنت كل يوم - ما عدا يوم البريد - ألقي فيه خطابًا وعظيًّا في أكبر مساجد البلد فيكتظُّ الجامع بالناس، وكان يحضر مجلسي كل يوم وليلة وجهاء البلد من أهل التقوى وحب العلم يسألون عمَّا يشكل عليهم من أمر دينهم، وأمَّا الشيخ ناصر فكان يسأل عن دقائق العلوم في العقائد والأصول والفقه وغير ذلك، على أنه لم يتلقَّ عن الأساتذة، فهو من مظاهر الذكاء العربي النادر.

وممَّا أحبُّ أن أذكره هنا - وهو مباحث الرحلة - مسألة علاقة الشيخ مبارك بالدولة العثمانية والإنكليز، كنَّا نسمع المنافقين لرجال الدولة يصفون صاحب الكويت بالخيانة للدولة، ويعيبونه بطلب حماية الإنكليز له، فسألته عن ذلك فقصَّ عليَّ قصة سألت عنها بعد ذلك السيد رجبا نقيب البصرة مندوب الحكومة إليه فيها فكان جوابه موافقًا لجواب الشيخ مبارك، ثم ذكرت ما قاله للشيخ فهد بك الهذال شيخ قبائل عنزة في العراق؛ إذ كنت في ضيافته على نهر الفرات مع صديقي مراد بك (أخي محمود شوكت باشا) فصدق ما قاله الشيخ مبارك وزادني فوائد هو أعرف الناس بها.

وملخص ما قاله الشيخ مبارك أنه في أواخر مدَّة عبدالحميد ساقت الدولة بعض العسكر مع عربان بن الرشيد إلى قرب الكويت وأرسل المشير فيضي باشا السيد رجبا النقيب ومعه نجيب بيك ابن الوالي إلى الكويت، فبلَّغاه أنه قد صدرت إرادة سنية بوجوب خروجه من الكويت إلى الأستانة أو إلى حيث شاء من ولايات الدولة والحكومة تعيِّن له راتبًا شهريًّا يعيش به فإن لم يخرج طائعًا دخل الجند مع عرب ابن الرشيد وأخرجوه بالقوة.

فسألهم ما هو ذنبه الذي استحقَّ به النفي من بلده وعشيرته، وذكر نقيب البصرة بما يعرف من إخلاصه للدولة وإعانته لها بالمال عند كلِّ حادثة، وبما كان من محاربة سلفه وعشيرته لقبائل المنتفق المالكين للبصرة وإخراجهم منها وجعلها في حكم الدولة كما ملكهم هو وعشيرته بقوَّتهم الأحساء وغيرها، وطلب منه أن يعود إلى البصرة فيقنع المشير بمراجعة الأستانة، فقال له: إنما علينا البلاغ وليس في يدنا غيره، قال: فخرجت من عندهما بقصد مشاورة أهلي، وكانت حكومة الهند الإنكليزية قد علمت بكلِّ ما دبَّرتْه الدولة في ذلك وبمجيء عشيرة ابن الرشيد مع العسكر إلى جهة الكويت، فأرسلت مدرعتين فوقفتا تجاه البلد فلمَّا عدت رأيت أميرالاً إنكليزيًّا قد نزل من إحدى المدرعتين ومعه بعض الجند، فسألني عمَّا جرى فأخبرته الخبر فقال: إن حكومتنا متَّفقة مع حكومة الترك على أن تبقى الكويت على حالها، لا يتعرَّضون ولا نتعرَّض لها، وإذ قد غدروا وخالفوا فقد صار لنا حق الدخول في أمرها، ولا يمكن أن نسمح لجندي عثماني أن يدخلها، وإذا دخلوا برضاكم دمَّرناها على رؤوسكم ورؤوسهم، ثم بلغ الأميرال ذلك لنقيب البصرة رسول الحكومة فقفل راجعًا وبلغ المشير ذلك فأمر المشير بصرف الجنود والعربان.

