تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : العلامة الشيخ محمد رشيد رضا القلموني محدّثا - مقالاته وأحكامه الحديثية



أبو حسن
11-11-2007, 11:27 AM
للشيخ العلامة القلموني محمد رشيد رضا قدّس الله روحه دور مهم في نشر علم الحديث ومباحثه من خلال مجلة المنار. إذ أثّرت هذه المباحث في العديد من العلماء وقد سمعت الشيخ الألباني رحمه الله يتحدث عن هذه المقالات ويعتبر أنها هي التي دفعته نحو علم الحديث.

سأحاول في هذه الصفحة بإذن الله نقل ما يتيسر لي من مقالات وأحكام حديثية نشرها الشيخ رشيد على صفحات مجلة المنار سائلا الله أن يوفقني في نقلها وأن يرزقني الإخلاص وسلامة النية

أبو حسن
11-11-2007, 12:38 PM
يقول أبو حسن:

هذه مقدمة لطيفة كتبها الشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله لكتاب "مفتاح كنوز السنة" تأليف المستشرق الهولندي الدكتور أ. ي فنسنك. وقد عهد الشيخ رشيد بهذا الكتاب إلى الأستاذ الكبير محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله فترجمه إلى العربية وكتب الشيخ رشيد مقدمة الكتاب التي آثرت نقلها لما احتوته من فوائد جمة وإشارات إلى منهج الشيخ وجهوده في نشر علم الحديث.


مقدمة كتاب مفتاح كنوز السنة


بسم الله الرحمن الرحيم
{ يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ * هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } (الجمعة: 1-2) نحمده عز وجل ونصلي ونسلم على رسوله محمد خاتم النبيين، الذي بعثه الله وهو أمي في سن الكهولة مربيًّا ومعلمًا لقومه العرب الأميين، ما جعلهم به قارئين كاتبين، صالحين مصلحين، فكانوا أئمة حكماء حاكمين وعلماء معلمين لأهل الكتاب ورثة الأنبياء، ولغيرهم من ورثة الفلاسفة والحكماء، وجعلهم به ملوكًا عادلين، وآتاهم بكتابه وتعليم رسوله وتزكيته ما لم يؤت أحدًا من العالمين، فما زال هذا الكتاب الإلهي، وما بينه من سنة هذا النبي الأمي يتدارسهما البشر في مشارق الأرض ومغاربها من شاطئ المحيط الغربي إلى أحشاء الصين، ثم انتقل تدارسهما من الجنوب إلى الشمال، فعني بهما طائفة من الأوربيين، الذين عُرِفُوا بلقب المستشرقين، وقد مهدوا السبيل لهما، بما وضعوه من المفاتح لألفاظهما، والفهارس المنوعة لكتب التفسير والحديث وغيرها من الكتب العربية لتسهيل مراجعتها، حتى صار علماء المسلمين من العرب والأعاجم مضطرين لأخذها عنهم، واقتفاء أثرهم فيها.

وهذا كتاب (مفتاح كنوز السنة) الذي نعرضه اليوم للعالم الإسلامي بلغة الإسلام، أحد نفائس هذه الكتب التي وضعها أحد هؤلاء الأعلام ؛ وإنما وضعه لهم بإحدى لغاتهم، وإن عالمنا الإسلامي، لهو أحوج إليها من العالم الأوربي، فعسى أن ينتفع به جميع شعوبه وتنهض بهم الحمية الدينية إلى خدمة السنة بما هو خير منه في الضبط والجمع، وتعميم النفع.

أما بعد، فإن خير ما أُعَرِّف به هذا الكتاب لقراء العربية، أن أبين لهم وجه الحاجة إليه، وطريق الانتفاع به، وعدم استغناء أعلم علماء الحديث عنه، بل هم أشد حاجة إليه من غيرهم، ويتلوهم من دونهم من العلماء، فمن دونهم من دهماء القراء الذين يقتنون شيئًا من كتب الحديث المشهورة وغيرها مما يراه القراء في طرته، وإنني أستمد هذا البيان من تجربتي واختباري في السنين الطوال، لا أقوله بادي الرأي، ولا أصطاده من سوانح الاستحسان.

إنني وُفقت لطلب العلم من طريق الدليل، ثم وُفقت لنشره بالدليل، ووُفقت للمناظرة وللإفتاء بالدليل، واشتغلت بعلم الحديث أول العهد بالطلب وارتقيت فيه بالتدريج، وتمرنت على مراجعة كتبه وكتب الجرح والتعديل ؛ لتخريج الأحاديث ونقدها، وسرعة الوصول إليها من أقرب طرقها، واشتهرت عند من يعرفني من أهل العلم والذكاء، كان الأستاذ اللوذعي الشيخ محمد توفيق البكري يظن أن عندي فهارس لأوائل الأحاديث كلها، ومعجمًا لمفرداتها كهذا الكتاب يبين عند كل كلمة مواضع كل حديث وردت فيه من كتبها، ثم علم أنه ما ثم إلا مفتاح الصحيحين المطبوع المشهور، وهو خاص بأوائل أحاديث الصحيحين القولية والمسندة وبيان مواضعها من المتن وشروح الحافظ العسقلاني والقسطلاني والعيني لصحيح البخاري (في طبعاتها الأولى) وشرح النووي لصحيح مسلم المطبوع على هامش شرح القسطلاني للبخاري.

ولو وجد بين يدي مثل هذا المفتاح لسائر كتب الحديث لوفر عليّ أكثر من نصف عمري الذي أنفقته في المراجعة ؛ ولكنه لم يكن ليغنيني عن هذا الكتاب (مفتاح كنوز السنة) فإن ذاك إنما يهديك إلى مواضع الأحاديث القولية التي تعرف أوائلها، وهذا يهديك إلى جميع السنن القولية والعملية وما في معناها كالشمائل والتقريرات والمناقب والمغازي وغيرها، فلو كان بيدي هو أو مثله من أول عهدي بالاشتغال بكتب السنة لوفر عليّ ثلاثة أرباع عمري الذي صرفته فيها ؛ ولمكنني من الاستجابة لمن اقترحوا عليّ أن أضع كتابًا جامعًا للمعتمد منها، وكتابًا آخر للمُشْكِل منها في نظر علوم هذا العصر وفلسفته، والجواب المقنع عنه.

إن حاجتنا إلى هذا الكتاب وما في معناه في هذا العصر لا يدل على تقصير علماء السنة السابقين، أو تفريطهم في شيء من خدمتها ؛ فإنهم - أحسن الله إليهم ونَضَّرَ وجوههم - قد قاموا بكل ما يجب ويندب ويستحب من رواية الحديث وحفظه وتدوينه في المسانيد والجوامع والسنن الجامعة والخاصة بالعقائد والأحكام، وإفراد الصحاح منها وإتمامها بالمستخرجات والمستدركات عليها، ووضعوا المعاجم لمفرداتها ولأوائلها لتسهيل المراجعة، دع ما سبقوا إليه جميع الأمم من وضع التواريخ لرواتها، ثم لغيرهم من العلماء، ومن ترتيب بعضها على حروف المعجم وبعضها على الطبقات، ومن نصب ميزان الجرح والتعديل المستقيم لهم لتمحيص المقبول والمردود من مروياتهم، ومن وضع كتب الأطراف المبينة لروايات كل صحابي في كل موضوع، وترتيبها على الحروف، وغير ذلك من الكماليات التي لا محل لذكرها هنا، فقد تركوا لنا ثروة واسعة في ضبط سنن نبينا صلى الله عليه وسلم وهديه وشمائله وسيرته لم يوفق لمثلها، ولا لما يقرب منها أحد من أتباع الأنبياء والمرسلين، ولا غيرهم من الحكماء والمشترعين، يسرت لمن بعدهم سبيل التفقه فيها والاستنباط منها في كل زمان بما يحتاج إليه أهله، ويكون به المتأخر مكملاً لما سبقه إليه من قبله، ويكون الارتقاء في العلم متسلسلاً مطردًا، سواء منه علم الدراية والرواية الذي جعلوه علمًا مستقلاًّ مدونًا وعلوم العقائد والفقه والأدب والتصوف وغيرها.

