أبو محمد القلموني
07-09-2007, 04:01 PM
استيقظ في الصباح بعد جولة نزاع مع أشعة الشمس الناعسة تداعب خيوط أحلامه الرقيقة و تقطعها واحدة بعد واحدة ، حتى إذا تبخرت كلها و اندثرت ، و استيقظ الصحو متثائبا من جنباته! عاتبته نفسه كما هي العادة عتابا شديدا لتفريطه المستمر بصلاة الفجر! نهض مسرعا يسابق ألمه فتوضأ و كبر مستقبلا مولاه بانكسار و ندم ، ثم لم يكد يسلم حتى استقبل القبلة مرة ثانية بعهد قديم جديد و توبة متكررة!
جلس في الركن منكسرا يجلد ضميره روحه بعنف لا رأفة فيه. ثم تذكر أن اليوم هو آخر أيام شعبان و الليلة ستفرح الدنيا كلها برمضان شهر المغفرة و العتق.
دخل بيت الخلاء فاغتسل و تنظف ثم لبس العباءة البيضاء التي يحب . تعطر و أصلح شعر رأسه وجلس إلى مكتبه و السواك في فمه يديره بانتظام ، في ما عيناه ترقبان بلذة لا حدود لها مكتبته الضخمة التي تتتسع حدودها يوما بعد يوم! وما أن وقع بصره على كتاب ( فتح الباري ) حتى شعر بقشعريرة تأخذه من رأسه إلى أخمص قدميه!
نهض من فوره و تناول الجزء الذي يقع فيه كتاب الصوم.
الآن هو على موعد مع ساعة مشاعر جياشة تفيض إيمانا و تقى و اتباعا ! يا لله كم يطربه قول الراوي : حدثنا ! و كم تسحره ألفاظ : التخريج ، المتابعة ، الشواهد ...
رجع بذاكرته إلى الوراء يوم كان الشك يملأ قلبه و أفكار المستشرقين تغزو مشاعره تدفعه إلى الطعن في كتب الحديث ! ثم كيف هداه الله إلى قراءة كتاب ( مقدمة ابن الصلاح ) التي قلبت أفكاره عن علم الحديث إلى الضد فأصبح هذا العلم من أمتع و أمتن العلوم عنده ! إذا وجد في نفسه غمة فتح كتاب ( شرح مشكل الآثار ) للطحاوي أو كتاب ( العلل ) للترمذي و جلس يجلو همه بتلك النكت العلمية الباهرة !
جاءه صوت والدته من وراء الباب تدعوه برفق إلى مائدة الطعام . اليوم هو آخر أيام الفطر قبل رمضان فليعجل في الجلوس إلى مائدة الفطور مع أهله ثم يعود بعدها إلى مائدة الحديث يحلي بها روحه و عقله.
على المائدة جلست العائلة تستمع إلى هدير الشاي العذب يصب في الأقداح ، و الأبخرة تتصاعد فتتقاذفها الأنفاس . وبين الحين و الحين تعليقات بشأن رمضان. أخته تتحدث عن فطور اليوم الأول ، تشاركها والدته في طرح الأفكار . أما والده فمنهمك بتوجيه بعض الملاحظات إلى أخيه بخصوص سيارة العائلة التي أصبحت هما كما البيت تماما! ...
بدأت الأيدي تتشابك فوق الصحون ، و الكلمات تتجمع رويدا رويدا في أفنية الذهن تتهيأ لاستقبال الضيف السنوي المحبب بعبارات الترحيب والفرح ! شيئا فشيئا نسي الأب هم السيارة و ذهلت الأم عن وجع الإبنة و أخبار الجارات الساخنة ، و تاق الأبناء جميعا للتحدث عن جامع شمل العائلة و المرقق للقلوب المؤلف بينها ؛ شهر الرحمة و الخير و المسرات!
لكن البداية كانت ، و كما هي العادة ، حديث عن السيران آخر أيام شعبان ، اليوم الذي ينتظره الكثيرون ، ينطلقون فيه إلى البراري منذ الصباح الباكر ثم لا يعودون إلا مع أذان المغرب. قلة هم من يفوتهم السيران ! و البعض ربما لا يعده رمضانا صحيحا إذا لم يتسيرن قبله!