(قال): فما كان من تدخُّل الإنكليز في أمر الكويت لم يكن بطلب منِّي، بل كان هذا سببه، وقد عرضوا عليَّ أن أختار لنفسي راية أرفعها على البلد وأعلن الاستقلال تحت حمايتهم فأبيت ذلك، وهذه الراية العثمانية تراها كل يوم مرفوعة فوق رأسي، وقد تعجبوا من قولي لهم أنني أختار أن أكون دائمًا عثمانيًّا، قيل لي: أتقول هذا بعد أن رأيت منهم ما رأيت؟ قلت: إن الوالد إذا قسا في تربية ولده أحيانًا لا يخرج بذلك عن كونه والده الذي تجب عليه طاعته! وسأذكر في الرحلة ما أيد به نقيب البصرة وشيخ عنزة هذا الكلام، فليعتبر المعتبِرون بإخلاص العرب للدولة على سوء معاملتها لهم.


الهوامش:




[38] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref38) المنار ج16 (1913) ص396-399، ويوسف أيبش: المرجع السابق: ص87-91.

[39] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref39) المصدر نفسه.

أبو حسن
18-04-2011, 12:02 AM
2– موقف الشيخ رشيد رضا من الاستعمار الأوربي:


عاش رشيد رضا في عصرٍ رانَ فيه الضعف والجمود على المسلمين ودولتهم العثمانية، فأخذت دول الاستعمار تتكالب عليها من كلِّ جانب تنهش في أملاكها فتزيدها ضعفًا حتى إذا ما هُزِمت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى تقاسمت دول الاستعمار أملاكها في البلاد العربية.

وعاصَر رشيد رضا جميع هذه المصائب وشاهَدَها بأم عينيه، فكان لا بُدَّ له كعالم مصلح مسلم أن يكون له مواقف مذكورة مع المستعمرين، زِدْ على ذلك أنه هاجَر في شبابه إلى مصر التي دخلت في وقت مبكر تحت سيطرة الاستعمار الإنجليزي منذ عام 1882م (1300هـ)، فجاء رشيد إلى مصر وقد مضى على تلك السيطرة خمسة عشر عامًا، فعاش رشيد فيها لنشر أفكاره الإصلاحية على صفحات "مجلة المنار" الدينية منها والسياسية، وذلك بما تسمح به سلطات الاحتلال الإنجليزي من نشره رغم الحرية النسبية التي وضعها الإنجليز في مصر التي هدفوا من ورائها اجتذاب المفكِّرين والمصلحين للعيش في مصر فيكونون تحت مراقبتهم وليكتبوا في ظلهم[40] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn40).

ورغم عيش رشيد رضا المبكِّر في مصر فلم يكن صاحب اتِّصال كثير بالإنكليز خصوصًا والأوربيين عمومًا - كما كان عليه أستاذه محمد عبده - فهو لم يتَّصل اتصالاً وثيقًا مع أحد من الإنجليز إلا بشخص واحد هو (متشل انس) الذي كان موظفًا بوزارة المالية المصرية[41] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn41)، وقد مدحه رشيد وذكر أنه أشد الإنجليز استقلالاً في الفكر وحرية في الرأي، وكان له مذكرات سياسية ودينية مع رشيد رضا، وقد عقد الصلة بينهما الشيخ محمد عبده[42] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn42).

وحينما أسَّس رشيد رضا "مجلة المنار" بمصر جعل من أهم أغراضها الدفاع عن عقيدة الإسلام وبلاد المسلمين من كيد أعدائهما على اختلافهم، ولهذا نراه يهاجم الإنجليز بشدة الذين يساعدون المبشِّرين المسيحيين في خطتهم الرامية لتنصير المسلمين، وكتب في ذلك مقالات واسعة كان منها مقال فضح فيه خطط المبشرين ومساعدة الإنجليز لهم، ووصف الحكومة المصرية بأنها حكومة صورية ليس لها من الأمر شيء، وتحدث عن محاولة الإنجليز توقيف المنار لمدافعتها عن الإسلام ضد هجمات المبشرين[43] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn43).

وواصَل رشيد رضا جهاده في هذا المجال دون توقُّف، فأخذ يفضح مخطَّطات المبشِّرين، ومطالب الأقباط في مصر ويناقشهم في آرائهم الدينية والسياسية ويرد عليها بقوَّة، كما تحدث رشيد عن جهود زعماء الأقباط وعلى رأسهم (بطرس باشا غالي) في إثارة الشقاق بينهم وبين المسلمين، واستنجادهم بالإنجليز على المسلمين[44] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn44).