كان أئمة الفقه في أمهات الأمصار قبل جمع الأحاديث والآثار في الأسفار يأخذ كل منهم بما وصل إليه من علم الصحابة والتابعين بالسنة ومذاهبهم في العمل. فاشتهر في الكوفة مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأصحابه وقضايا علي أمير المؤمنين كرم الله وجهه، وشريح قاضي أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه وفتاوى إبراهيم النخعي وأقرانه من التابعين، فكانت عمدة أبي حنيفة في اجتهاده بالتخريج عليها قلما كان يخالفها، ولقلة المرفوع فيها كان يأخذ بالمرسل والمنقطع، وكثر في فروعه القياس والرأي وعرف به، واشتهرت براعة صاحبه أبي يوسف في القضاء لتولية هارون الرشيد إياه رياسته في مملكته، ثم اشتغل صاحبه محمد بن الحسن بالحديث، وأخذ الموطأ عن الإمام مالك ودون الكتب التي هي عمدة المذهب. واشتهر في المدينة علم عمر وعثمان وابن عمر وعائشة وزبد بن ثابت وابن عباس وأبي هريرة وغيرهم من فقهاء الصحابة رضي الله عنهم، وأصحابهم من كبار التابعين رواتهم وفقهائهم، فكانت عمدة مالك بن أنس في اجتهاده، وكان لثقته بهؤلاء الأعلام يأخذ المراسيل عنهم، وبعمل أهل المدينة بشرطه على كثرة المرفوع عنده.

ثم ظهر محمد بن إدريس الشافعي وقد تأسس هذان المذهبان على ما أشرنا إليه فرحل في طلب الحديث من مكة إلى المدينة، وسمع الموطأ وغيره من مالك، ثم إلى بغداد فلقي محمد بن الحسن وناظره ونظر في كتب أبي حنيفة ومذهبه، ولقي أحمد بن حنبل وطبقته من المحدثين، وألف هنالك كتبه التي تسمى بالمذهب القديم، ثم هاجر إلى مصر وسمع من رجالها وألف فيها مذهبه الجديد، وكان أكبر الفرق بينه وبين من قبله أن بنى مذهبه على الجمع بين روايات الأمصار المختلفة، ووضع أصول الفقه للجري عليها في الاستنباط، وخالف أبا حنيفة وأصحابه ومالكًا في مسائل، من أهمها: ما اشترطه في الاحتجاج بالمرسل والمنقطع، وغير ذلك كما بينه في كتاب الأم.

ووجه أحمد بن حنبل جل عنايته إلى الإحاطة بالروايات بقدر الاستطاعة، وبالجرح والتعديل للرجال فكان أعلمهم بها، وأقلهم عناية بالفقه استغناءً بالحديث والآثار، ومسنده أصل الأصول لأكثر كتب السنة، فهو أعظم المسانيد وأوسعها، ثم وضع تلاميذه وغيرهم كتب الصحاح والسنن وغيرها كما بيناه آنفًا.

وقد جرى على مذاهب هؤلاء الأربعة أكثر فقهاء أهل السنة في الشرق والغرب، وصارت كتب السنة المدونة وشروحها المصنفة مرجع علمائهم كلهم، فملؤوا بها طباق الأرض علمًا من كل ما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم.

فبتلك الكتب التي أتقن أفراد الأخصائيين لكل نوع منها في الرواية والدراية صار طريق علوم السنة بأنواعها معبدًا ممهدًا، وهذه العلوم تتسع دائرتها في كل عصر بقدر ما يتجدد للبشر فيه من الأقضية والمصالح السياسية، والحكمة العقلية والأدبية، والأصول التشريعية، والنظريات العلمية التجريبية، والمخترعات الفنية والصناعية، ومن فوق هذا كله إقامة الحجة على نبوة خاتم النبيين، ودفع الشبهات عما يرد عليها وعلى أحاديثه من إشكال علمي أو عقلي ؛ وإنما يكون ذلك بتمحيص الروايات ونصب ميزان الترجيح بين المتعارض منها. والأجانب يعنون بنقد هذه المتعارضات ما لا يعنون بتلك العلوم والحكم التي تعد من المعجزات، لتفجر ينابيعها من فيض نبي أمي نشأ بين الأميين، وفي هذه الكتب ما لا يصح سنده وما يُشْكِل متنه، بمخالفة الظني للقطعي من نص أو حس، وما فيه علل خفية كعنعنة المدلسين في الصحاح، ومخالفة الثقات في غيرها، ولا بد للعالم المسلم من العلم بذلك، ولا يتيسر ذلك كله إلا بجمع ما تفرق في كتبها في كل موضوع.

بيد أن الحياة الدينية العلمية التي بعثت الأولين على تصنيف تلك الأسفار العظيمة، قد عرض لها أمراض روحية وسياسية كثيرة، انتهت بالمسلمين إلى هجرها هجرًا غير جميل، حتى صار أكثر علمائهم وخطبائهم وأدبائهم يجهلون علم الحديث، فلا يميزون بين ما صح منه وما لم يصح، بل ينقلون المنكرات والموضوعات منه، ويحتجون بها حتى في أصول العقائد وأحكام العبادات والقضاء ؛ لأنهم على جهلهم لها، وعدم تمييزهم بينها، ينقلونها من كتب الأدب والتصوف والمواعظ والتواريخ والقصص، وكذا أكثر كتب التفسير والفقه فأمسينا في فقر مدقع من سنة نبينا صلى الله عليه وسلم وأخباره، وفي خزائن كتبنا من كنوزها العظيمة ما لو استخرجناه وانتفعنا به لكنا أغنى الأغنياء، ولملأنا الدنيا بما فيها من العلم والحكمة بما من الله به على أهل عصرنا من نعمة المطابع، وتعميم المواصلات وسرعتها بين الأقطار الشواسع، حتى صار جمع تلك الثروة الواسعة من كتب الحديث وشروحها سهلاً على كل من يريده، ولكن بعد أن قل من يريده حتى إن من المقلدين الجامدين من لا يرى لهذه الكتب فائدة إلا التبرك بها، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم عند ذكره وذكرها !

أبو حسن
11-11-2007, 12:41 PM
ولولا عناية إخواننا علماء الهند بعلوم الحديث في هذا العصر لقضي عليها بالزوال من أمصار الشرق، فقد ضعفت في مصر والشام والعراق والحجاز منذ القرن العاشر للهجرة، حتى بلغت منتهى الضعف في أوائل هذا القرن الرابع عشر وإنني لما هاجرت إلى مصر سنة 1315 رأيت خطباء مساجدها الأزهر وغيره يذكرون الأحاديث في خطبهم غير مخرجة، ومنها الضعيف والمنكر والموضوع، ومثلهم في هذا الوعاظ والمدرسون، ومصنفو الكتب، فكنت أنكر ذلك عليهم كما بدأت بإنكار مثله على أهل بلدي طرابلس قبلهم، واخترت لأشهر خطبائهم من الأحاديث الصحاح والحسان المعزوة إلى مُخَرِّجِيهَا ما ختم بها خطب ديوانه.

ولما أنشأت المنار في أواخر تلك السنة التزمت فيه تخريج ما أنقله فيه من الأحاديث، فكان لذلك بعض التأثير في بعض طلاب العلم في الأزهر، ثم في مدرسة القضاء الشرعي، وكان جل الذين اشتغلوا بالحديث منهم من إخواني وأصدقائي، فبإحيائي لهذه السنة بالقول والعمل، وبالدعوة إلى السنة وهدي السلف، والنهي عن مستحدثات البدع، وُصفت بمحيي السنة، على ضعف حفظي للرواية، وقلة حظي من الدراية، ولله الحمد على ما أعطى، ومنه وله وحده الفضل والمنة.