والدته تناقش والده بشأن تحضيرات السيران والمكان الذي ستذهب إليه العائلة ، وهمهمات خفيفة تعلو شيئا فشيئا في بعض جهات المائدة ... أخته شيماء تعتذر عن الذهاب ! فتلح عليها سميرة بالسؤال عن السبب ! ... ترفض شيماء ، ثم تتدخل الأم مستفهمة ..... تعلل شيماء الأمر ببدعية السيران . تعلو الاصوات في نقاش حام يدلي الجميع فيه برأيه دون أن يكلف نفسه سماع الآخر. وكأنهم في حلبة مصارعة صوتية!الأقوى فيها من يصرع الخصم بصراخه!
ثم بعد برهة يلتفت الجميع إليه فيجدونه مستغرقا مشغولا بطعامه لا يظهر عليه أنه يلقي لكلامهم بالا. تسأله والدته التي تحترم قدراته الذهنية و العلمية كثيرا كما إخوته جميعا و والده ، عن رأيه فيبتسم قائلا :
رمضان لا يستعد له بالسيران و لكن بفهم حقيقة الفريضة ثم بتنقية الباطن و تخليته مما يكدر العلاقة مع الله. وأما السيران فإن قصد أن يكون طريقة خاصة للتقرب من الله فمثل هذا يمنعه العلماء و يعدونه حينها من البدع ، فأما إن كان من عادات الناس التي لا تتعلق بكونها قربة من لم يفعلها فاته خير عظيم ، فهي والحالة هذه من المباحات والله أعلم.
تهللت أسارير الجميع بمن فيهم شيماء التي تطربها كلمات أخيها العلمية و تشحذها بهمة عالية لطلب العلم الشرعي و التقرب من الله عز وجل.
مثل هذه الأجوبة قد يجدها الكثيرون معتدلة و البعض يعدها متهاونة متساهلة . وقد كان في بدء عهده متشددا في نظر البعض يختار من الأجوبة أصعبها و أشدها مخالفة للتقاليد و العادات . لكنه مع الأيام و كثرة المطالعة و التبحر في فنون العلم اكتسب هاجس التجرد و الدقة العلمية، ثم لم يزل به حتى أصبح هواه كله تبعا له ! لا يعدل به شيئا ! ولا يزاحمه في قلبه عليه مزاحم! فكان أن أكسبته هذه الصفة أسلوبا هادئا متعقلا صار به في نظر الكثيرين معتدلا بامتياز!
دخل غرفته و أغلق الباب عليه. فخلا بمحبوبته و معشوقته الممشوقة الممتدة ذات اليمين و ذات الشمال تملأ جنبات الغرفة و تزاحمه في سريره أحيانا كثيرة !
قضى ما يقارب الساعتين في بحث و تنقيب و مراجعة أحس بهما كدقيقتين مرتا بسرعة خاطفة !
انطلق إلى المسجد قبل صلاة الظهر ، دخل فصلى ركعتين ثم جلس يقرأ آيات الصيام : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )......
وقف مطولا عند قوله تعالى ( يا ايها الذين آمنوا ) ثم ربط بينها و بين حقيقة الصوم كما بينته الأحاديث الصحيحة ، فتولدت خواطر جميلة تواردت على ذهنه تباعا... ثم توقف عند قوله تعالى ( لعلكم تتقون ) فإذا المعاني متناسقة متكاملة في صورة واضحة جلية... التقوى إذا هي الهدف ! ولماذا لا تكون كذلك وهي المحققة لأعظم مصلحة قد ينالها عبد في هذه الدنيا الفانية ألا وهي : معية الله . ( إن الله مع الذين اتقوا ) . فماذا خسر من ربح معية الله و ما الذي يجنيه من فقدها؟!