وجمع رشيد مقالاته في كتاب خاص أسماه "المسلمون والقبط"، وبالمقابل تعرَّض رشيد لهجمات عنيفة من جانب المسيحيين الأقباط وغيرهم، وكان من أبرز صحفهم ومجلاتهم التي هاجمت رشيدًا بقوة "مجلة الشرق اليسوعية"[45] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn45).

والواقع أن أفكار رشيد رضا الإصلاحية عامَّة لم تكن بالطبع من الأمور التي يمكن للاستعمار السكوت عليها، ولذلك كثيرًا ما واجَهت أفكار رشيد الإصلاحية معارضة من المستعمرين، سواء كان ذلك قبل الحرب العامة أو أثنائها، وهم يتظاهرون بأن محاربتهم لكثيرٍ منها إنما جاء بسبب اتصالها بنواحٍ سياسية بحتة[46] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn46).

ولذلك لم يكن الإنجليز يطمئنون إلى رشيد رضا رغم إقامته بينهم، ولهذا كانت رسائله البريدية موضع مراقبة شديدة منهم، خاصة في أثناء الحرب العالمية الأولى وما بعدها؛ ولهذا وقعت كثير من رسائل رشيد - المتجهة نحو الخليج أو الجزيرة العربية عن طريق بومباي - في أيدي الإنجليز فترجموا بعضها إلى الإنجليزية وبعثوا بها من الهند إلى لندن[47] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn47) كما سبق.

وحينما يئس رشيد رضا من الدولة العثمانية بعد تولي الاتحاديين الحكم وظهور مساوئهم فيه، أخذ يعمل رشيد رضا ضدَّهم، فرأى أن يثير عليهم الإنجليز، ويسعى عندهم لمصلحة العرب، وظن أنه يستطيع أن يؤلبهم لمصلحة قومه، ولكنه خاب وفشل حين رأى أن الإنجليز يعملون لهدم العثمانيين ولهدم العرب جميعًا، وفهم الإنجليز هذا التغيُّر من رشيد فغضبوا منه وقبضوا عليه، وفكَّروا في نفيه إلى (مالطة) في جملة مَن نفوهم، ولكنهم عدلوا عن ذلك لأنهم رأوا أن ذلك يضرُّ بهم أكثر من أن ينفعهم، فبقاؤه في مصر تحت مراقبتهم أسلم لهم، ولهذا تركوه تحت المراقبة الشديدة، فأصبح بذلك عدوًّا للأتراك الاتحاديين والإنجليز معًا[48] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn48).

ورغم ذلك كله استمرَّ رشيد رضا في كتاباته الإصلاحية المعادية للإنجليز وغيرهم رغم تصريحه بأن المراقبة الشديدة على "مجلة المنار" من قِبَل السلطات الإنجليزية في مصر لا تسمح له بنشر كل أفكاره الإصلاحية خاصة السياسية منها في وقت الحرب العالمية الأولى وثورة الشريف حسين بن علي[49] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn49).

وتشير الدلائل على أن رشيد رضا قد تعاوَن مع الإنجليز في بداية الحرب العالمية الأولى وذلك ضد الاتحاديين، ولهذا أيَّد ثورة الشريف حسين أوَّل الأمر وكان تعاونه هذا مع الإنجليز مبنيًّا على أمله في أن يكون بداية لاعتراف بريطانيا باستقلال العرب في دولة واحدة تشمل جميع المناطق العربية التابعة للدولة العثمانية.

وبين يديَّ الآن مذكرة كتبها رشيد رضا بخط يده في أوائل عام 1915م (1334هـ) وقدَّمها إلى رجال الدولة البريطانية في مصر، وقد بدأ رشيد مذكرته في ملحق إضافي بيَّن فيها سبب كتابته هذه المذكرة، وذكر أن بعض أصحابه السوريين جمعوه مع (الكولونيل هوكر باشا) الذي سأل رشيد رضا عن موقف العرب إزاء دخول الدولة العثمانية في الحرب الحاضرة (الحرب العالمية الأولى) مع ألمانيا فأجابه رشيد بأجوبةٍ تمنَّى الكولونيل كتابتَها له لأهميتها، ولأجل دراستها مع رجال حكومته.

كما حرص على ذلك مدير المخابرات في مصر (الكابتن كليتن)، فكتب رشيد هذه المذكرة من أربع عشرة صفحة مع ملخص لها في صفحتين، أمَّا الملحق الإضافي لها فهو في خمس صفحات[50] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn50).

