المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلامة الشيخ محمد رشيد رضا القلموني - مسائل وفتاوى في الإعتقاد



أبو حسن
12-11-2007, 01:27 PM
سألني أخي الحبيب أبا محمد القلموني عن مسائل في اعتقاد الشيخ العلامة محمد رشيد رضا وما كان مذهبه فيها وخصوصا مسائل الصفات. فرأيت أن أفرد موضوعا مستقلا أنقل فيه مسائل وفتاوى للشيخ رشيد في أبواب الإعتقاد المختلفة علها تبيّن وتجلّي مذهب الشيخ.

وقد بدأت بالفتوى التالية الطويلة التي يستنتج منها الذكي اللبيب ملامح عامة من عقيدة الشيخ رحمه الله

أبو حسن
12-11-2007, 01:30 PM
(بسم الله الرحمن الرحيم)

من تلميذكم المخلص محمد بن حسين إبراهيم المدرس بمسجد عكاش بجدة إلى جناب سيدي الأستاذ مولاي السيد محمد رشيد رضا أدامه الله ملجأ للقاصدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أسأله تعالى أن تكونوا وأنجالكم ومُحِبُّوكم على أحسن الأحوال. وبعد فإني أهنئكم بهذا العيد السعيد (عيد الفطر) جعله الله لنا ولكم وللمسلمين عيدًا ميمونًا مباركًا بمنه وكرمه.

سيدي العزيز: إني أقدم إليكم هذه الأسئلة ملتمسًا الجواب عنها على صفحات مناركم الأغر.

(أولا) رأيتكم قد أَبَّنْتُمْ الشيخ محمود خطاب السبكي حتى ذكرتم من فضله أنه كان من أنصار السنة، وأنه شرح سنن أبي داود فلا أدري أقلتم هذا بعد أن اطلعتم على كتابه (إتحاف الكائنات) الذي ألفه في آخر عمره فقد أفعمه بتكفير من يعتقد أن إلهه مستو على عرشه استواء يليق بجلاله، وأنه في سمائه دون أرضه، وأنه موصوف بصفاته التي أثبتها لنفسه في كتابه وأثبتها له رسوله صلى الله عليه وسلم في صحيح سننه كاليدين والعينين، والساق والقدم، والنزول والضحك، والتعجب والفرح والرضا والسخط، والغضب والغيرة، إلى غير ذلك من الصفات المذكورة في القرآن وصحيح السنة، فحكم على كل من يعتقد شيئًا من ذلك أنه كافر حلال الدم والمال ونساؤه طوالق، وأولاده أولاد زنا وسفاح، ولا يخفاكم أن هذا كان معتقد السلف حتى ظهر المتكلمون نفاة الصفات وحقائق الأسماء، فهل كانوا كما قال الشيخ كفارًا أولاد زنا ؟ فإذا لم يكونوا كذلك فما حكم من يؤلف كتابًا كهذا ؟ أيستحق التأبين ونشر فضائله ؟

(ثانيًا) وصلت إلينا في أواخر رمضان رسالة من مصر لمؤلفها الشيخ يوسف الدجوي نشرها أحد تلامذته عبد الرافع نصر قد أفظع فيها وأقذع من ذكر مسائل منسوبة إليكم على زعمه نشهد بالله أنكم برآء من أكثرها وليست قاصرة عليكم بل تناول فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ونسب إليه أنه كان يخطب وذكر حديث النزول ونزل درجتين من درج المنبر، وقال: ينزل ربنا كنزولي هذا، وتناول فيها سيد الحفاظ شمس الدين الذهبي، وأنه كان يحكم على الأحاديث الصحيحة بالوضع تحكمًا وتعسفًا، حتى لو قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } (الأنبياء: 107) لقال: هذا حديث موضوع إلى غير ذلك من الكلمات التي لا يجوز أن تنسب إلى أسفل طبقات العالم فضلاً عن حفاظ الإسلام وأئمته، وقد علقت عليها ما يمكنني، فهل هذه الرسالة وقعت بيدكم حيث إنها مطبوعة في مصر سنة 1351 فإن كنتم قد رأيتموها ولا بد فلِمَ لمْ أر لكم كتابة عنها، وقد بلغني أنكم شرعتم في تأليف كتاب سميتموه المنار والأزهر فلا أدري هل تم طبعه أم لا ؟ أعانكم الله على نشره.

(ثالثا) قد اطلعت قريبًا في كتاب الحاوي للفتاوى لمؤلفه الحافظ جلال الدين السيوطي وقد طبع في مصر ذكر فيه رسالة سماها (القول الجلي في تطور الولي) حاصلها أنه رفع إليه سؤال من رجل حلف بالطلاق الثلاث من زوجه أن الشيخ عبد القادر أحد أولياء عصره كان بائتًا عنده البارحة، وحلف آخر كذلك فأرسل هو إلى الشيخ عبد القادر يسأله عن ذلك فقال: لو حلف أربعة أني كنت بائتًا عند كل منهم فلا يحنث، وأفتى السيوطي بعدم الحنث على أحد من الحالفين، واستند في فتواه هذه إلى قول علاء الدين شارح الحاوي و تاج الدين السبكي والشيخ خليل المالكي وغيره من الفقهاء.

وملخص أقوال هؤلاء: أن الولي يجوز أن يتشكل في عدة أجسام حتى إذا لم يره أحد يحضر الجمع ولا الحج فلا ينكر عليه ؛ لأنه إنما رأى جسمًا واحدًا لم يصل ولم يحج، وهذا لا ينافي أن الأجسام الأخر حجت وصلت وصامت. وروى أحاديث تشهد له بذلك كرفع بيت المقدس إليه صلى الله عليه وسلم حتى نعته لقريش ورؤيته للجنة في عرض الحائط فهل هذا صحيح ؟ وهل نقل عن أحد من خير القرون ذلك ؟ وهل كل ما وقع على سبيل المعجزة لأحد من الأنبياء يجوز أن يقع كرامة للأولياء ؟ فإن قلتم: هذا صحيح فما وجه من ينكر على الحنفية فيما ذكروه في ثبوت النسب من قولهم ولو تزوج رجل بالمشرق على امرأة بالمغرب ولم يعلم أنه اتصل بها بسبب من الأسباب المعلومة فأتت بولد لستة أشهر نسب إليه لاحتمال طي المسافة أو أنه زيد في ذكره حتى وصل إليها ؟ وإن قلتم: إن مثل هذا من خرافات بعض الفقهاء فأخبرونا عن مكانة السيوطي ودرجة علمه ومؤلفاته فهل يوثق بها أم لا ؟ وأي كتاب فيها يصح الاعتماد عليه للأخذ منه وعليه.