ألا فليكن عنوان رمضان هذا العام ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ولتكن ساعاته و أيامه و لياليه كلها صوما عما سوى الله و مناجاة حقيقية يتوجه فيها إلى الله بضعفه و ألمه . يستمتع بالحضور معه ، يضع عنه أحماله بين يديه و يعفر وجهه عند أعتابه، بتذلل فيه من اللذة ما يعدل ملذات الدنيا مجتمعة بل و يربو عليها !
جلس في الركن منكسرا يجلد ضميره روحه بعنف لا رأفة فيه. ثم تذكر أن اليوم هو آخر أيام شعبان و الليلة ستفرح الدنيا كلها برمضان شهر المغفرة و العتق.
دخل بيت الخلاء فاغتسل و تنظف ثم لبس العباءة البيضاء التي يحب . تعطر و أصلح شعر رأسه وجلس إلى مكتبه و السواك في فمه يديره بانتظام ، في ما عيناه ترقبان بلذة لا حدود لها مكتبته الضخمة التي تتتسع حدودها يوما بعد يوم! وما أن وقع بصره على كتاب ( فتح الباري ) حتى شعر بقشعريرة تأخذه من رأسه إلى أخمص قدميه!
نهض من فوره و تناول الجزء الذي يقع فيه كتاب الصوم.
الآن هو على موعد مع ساعة مشاعر جياشة تفيض إيمانا و تقى و اتباعا ! يا لله كم يطربه قول الراوي : حدثنا ! و كم تسحره ألفاظ : التخريج ، المتابعة ، الشواهد ...
رجع بذاكرته إلى الوراء يوم كان الشك يملأ قلبه و أفكار المستشرقين تغزو مشاعره تدفعه إلى الطعن في كتب الحديث ! ثم كيف هداه الله إلى قراءة كتاب ( مقدمة ابن الصلاح ) التي قلبت أفكاره عن علم الحديث إلى الضد فأصبح هذا العلم من أمتع و أمتن العلوم عنده ! إذا وجد في نفسه غمة فتح كتاب ( شرح مشكل الآثار ) للطحاوي أو كتاب ( العلل ) للترمذي و جلس يجلو همه بتلك النكت العلمية الباهرة !
جاءه صوت والدته من وراء الباب تدعوه برفق إلى مائدة الطعام . اليوم هو آخر أيام الفطر قبل رمضان فليعجل في الجلوس إلى مائدة الفطور مع أهله ثم يعود بعدها إلى مائدة الحديث يحلي بها روحه و عقله.
على المائدة جلست العائلة تستمع إلى هدير الشاي العذب يصب في الأقداح ، و الأبخرة تتصاعد فتتقاذفها الأنفاس . وبين الحين و الحين تعليقات بشأن رمضان. أخته تتحدث عن فطور اليوم الأول ، تشاركها والدته في طرح الأفكار . أما والده فمنهمك بتوجيه بعض الملاحظات إلى أخيه بخصوص سيارة العائلة التي أصبحت هما كما البيت تماما! ...
بدأت الأيدي تتشابك فوق الصحون ، و الكلمات تتجمع رويدا رويدا في أفنية الذهن تتهيأ لاستقبال الضيف السنوي المحبب بعبارات الترحيب والفرح ! شيئا فشيئا نسي الأب هم السيارة و ذهلت الأم عن وجع الإبنة و أخبار الجارات الساخنة ، و تاق الأبناء جميعا للتحدث عن جامع شمل العائلة و المرقق للقلوب المؤلف بينها ؛ شهر الرحمة و الخير و المسرات!
لكن البداية كانت ، و كما هي العادة ، حديث عن السيران آخر أيام شعبان ، اليوم الذي ينتظره الكثيرون ، ينطلقون فيه إلى البراري منذ الصباح الباكر ثم لا يعودون إلا مع أذان المغرب. قلة هم من يفوتهم السيران ! و البعض ربما لا يعده رمضانا صحيحا إذا لم يتسيرن قبله!