والمذكرة مقدَّمة إلى (صاحب السعادة عبدالله باشا صفر) ولعلَّه من رجال الحكومة المصرية الخاضعة للإنجليز في ذلك الوقت، ولا يتَّسع المجال لتحليل ما جاء في تلك المذكرة، ولكن الملخص لها أجمل فيه رشيد مطالب العرب من إنجلترا بقوله: "فالذي أطلبه من بريطانيا العظمى مترجمًا به عن قلوب العرب والمسلمين كافَّة هو: أن تبذل نفوذها لحفظ استقلال الإسلام التام في مهده في جزيرة العرب وسياجها من البلاد العربية الممتدَّة من خليج فارس إلى البحر الأحمر، ومن البحر المتوسط وآسية الوسطى إلى المحيط الهندي التي هي وطن العرب الأصلي، وألاَّ ترضى بجعل شيء من هذه البلاد داخلاً في حصة دولة من الدول ولا تحت نفوذها وحمايتها".

إلى أن قال: "وبهذا يتمُّ إخلاص أكثر من مئة مليون مسلم من رعيتها لدولتهم وإمبراطورهم العظيم ظاهرًا وباطنًا باطمئنانهم على حكم القرآن المجيد ومعاهد دينهم المقدسة، هذا وإن العرب في سورية والعراق والجزيرة العربية مستعدُّون للنهوض بأعباء دولة مستقلَّة منظَّمة على قاعدة اللامركزية، التي تبقي لأمراء جزيرتهم استقلالهم وتُعِيد الحضارة العربية إلى منبتها الأول في سورية والعراق".

والمذكرة تدلُّ على ما سبق أن قرَّرناه من أن رشيدًا حاوَل أن يستغلَّ تقاربه مع الإنجليز في بداية الحرب العالمية الأولى في الحصول على موافقتهم على إنشاء دولة عربية في الجزيرة وسورية والعراق، وهي البلاد التي كانت قد أفلتت حتى ذلك الحين من الوقوع في الاستعمار.

ولكن رشيدًا حينما علم بخداع الإنجليز غيَّر اتجاهه بسرعة، وأخذ يحذِّر من التقارب معهم، ولهذا يقول شكيب أرسلان: "جاءنا في إحدى المرَّات أن السيد رشيدًا هو من المغضوب عليهم عند الإنجليز؛ لأنهم رغبوا إليه في بث الدعاية الإنجليزية ببلاد العرب، فلم يستطع أن يجيبهم علنًا وأظهر شيئًا من الموافقة لهم على مقاصدهم على صورة أن يبثَّ الدعوة لفصل العرب عن الترك، فوافَقُوه على ذلك إلا أنهم فيما بعد قبضوا على كتبٍ منه تتضمَّن التحذير من الإنجليز أنفسهم، فقبضوا عليه وفكَّروا في نفيه إلى مالطة في جملة مَن نفوهم، وكادوا يفعلون إلا أنهم عادوا وفكَّروا أن نفي مثل هذا الشيخ قد يقربه من الأتراك، ويزيد الضرر بسياستهم فتركوه في مصر لكن تحت المراقبة الشديدة"[51] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn51).

والذي يظهر لنا أن هذا التغيُّر ضد الإنجليز من رشيد بدأ في أواخر الحرب العالمية الأولى حينما ظهرت أطماع الإنجليز وخداعهم للعرب وخاصة بعد ظهور معاهدة (سايكس بيكو) المشهورة بعد قيام الثورة البلشفية في روسيا في أكتوبر سنة 1917م؛ ولهذا ساءَت حينذاك العلاقة بين رشيد والشريف حسين بسبب اكتشاف رشيد أسرار ثورة عام 1916م.

ومع بقاء رشيد تحت المراقبة الشديدة من الإنجليز كان له أدوار سياسية خاصَّة في إخراج بعض المسلمين من السجن الذين اعتقلهم الإنجليز اعتقالاً سياسيًّا فخرجوا بكفالة رشيد رضا، وقد حصل ذلك قبل أن يزداد غضب الإنجليز عليه أي في أوائل الحرب العامة[52] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn52).