بيد أن جمهور المشتغلين بعلوم الشرع لا يزالون معرضين عن علم الحديث حتى إن مشيخة الأزهر على علو مكانتها، قد أنشأت منذ أربع سنين مجلة دينية علمية جعلتها لسان حالها، فكان أول ما أنكرته عليها عدم عنايتها بالحديث الشريف، واقترحت عليها تخصيص بعض العلماء لتخريج كل حديث ينقل فيها وبيان درجته، ولكن لا يزال ينشر فيها ما لا يصح ولا يعزى إلى شيء من كتب السنة المعتمدة ؛ لقلة اطلاع محرريها على هذه الكتب، وصعوبة التمييز بين الصحيح وغيره مما في غير الصحيحين، وأصعب من ذلك عليهم المراجعة للعثور على تخريج ما ينقلونه من الكتب المختلفة، وقد صاروا هم وأمثالهم من الكتاب والمصنفين الذين يكتبون في المسائل الإسلامية مضطرين إلى هذا التمييز والتخريج، لكثرة السؤال عنه، والإنكار على من نقله وتركه غفلاً، بكثرة إخواننا من أنصار السنة ودعاتها والمهتدين بها، وتأليفهم الجمعيات ونشرهم المصنفات لتعميمها، واعتراض الزراع والعمال منهم على العلماء الرسميين من غيرهم، وظهور حجتهم عليهم، ولا سبيل إلى حفظ كرامتهم ومقامهم العلمي إلا بالاشتغال بعلم الحديث، وهو يتوقف على درس طويل وتعب كثير.

وأول ما يحتاجون إليه قبل درسه الفني العلمي سهولة المراجعة في كتبه للوقوف على ما يُحتج به وما لا يُحتج به، ويقرب شقته عليهم هذا الكتاب الذي شعر بالحاجة إليه لنفسه ولأمثاله من شعوب الإفرنج عالم أوربي مستشرق هو الدكتور أ. ي فنسنك الهولندي، والمسلمون أحوج إليه منهم، ولا غرو فقد ورد في الحديث (الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها) رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، وقال: غريب. ورواه غيره بألفاظ أخرى بعضها موقوف على علي وابن عمر رضي الله عنهما تكفي للاعتبار بها في موضوع الاستفادة في علم مجمع على وجوبه، وورد في حديث آخر مرفوع (إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله) رواه الطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، ويؤيد ضعف سنده ما في معناه في الصحيحين بلفظ آخر ليس نصًّا فيه مثله، وحاصل ما تقدم أن الحاجة إلى مفتاح لكتب السنة الجامعة شديدة لكل من يريد الدخول عليها من أبوابها موضوع هذا الكتاب دلالة القارئ على ما أُودع في كتب الصحاح والسنن والمسانيد والسير والطبقات والمغازي - المبينة في أوله - من الأحاديث والآثار والمناقب بالصفة التي شرحها، فهو لا يدلك على مواضع الأحاديث التي تحفظها أو تحفظ أوائلها في تلك الكتب كمفتاح أحاديث الصحيحين ؛ وإنما يدلك على ما ورد فيها من كل موضوع بمراجعة أخص كلمة به تدل على أصل الموضوع، ثم ما يليها من فروعه، فهو ككتاب (فتح الرحمن لطالب آيات القرآن) فإذا لم تجد مطلوبك عند الكلمة التي راجعتها ؛ فإنك تجده عند كلمة أخرى في معناها، فمؤلفه قد أحصى ما وصل إليه علمه، ووضع ألفاظها بقدر ما بلغه فهمه { لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ مَا آتَاهَا } (الطلاق: 7).

وإنني كنت أعجبت بالكتاب منذ اطلعت عليه، واستأذنت مؤلفه بنقله إلى اللغة العربية، فأذن لي، وانتدب لهذا العمل الجليل أحد إخواننا من عشاق العلم الذين يكثرون الاختلاف إلى دار المنار، والبحث في مسائل التفسير والآثار، ويقتنون نفائس الأسفار، الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي أدام الله توفيقه، ومهد له في كل علم نافع وعمل صالح طريقه، وكنا اتفقنا على التعاون على تصحيحه وتنقيحه، فعاقني عن القيام بسهمي منه ما لم يعقه عن سرعة القيام بسهمه، وانفرد بهذا الفضل واستقل به، وجاهد في هذه السبيل - وهي سبيل الله - جهادًا محمودًا تلافى به بعض تقصير المؤلف، فصحح ما فطن له في الأصل من خطأ بمراجعة تلك الكتب كلها في مظانها، بعد وضع الأرقام لما بين يديه من نسخها، وإبقاء المتكرر من المتون في مواضعها، وتكثير العناوين للحديث الواحد منها، حتى صارت هذه الترجمة العربية أنفع من أصلها الإنكليزي في الدلالة على تلك المتون في كتبها، فجزاه لله على حسن عمله وإخلاص نيته، ووفق الأمة للشكر له بالانتفاع بأثره، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) رواه أحمد والترمذي والضياء في المختارة من حديث أبي سعيد الخدري بسند صحيح، ولا ننسى أن نشكر لمؤلف الأصل عمله وجهاده، فهو صاحب الفضل الأول في هذا الأثر الحميد { وَاللَّهُ يَقُولُ الحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ } (الأحزاب: 4)

أبو حسن
11-11-2007, 01:00 PM
س1: ما قولكم فيمن يقول : لا أعتقد ولا أعمل إلا بالقرآن الكريم فقط ، ولا أعتقد ولا أعمل بالأحاديث النبوية ولو كانت صحيحة معتمدة أو غيرها ، فهل هذا يعد مسلمًا مؤمنًا أم لا ؟

س2: هل صح ما يقول بعضهم : إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر أو أربعة عشر حديثًا فقط أم لا ؟

س3: هل جميع أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم مروية عنه باللفظ والمعنى تمامًا أم بالمعنى فقط ؟

س4: هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز اعتقادهما والعمل بهما أم لا ؟ وما معناهما ؟ وهما ( من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار ) ، ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) ، وفي رواية أخرى ( لا طاعة في معصية الله إنما الطاعة في المعروف )



ج1: حكم من يقول : إنه لا يعتقد ولا يعمل إلا بالقرآن دون الأحاديث :
إن الإيمان بالقرآن ، والعمل بما أمر الله تعالى وما نهى عنه فيه يستلزم الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي جاء به من عنده تعالى ، ووجوب طاعته بمثل قوله تعالى : { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ } ( النساء : 59 ) وهذا الأمر مكرر في عدة سور وفي معناه آيات أخرى كقوله تعالى : { مَن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ } ( النساء : 80 ) ومن المعلوم بنصوص القرآن ، وبإجماع الأمة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المبين لكلام الله والمنفذ له كما قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } ( النحل : 44 ) .
فمن يقول : إنه لا يعتقد أن سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي بين بها القرآن وبلغ بها الدين واجبة الاتباع ، وإنه يستحل معصيته صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه أنه أمر به أو نهى عنه من أمور الدين ، وإن أجمع المسلمون على تلقيه عنه بالتواتر كعدد ركعات الصلوات وركوعها وسجودها ، وغير ذلك مما أشرنا إليه آنفًا في الفتوى ( 15 ) وإنما يعتقد ويعمل بما يدله عليه ظاهر القرآن فقط - من قال هذا لا يُعتد بإيمانه ولا بإسلامه ؛ فإنه مشاق للرسول غير متبع لسبيل المؤمنين ، بل متناقض يريد بهذا القول جحود الإسلام وتركه من أساسه ، فالله تعالى يقول : { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً } ( النساء : 115 ) .
ولكن إن أراد أنه غير مكلف أن يعرف هذه الأحاديث المدونة ويعمل بها كلها ، أو بما صححه المحدثون منها ؛ فإن قوله حينئذ يكون موهمًا لا نصًّا في استباحة عصيان الرسول فيما علم أنه جاء به من أمر الدين ، فلا يحكم عليه بالكفر والخروج من الملة حتى يبحث معه في مراده من كلامه ؛ فإن أئمة المسلمين لم يقل أحد منهم بوجوب العلم بما في كتاب من كتب الحديث ، وكان موطأ الإمام مالك رحمه الله تعالى أولها تدوينًا واستأذنه الخليفة العباسي في نشره في الأمة وأمر الناس بالعمل به ، فلم يأذن له كما بيَّنا ذلك مرارًا .
وجملة القول أن المعتمد في التكفير القطعي ما أجملناه في الفتوى ( 15 ) ومما لا شك فيه أن من يعتقد أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من دين الله واستحل من هذا عصيانه فيه بدون تأويل يكون كافرًا .