المرجو بسط الجواب عن هذه المسائل بسطًا وافيًا شافيًا ولا تحيلونا على ما كتبتموه فيما سبق فإنه يتعذر علينا الرجوع إلى مجلدات المنار لكثرتها، وعسى أن توفقوا لوضع فهرست عامة لجميع المجلدات مرتبة إما على أبواب الفنون أو على حروف المعجم وتطبعوها على حدة، فإن ذلك يكون مفتاحًا لما يطلب من مجلدات المنار، ولكم منا الشكر والثناء ومن الله الثواب والجزاء.

..................... المخلص لكم في المحبة والولاء
........................ محمد حسين إبراهيم

أبو حسن
12-11-2007, 01:33 PM
(أجوبة المنار)
قدمت نشر هذه الأسئلة على عشرات من الأسئلة مر على بعضها سنة أو سنتان أو سنون ؛ لأنها في أمور حاضرة بعضها يخصني من انتقاد عليَّ ودفاع عني، وسئلت عنها مشافهة ومكاتبة مرارًا، وبعضها في موضوع الكرامات الذي أطلت في منكراته في الأجزاء التي قبل هذا، وإنني أجيب عنها بما يلي:

(43) الثناء على الشيخ السبكي:

اشتهر الشيخ محمود خطاب السبكي بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا سيما البدع الفاشية والحث على السنن الصحيحة قولاً وخطابة وتدريسًا وكتابة مع العمل في زمن يقل فيه من يقوم بهذه الفريضة من العلماء، واشتهر أنه قد تاب على يديه وانتفع به خلق كثيرون حتى صار إمامًا يتبعه ألوف من الناس ينسبون إليه فيسمون السبكية، وأعرف أفرادًا منهم من الأزهريين وغير الأزهريين هم سلفيون بقدر ما يعلمون من مذهب السلف، ومنهم من له عناية بنشر مذهب السلف وكتبه كالأستاذ الشيخ منير الدمشقي الكتبي المشهور. وقد اجتمعت به مرارًا قليلة على تواد وتعارف وتآلف، ورأيت له بعض الكتب الصغيرة في الحث على العبادات واتباع السنة اكتفيت من النظر فيها بمعرفة موضوعها، وقد اتُّهِمَ في أثناء الحرب الكبرى بتهمة سياسية كادت تفضي إلى إيذائه وإهانته فلجأ إليَّ فسعيت سعيًا صالحًا لإنقاذه من الشر، وكان الذين تولوا التحقيق في أمره قد جمعوا كتبه وكلفوا من يثقون بهم بمطالعتها للوقوف على خطته فقال لهم المشرف عليهم في إدارة الأمن العام: إن السيد رشيد رضا شهد له بأنه نافع للناس مأمون الضرر فأطلعوه في بعضها على مسائل مخالفة لخطة المنار في إنكار البدع والخرافات ذكرها لي ولكنها لم تمنع قبول شفاعتي أو شهادتي له.

وقد بلغني في أول هذا العام أنه ألف كتابًا في علم الكلام وطبعه خالف فيه مذهب السلف في مسألة الصفات وغيرها استاء منه كل من اطلع عليه من السلفيين، وكان بعضهم يجله ويحسن الظن في اعتقاده وعلمه فتحولوا عنه ورد بعضهم عليه، ولم أر هذا الكتاب ولكنني سألت عنه بعض تلاميذه فمنهم من وافق المنكرين ومنهم من حاول الدفاع عنه فكان ضعيفًا. وكنت علمت أنه منذ سنين يشرح سنن أبي داود، وعلمت في العام الماضي أنه صدر الجزء الأول منه، ولم أره ولا كتاب الكلام الذي قبله ؛ إذ لم يهدهما إليَّ وما كنت لأشتري أمثال هذه الكتب الحديثة ولا أجد وقتًا للنظر فيها، إلا إذا حدث باعث أرى فيه مصلحة راجحة في ذلك، وقد انتقد لي رجل ذكي سلفي هذا الشرح ولكنه ليس عالمًا يوثق بانتقاده.

لأجل هذا كله اقتصرت في ذكر وفاته على أفضل ما علمته من سيرته وهو دعوة الناس إلى العبادة وترك المعاصي والبدع العملية، وهذا هو الواجب على كل عالم أعني أن يكون عاملاً بعلمه معلمًا له داعيًا إليه بقدر استطاعته، فالعلم مع العمل وتعليم التفقيه الوعظي الباعث على العمل هو هدي السلف ومذهبهم وطريقتهم وقليله خير من كثيره بالطريقة الجدلية الكلامية والمماحكات اللفظية، لهذا ساءني أن يبتلى بتأليف كتاب في العقائد الكلامية ؛ لأنه يتعذر عليه أن يجمع فيه بين السنة التي يحبها ويعمل بها ويدعو إليها ويعتقد أنه متبع فيها للسلف، وبين نظريات المتكلمين وتأويلاتهم الجدلية التي تروج وتقبل عند كل من لم يكن واسع الاطلاع على آثار السلف.

فأنا قد قصرت في تأبينه لأجل هذا الكتاب، ولم أقل فيه: إنه من أنصار السنة كما ذكرتم، وكان والحق يقال من أنصارها المشددين قولاً وعملاً، ليس له ند في هذا القطر، وقلما يوجد في غيره، وأما تأويلات المتكلمين المخالفة للسلف فلا يسلم منها أحد اعتمد في طلبه لعلوم الدين على كتب العقائد الرائجة في مصر وأكثر الأمصار وكذا أكثر كتب التفسير وشروح الأحاديث التي ألفت بعد خير القرون، ويظهر مما نقل لي منه ومما قرظ به أنه لم يطلع على ما كتبه حفاظ السنة وأقوال الصحابة والتابعين وأقوال أئمة الحديث والفقه المتفق على جلالتهم حتى عند المعتزلة لا عند الأشاعرة وحدهم كأئمة الفقه الأربعة على أن تأويلاتهم للنصوص قلما يدحضها إلا كتب المحققين الذين جمعوا بين المعقول والمنقول، وكان أقواهم حجةً: شيخا الإسلام ابن تيمية و ابن القيم.

فأنا أشهد على نفسي أنني لم يطمئن قلبي لمذهب السلف إلا بقراءة كتبهما، وأشهد أن ما يقوله بعض المقلدين للسلف من غير فهم ولا عقل قد يكون مثارًا للتشبيه وعذرًا لأهل التأويل، كجمع بعضهم لجميع ما ورد في القرآن والأحاديث حتى غير الصحيحة أو أكثره، وقولهم لمن يلقنونه إياها: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى وجهًا وعينين ويدين وأصابع وساقًا وقدمين وأنه مستو على عرشه بذاته، وأنه ينزل ويمشي ويهرول وينادي بصوت ويضحك ويرى كما يرى البدر إلخ وأن كل هذه صفات له لا يجوز تفسير شيء منها بطريق مجاز لغوي ولا عقلي ولا كناية ؛ لأن هذا من التأويل الذي منعه السلف، وتكذيب لكلام الله وكلام رسوله.