ومهما يكن من أمر فإن مؤشر بداية العلاقات السيئة بين رشيد والإنجليز جاء حين ظهرت معاهدة (سايكس بيكو) على السطح فعارَضَها رشيد بقوَّة، وأخذ يطعن في تعسف إنجلترا وظلمها للمسلمين فألبهم على مخالفتهم بوسائل مختلفة وحذرهم من مصادقتها؛ لأنها خدَّاعة مكّارة[53] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn53).

وأخذ بعد ذلك يفضَح أساليب الاستعمار الإنجليزي وأعوانه وأذنابه بصراحة تامَّة، فهو يصف بريطانيا بأنها عدوَّة الخلافة الإسلامية وعدوَّة العرب معًا، كما ذكر بأن إنجلترا كانت تهدف في أثناء الحرب العامة إلى إقامة خلافة عربية في الحجاز يتوَّج بها شريف مكة، ويكون تحت إشرافها، وقد ذكر رشيد أنه عارَض ذلك المبدأ بشدَّة فكان من أسباب فشلها، كما ذكر رشيد أنه بعث رسالة إلى (لويد جورج) رئيس وزراء بريطانيا في منتصف عام 1919م ليشرح له موقف العرب والمسلمين من ثورة شريف مكة، وذكر أنه لا يرضي العربَ والمسلمين إلا تركُهم مستقلِّين في بلادهم من عرب وترك وفرس، وترك مسألة الخلافة إلى حين عقد مؤتمر إسلامي لحل مشكلتها.

ولكن رشيدًا يذكر أن (لويد جورج) لم يلتفت إلى ذلك وسار في سياسة دولته القائمة على استعمار البلاد العربية والإسلامية، فأثبت بذلك أن إنجلترا لا يفيد معها ولا تلين إلا بالقوَّة فقط، ولا مكان عندها للحق والعدل والوفاء بالعهود والوعود، كما ذكر رشيد أن إنجلترا تقاوم بقاء الخلافة الإسلامية؛ لأنها تخشى تجدُّد قوة الإسلام والمسلمين بها وتبعتها في ذلك دول الاستعمار كلها، كما جاراها حكام المسلمين المتفرنجين[54] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn54).

ويمضي رشيد في بيان مساوئ الإنجليز على المسلمين، فيذكر أنهم هم الذين يساعدون أعداء الوهَّابيين في الحجاز وهم (شرفاء مكة) ضد ابن سعود وذلك ليكون وسيلة لتدخُّلهم في الحجاز[55] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn55)، كما ذكر أنه حينما استولى ابن سعود على الحجاز وأعلن أنه لن يكون لأجنبيٍّ نفوذ فيه ساء ذلك إنجلترا وأرادت مساعدة علي بن الحسين بأسلحة من مصر[56] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn56).

وفي موضع آخر يتعرَّض للموانع التي وقفت في وجه دعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب وتجديدها لمجد الإسلام الديني والدنيوي، فيذكر أن هذه الموانع هي الدولة العثمانية، ومحمد علي باشا، و(دولة الدسائس) ويقصد بها بريطانيا وإن لم يصرح باسمها[57] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftn57)، وليس معنى ذلك أن رشيدًا لم يكن قبل ذلك يكتب عن مساوئ الاستعمار الأوربي شيئًا؛ فها هو مثلاً يكتب قبل الحرب العالمية عشر مقالات في (المسألة الشرقية)، مراحلها وأخطارها، ويبيِّن أن اعتماد الدولة العثمانية في حفظ نفسها على تنازع الدول الأوربية خطأ كبير؛ لأن الاختلاف الضار لا يستمر بين العقلاء ولذلك دعا رشيد الدولة العثمانية إلى تقوية نفسها عسكريًّا، واتحادها مع العرب في إيجاد هذه القوَّة، وكان لهذه المقالات أثر كبير وصدًى واسع حتى اضطر وكلاء الدول الأوربية في مصر إلى الالتجاء إلى المعتمد البريطاني في مصر لإيقاف هذه المقالات.


- الهوامش:




[40] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref40) سامي الدهان: شكيب أرسلان ص51.

[41] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref41) J.JOMIER: IBID P43.

[42] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref42) رشيد رضا: "المنار والأزهر": ص195، و"تفسير المنار": ج 10 ص422.

[43] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref43) "مجلة المنار": المجلد 23، ص234.

