تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : مقال جميل : ألم نربِّك فينا وليدًا.. حوار متكرّر



محمد أحمد الفلو
12-10-2011, 03:14 PM
د. الشريف حاتم بن عارف العوني
بالاذن من أبو حسن :)




قَالَ أَلَمْ نُرَبّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ • وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ • قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ • فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ • وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرٰءيلَ).
تأمّل هذا الحوار الغريب، والذي تتّضح فيه وسائل الطغاة في الضغط على المصلحين، ثم كيف يكون جواب المصلحين الملهَمين الموفَّقين؟!
يبدأ فرعونُ مَـكْرَه بذكر نعمة جليلة أنعم بها على موسى (عليه السلام)، وهو أنه كان قد ربّاه منذ كان رضيعًا في قصره، وكان له كالأب، وامتدت هذه الأبوّة سنين كثيرة، حتى أصبح موسى (عليه السلام) رجلاً. وهو (كما ترى) امتنان بنعمة كبيرة، تُثقل الظهرَ وتكسر العين، ولا ينكر عظمها إلاّ جاحد لئيم، فكيف بمن ينكرها بالكليّة؟! ولذلك فلن يكون منكرها عند الناس إلاّ شرّ الناس.
ولن يجد فرعون وسيلة أقوى من التذكير بهذا الامتنان لكي يُسقط موسى (عليه السلام) من أعين الناس.
ولكن هل ينسى فرعون أن تربيته لموسى (عليه السلام) ما كانت لتقع أصلاً لولا أن بطشه وظلمه وقتله لأطفال بني إسرائيل كان هو السبب في إلقاء أم موسى لموسى (عليه السلام) في اليمّ، ولولا ذلك ما خرج موسى (عليه السلام) من حضن أمه طرْفة عين. فأيّ مِنّة لفرعون على موسى؟! إلاّ أنه اضطرّه لكي ينشأ في غير بيته، ودون علم فرعون بحقيقته، وإلاّ لو عرف أن ذلك الرضيع إسرائيلي لقتله أسوة بغيره. ولذلك كان ردّ موسى (عليه السلام) قويًّا قاطعًا عندما ذكّره بذلك (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بني إسرائيل).
ويذكّرني هذا الحوار الفرعوني أيضًا بما تفعله الدول المستكبرة اليوم، تأتي لبلد، فتستنزف ثرواته، وتقتل شعبه، وتسلبهم الحرية، وبعد أن تتركه يبابًا لا تكاد تَنبُتُ للأمل فيه نبتةٌ (كالعراق)، تأتي بعد ذلك تلك الدولة لتمتنّ عليهم بإعانات إنسانية!!
أو أن تلك الدولة المستكبرة تقوم بدعم طاغية جبّار يحكم بلده بالحديد والنار والسرقة في وضح النهار، ثم إذا ثار عليه شعبه، تمتنّ عليهم بدعم منقوص، تتاجر به من أجل مصالحها. ثم تريد من ذلك الشعب أن يتناسى دعمها لذلك الطاغية؛ لأننا دائمًا نحن من يجب أن يفتح صفحة جديدة!! وينسى هؤلاء المستكبرون أن الصّفَحَات قد نفدت، ونحن مضطرون للتحشية على صفحات مكتوبة بمداد الظلم ودعمهم له!!
وبهذا الجواب من موسى (عليه السلام) تخلّص من امتنان فرعون الكاذب عليه، وكأنه يقول له: أنت تمتن عليّ بآثار طغيانك واستعبادك لقومي وسفكك لدماء الأبرياء منهم؛ وهل كانت هذه منّة يُمتنّ بها عند عاقل؟! وهل يمكن أن تكون يومًا إلاّ عدوانًا وطغيانًا يستحق العقوبة والانتقام؟!
ثم يكمل فرعون المشهد التمثيلي، ولا يقف مكرُهُ عند الامتنان بآثار الطُّغيان! فيذكّر موسى (عليه السلام) بقتله للرجل المصري خطأً قبل هروبه منهم.
وتذكّروا أن الذي يعيّر موسى (عليه السلام) بخطيئة القتل هو فرعون! فرعون سفّاك الدماء ومستبيح الأعراض ومستعبد الشعوب!! ألا يخجل هذا -وهو إمام القتلة ورئيس الطغاة- من التعيير بقتل شخص واحد خطأ؟! ألا يخشى من أن يُقال له: وأنت ماذا كنت تفعل وما الذي ما زلت تفعل بدماء الأبرياء؟!
لكنّها صفاقة وجه الطُّغاة، وظنّهم أنهم لن يواجههم أحد بالتصريح لهم بأنهم هم من فعل الفَعَلات التي لا يسترها تلميح ولا يكفي لحكاية بشاعتها التصريح. نعم.. فمن اعتاد من الناس صمت الجبن وخرس التزلّف والنفاق (هذا إن لم يسمع منهم آيات الثناء وقصائد المديح فيه) لن يتصوّر أن أحدًا سيجرؤ على تذكيره بقبيح فعله، مهما عيّرهم بخطايا كان هو أشدّهم فيها إسرافًا وطغيانًا.