ج2: من قال : إنه لم يثبت عنه صلى الله عليه وسلم إلا 12 أو 14 حديثًا :
هذا القول غير صحيح ، بل لم يقل به أحد بهذا اللفظ ؛ وإنما قيل هذا أو ما دونه في الأحاديث التي تواتر لفظها.



ج3: رواية الأحاديث باللفظ وبالمعنى :
بعض الأحاديث مروية بلفظها الذي نطق به النبي صلى الله عليه وسلم ولا سيما القصيرة ، وأكثر أقواله صلى الله عليه وسلم مختصرة كما قال : ( أعطيت جوامع الكلم ، واختصر لي الكلام اختصارًا ) ، رواه أبو يعلى من حديث عمر رضي الله عنه وحسنوه ، وناهيك بما اشتهر به العرب من قوة الحفظ ، وكذا غيرهم من الأمم الذين يعتمدون على الحفظ قبل الكتابة ، وروي كثير منها بالمعنى لما نرى في الصحاح وغيرها من اختلاف في ألفاظ الرواية للحديث الواحد الذي لا يحتمل تعدد موضوعه ، وصرح به المحدثون والأصوليون ، واشترطوا في قبول المروي بالمعنى جودة فهم الراوي وحسن ضبطه .



ج4: حديثا ( من كذب علي متعمدًا ) ... إلخ ، و ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ) :
هذان الحديثان صحيحان ، بل الأول منهما متواتر بلفظه رواه أصحاب المسانيد والصحاح والسنن عن عشرات من الصحابة والمهاجرين والأنصار وبما يزيدون على سبعين صحابيًّا ، ورواه غيرهم أيضًا عن آخرين ، وفي رواية للإمام أحمد عن عمر رضي الله عنهما مرفوعًا ( من كذب علي فهو في النار ) ولأجل هذا كان بعض كبار الصحابة يمتنعون من التحديث عنه صلى الله عليه وسلم حتى بعض المبشرين بالجنة كالزبير رضي الله عنه خشية أن يخطئ أحدهم في الرواية فيناله الوعيد ؛ ولكن هذا لم يمنع بعض الذين عُرِفُوا بالصلاح من تعمد الكذب عليه صلى الله عليه وسلم بوضع أحاديث كثيرة في الترغيب والترهيب ( والثاني ) رواه باللفظ الأول في السؤال أحمد والحاكم عن عمران والحكم بن عمرو الغفاري وصححوه ، وباللفظ الثاني أحمد والشيخان ومسلم وأبو داود والنسائي عن علي رضي الله عنه .


جناية حديثية وخيانة دينية
للشيخ يوسف النبهاني

بهذه المناسبة أنبه قراء المنار لاتقاء الاعتماد على أحاديث كتاب ( الفتح الكبير ، في ضم الزيادة إلى الجامع الصغير ) المطبوع بمصر سنة 1350 ؛ فإن الشيخ يوسف النبهاني الدجال المشهور جمع أحاديث الجامع الصغير والزيادات عليه وحذف منه رموز المؤلف للأحاديث الصحاح والحسان والضعاف ؛ ليتوهم المطلع عليه أن كل ما فيه صحيح أو مقبول يحتج به على أن تلك الرموز لم تكن كافية للتمييز بينها .

أبو حسن
11-11-2007, 01:38 PM
س: هل هذان الحديثان الآتيان صحيحان معتمدان غير منسوخين يجوز العمل بهما أم لا ؟ وهما ( أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ) ( من قلد عالمًا لقي الله سالمًا ) .



ج: حديث ( أصحابي كالنجوم ) أخرجه البيهقي عن ابن عباس ، وهو غير صحيح .
( 34 ) جملة ( من قلد عالمًا لقي الله سالمًا ) ليست بحديث نبوي.


المنار، المجلد 34، عدد المحرم 1354هـ الموافق لمايو - 1935م

أبو حسن
19-11-2007, 09:11 AM
إمتناع بعض علماء الصحابة عن التحديث وجعل الحديث من أصول التشريع


من حضرة الأمير شكيب أرسلان الشهير بلوزان (بسوسرة أوربة)

حضرة الأستاذ الإمام مَفْزَع الإسلام، في المشكلات الجسام، السيد محمد رشيد رضا أدامه الله لهذه الأمة علمًا هاديًا، آمين.

إن في الجزء الأول من المجلد التاسع والعشرين من المنار بحثًا من أهم ما جالت فيه أقلام جهابذة الأصوليين هو المتعلق بأحاديث الصحيحين، وما قيل من أغلاطها، ورواية أبي هريرة والفرق بين أحاديث التشريع وغيرها فقد قرأت هذا البحث مع وفرة شواغلي مرتين أو ثلاثًا، ولا أزال عطشان إلى هذا المنهل العذب ومترقبًا صدور الكتاب الجديد الذي وعدتم بإخراجه تحت اسم (يسر الإسلام وأصول التشريع العام)، ولقد أخذ بمجامع فؤادي قولكم: (إن صحيح البخاري أصح كتاب بعد كتاب الله ولكنه ليس معصومًا هو ورواته من الخطأ وليس كل مرتاب في شيء من روايته كافرًا). إني لست بمحدث وليس لي حق أن أبدي وأعيد في الحديث الشريف إلا على سبيل الاستفادة، ولذلك أرجوكم أن تتفضلوا علينا برأيكم في الروايات الآتية وهي:

في الجزء الثالث من طبقات ابن سعد الكبرى الصفحة 74 عن عامر عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: قلت للزبير: ما لي لا أسمعك تُحَدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يُحَدِّث فلان وفلان قال: أما إني لم أفارقه منذ أسلمت، ولكنني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من كذب عليَّ فليتبوأ مقعدًا من النار). فظاهر هنا أن الزبير كان يعتقد أنه مهما كانت حافظة الراوي من القوة فلا يستطيع أن يعيد ما سمعه بدون زيادة أو نقصان، وأنه كان يخشى أن يزيد على رسول الله أو ينقص من كلامه فتحامى الحديث كله تقريبًا.

وفي صفحة 102 من الجزء المذكور عن السائب بن يزيد أنه صحب سعد بن أبي وقاص من المدينة إلى مكة قال: فما سمعته يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثًا حتى رجع، ثم عن يحيى بن عباد عن شعبة: دخلوا على سعد بن أبي وقاص فسئل عن شىء فاستعجب فقال: إني أخاف أن أحدثكم واحدًا فتزيدوا المائة. فهذا صحابي عظيم أيضًا كالزبير وكلاهما من العشرة يعتقد أن الحديث مهما يكن راويه ثقة يتطرق إليه الزيادة والنقصان.

وفي الصفحة 110 من الجزء المذكور عن عمرو بن ميمون قال: اختلفت إلى عبد الله بن مسعود سنة ما سمعته فيها يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه حدَّث ذات يوم بحديث فجرى على لسانه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلاه الكرب حتى رأيت العرق يَتَحَدَّر عن جبهته ثم قال: إن شاء الله إما فوق ذاك أو قريب من ذاك وإما دون ذاك.

وفي الصفحة 111 من الجزء الثالث من الطبقات أخبرنا المعلى بن أسد قال أخبرنا عبد العزيز بن المختار عن منصور الغداني عن الشعبي عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود كان يقوم قائمًا كل عشية خميس فما سمعته في عشية منها يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة واحدة قال: فنظرت إليه - وهو معتمد على عصى- فنظرت إلى العصى تزعزع، قال: أخبرنا مالك بن إسماعيل قال: أخبرنا إسرائيل , عن أبي حصين , عن عامر عن مسروق عن عبد الله قال: حدَّث يومًا حديثًا فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أرعد وأرعدت ثيابه ثم قال: أو نحو ذا أو أشبه ذا. ومعلوم أن عبد الله بن مسعود كان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه كان أتبع له من ظله وأولى الناس بالرواية عنه، وهذا مشربه في الحديث، وقد ذكرتم في ذلك البحث نهي الإمام عمر عن التحديث.