[44] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref44) رشيد رضا: "المسلمون والقبط والمؤتمر المصري": ص24، وما بعدها ط1329هـ.

[45] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref45) انظر "مجلة الشرق اليسوعية"، المجلد 27 (1929م) ص315.

[46] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref46) انظر محمد السلمان: "رشيد رضا ودعوة الشيخ محمد بن عبدالوهَّاب": (ص264): وقد اعتمدنا عليه في هذه الدراسة.

[47] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref47) مكي الطيب شبيكة: "العرب والسياسة البريطانية"، ص40.

[48] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref48) شكيب أرسلان: مرجع سابق ص155، وسامي الدهان: مرجع سابق ص356 و357.

[49] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref49) "مجلة المنار"، المجلد 22 ص718.

[50] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref50) حصلت على صورة من هذه المذكرة مع ملحقاتها وملخَّصها بخط رشيد رضا من الأستاذ (قصي محب الدين الخطيب) بداخل أوراق لوالده محب الدين الخطيب - رحمه الله - صاحب المطبعة السلفية ومكتبتها في القاهرة.

[51] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref51) شكيب أرسلان: مرجع سابق ص155 و156، ومحب الدين الخطيب. ذكرى موقعة حطين، ص15.

[52] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref52) محمد بن سياو: "فقيد العرب والإسلام رشيد رضا"، "مجلة المنار" المجلد 35 ص226.

[53] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref53) عبدالرحمن عاصم: "السيد محمد رشيد رضا"، "مجلة المنار"، المجلد 35 ص480، و481.

[54] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref54) رشيد رضا: "الخلافة أو الإمامة العظمى": ص71، وص113 - 117.

[55] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref55) شكيب أرسلان: مرجع سابق: ص364.

[56] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref56) المرجع السابق ص804.

[57] (http://www.alukah.net/Social/0/30814/#_ftnref57) "مجلة المنار"، المجلد 26، ص205.

أبو حسن
24-04-2011, 11:15 PM
واستمرَّ رشيد في كشف نوايا المستعمرين وأطماعهم حتى إنه قال:


"علمنا ما دار بيننا وبين رجال الإنجليز في مصر، ومن مذكراتنا مع السيد مارك سايكس الذي أرسلته السلطة العليا من لندن إلى مصر والعراق لدرس المسألة العربية سنة 1915م أن القوم ثابتون على طمعهم في بلادنا"[58] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn58).

ومن هنا كان هجوم رشيد على الشريف حسين أمير مكة؛ لأنه قَبِل الوصاية من دولة أجنبية باسم الحماية أو الإشراف، وأخذ يلوم كلَّ مَن يتعاون مع بريطانيا في البلاد العربية، وابتعد عن كلِّ ما يرتاب منهم من العرب، حتى أنه اعتذر عن إعطاء (أمين الريحاني) توصية منه إلى أمراء الجزيرة العربية؛ لأنه ارتاب بأن الريحاني يقصد في رحلاته خدمة سياسية للإنجليز[59] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn59).

وظلَّ رشيد حتى وفاته في عدائه للإنجليز، كما ظلَّ تحت مراقبتهم الشديدة حتى إن صديقه (شكيب أرسلان) حينما مرَّ بالسويس قاصدًا الحجاز سنة 1934م (1353هـ) - أي: قبل وفاة رشيد رضا بسنة واحدة - منعت إنجلترا الصديقين من الاجتماع أو حتى التحدث فيما بينهما[60] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn60).

واستمرَّ رشيد يكره الإنجليز من غير هوادة، يكشف دسائسهم ومؤامراتهم ويذكر أن الشعوب الإسلامية والعربية ساعية في أظفار الأسد تقطيعًا وتحطيمًا، وتنبَّأ بخروجهم من الهند ومصر وفلسطين، وقد حققت الأيام ذلك[61] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn61).

ولم يكن جهاد رشيد ضدَّ الاستعمار الإيطالي والفرنسي بأقل من جهاده ضد الاستعمار الإنجليزي؛ فعندما هاجمت إيطاليا طرابلس الغرب في ليبيا واحتلَّتها عام 1912م كتب رشيد مقالاً هاجَم فيه إيطاليا وتعسفها، ولام العثمانيين الاتحاديين على التساهل والتمكين لإيطاليا بسهولة، وكشف عن السر في هجوم إيطاليا على ليبيا وهو يكمن في المخطط الاستعماري الأوربي الذي عمد إلى تقسيم الدولة العثمانية وممتلكاتها فيما بينها[62] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn62).