وتجاه هؤلاء: أهل التأويل يشوهون نقل هذا عنهم بضم لوازمه إليه أو نقله بمعناه عند المشوهين له، فقل لي: ما يفهم جمهور العوام والخواص من هذا الكلام ؟ أليس التشبيه المحض، المنافي للتنزيه المحض، الذي يجزم به العقل، وقوله تعالى: { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } (الشورى: 11) ؟ ولو نقلوا كل ما ورد بلفظه في سياقه لما أثار ما يثيره سرد مفرداتها مجموعة من التشبيه [1] ولو قالوا: يجب الإيمان به كما ورد مع تنزيه الرب تعالى واتقاء التحكم في معناها بالرأي اتباعًا للسلف لما كان لأحد من القائلين بالتأويل شبهة يُخَطِّئهم بها - دع تكفيره لهم- إلا بعض أشرار المنافقين، ولكن سوء التعبير من الجانبين وجعل لوازم المذهب مذهبًا، وإن كان لازمًا غير بين وغير مراد هو الذي ينفخ روح الشقاق والتفرق. السلف لم يجمعوها ويلقنوها للناس ولم يقولوا بمنع المجاز والكناية في عباراتها وإن كانت متبادرة من العبارة، ويقتضيها أسلوب البلاغة، فإن هذا من التحكم فيها بالرأي الممنوع عندهم، وإنما خلاصة هديهم فيها أن نُمِرَّهَا كما وردت بغير تعطيل ولا تمثل ولا تأويل، فالمعطلة جعلوا الخالق رب العالمين في حكم العدم بإنكارهم الصفات كلها والعلو المطلق، والممثلة أو المشبهة جعلوه كعباده، صفاته كصفاتهم، والمؤولة تحكموا في صفاته برأيهم وأهوائهم، ويلزم من تأويلهم أن بيانهم لها أصح من بيان كتابه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم بل صرح بعضهم بأن من اعتقد بعض ظواهر القرآن كان كافرًا، ومنهم الشيخ يوسف الدجوي.

هذا وإن التفرق في أصول الدين بين سلفيين وخلفيين أو مفوضين ومؤولين أو سنيين ومبتدعين، بحيث ينتهي بهم الخلاف إلى التكفير والحكم بالمروق من الدين، مما يتبرأ منه أئمة السلف الأولين، الذين يُِقرُّ بفضلهم وإمامتهم الفريقان.

فاختلاف الفهم للصفات والأفعال بين السلف والخلف لا يصح أن يفضي إلى التكفير فإن الله تعالى لم يجعل صفاته فتنة لعباده المؤمنين به وبكتابه ورسوله المهتدين بدينه فيجعل المخطئ بفهمه لضعفه كالمشرك به المكذب لرسوله، وللمحقق ابن عقيل الحنبلي كلام نفيس في عذر العلماء بالخطأ في مثله يراجع في كتاب (الآداب الشرعية) لابن مفلح فإن كان الشيخ محمود السبكي قد صرح في كتابه الأخير بما نقله عنه من التكفير بنصه، فإنه من هذه الناحية لقرين عدو القرآن والسنة، أعمى البصر والبصيرة المنكوس على رأسه، الذي صرح بتكفير من يؤمن بظاهر القرآن، وأرجو أن يكون عزو هذا إليه كعزو السائل إليَّ أنني جعلته من أنصار السنة، مأخوذًا من لازم الكلام بفهمه، لا صريح نصه.

أبو حسن
12-11-2007, 01:33 PM
(44) رسالة القذع والقذف والبهتان:

إنني اطلعت على الرسالة المذكورة قبل نشرها، وذكرتها في المقالات التي رددت بها على مجلة مشيخة الأزهر، وذكرت فيها ما جرى بيني وبين شيخ الأزهر بشأنها فيما كان من مخادعته إياي باسم الصلح بيني وبين مفتريها، وتصريحي للشيخ بأنه لا قيمة لها ولا لملفق بَهَائِتِهَا ومفترياتها عندي، وأرى من العار عليَّ أن أعده مناظرًا أو خصمًا وأعقد معه صلحًا، فسواء عليَّ أنشرت أم منعت وأحرقت، إنها لا تعيبني ولكن تعيب الأزهر أو مشيخته أن يصدر مثلها عن أحد علمائه ولا يعاقب عليها إلخ، وكان الشيخ يساومني على جعل منع نشرها ثمنًا للصلح. وقد نشرت مقالاتي هذه في المنار وفي بعض الجرائد اليومية في مصر، وعهدي بالأستاذ السائل أن يطلع على كل ما ينشر في المنار فما معنى هذا السؤال ؟

وقد جاءتني رسائل كثيرة وقصائد من الأقطار المختلفة في الرد عليه فلم أنشر شيئًا منها اهتداء بقوله تعالى: { وَأَعْرِضْ عَنِ الجَاهِلِينَ } (الأعراف: 199) ولكن ردَّ عليه كثيرون من علماء الأزهر، وعلى شيخ الأزهر مغريه، ونُشِرَتْ ردودهم ومطاعنهم في الجرائد اليومية. وأما طعنه في حفظ السنة فقد فنَّدته في سياق تفنيد ما يدعو إليه من البدع والخرافات، ولو شئت أن أعاقب المسيء لرفعت عليه قضية في محكمة الجنايات، ولكن انتقم الله من المفتري والمغري بطعون ومَخَازٍ نشرت في بعض الجرائد اليومية لم يستطع الرد عليها أحد، ولما تنته بعد، وينتظر من عدل الله ما هو أشد.

وأما كتاب (المنار والأزهر) المشتمل على تلك المقالات في الرد على مجلة الأزهر وبدعها وخرافاتها، وتفنيد بهائتها ومفترياتها، فقد أرجأت نشره إلى أوائل العام القابل، أي بعد نشر الطبعة الثانية من كتاب الوحي المحمدي في ذي الحجة الآتي ونشر الجزء الحادي عشر من التفسير في المحرم سنة 1353 إن شاء الله تعالى.

أبو حسن
12-11-2007, 01:35 PM
(45) فتوى السيوطي المبنية على تطور الولي:

في أول سطر من السؤال عن هذه الفتوى غلطتان: (إحداهما) في اسم الكتاب فإن اسمه (المنجلي ….) لا (القول الجلي …..) (والثانية) في الطلاق الذي سئل عنه المؤلف وهو الطلاق غير موصوف بالثلاث كما ذكر في السؤال، فهاتان الغلطتان مع الغلطة الأولى في مسألة السبكي التي بينتها في موضعها مما يوجب عليكم الدقة في النقل ومراجعة ما يكتبه لكم من تملون عليه لتثقوا بصحته.