وجاء في الجزء الخامس من طبقات ابن سعد أيضًا صفحة 140 رواية عن عبد الله بن العلاء: سألت القاسم بن محمد أن يملي عليَّ أحاديث فقال: إن الأحاديث كثرت على عهد عمر بن الخطاب فأنشد الناس أن يأتوه بها فلما أتوه بها أمر بتحريقها، ثم قال: مثناة كمثناة أهل الكتاب قال: فمنعني القاسم بن محمد يومئذ أن أكتب حديثًا. وهذا هو القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق المشار إليه بالبنان بين التابعين بالفضل والعلم والورع.

فلماذا بعد هذه الدلائل كلها لا يزال علماء الدين يتخذون الصحيحين وغيرهما من كتب الحديث مراجع في الشرع ويعتقدون أن مجرد توفر الشروط في الصحة كاف لجعل الحديث ثابتًا لا شبهة فيه كأن سامعيه تلقوه رأسًا من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم. أفلا يرون أن ثلاثة من أجلّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم عبد الله بن مسعود بمكانه من الورع والصدق والعلم بالدين لم يكونوا يحدثون تقريبًا ولم يكونوا يركنون إلى أنفسهم أن تبدر من ألسنتهم كلمة في سياق حديثهم عن المصطفى لم يكن صلى الله عليه وسلم قالها.

فلماذا لا نقتدي بهم ولا نزال نجعل صحة الحديث بمجرد توفر الشروط قضية مسلمة ؟ إن هؤلاء الأئمة الذين هم من أجلّ أصحاب رسول الله وألزمهم له، والذين هم طليعة من نشروا الإسلام وأسسوا بوانيه لم يكن بينهم وبين الرسول واسطة ولقد وتكاءدهم التحديث عنه خوف الزيادة أو النقصان. فكيف يجب أن نثق في صحة الأحاديث الواصلة بالأسانيد العديدة المتسلسلة من عدة قرون ونبني عليها الأحكام، ونقول: هذا حلال وهذا حرام، ومن لم يؤمن بهذا فقد كفر بالإسلام.

لوزان 22 ذي العقدة سنة 1346
شكيب أرسلان

أبو حسن
19-11-2007, 09:15 AM
(جواب المنار)

إن المروي عن علماء الصحابة رضي الله تعالى عنهم من اتقاء التحديث، بل من النهي عنه، وعن كتابة الحديث ومن تحريق ما كتب بعضهم منه أو الأمر بتحريقه هو أكثر مما ذكر الأمير السائل في المسألة الأولى، وقد بسطنا ذلك في المجلد التاسع والعاشر والحادي عشر من المنار كما سيأتي، ولو لم يكن في المسألة إلا ما نقله عن طبقات ابن سعد لكان للمعارضين له أن يقولوا: إن هؤلاء الذين نقل عنهم ابن سعد ما نقل قد ثبتت روايتهم لكثير من الأحاديث، فعبد الله بن مسعود له في صحيح البخاري وحده 85 حديثًا على شدة تحرِّي البخاري وصعوبة شرطه في جامعه الصحيح، ولو لم يرو المحدثون عن ابن مسعود إلا هذا العدد لكان غير معارض لتحريه في التحديث وقلة روايته فإنه من قدماء الصحابة وأكثرهم سماعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن له في سائر كتب السير والمسانيد روايات أخرى كثيرة وأما الزبير فلم يرو عنه البخاري في صحيحه إلا سبعة أحاديث، وروى فيه عن سعد بن أبي وقاص عشرين حديثًا، وهذا أدل على ما ذكر من تحاميهم للتحديث، وإنما كان لداعية قوية لا خوفًا من الخطأ فقط بل لأمر أعظم.

عرض للبحاثة المرحوم الدكتور محمد توفيق صدقي ما عرض لبعض الباحثين قبله وكذا بعده من أن الإسلام هو القرآن وحده، وأن الأحاديث كانت تشريعًا موقتًا لأهل عصر النبوة بدليل عدم كتابة أهل الصدر الأول من الصحابة لها كالقرآن وعدم تبليغها للناس وأمرهم بالعمل بها بل بدليل نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة شيء عنه غير القرآن ونهيه عن كثرة السؤال ؛ لئلا تكثر الأحكام فترهق الأمة من أمر دينها عسرًا ونهي بعض علماء الصحابة عن كتابة الحديث أيضًا، وأحب الدكتور أن يعرض هذا الرأي على علماء المسلمين ويطالبهم ببيان الحق فيه فنشرناه له في المجلد التاسع من المنار (ص515) وطالبنا علماء الأزهر وغيرهم بالرد عليه لبيان الحق في المسألة، وإزالة الشبهات التي تعرض لكثير من الناس فيها، فرد عليه الشيخ طه البشري من علماء الأزهر وعالم عربي مقيم في الهند اسمه الشيخ صالح اليافعي ورد هو على ما كتبوه، وقد نشرنا رد العالم الأزهري في ص 699 - 711، 712 من المجلد التاسع أيضًا ثم رد محمد توفيق صدقي عليه في ص 906 منه وَقَفَّيْنَا عليه بحكم المنار بين المتناظرين في (ص 925 - 930) منه حكمنا الخلاف حكمًا أذعن له الدكتور محمد توفيق صدقي وغيره ولم يرد عليه أحد من المتناظرين ولا من غيرهم وسنذكر خلاصته، وأما رد الأستاذ الشيخ صالح اليافعي فقد نشرناه في عدة أجزاء من المجلد العاشر.

ثم إن صديقنا المرحوم رفيق بك العظم كتب بحثًا موضوعه (التدوين في الإسلام) وألقاه في نادي المدارس العليا في القاهرة وجمع فيه ما وقف عليه في كتب التاريخ من كتابة الحديث وغيره، فاقترح علينا بعض قراء المنار نشر ذلك البحث والتعليق عليه بما يبدو لنا من استدراك أو انتقاد، كما اقترح علينا كل من الدكتور محمد توفيق صدقي ومناظره الشيخ صالح اليافعي وغيرهم تمحيص كتابة الحديث التي تجاذبها المتناظران في موضوع بحثه.

فإجابة للاقتراحات نشرت خطبة رفيق بك في الجزء العاشر من مجلد المنار العاشر، وعلقت عليها أهم ما رأيته منتقدًا فيها، ثم انتقلت إلى مسألة كتابة الحديث فبدأت بنشر ما جمعه الحافظ ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم) من النهي عن الكتابة وكراهيتها ومن الرخصة فيها، وقد جمع من الروايات ما لم يجمع غيره فيها. نشرت البابين اللذين أوردهما بحذف أسانيده نقلاً عن مختصره في أربع ورقات، واستدركت عليه روايات لغيره في النفي والإثبات، ثم عقدت فصلاً للتعادل والترجيح بين الروايات المتعارضة في الأمر بالكتابة والنهي عنها عند تعذر الجمع بينها، وذلك في ورقتين أي أربع صفحات من الجزء العاشر من المجلد العاشر من المنار (راجع كل ذلك في ص 743 - 768 م10) ثم أتممت هذا البحث بفصل آخر موضوعه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) مع بيان تأويل العلماء لذلك النهي والحكم فيه نشرته في الجزء التالي أي الحادي عشر (ص 849 - 854 م10) فمن أراد الوقوف على هذا التفصيل كله في المسألة فليراجع صفحات الجزءين التي بينا أرقامها آنفًا، وفيه الجواب المفصل عما سأل عنه الأمير شكيب في الموضوع.