وعندما زار ملك إيطاليا مصر احتفلت به الحكومة المصرية المستعمَرة، كما احتفل به الأزهر فهاجَم رشيد بشدة هذه الاحتفالات لملك إيطاليا التي تُقام، وجيشه يضطهد المسلمين في طرابلس وبرقة بليبيا وهاجَم مشيخة الأزهر على موافقتها إقامة مثل هذه الاحتفالات في داخل الأزهر[63] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn63).

وحينما أظهرت إنجلترا وفرنسا خداعهما للعرب بمعاهدة (سايكس بيكو) أراد رشيد أن يتَّجه إلى إيطاليا ليستغلَّها في مصلحة العرب، فكتب إلى حكومتها عام (1921م) بكتاب سياسي ذكَر فيه استعداد المسلمين أن يتَّخذوا من إيطاليا صديقًا لهم إذا كانت ستسير سيرة تخالف سيرة إنجلترا وفرنسا.

وقد حدَّث رشيد قنصل إيطاليا في الشام بهذا الشأن، كما كتب إلى صديقه شكيب أرسلان في جنيف يدعوه إلى مواصلة العمل في هذا الأمر مع الطليان، ولكن لم يلبث رشيد أن يئس من هذه الدولة بعد أن رآها تتكالب على الاستعمار مع حليفتيها (إنجلترا وفرنسا) وذلك بتمسُّكها الشديد بليبيا، بل واستعمارها الحبشة أيضًا بعد[64] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn64)ذلك.

وكان لرشيد رضا مواقف مشهورة ضد الاستعمار الفرنسي أيضًا لا تقلُّ عن هجومه على الاستعمار الإنجليزي؛ فقد هاجَم رشيد بشدَّة فرنسا وسياستها في المغرب الإسلامي من أفريقيا الرامية إلى تنصير المسلمين هناك، ونقد الأزهر في عدم إصداره احتجاجًا على فرنسا بهذا المعنى[65] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn65).

وحينما وضعت الحرب العالمية أوزارها عزم رشيد رضا على زيارة (الشام) وطنه الأول سنة 1919م؛ وذلك للوقوف إلى جوار مواطنيه في محنتهم التي تعرَّضوا لها من جرَّاء تنفيذ معاهدة (سايكس بيكو) وتمكَّن رشيد في هذه الرحلة من مقابلة (مسيو جورج بيكو)[66] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn66)، وقد دارَت محادثة رشيد معه حول ثلاث مسائل:
أولها: ما ينكره العرب على السلطات الفرنسية: وقد بيَّن رشيد ما يعانيه المسلمون في الشام من الإهانة حتى في دينهم، كما طالَب رشيد أن يكون التعليم باللغة العربية وعدم التصرُّف في الأوقاف والتعليم الديني، فوعده (بيكو) بمراعاة ذلك.

أمَّا المسألة الثانية: فهي عن شكل الحكم القادم لبلاد الشام ودور العرب فيه، وقد حاوَل بيكو التهرُّب من الإجابة على هذا السؤال.

أمَّا المسألة الثالثة: فهي مقارنة بين سياسة فرنسا وإنجلترا تجاه البلاد العربية، وقد حاوَل (بيكو) مدح سياسة الفرنسيين وحسن معاشرتهم للعرب، ولكن رشيدًا أوضح له في ردِّه أنه ليس من مصلحة إنجلترا ولا فرنسا تقسيم بلاد الإسلام وتجاهل وحدتها؛ لأن المسلمين لا بُدَّ أن ينهضوا من عثرتهم ويستعيدوا سالف مجدهم، وحينئذ سيكون الإنجليز والفرنسيون هم الخاسرين لصداقتهم.

وقد تظاهَر (مسيو بيكو) بالاقتناع برأي رشيد ظاهرًا، أمَّا في الباطن فقد أضمر له الحقد والكراهية، وجعله تحت مراقبة السلطات الفرنسية، حتى أن تلك السلطات ألقت على رشيد القبض وهو في طريقه من طرابلس إلى بيروت وفتَّشت أمتعته واحتجزت أوراقه فيها، واعتقلت رشيدًا ولم تفرج عنه إلا خوفًا من انتقام المواطنين منها[67] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn67).