وأما الفتوى فإنني أقول فيها - وإن لم أقابل ما لخصتموه منها بأصله – إن فيها خلطًا وخبطًا كثيرًا لا يمكن بسطه إلا في رسالة طويلة لا أرى حاجة إليها إذ يغني عنه القول بأن هذه الفتوى في تفصيلها رأي للسيوطي لا يجوز لأحد تقليده فيه، وغير المقلد من المفتين أو المستفتين ينظر في الدليل ويأخذ بما ظهر له صحته.

وهو قد بنى الفتوى بعدم وقوع الطلاق على أحد من الأربعة الذين حلفوا به من حيث الفقه على الترديد في إقامة البينة من بعضهم دون بعض وعدم إقامتها من أحد منهم، وإنما تطلب البينات وينظر في تعارضها والترجيح بينها في حال إقامة الدعاوي [2] فإن لم يكن هنالك دعوى فيفتي كل واحد بحلفه على اعتقاده. فإذا كان يعتقد أن من بات عنده في تلك الليلة هو فلان كما حلف، فلا يضره اعتقاد غيره أنه أخطأ، وإن كان يستحيل صدق كل واحد منهم بالفعل أو في اعتقاده، بل عليه أن يعتقد أن غيره كاذب ؛ لأن خبره الذي يحتمل الصدق والكذب لذاته قد تعين عنده أنه كاذب فيه ؛ لمخالفته لما ثبت عنده هو بالحس، والأصل فيه إفادة اليقين.

أكتفي بهذا في أصل الفتوى من حيث الفقه كما قال لأنها من الخيالات الخرافية التي قلما تقع. وألخص ما يستنبط منها من المسائل التي بنيت عليها وهي أهم منها، والمقصودة بالذات من نشرها، وأبين رأيي فيها.

(46) تطور الولي ووجوده في عدة أمكنة في وقت واحد:

إن علماء المعقول متفقون على أن وجود الجسم الواحد في مكانين أو أكثر في وقت واحد من المُحَال العقلي المعلوم بالبداهة أو الضرورة، ويحكمون بكذب مدعيه قطعًا، بل يجعلونه مثالاً للمحال. ولا يصح معارضة هذا الحكم القطعي الضرورة في عالم الشهادة باحتمال وقوع مثله عقلاً في عالم الغيب كالملائكة والجن أو ثبوته بنص شرعي قطعي، فإن لمن يسلم هذا أن يقول أن عالم الشهادة لا يقاس على عالم الغيب، وأن الذي رأى زيدًا من الناس عنده إنما رأى جسدًا من عالم الشهادة ذا روح، والجسد الخاص المعين لا يكون في مكانين في وقت واحد قطعًا، واحتمال تصرف روح الإنسان في هذا العالم بجسده وظهوره في جسدين أو أكثر مخالف لسنة الله تعالى في هذا العالم فلا يُبْنَى عليه حكم شرعي بل السيوطي يقول في هذه الفتوى: إن روح الولي في حال تشكله في الصور تكون في جسمه الأصلي، ويكون له أجسام أخرى من عالم المثال الذي هو عندهم وسط بين عالم الأرواح وهو ألطف منه، وعالم الأجسام وهو أكثف منه، وروحه تتصرف في الجسم الأصلي في الأجسام المثالية في وقت واحد.

فنقول في هذه الحال: إن جسمه الأصلي هو الذي تتحقق به حقيقته الكونية الشرعية، وتلك الأجسام التي تصرفت بها روحه غريبة من غير عنصر الأجسام البشرية، فلا يصح إعطاؤها حكمًا شرعيًّا من صلاة ولا حج ولا زواج ولا طلاق ولا غير ذلك من العقود والحدود الشرعية على فرض وقوع ذلك كما قيل، وهو ما لا يمكن إثباته بالفعل لما يعرض فيه من الاحتمالات، ومنها أن شيخ الإسلام ابن تيمية الجامع بين علوم النقل والعقل والتصوف يقول: إن الشخوص البشرية التي تظهر بصور بعض المشايخ وغيرهم هي من الجن، فالمتعبدة الصالحة منها لبعض مؤمني الجن ومنهم من ظهر بصورته هو في الموصل بمظهر صالح يليق به إذ كان هو بدمشق، والخبيثة الضارة لكفار الجن وشياطينهم كما نقلناه عنه قريبًا في التفسير.

على أن التحقيق أن عالم المثال الذي يدعي السيوطي أن الصوفية أثبتوا وجوده هو عالم تصور خيالي لا وجود له في الخارج، فهو كعالم الماهيات الهيولانية في فلسفة أفلاطون فلا وجود له في الخارج، وأصح منه الأثير الذي يقول به علماء المادة وسيأتي ذكره. وإن مسألة التجرد الروحانى والتشكل في الصور أمر آخر يظهر أن السيوطي لم يكن يعرفه ولا أئمته الذين اتكأ على أقوالهم في إمكان وجود الجسم في الأمكنة المختلفة واعتمد عليها فكانت كجسيم العاشق الذي قال لمعشوقته:
إن في بردي جسمًا ناحلا... لو توكأت عليه لانهدم

(47) وجود الشخص في الأمكنة:

قال السيوطي: (إن وجود الشخص الواحد في أمكنة متعددة في وقت واحد ممكن غير محال كما يتوهم، فقد نص الأئمة الأعلام أن ذلك من قسم الجائز الممكن - وسمى جماعة منهم ذكر السائل بعضهم ثم قال -: وحاصل ما ذكره في توجيه ذلك ثلاثة أمور:
(الأول) أنه من باب تعدد الصور بالتمثل والتشكيل كما يقع ذلك للجان
(والثاني) أنه من باب طي المسافة وزوي الأرض من غير تعدد فيراه كل في بيته وهو في بقعة واحدة إلا أن الله طوى الأرض ورفع الحجب المانعة من الاستطراق فظن أنه في مكانين وإنما هو في مكان واحد (قال) وهذا أحسن ما يحمل عليه حديث رفع بيت المقدس حتى رآه النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حال وصفه إياه لقريش صبيحة الإسراء.
(الثالث) أنه من باب عظم جثة الولي بحيث ملأ الكون فشُوهِدَ في كل مكان كما قرر بذلك شأن ملك الموت و منكر و نكير حيث يقبض من مات في المشرق وفي المغرب في ساعة واحدة، ويسأل من قبر فيهما في الساعة الواحدة، فإن ذلك أحسن الأجوبة في الثلاثة ولا ينافي ذلك رؤيته على صورته المعتادة فإن الله يحجب الزائد عن الأبصار أو يدمج بعضه في بعض كما قيل بالأمرين في رؤية جبريل في صورة دحية، وخلقته الأصلية أعظم من ذلك بحيث إن جناحين من أجنحته يسدان الأفق) ا هـ المراد منه، وذكر بعده بعض أقوال أولئك الذين سماهم الأئمة في ذلك.