ولا بأس بأن نقول فيه كلمة مجملة لمن لا يتيسر له تلك المراجعة: إن دين الإسلام هو القرآن كتاب الله تعالى وما بيَّنه به رسوله صلى الله عليه وسلم من فعل وقول صار سنة متبعة بالعمل أو التبليغ العام في الدعوة إلى الإسلام وبيانه للناس من أصحابه رضي الله عنهم، وأما الأحاديث التي لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتبليغها ولا عني خلفاؤه وعلماء أصحابه بتبليغها للناس على أنها من دينهم ولم تصر سنة متبعة بعمل جمهورهم بها إما لأن الحديث منها كان خاصًّا بمن خوطب به من تشديد أو تخفيف اقتضته حاله أو لأنه لم يقصد به التشريع أو لغير ذلك ثم رواها التابعون عن أفراد منهم روايات آحادية لم تتواتر فهي لا تعد تشريعًا عامًّا لبيان دين الإسلام بحيث يجب على الأمة وأئمتها تبليغه والأخذ به. على أن فيما صح منها لنقاد الرواية وبعض ما صح متنه ولم يصل سنده إلى درجة الصحيح، ولم يسقط إلى حد الموضوع أو الواهي من الهداية والحكم ما لا يسع من بلغه من المسلمين إلا أن يهتدي به. وإنني ألخص بعض المسائل مما كتبته في المجلد العاشر أي منذ اثنتين وعشرين سنة على سبيل النموذج والإيضاح لهذه الخلاصة (ص 66 - 768).

قلت هنالك: إن أصح ما ورد في المنع من كتابة الحديث ما رواه أحمد في مسنده و مسلم في صحيحه وابن عبد البر في كتاب العلم وغيرها عن أبي سعيد الخدري مرفوعًا (لا تكتبوا عني شيئًا إلا القرآن فمن كتب عني غير القرآن فليمحه). وإن أصح ما روي في الإذن به حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما مرفوعًا (اكتبوا لأبي شاه) وقد بينت أنه لا يعارض حديث أبي سعيد وما في معناه على قاعدتنا التي مدارها على أن نهيه صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه مُرَاد به أن لا يتخذ دينًا عامًّا كالقرآن، وذلك أن ما أمر بكتابته لأبي شاه هو خطبة خطبها صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة موضوعها تحريم مكة ولقطة الحرم، وهذا من بيانه صلى الله عليه وسلم للقرآن الذي صرَّح به يوم الفتح، وصرح به في حجة الوداع، وأمر بتبليغه فهو خاص مستثنًى من النهي العام، وقد صرَّح البخاري في باب اللقطة من صحيحه بأن أبا شاه اليمني طلب أن تكتب له الخطبة المذكورة فأمر صلى الله عليه وسلم بإجابة طلبه، وقد قلت هنالك:

(ولو فرضنا أن بين أحاديث النهي عن الكتابة والإذن بها تعارضًا يصح أن يكون به أحدها ناسخًا للآخر لكان لنا أن نستدل على كون النهي هو المتأخر بأمرين:

أحدهما استدلال من روي عنهم من الصحابة الامتناع عن الكتابة، ومنعها بالنهي عنها، وذلك بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وثانيهما عدم تدوين الصحابة الحديث ونشره ولو دونوا ونشروا لتواتر ما دونوه. (فعزيمة علي رضي الله عنه على من عنده كتاب أن يمحوه وقول أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: (تريدون أن تجعلوها مصاحف) وقول عمر بن الخطاب عند الفكر في كتابة الأحاديث أو بعد الكتابة: (لا كتاب مع كتاب الله) وفي الرواية الأولى - وقوله في الرواية الثانية بعد الاستشارة في كتابتها: (والله إني لا أشوب كتاب الله بشيء أبدًا) وقول ابن عباس: (كنا نكتب العلم ولا نُكْتبه) أي لا نأذن لأحد أن يكتبه عنا ونهيه في الرواية الأخرى عن الكتابة، وقوله الذي تقدم في ذلك - ومحو زيد بن ثابت للصحيفة ثم إحراقها وتذكيره بالله من يعلم أنه يوجد صحيفة أخرى في موضع آخر، ولو بعيدًا أن يخبره بها ليسعى إليها ويحرقها، وقوله الذي تقدم في ذلك - وقول سعيد بن جبير عن ابن عمر: إنه لو كان يعلم بأنه يكتب عنه لكان ذلك فاصلاً بينهما - ومحو عبد الله بن مسعود للصحيفة التي جاءه بها عبد الرحمن بن الأسود و علقمة وقوله عند ذلك: (إن هذه القلوب أوعية فاشغلوها بالقرآن ولا تشغلوها بغيره) كل هذا الذي أورده ابن عبد البر وأمثاله مما رواه غيره كإحراق أبي بكر لما كتبه وعدم وصول شيء من صحف الصحابة إلى التابعين وكون التابعين لم يدونوا الحديث لنشره إلا بأمر الأمراء - يؤيد ما ورد من أنهم كانوا يكتبون الشيء لأجل حفظه ثم يمحونه. (وإذا أضفت إلى هذا ما ورد في عدم رغبة كبار الصحابة في التحديث ؛ بل في رغبتهم عنه، بل في نهيهم عنه قوي عندك ترجيح كونهم لم يريدوا أن يجعلوا الأحاديث (كلها) دينًا عامًّا دائمًا كالقرآن، ولو كانوا فهموا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد ذلك لكتبوا ولأمروا بالكتابة ولجمع الراشدون ما كتب وضبطوا ما وثقوا به وأرسلوه إلى عمالهم ليبلغوه ويعملوا به ولم يكتفوا بالقرآن والسنة المتبعة المعروفة للجمهور بجريان العمل بها، وبهذا يسقط قول من قال: إن الصحابة كانوا يكتفون في نشر الحديث بالرواية.

وإذا أضفت إلى ذلك كله حكم عمر بن الخطاب على أعين الصحابة بما يخالف بعض تلك الأحاديث ثم ما جرى عليه علماء الأمصار في القرن الأول والثاني من اكتفاء الواحد منهم كأبي حنيفة بما بلغه ووثق به من الحديث، وإن قل وعدم تعنيه في جمع غيره إليه ؛ ليفهم دينه ويبين أحكامه قوي عندك ذلك الترجيح. بل نجد الفقهاء بعد اتفاقهم على جعل الأحاديث أصلاً من أصول الأحكام الشرعية وبعد تدوين الحفاظ لها في الدواوين وبيان ما يُحْتَج به وما لا يحتج به لم يجتمعوا على تحرير الصحيح والاتفاق على العمل به، فهذه كتب الفقه في المذاهب المتبعة ولا سيما كتب الحنفية فالمالكية فالشافعية فيها مئات من المسائل المخالفة للأحاديث المتفق على صحتها، ولا يُعَدُّ أحد منهم مخالفًا لأصول الدين.

أبو حسن
19-11-2007, 09:16 AM
وقد أورد ابن القيم في إعلام الموقعين شواهد كثيرة جدًّا من رد الفقهاء للأحاديث الصحيحة عملاً بالقياس أو لغير ذلك، ومن أغربها أخذهم ببعض الحديث الواحد دون باقيه، وقد أورد لهذا أكثر من ستين شاهدًا (فلتراجع في ج 14و 15و 16 من مجلد المنار السادس) وسنورد في الجزء الآتي شيئًا مما ورد في نهي الصحابة عن الرواية، وفي عملهم بالحديث كيف كان، فقد أطلنا الآن) اهـ.