والدته تناقش والده بشأن تحضيرات السيران والمكان الذي ستذهب إليه العائلة ، وهمهمات خفيفة تعلو شيئا فشيئا في بعض جهات المائدة ... أخته شيماء تعتذر عن الذهاب ! فتلح عليها سميرة بالسؤال عن السبب ! ... ترفض شيماء ، ثم تتدخل الأم مستفهمة ..... تعلل شيماء الأمر ببدعية السيران . تعلو الاصوات في نقاش حام يدلي الجميع فيه برأيه دون أن يكلف نفسه سماع الآخر. وكأنهم في حلبة مصارعة صوتية!الأقوى فيها من يصرع الخصم بصراخه!
ثم بعد برهة يلتفت الجميع إليه فيجدونه مستغرقا مشغولا بطعامه لا يظهر عليه أنه يلقي لكلامهم بالا. تسأله والدته التي تحترم قدراته الذهنية و العلمية كثيرا كما إخوته جميعا و والده ، عن رأيه فيبتسم قائلا :
رمضان لا يستعد له بالسيران و لكن بفهم حقيقة الفريضة ثم بتنقية الباطن و تخليته مما يكدر العلاقة مع الله. وأما السيران فإن قصد أن يكون طريقة خاصة للتقرب من الله فمثل هذا يمنعه العلماء و يعدونه حينها من البدع ، فأما إن كان من عادات الناس التي لا تتعلق بكونها قربة من لم يفعلها فاته خير عظيم ، فهي والحالة هذه من المباحات والله أعلم.
تهللت أسارير الجميع بمن فيهم شيماء التي تطربها كلمات أخيها العلمية و تشحذها بهمة عالية لطلب العلم الشرعي و التقرب من الله عز وجل.
مثل هذه الأجوبة قد يجدها الكثيرون معتدلة و البعض يعدها متهاونة متساهلة . وقد كان في بدء عهده متشددا في نظر البعض يختار من الأجوبة أصعبها و أشدها مخالفة للتقاليد و العادات . لكنه مع الأيام و كثرة المطالعة و التبحر في فنون العلم اكتسب هاجس التجرد و الدقة العلمية، ثم لم يزل به حتى أصبح هواه كله تبعا له ! لا يعدل به شيئا ! ولا يزاحمه في قلبه عليه مزاحم! فكان أن أكسبته هذه الصفة أسلوبا هادئا متعقلا صار به في نظر الكثيرين معتدلا بامتياز!
دخل غرفته و أغلق الباب عليه. فخلا بمحبوبته و معشوقته الممشوقة الممتدة ذات اليمين و ذات الشمال تملأ جنبات الغرفة و تزاحمه في سريره أحيانا كثيرة !
قضى ما يقارب الساعتين في بحث و تنقيب و مراجعة أحس بهما كدقيقتين مرتا بسرعة خاطفة !
انطلق إلى المسجد قبل صلاة الظهر ، دخل فصلى ركعتين ثم جلس يقرأ آيات الصيام : ( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون )......
وقف مطولا عند قوله تعالى ( يا ايها الذين آمنوا ) ثم ربط بينها و بين حقيقة الصوم كما بينته الأحاديث الصحيحة ، فتولدت خواطر جميلة تواردت على ذهنه تباعا... ثم توقف عند قوله تعالى ( لعلكم تتقون ) فإذا المعاني متناسقة متكاملة في صورة واضحة جلية... التقوى إذا هي الهدف ! ولماذا لا تكون كذلك وهي المحققة لأعظم مصلحة قد ينالها عبد في هذه الدنيا الفانية ألا وهي : معية الله . ( إن الله مع الذين اتقوا ) . فماذا خسر من ربح معية الله و ما الذي يجنيه من فقدها؟!
ألا فليكن عنوان رمضان هذا العام ( وعجلت إليك ربي لترضى ) ولتكن ساعاته و أيامه و لياليه كلها صوما عما سوى الله و مناجاة حقيقية يتوجه فيها إلى الله بضعفه و ألمه . يستمتع بالحضور معه ، يضع عنه أحماله بين يديه و يعفر وجهه عند أعتابه، بتذلل فيه من اللذة ما يعدل ملذات الدنيا مجتمعة بل و يربو عليها !