وهذا يذكّرني اليوم بطغاة ما فتئوا يعربدون، فإذا وقع مصلح في خطيئة، هدّدوه بها، بنفس هذا الأسلوب الفرعوني، لكي يكسروا إرادته في الإصلاح. ولربما كانوا هم من أوقعوه في شراك تلك الخطيئة، ولربما لفّقوا له تهمتها التي هو بريء منها براءة كاملة. فالمهم عندهم هو كيف يثنونه عن الإصلاح، وكيف يجعلونه فاقدًا لاستحقاق قيادة حركة التغيير.
لكن فرعون مع هذا لم يكتفِ بالتعيير بخطيئة القتل التي هو أسود الناس وجهًا بعارها، بل جاء ذِكرُه لهذه الخطيئة بطريقة بلغت به المنتهى من التشبّع بثوبين من أسبغ ثياب الزور، حيث يقول فرعون: (وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ ٱلَّتِي فَعَلْتَ)!
فما هما ثوبا الزور اللذان تسربل بهما فرعون لما اختار تعيير موسى (عليه السلام) بهذا الأسلوب الذي يُـكنّي فيه عن خطيئة القتل بـ(الفَعْلة)، دون تسمية لها باسمها الصريح؟
الثوب السابغ الأول من ثياب الزور هو: أن فرعون يستعظم القتل ويستقبحه!! فمن عظمة الفعل الذي فعله موسى (عليه السلام) لا يريد فرعون أن يصرّح به، وكأنه ينزّه نفسه عن مجرّد جريان لفظ القتل على لسانه!
وما أسبغ ثوب الزور هذا!! أن يتشبّع به فرعون قائد الطغاة وأستاذ القتلة.
وثوب الزور الثاني: أن فرعون ما زال يتمثل موقف الأب الحنون؛ فكأنه لا يريد أن يحرج ابنه بأن يصرّح له بذكر خطيئته التي يخجل الابن منها، أو لعل فرعون (الأب!) يريد أن يدّعي الرغبة في الستر على موسى (عليه السلام)، فلا يريد أن يسمّي خطيئته باسمها الصريح، لكي لا يفضحه عند من لم يعرفه بها، ولذلك أشار هذا الأب الحنون إلى تلك الخطيئة إشارة فقط دون تصريح!!
أرأيتم هذا الخبث في الحوار؟! وهو خبث يتكرّر مع كل الطغاة.
فبماذا تخلّص موسى (عليه السلام) من تذكيره بتلك الخطيئة الكبيرة، وهي القتل، وبهذا الأسلوب الماكر؟!
لقد تخلّص موسى (عليه السلام) من التعيير بخطيئته بالاعتراف الصريح الواضح المجلجل (قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ). إنه شرف الاعتراف بالخطأ، الذي يجعل الاعتراف به فضيلة. وكلّما كان الخطأ كبيرًا، كان الاعتراف به فضيلة كبرى.
إن مثل هذا الاعتراف الصريح المدوّي، عرّى فرعون من ثياب الزور، وكشف عورته وأبدى سوءته، حتى عند من انخدع بثوبي زوره السابغَين!! لأن مثل هذا الاعتراف لا يجعل للتعيير أثرًا، فصاحب الخطيئة نفسه يعلن بخطيئته، ويعترف بأنه قد اقترف خطأ، فلم يترك لغيره مجالاً لأن يعيّره به.
وفي قوله عليه السلام: (وَأَنَاْ مِنَ ٱلضَّالّينَ) إشارة إلى عذره المفحم؛ فقد كان ينظر فرعون إلى موسى (عليه السلام) أنّه واحد من جنده، ويحسبه أحد أتباعه. فيذكّر موسى (عليه السلام) فرعونَ أنّه فعل ما فعل يوم كان حسَبَ ظنّ فرعون على طريقته الضالّة، وليس بعد أن هداه الله تعالى ووهبه النبوّة والحكمة.
فالتّعيير بالخطيئة حينئذ سيكون عارُها لاحقًا بمنهج فرعون الذي كان موسى (عليه السلام) محسوبًا عليه يوم وقوع الخطيئة منه، حسَب ظنّ فرعون نفسه، ولا يلحق عارُها المنهجَ الجديد لموسى (عليه السلام)، والذي تبرّأ فيه من فرعون ومنهجه، وهو ذاك المنهج الربّاني الذي جاء به موسى (عليه السلام) بشيرًا ونذيرًا إلى فرعون وقومه.
تأمّل هذا الحوار الغريب! إنه الحوار الذي يتكرّر دائمًا بين الطُّغاة والمصلحين الموفَّقين، وإنْ تغيّرت اللّغات واختلف الأشخاص!!

الشامي
12-10-2011, 04:15 PM
مقال جميل ... الله يبارك فيك خيو على النقل

رجل يسعى
12-10-2011, 05:26 PM
الا بارك الله يالكاتب و الناقل
استنباط جميل و فقه ظاهر

أبو حسن
13-10-2011, 01:30 PM
بارك الله بكم على نقل المقالة أخي محمد، وفيها استنباط دقيق وفقه عجيب وهي من أجمل مقالات الشيخ التي وقفت عليها

وقد قمت بتغيير الخط في المقالة لتسهل قراءته

محمد أحمد الفلو
13-10-2011, 05:01 PM
أهلا بالشباب الطيبه
خذ راحتك أبو حسن،

لك الفضل بعد الله بالاهتمام بمقالات الشيخ