ثم إننا وافينا بهذا الوعد في مقال نشرناه في ص 849 - 854 من المجلد العاشر نفسه عنوانه (نهي الصحابة ورغبتهم عن الرواية) ذكرنا فيه أهم الروايات التي أوردها الحافظ ابن عبد البر وغيره، وما ذكروه من الروايات المعارضة لها في الظاهر دون الواقع، وما ذكروه من الترجيح مع نقده، وحاصل جمعنا بينها أن السنة بالمعنى المعروف في عصر الصحابة هي التي كانت تعد من الدين وكانوا يأمرون باتباعها والمحافظة عليها ثم ختمنا هذا المقال بقولنا:

(وليعلم القارئ أن هذا البحث الأصولي بمعزل عن مسألة اهتداء المسلم بما يصح عنده من أقوال الرسول صلى الله عليه وسلم فتلك الأقوال هي ينابيع الحكم، ومصابيح الظلم، وجوامع الكلم، ومفخر الأمة على جميع الأمم، بل إن في الأحاديث التي لم تصح أسانيدها من البدائع، والحكم الروائع، والكلم الجوامع، ما تتقاصر عن مثله أعناق العلماء، وتكبوا في غاياته فرسان الحكماء، ولا تبلغ بعض مداه قرائح البلغاء، ولا غرو فإن من الأحاديث ما صحت متونه، ولم تصح أسانيده، كما أن منها ما أشكلت متونه، وإن سلم من الطعن رواته، وأنًَّى لغيرنا ببعض ما عندنا من الأسانيد لأقوال حكمائهم، أو لكتب أنبيائهم، فنحن يسهل علينا من التمحيص والتحقيق ما لا يسهل على غيرنا فليتدبر المتدبرون، وليعمل العاملون) اهـ.

فعلم مما تقدم كله أن ما ذكره الأمير من روايات في تحامي بعض كبار علماء الصحابة التحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يصح أن يجعل دليلاًَ على صحة ما استشكله من جعل العلماء كتب الحديث ولا سيما الصحيحين مراجع في الشرع بل ناهيك بما ذكر في هذه الروايات من تهيب أولئك الصحابة للتحديث وتعليله بخوفهم من الخطأ في أداء الحديث أن يدخلوا في عموم من يتناولهم وعيد قوله صلى الله عليه وسلم: (من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار) وهو متواتر عنه صلى الله عليه وسلم بلفظه، ومن رواته الزبير وسعد بن أبي وقاص و ابن مسعود رضي الله عنهم وورد بحذف كلمة (متعمدًا) فإن هذا يصح أن يجعل دليلاً على أن قلة تحديثهم ليس لاعتقادهم أن أحاديث الآحاد القولية ليست من أصول الشرع وأدلته، بل من ورعهم وتحريهم نقل الحديث بلفظه، وقد صح عنهم أنهم حدثوا في روايات أقوى من هذه الروايات التي ذكرها ابن سعد في طبقاته كما تقدم ولكن الجمهور قد جوَّزوا بعدهم روايته بالمعنى فكان مثار مشكلات كثيرة.

وإنما يتجه استشكاله إذا بناه على تلك الروايات التي أوردناها في المجلد العاشر من المنار، وأشرنا إليها آنفًا، وقد أجاب العلماء عنها بأجوبة بيَّنا هنالك ما فيها من ضعف وذكرنا هنا نموذجًا منه، وفيما ذكره من الروايات أن بعض الصحابة كان يخاف أن يحدث من يحضره من التابعين فيزيدوا في حديثه ما ليس منه ولو سوء الفهم. ولكن وجد من الصحابة من كان لا يتحامى التحديث كهؤلاء، بل وجد فيهم من تفرغ له وجعله كل همه من حياته كأبي هريرة الذي كان أقل ما يروي من سماعه وأكثره عن غيره من الصحابة وعن التابعين أيضًا حتى عن كعب الأحبار وكان مع ذلك قلما يذكر سماعًا، فأكثر ما روي عنه عنعنة كانت مصدر مشكلات كثيرة، وإن لم يتعمد التدليس فيها، كل هذا وقع ولم يشدد الخلفاء بعد عمر رضي الله عنه بكتابة السنن لأجل ضبطها والتمييز بينها، ثم تصدَّى الحُفَّاظ الجامعون لها في المسانيد والسنن للتمييز بين صحيحها وسقيمها، وما يحتج به، وما لا يحتج به منها، وتوقف ذلك على كتابة تواريخ الرواة ونصب ميزان الجرح والتعديل للحكم عليها فكان ذلك منجاة من أكثر مشكلات تلك الفوضى.

ومع هذا كله لم يوجب أحد من علماء المسلمين العمل بكتاب من الكتب المُؤلفة في الحديث بل طلب بعض الخلفاء من الإمام مالك أن ينشر له كتابه الموطأ في الأقطار ويحمل المسلمين على العمل به، فامتنع مالك من ذلك على شدة تحريه في جميع روايات الموطأ ومواطأة جُلّ علماء المدينة له عليه، وإنما كان الصحابة والتابعون متفقين على أنه يجب على المسلمين أن يأخذوا دينهم من كتاب الله في المرتبة الأولى ثم من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يعنون بالسنة الطريقة المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم بالعمل لا الروايات النادرة التي لم يكن يعرفها إلا رواتها من الآحاد، وهذا أمر قطعي لا خلاف فيه، ثم صار علماء الأمصار يطلقون اسم السنة على كل ما روي في شأن الرسول صلى الله عليه وسلم من قول وعمل وتقرير وصفة، وقرَّروا أن كل ما ثبت من ذلك متعلقًا بالتشريع فهو من دلائل هذا الدين وشرعه، وإنما يخرج من ذلك ما كان من أمور العادات وشئون الدنيا كالزراعة والصناعة والأكل والشرب مما لم يحرم بالنص، فأفعاله صلى الله عليه وسلم فيها تدل على الإباحة ويطلقون على الأمر فيها لقب الإرشاد كما فصَّلناه في كتاب (يسر الإسلام …) وغيره.

ثم كان من هدي علماء الأمصار في عصر الرواية أن يهتدي كل منهم بما يصح عنده من أحاديث الآحاد، وإن لم تصر سنة متبعة بالعمل بحسب فهمه واجتهاده، ولا يعد من لم يبلغه ذلك أو من لم يصح عنده ناقصًا في دينه أو مقصرًا فيه ولا يعدون اجتهادهم في تصحيح الحديث، وفي كونه مما يحتج به تشريعًا عامًّا إلا أن بعض الذين وقفوا حياتهم على رواية الأحاديث كانوا يعيبون المقلين من الرواية والآخذين بالرأي والقياس ويسمونهم أهل الرأي، ولكنهم لا يعدونهم ضالين كالمبتدعة، فإمامهم الأعظم أبو حنيفة معدود من أئمة أهل السنة ولم يعبأ جمهور علماء الملة بما روى الخطيب وغيره من الطعن فيه، وصاحبه أبو يوسف معدود من أئمتهم أيضًا، وكان قاضي هارون الرشيد ومفتيه، ولم ينكر ذلك أحد من أئمة عصره، وأما صاحبه الآخر محمد بن الحسن فاشتغل بالحديث أكثر من صاحبيه، وتلقى المؤطأ عن الإمام مالك، ولقي الشافعي وأحمد واطلعا منه على فقه أبي حنيفة فسرت إليهما عدوى التوسع في القياس بعد أن قال أحمد: سألت الشافعي فقال: هو كلحم الميتة يلجأ إليه عند الضرورة، ولم يكن لهما ولا لغيرهما مندوحة عن القياس والرأي بعد التصدي للفتوى العامة في عصر كثرت فيه أسئلة الناس ومشكلاتهم الدينية وقضاياهم المدنية والجزائية باتساع دائرة الحضارة وكثرة أسباب المعايش والأعمال.

ومن المعلوم أن بعض أئمة فقهاء الحديث أنكروا حجية القياس مطلقًا، وخص الإنكار بعضهم بغير الجلي أو بالخفي منه، أو ما كان علته غير منصوصة، وخصَّه المحققون من القائلين بغير به العبادات، وأما التعبدي منها، وما يتعلق بعالم الغيب فلا وجه للقياس فيه مطلقًا، ولكن المتأخرين من المصنفين المقلدين يدخلون فيها القياس، وهم ليسوا منه أهله، وصار كلامهم مسلمًا عند العامة كقول بعضهم بجواز وضع الستور على القبور قياسًا على الكعبة، وجواز تقبيل الحجارة وغيرها مما يُوضع على قبور الصالحين قياسًا على الحجر الأسود، دع تقبيل مفاتيح الكعبة وغيرها، وقياس حياة الشهداء وغيرهم في البرزخ من عالم الغيب على حياة الدنيا واستنباطهم من ذلك جواز قضائهم حاجات الذين يدعونهم من دون الله ومع الله فيما لا يقدر عليه إلا الله بل يقولون بوقوعها، وإن كان هذا شركًا، ويدخلون ذلك كله في باب القُرْبَة والتعبد وهو تشريع لم يأذن به الله ولا يرتضيه أئمة الدين.