أقول: (أولا) إن مسألة المحال العقلي هي من أحكام العقل فآراء من سماهم الأئمة الأعلام وغيرهم من العقلاء فيها سواء، ولكن هؤلاء الأئمة الأعلام قد نبذوا حكم العقل وراء ظهورهم اتباعًا لدعاوي الصوفية، كما نبذه هو تقليدًا لهم، وإن كان قد ادعى الاجتهاد المطلق، فالصوفية قد صرَّحوا بأن كشفهم ودعاويهم مخالفة للعقل كما قال ابن عربي:
وإذا عارضك العقل فقل... طورك الزم ما لكم فيه قدم
وقال ابن الفارض:
فثم وراء العقل علم يدق عن... مدارك غايات العقول السليمة

(ثانيًا) إن ما وجهوه به وقلدهم فيه يدل على أنهم قد قلدوا الصوفية بغير عقل ولا فهم للنقل ولا لأقوالهم فإنهم يعنون به غير عالم الأجسام العنصرية، وقد كان منهم من لا يعرف حكم الشرع في ذلك.

(ثالثًا) تقدم أن العقل والشرع يمنعان من قياس عالم الشهادة ومنه الإنسان على عالم الغيب كالملائكة والجان، ونزيد عليه أنه لم يثبت بدليل عقلي ولا شرعي يحتج به أن الجني الواحد يتمثل بصور كثيرة في أماكن مختلفة في وقت واحد.

(رابعًا) إنه قد أخطأ وخلط بين الأمور التي وجهها به أئمته لعدم فهمها كما نبينه فيما يأتي:

أبو حسن
12-11-2007, 01:36 PM
(48) طي المسافة وزوي الأرض:

إن ما يسمونه طي المسافة غير مسألة زوي الأرض ورؤية الأماكن البعيدة منها، فالأولى عبارة عن تشكل الروح المجردة في مادة لطيفة تقطع بها المسافات البعيدة في مدة قصيرة، ومنهم من يفسر بها الإسراء والمعراج، والثانية عبارة عن تمثل الأماكن البعيدة بصورها للروح أمامها في الهواء أو في حائط مثلا بصورة مصغرة فتدركها الروح كالمرئية بالعينين وهي التي يفسر بها رؤية بيت المقدس للنبي صلى الله عليه وسلم وهو في مكانه بمكة، وتمثل الجنة له أيضًا. ومنه حديث (زويت لي الأرض) أي جمعت منقبضة مصغرة، ومثال ذلك تصغير الصور بعدسيات الزجاج من جهة كتكبيرها من جهة أخرى. وخلاصة الحديث أنه مثلت له الأرض صغيرة مزوية فرأى منها ما يصل إليه ملك أمته لا أنه قطع مسافتها.

وأصح ما ورد في تمثل بيت المقدس له حديث جابر بن عبد الله في الصحيحين قال: قال صلى الله عليه وسلم (لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس قمت في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه) فمعنى جلاَّه أظهره وكشفه له كشفًا جليًّا، وليس معناه أنه قلعه من مكانه ووضعه في مكة، ورواية رفعه له تصوير للرواية الأولى ونحن لا ننكر على من دونه صلى الله عليه وسلم أن تتوجه نفسه إلى شيء فينكشف لها فيراه، فإن هذا من جنس الكشف الذي نقل عن بعض أصحاب الرياضيات، ولكنهم لم يصلوا فيه إلى مثل درجته صلى الله عليه وسلم في الوضوح وطول المدة بحيث يتمكن من وصفه بتلك الدقة، وأين هذا من خرافة طواف الكعبة بالولي إن يكن يراد بها التخيل المحض ؟

(49) تكبير الجثة وتصغيرها:

إن ما سماه عظم الجثة بحيث تملأ الكون هو طور من أطوار التشكيل في الصور فهما من باب واحد كما سأبين جعله بابين بابًا لتعدد الصورة وبابًا لتكبيرها ؛ لعدم فهمه لمنشأ كل منها، فأخطأ في جعل الواحد اثنين، كما أخطأ في طي المسافة وزوي الأرض فجعلهما واحدًا وهما اثنان، فكيف يصح لعالم أن يبني فتواه الشرعية ويفسر ما ورد في عالم الغيب على ما يجهله ولا يفهم ما يقوله غيره فيه ؟

(50) قياس الأولياء على الأنبياء والملائكة:

قلنا: إن قياس عالم الشهادة على عالم الغيب أو عالم الملك على عالم الملكوت - على اصطلاح الصوفية - قياس باطل أو بالفارق، ومثله قياس الأعمال العادية على الخوارق، ثم قياس الكرامات على المعجزات بناء على أنهما من جنسها أو نوعها وتكون مثلها. ومن العجيب أن يقع فيه السيوطي ومن نقل عنهم واعتمد عليهم وسماهم الأئمة، ومنهم تاج الدين السبكي الذي فرق بينهما في الرد على منكري الكرامات من أصلها بأن الأصل فيها الخفاء والإخفاء، فلا يجوز إظهارها إلا لضرورة وصرح بهذا المحققون من الصوفية أيضًا وبأنها لا تبلغ مبلغ المعجزة خلافًا لقول بعضهم: إن ما جاز أن يكون معجزة جاز أن يكون كرامة، وذكر أن القشيري من أئمة الفريقين خالف في هذا أيضًا كما بيناه من قبل. وأعجب من هذا أن يقيسوا هؤلاء الأولياء الخياليين أو المتخيلين على الأنبياء في كل ما ذكروا من خصائصهم ما صح فيه النقل منها وما لم يصح حتى في أمور البرزخ والآخرة.

وأعجب من هذا الأعجب أن يقيسوهم على الملائكة المقربين حتى جبريل معلم الأنبياء والمرسلين، وملك الموت قابض أرواح الجميع، إن هذا لهو الجهل العميق، إن هذا لهو الضلال البعيد، الذي يصح على قائسيه قوله تعالى: { وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } (سبأ: 53) والله تعالى يقول لرسوله خاتم النبيين: { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } (الأنعام: 50) بلى إن من يقيس هؤلاء المساكين الذين زعموا أنهم كانوا يوجدون في الأماكن المتعددة من الأرض على جبريل وملك الموت عليهما السلام لا يتفكرون في سنن الله في الخلق، ولا فيما خص به كل عالم وكل جنس من الفروق والخصائص ولا في حكمته في ذلك.