وفي هذه الأثناء عاد الأمير فيصل بن الحسين من فرنسا بعد فشله في مفاوضاته معها بشأن مستقبل (الشام)، وفي ذلك الوقت كان المؤتمر السوري، (مجلس الشعب) قد انعقد وانتخب رشيد رضا رئيسًا له، فأعلن المؤتمر استقلال سوريا وجعل الأمير فيصلاً ملكًا عليها، وقد أشار رشيد رضا على (فيصل ابن الحسين) في ذلك الوقت بالاستعداد للحرب؛ لأن فرنسا سوف تلجأ إلى الغدر والقوة، ولكن فيصلاً أهمل العمل بنصائح رشيد، فلم تلبث فرنسا أن أرسلت تهديدًا إلى الأمير فيصل بن الحسين تأمره بالخروج من دمشق، فخضع فيصل لها في نهاية الأمر، رغم معارضة الكثيرين لهذا وخاصة رشيد رضا، وحدَث ما كان قد توقَّعه رشيد؛ إذ زحف الفرنسيون من منطقة ساحل الشام إلى (دمشق) فتمكَّنوا من احتلالها في 23 يوليو عام 1920م (1339هـ)، فأراد رشيد بعد ذلك العودة إلى مصر[68] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn68)، ولكن سلطات الاستعمار الإنجليزي لم توافق على عودته، ولم يعد رشيد إلى أسرته في مصر إلا بعد أن حصل على جواز آخر أجازته السلطات الإنجليزية دون أن تدقق في معرفة صاحبه؛ لعدم وجود تعريف لرشيد فيه بأنه (صاحب المنار) و(رئيس المؤتمر السوري)، كما ذكر رشيد ذلك نفسه[69] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn69).

ومع ذلك كله استمرَّ رشيد في حربه للاستعمار الأوربي حتى إنه سافر سنة 1921م (1340هـ) كأحد أعضاء المؤتمر السوري الفلسطيني، وأصدر المؤتمر نداءً إلى عصبة الأمم بهذا المعنى، كما تمكَّن رشيد فيه من الاجتماع بعدد من ممثِّلي الدول إلى عصبة الأمم وعرض عليهم مطالب العرب، وقد انتُخِب رشيد في هذا المؤتمر نائبًا للرئيس كما سبق.

ومهما يكن من أمر رشيد رضا وبالرغم من أن مواقفه العدائية ضد الإنجليز كانت أكثر وأبرز منها ضد الفرنسيين؛ نتيجة لوجوده في مصر تحت سلطتهم - فإن له مواقف عدائية بارزة ضد الفرنسيين أيضًا، ولهذا يقول جومييه: "لم يخفِ رشيد معارضته للمشروعات الفرنسية في سوريا، وشارَك في مدينة جدة بمواقف معادية للفرنسيين في أثناء حج سنة 1916م"[70] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftn70).


الهوامش:




[58] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref58) إبراهيم العدوي: "رشيد رضا": ص238 - 242.

[59] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref59) "مجلة المنار"، المجلد 24 ص797.

[60] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref60) شكيب أرسلان: مرجع سابق: ص164 و165.

[61] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref61) سامي الدهان: مرجع سابق: ص359.

[62] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref62) إبراهيم العدوي: مرجع سابق: ص237.

[63] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref63) رشيد رضا: "المنار والأزهر": ص14.

[64] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref64) شكيب أرسلان: مرجع سابق: ص321 و322 و783.

[65] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref65) رشيد رضا: المرجع السابق: ص14.

[66] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref66) "مجلة المنار"، المجلد 22 ص768 - 772.

[67] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref67) "مجلة المنار"، المجلد 22 ص772 وما بعدها.

[68] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref68) إبراهيم العدوي: مرجع سابق: ص252، و"مجلة المنار"، المجلد22، ص797.

[69] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref69) أحمد الشرباصي: "رشيد رضا الصحفي المفسر الشاعر اللغوي": ص65، و78، و79.

[70] (http://www.alukah.net/Social/0/30814#_ftnref70) JOMIER، P41.