وقد أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه حين أرسله إلى اليمن أن يجتهد رأيه في الحكم ؛ إذا عرضت له قضايا لا يجد فيها نصًّا في القرآن ولا سنة من أحكام الرسول التي جرى عليها العمل في عهده، ولكن الفقهاء توسعوا في هذا الإذن فجعلوا أحاديث الآحاد حتى الشاذ والمفرد والمرسل، وكذا الضعيف غير الواهي منها في حكم السنة المتبعة على خلاف بينهم في ذلك، واصطلحوا على تسمية ذلك كله سنة، وجعل أكثرهم اجتهاد الرأي عامًّا في العبادات والمعاملات الشخصية لا خاصًّا بالقضاء كمورده، كما جعلوا الإجماع الاصطلاحي في كل عصر حجة شرعية، وما ثبت عندهم بذلك دينًا على إنكار بعض أئمة الهدى كالإمام أحمد لما عدا إجماع الصحابة، ووافقه بعض علماء الأصول على عدم إمكان العلم بهذا الإجماع إن وقع مع الشك في إمكان وقوعه، عادة، ولكن بعض المتأخرين حتى من الحنابلة جعلوا اتفاق الأئمة الأربعة حجة.

فكان ذلك له سببًا لكثرة التكاليف والتشديد في الدين، ولا سيما جعل كل ما كتب في الفقه دينًا يجب على الأمة اتباعه، وأما الأئمة فلم يطالبوا الأمة إلا بما ثبت قطعيًّا، وأما ما فيه مجال للاجتهاد من دليل ومدلول، فلم يكلفوا به إلا من ثبت عنده وحرموا تقليدهم فيما ثبت من اجتهادهم، وقد فصَّلنا كل هذا في مواضع من المنار والتفسير فكثرت بذلك أحكام العبادات والحلال والحرام وسائر المعاملات بعدهم على خلاف ما كان يريد الرسول صلى الله عليه وسلم كما شرحنا ذلك في بحث يسر الإسلام الذي نشر في كتاب مستقل، فعلى من أراد الإحاطة بالبحث مع جميع أطرافه مراجعة الكتابين أيضًا. وأما ما بالغ فيه بعض المؤلفين من عد أحاديث الصحيحين ولا سيما البخاري قطعية فقد بيَّنا خطأه فيها ونقلنا عن علماء هذا الشأن ما يؤيد كلامنا، وسنعود إليه عند دفع بعض مشكلات هذه الروايات كما تقدم لنا في مشكلات أشراط الساعة ولا سيما أحاديث الدجال والمهدي، وحسبنا هذا الآن.


المنار، المجلد التاسع والعشرون، عدد ربيع الآخر - 1347هـ، الموافق أكتوبر - 1928م

أبو حسن
13-08-2008, 08:26 AM
السؤال

ما درجة حديث النهي عن تعليم النساء الكتابة وهل له معارض ؟ وما رأيكم في هذا التعليم ؟ والحديث المشار إليه ذكره في فتح البيان عن البيهقي والحاكم وابن مردويه وسكت عليه ، فهل ذكر الحاكم له يفيد صحته .


الجواب

لم يصح في النهي عن تعليم النساء الكتابة شيء ، وليس كل ما يرويه الحاكم صحيحًا ؛ بل صَحَّحَ في مستدركه على الصحيحين أحاديثَ جزموا بأن بعضها ضعيف وبعضها موضوع ، ومنها هذا الحديث الذي يشير إليه السائل : ( لا تسكنوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة ) رواه في المستدرك من طريق عبد الوهَّاب بن الضحَّاك عن عائشة ، وهو كذاب كما قال أبو حاتم ، متروك كما قال النسائي ، منكر الحديث كما قال الدارقطني : وقال الحافظ ابن حجر في الأطراف - بعد ذكر تصحيح الحاكم له - : بل عبد الوهاب متروك ، وقد تابعه محمد بن إبراهيم الشامي عن شعيب بن إسحق ، وإبراهيم رماه ابن حبان بالوضع . وابن حبان هو الذي روى حديثه هذا في كتاب الضعفاء ، وقال الدارقطني فيه : كذّاب . وأخرج ابن حبان في الضعفاء أيضًا عن ابن عباس مرفوعًا : ( لا تعلموا نساءكم الكتابة ) وفي سنده جعفر بن نصر وهو متّهم بالكذب كما قال الذهبي .

وهذه الروايات الواهية أو الموضوعة معارَضة بروايات صحيحة في مشروعية تعليم النساء الكتابة ؛ منها حديث الشفاء التي علمت حفصة أم المؤمنين الكتابة ، وقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - مرةً مازحًا : ( ألا تعلمين هذه رُقية النملة كما علمتها الكتابة ) رواه أحمد وأبو داود بسند رجاله رجال الصحيح ، إلا إبراهيم بن مهدي البغدادي المصيصي ؛ وهو ثقة كما قال : ابن القيم ، ورواه النسائي والحاكم وصححه ، وغيرهم ، وقد صرّح كثير من العلماء بأن حديث الشفاء يدل على جواز تعليم وتعلم النساء الكتابة ، وفي الأدب المفرد للبخاري : أن عائشة بنت طلحة كانت في حِجْرِ عائشة أم المؤمنين تكاتب الرجال ، كانوا يكتبون إليها من الأمصار ويهدونها ؛ لمكانها من أمِّ المؤمنين ؛ فتأمرها أمُّ المؤمنين بأن تحييهم على كتبهم وتثيبهم على هداياهم . وعلى هذا جرى المسلمون فكان فيهم كثير من الكاتبات العالمات بالحديث والأدب والفنون . وهنَّ يدخلن في عموم خطاب الشرع في جميع أحكامه إلا ما خصص ، ومن مقاصد الشرع إخراج الأمة من الأمية وتعليمها الكتاب والحكمة كما هو منصوص في كتاب الله تعالى .


المنار، المجلد السابع عشر، عدد ربيع أول - 1332هـ، الموافق فبراير - 1914م

أبو الفداء أحمد بن طراد
04-12-2009, 03:54 AM
بارك الله فيك، وللفائدة أنقل لكم ما جاء عن الشيخ رشيد في كتاب:
" مفتاح كنوز السنة "، يقول الشيخ رشيد رضا في مقدمة الطبعة الثالثة للوحي المحمدي تحت عنوان:

( بلوغ الدعوة لأحرار الإفرنج )

ولن يكون بلوغ الدعوة صحيحاً موجزاً إلا بوصولها إلى الأحرار مستقلي الفكر من هذه الشعوب بلغاتهم،وأكثر أفراد المستشرقين الذين تعلموا العربية ليسوا من هؤلاء الأحرار المستقلين المنصفين، فإنهم ما درسوا العربية، ولا مارسوا كتب الإسلام ليعرفوا حقيقته، ويعرفوا غيرهم بها، بل ليبحثوا عن عورات يلتمسونها فيها، لينفروا أقوامهم عنه بتصويرها لهم بالصورة المشوهة التي ينكرونها، كما نرى فيما اطلعنا عليه من كتبهم، وفي معجمهم العلمي الذي سموه بـ " دائرة المعارف الإسلامية "، ومن خيبة الآمال بعلمهم ومصنفاتهم أن وجدت كتاب ( مفتاح كنوز السنة ) على غير ما كنت ظننت، وخلاف ما قلت في التعريف به، فإنني لم استفد منه أدنى فائدة.اهـ
[محمد رشيد رضا طود إصلاح ودعوة وداعية / رسالة ماجستير/ خالد بن فوزي بن عبد الحميد آل حمزة [ المدرس بدار الحديث الخيرية ـ بكة المكرمة] دار علماء السلف، الإسكندرية ص ( 320 ـ 321) ] .