ومن عجائب غفلتهم عن التفرقة بين الجنس الذي قال الله تعالى فيه: { وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً } (النساء: 28) والجنس الذي خصه عز وجل بأعظم القوى في العالم حتى أعظم أفراده قوة ومقامًا كجبريل الذي قال تعالى بعد القسم في بيان تلقينه الوحي للنبي صلى الله عليه وسلم: { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ } (التكوير: 19 - 22) وقال في هذا المعنى أيضًا: { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى } (النجم: 5-7) الآيات.

ثم إنهم على تجويزهم أن يكون وليهم المتخيل كجبريل يملأ الآفاق، وأن يظهر بالصور الكثيرة في كل مكان، يحرصون أشد الحرص على جسده الضعيف الفاني فيستثنونه من عموم قوله تعالى: { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } (الرحمن: 26) ويقولون: إنه يبقى في قبره كما كان في الدنيا يتعبد، ومنهم من قال: إنه يأكل ويشرب، ويخرج فيقضي حوائج الذين يتوجهون إليه بالدعاء والاستغاثة، ويتقربون إليه بالنذور والطواف بقبره كالكعبة، وبلمسه وتقبيله كالحجر الأسود (أي يعبدونه من دونه تعالى) ثم يعود إليه فينجحر فيه، وهو في خارجه مالئ للكون كله يتصرف فيه، ويوجد في كل حجر ومدر منه ! ! فما معنى محافظتهم مع هذا على هذا الجسد الذي كانت حياته كلها بالدم النجس عندهم، والذي كان يحمل العذرة كما يقولون في مواعظهم، وعلى هذه الحفرة الصغيرة التي وضع فيها، وقد أعطي هذه الخصائص والكرامات كلها ؟

إنه لا يعجز بعض سدنة بعض هذه القبور المعبودة أن يؤلف لك رسالة أو كتابًا في جواب هذه الأسئلة المفحمة لمن يفقهها من العقلاء وعلماء الكتاب والسنة، فإن الذي يقلد هؤلاء المؤلفين ؛ لأنه يعتقد أنهم كانوا أرقى منه علمًا وعقلاً ودينًا وكرامة لا يتفكر ولا يعقل كما أمره الله ؛ لأن عقله الفطري الخاص معطل لا حكم له ولا يحتاج إلى فهمه وإدراكه ؛ ولأن العقل الكلي العام للمكلفين وهو هدى كتاب الله متوقف عندهم على منصب الاجتهاد وقابل لما لا يعقل من التأويلات، ورحم الله الإمام الشافعي الذي قال: إن الرجل إذا تصوف في أول النهار فلا يأتي المساء إلا وهو مجنون. قال هذا في صوفية عصره وفيهم العلماء الأعلام، فماذا يقول في الأدعياء من مقلدي المتشبهين بالصوفية هبوطًا إلى بضع دركات ؟

نضرب للناس الأمثال العلمية نقرب بها إلى عقولهم أنباء نصوص الوحي في عالم الغيب ؛ ليطمئن قلب المؤمن بإيمانه، ويجد بها المرتاب مخرجًا من ارتيابه، والغارق في بحر الخرافات منجاة من أوهامه، فتأتي هذه الحكايات التصوفية بفتن كقطع الليل المظلم يوسوس شيطانها لمستقلي العقول وحملة برهان العلم: إذا كان الملائكة وهم أقطابُ عالم الغيب المدبرون من وراء الحجب لأمور عالم الشهادة مثل هؤلاء الضعفاء الذين يسمونهم أقطاب البشر أو دونهم قوة وتصرفًا في ملكوت السموات والأرض فأجدر بكم ألا تؤمنوا معهم بأولئك الأقطاب الذين لا تعرفون عالمهم الغيبي، حتى يروكم تصرف هؤلاء الأقطاب الذين تعرفون من عالمهم المادي ما لا يعرفون، وتتصرفون في عناصره ومركباته وقواه بما هو أعظم مما يدعون، ولكن في ضوء سنن الله في الكون وعلى صراط حكمته في نظامه، وبما يظهر لهم ولغيرهم عجائب صنعه وسعة رحمته بعباده، ومن حيث لا يظهر لما يدعون حكمة ولا فائدة، فشعوب المدعين لهذا التصرف من صوفية البوذيين والبراهمة والمسلمين أضعف من جميع شعوبكم، وقد أصبحوا كلهم عبيدًا لدولكم المنتفعة بتصرفكم، فهل تتبعون عبيدكم في دينهم لتصيروا مثلهم ؟

قلنا مرارًا في المنار وفي تفسيره: إن الصور التي يتشكل فيها الملك أو الجني قد تكون من الأثير الذي ينفذ من الأجسام الكثيفة، وإن مثل الملائكة فيما صرفها الله تعالى فيه كمثل هذه الكهرباء في قوتها وسرعتها وتأثيرها في مادة العالم وهذا المثل يقرب من عقولنا تصرف الملك في تحليل مادة الكون وتركيبها كما فصلناه في محله، ويقرب من عقولنا إمكان قبضه لما لا يحصى من الأرواح في وقت واحد، فهو كما يطفئ الرجل ألوفًا من المصابيح الكهربائية وينيرها في لحظة واحدة وهو في مكانه بعيدًا عنها، وقد غمز أحدهم زرًّا في أوربة فتحركت به ألوف من الآلات في أوسترالية، فليفعل لنا هؤلاء الأولياء مثل هذا في تصرفهم الروحاني في الكون لعلهم يؤمنون بالله فيتبعوننا أو ينتقم الله لنا منهم بتصرف غيبي، أقوى من تصرفهم المادي، قبل أن يفتنوا جميع حكامنا وكبرائنا بعلومهم عن ديننا فلا يبقى من المنتمين له أحد إلا هؤلاء العوام الجاهلون، الذي يصدقونهم فيما
يزعمون.

هذا وإننا قرأنا في صحفنا من أخبار الهند في هذه الأيام عن لاما التبت (كاهنها البوذي الأكبر) الذي مات من عهد قريب وغيره عجائب وخوارق منها الحياة بعد الموت والمشي في الهواء، والماديون كالروحيين من الإفرنج يثبتون هذه الأخبار لصوفية الهند وكهنتهم ؛ لأنهم رأوا بأعينهم ولم يروا من صوفية المسلمين شيئًا مثلها أو يقرب منها، فإلى متى يحسب الجاهلون الغافلون من قراء هذا الكتاب للسيوطي وما هو شر منه للشعراني وغيره أن ما فيها من هذه الحكايات من حجج الإسلام ودلائل حقيقته، وإذا لم تكن كذلك فماذا كان من نفعها وفائدة تدوينها إلا الفتنة في الدين وعبادة غير الله تعالى.

(51) أي كتب السيوطي خير:

كان الجلال السيوطي رحمه الله تعالى واسع الاطلاع على كتب السنة والآثار وعلماء القرون التي قبله والتي ألفت في عصره، كثير العناية بالنقل والجمع من قديمها وحديثها، وسمينها وغثها بدون تحقيق كما هو الغالب فيمن تتوجه قواه إلى شيء واحد هو مستعد له بمقتضى المزاج والوراثة وتركيب الدماغ، وكان شغوفًا بتقوية ما ضعَّفه العلماء من قبل حتى المحدثين منهم مما يوافق بيئة عصره، وما يعبر عنه في عرف زماننا بالرأي العام، ومنه المبالغة في الإطراء والمناقب، والخوارق والعجائب وأحسن كتبه ما ينقله عن المتقدمين، وأضرها ما يجمع به الأمشاج عن المتأخرين والمعاصرين، وخير كتبه لا يستغني عن تنقيح أو (خدمة) كما يقول الأزهريون في الكتب غير المشروحة ولا المحشية، فمنها الدر المنثور حشاه بالروايات الإسرائيلية والأحاديث المنكرة وكذا الموضوعة، وهو لا يستغنى عنه، لو وجد محدث يخرِّج رواياته ويبين ما يصح منها وما لم يصح، ومن كتبه النافعة الإتقان والجامعان الكبير والصغير ويحتاجان إلى تحقيق ما يصح من أحاديثهما وما لا يصح أيضًا، ومنها في اللغة المزهر والأشباه والنظائر النحوية، وقد بالغ الحافظ السخاوي في نقده والطعن فيه فيحتاج كلامه فيه إلى وزن وحكم عادل.

وجملة القول فيه أنه خدم العلم خدمة كبيرة بقدر طاقته، فجزاه خيرًا على ما أحسن فيه وأصاب، وعفا عنه وغفر له ما أخطأ فيه بحسن نية، وجعلنا في كتبه وغيرها ممن قال فيهم: { فَبِشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ } (الزمر: 17-18).

__________
(1) مثاله أن ورود الأصابع في الحديث لا يفهم منه الناس إلا كما يستعملونه حتى اليوم في التصرف الدقيق الخفي، وحديث (لا تزال جهنم تقول: هل من مزيد حتى يضع رب العزة فيها قدمه فتقول قط قط) الحديث وفي رواية (يضع عليها قدمه) يفهمون منه أنه يقرها بعزته فهو من باب قوله صلى الله عليه وسلم في دماء الجاهلية ورباها (تحت قدمي) ويقاس على هذا غيره وهو ليس بإخراج عن ظاهره، بل هو على ظاهره ولكن بدون بحث في كنهه وكيفيته.
(2) يجوز في مثل الدعاوى والفتاوى فتح الواو وكسرها واختلف أيهما أفصح وفي الحديث (لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء رجال وأموالهم) إلخ وهو متفق عليه.



المنار، المجلد 33، عدد ذو القعدة - 1352هـ الموافق فبراير - 1933م

أبو محمد القلموني
13-11-2007, 01:59 AM
جزاكم الله خيرا أخي أبا الحسن على هذا النقل الماتع الذي أفدتمونا به أيما فائدة. وهو جلي في كون الشيخ على طريقة غير التي قد يتوهمها الكثيرون فيتسرعون في إلحاقه بمن تتلمذ على أيديهم و أخذ عنهم.

وفي النقل أيضا ما يدلل على أن الشيخ كان معتدلا في الجرح و التعديل سالكا فيه سبيل الأولين مقتديا بأمثال الذهبي وغيره من أئمة العدل و الإنصاف. فإن الذهبي لما ترجم للجاحظ قال فيه كلاما قد لا يقوله الكثيرون ! فمع أنه ذكر فيه مجونا و قلة في الدين إلا أنه أنصفه فقال فيه : العلامة المتبحر، ذو الفنون ... صالحب التصانيف ... و كان أحد الأذكياء ... كان من بحور العلم و تصانيفه كثيرة جدا ... وكان باقعة في قوة الحفظ ...
فعلى هذا جرى الشيخ رشيد رضا القلموني رحمه الله حين أنصف السبكي رحمه الله بما أنصفه به.

أبو حسن
14-11-2007, 10:43 AM
(س1) من الشيخ محمد عريقات، وإمام مسجد عز الدين في (برنبال) غربية.

حضرة صاحب الفضيلة مولانا رشيد الأمة، ومرشدها الأوحد:

أعرض على فضيلتكم مسألةً علميةً أرجو التكرم بإفادتي بالقول الفصل فيها، ولكم جزيل الثواب. وهي مسألة المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط، وعبر باللفظ محمد عليه السلام، أو جبريل، كما ذكره الباجوري على الجوهرة عند قول الناظم (ونزه القرآن، أي: كلامه إلخ) مع ترجيحه للقول الأول الذي هو اللفظ والمعنى معبرًا عنه بالراجح، مع أنهم ذكروا في الأصول من شروط الترجيح التساوي في القوة، فلا ترجيح بين القطعي والظني، بل يقدم القطعي اتفاقًا، والمتبادر لي أن من المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله حقيقةً، وأنه المعجز الأكبر المتحدى به حقيقةً، كما لا يخفى هذا، ونصوص القرآن والسنة الناطقة بنزول القرآن بلفظه ومعناه كثيرة جدًّا لا تخفى على فضيلتكم، كقوله - تعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِياًّ لَّقَالُوا} (فصلت: 44) إلخ، وقوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ} (يوسف: 2) ومثلها كثير في القرآن، وقوله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} (القيامة: 16) إلخ، وقوله: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} (المزمل: 5) إلخ، وقوله: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ} (الزمر: 23) وقوله: {إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ البَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} (المدثر: 25-26) إلخ، وقوله: {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ} (مريم: 97) إلخ، وقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً} (الإسراء: 106) وقوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} (النحل: 101) وقوله: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} (الشعراء: 192-195) ثم قال بعدها: {وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ} (الشعراء: 198-199) إلخ، وقوله: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} ( الطارق: 13-14)، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الزخرف: 3-4) وتتبع الآيات يطول ذكره، ولا يخفى على فضيلتكم.

ومن السنة حديث متواتر ألا وهو قوله عليه السلام: (أنزل القرآن على سبعة أحرف) فهل يعد ذلك القول بالقول الثاني والثالث كفرًا، كما هو ظني، أم لا ؟ وهل القول بهما الآن يعد كفرًا قطعًا، كما هو اعتقادي، أم لا ؟ أرجو التكرم بالقول الشافي، والجواب الكافي بالمنار الأغر في أقرب فرصة لا برحتم ملجأ للسائلين ونورًا مبينًا للمستضيئين، آمين.

(المنار)
ورد هذا السؤال منذ سنة ونصف، وطال الأمد على نشره والجواب عنه فأعاده صاحبه بالعبارة الآتية في أوائل هذا العام إذ كنا في سورية، وهذا نصه:

فضيلة إمام العصر الوحيد، مولانا الأستاذ السيد محمد رشيد، نفع الله به الأمة، وكشف به كل غمة، آمين.

هل القرآن كلام الله، أو كلام محمد، أو كلام جبريل ؟ وإذا كان المقطوع به المعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله - تعالى - فما الداعي للخلاف الذي ذكره السيوطي في الإتقان بأن المنزل من القرآن هو اللفظ والمعنى، أو المعنى فقط وعبر عنه محمد عليه السلام باللفظ العربي، أو المعنى فقط أيضًا، وعبر عنه جبريل باللفظ العربي، وكذا ذكره الباجوري على الجوهرة مرجحًا الأول، والأمير على الجوهرة أيضًا، والخضري في مقدمة التفسير، والآلوسي في تفسير {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ} (الشعراء: 193-194) الآية، فهل هذا الخلاف له أصل مقبول معقول منقول، أو أنه مدسوس على أهل الملة ؟ وكيف يكون له أصل مع أن اعتقاد ظاهره كفر ؟ هذه مسألة من أهم أصول الدين، ولا تقليد في الأصول فما بقي إلا أن تقوموا بتحقيق الحق وإزالة حجب الحيرة عنه، وتتكرموا بإفادتنا بالمنار أو بالبريد، ولكم الشكر، لا برحتم عضد الحق، ونوال السائلين، آمين.

أبو حسن
14-11-2007, 10:45 AM
(ج)

إن الذي ندين الله - تعالى - به عن علم يقيني راسخ هو أن هذا القرآن العربي المكتوب في المصاحف، المقروء بالألسنة باللغة العربية هو كلام الله - تعالى - المعجز للبشر ولغير البشر من الخلق، وأنه ليس لجبريل روح القدس منه إلا تبليغه عن الله - عز وجل - لخاتم الرسل عليه الصلاة والسلام كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له منه إلا تبليغه عن الله - تعالى - لمن أرسل إليهم، فجبريل عليه السلام تلقاه من الله - عز وجل - بالصفة التي تليق به - تعالى - ولا يعلمها من خلقه إلا جبريل، ومحمد صلى الله عليه وسلم تلقاه من جبريل بالوحي الذي لا يعرف كنهه إلا الرسل الذين تلقوا مثله عن جبريل، والصحابة سمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما سمعه منهم التابعون، ومن تبعهم إلى عصرنا هذا، وكما يسمعه بعضنا من بعض بأصواتنا البشرية لا فرق بين قراءتنا له وقراءة من قبلنا إلا بما نعلمه من التفاوت في التجويد وحسن الأداء.

وإنه ليعسر تعريف الكلام بحد جامع مانع تعرف به حقيقته منه كما يعسر تحديد مثله من الحقائق المعلومة بالضرورة، ومما يحسن أن يقال في تعريفه في الجملة أنه صفة من صفات العالِم، وشأن من شؤونه يتمثل به علمه في نفسه، وفي الخارج، وما يتمثل به العلم في الخارج من الكلام يصل به إلى غير صاحبه فيعلم به من يصل إليه من علم ذي الكلام ما تمثل له بصوت وحرف، أو بكتابة ورسم، أو بغير ذلك، فالإنسان منا يتكلم في نفسه فيهيئ فيها ما يريد أن يقوله لزيد أو عمرو، وينظم الشعر، ثم ينطق به، أو يكتبه، ثم يقرأه، وربما كتب شيئًا، ولم يقرأه، وإذا نطق بالكلام المتمثل في نفسه رسم نطقه في الهواء بصورة أو صفة غير التي يرسم بها في الصحف، فمن سمعه أدرك بسمعه مما رسم في الهواء عين ما هو مرسوم في لوح نفسه بصورة أخرى، وكذلك من رآه في الصحيفة يدرك مما رسم فيها غيره ما قام بنفس المتكلم، وتمثل فيها من ذلك.

وقد اخترع البشر في العصر الأخير وسائل لأداء الكلام وتبليغه لم يكن يعرفها ولا يعقلها أهل العصور السابقة، كالتلغراف السلكي، والتلغراف الهوائي، أو اللاسلكي، وكل منهما مظهر من مظاهر الكلام النفسي ووسائل أدائه، ويسمى كلامًا حقيقيًّا لا مجازيًّا، وينسب كل كلام إلى من صدر عنه، وكان مجلى كلامه النفسي، فالجملة من كلام زيد من الناس يتناقلها الناس بألسنتهم وأقلامهم، وبآلات التلغراف والتلفون، وكل منهم يقول: إنها كلام زيد، فالكلام ما يتمثل به علم العالِم لنفسه أو لغيره، واختلاف صفة التمثيل للنفس ولغير النفس لا تمنع إطلاق اسم الكلام على كل منهما حقيقةً، فمن يرى في القرطاس:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل...
يقول: إن هذا كلام امرئ القيس، ومن يسمع ذلك من لسان أي إنسان يقول ذلك، ولم يقل أحد من العرب في هذا القول الذي كتب وعلق على الكعبة، ثم كتب في الصحف وقرأه الناس: إن لفظه المرسوم في الصحيفة هو كلام الراسم، وإن الذي أنشد على الناس منه هو كلام المنشد، وإن معناه لامرئ القيس فقط، أو إن ما تمثل من هذا النظم في نفس امرئ القيس هو شعره، وما نقرأه في الكتب أو من حفظنا لمعلقته هو كلامنا، ولا إن هذا كلامه مجازًا، وذلك كلامه حقيقةً، بل أجمعوا على أن هذه القصيدة كلامه، وأنه ليس لرواتها بالقول والكتابة حظ منها إلا النقل لكلام غيرهم.

وإذا قدر البشر على تمثيل كلامهم النفسي بعدة مظاهر لا يختلف مدلولها عن مدلول ما في أنفسهم، فالله - تعالى - أقدر منهم على إبلاغ كلامه النفسي لرسله من الملائكة والناس بما يليق باستعداد كل منهم، فلا غرو من أن يكون لوحيه للملائكة صفة غير صفة وحيه للرسل من البشر فيما يكلمهم به بغير واسطة المَلَك، وأن يكون لما يسمعه النبي من الملك صفة غير صفة ما يسمعه الملك من الرب - سبحانه وتعالى - ولكن الكلام واحد في جميع مظاهره لا يختلف باختلاف طرق أدائه وتبليغه، كما نعرفه في الكلام المسموع بالآذان، والمقروء في الصحف، والمأخوذ من آلة التلغراف السلكي أو الهوائي، ومثله المرسوم في الهواء، أو ما تكيف به الهواء، وبهذا المثال يظهر للمتأمل أن تجلي كلام الله - تعالى – في الألسنة والصحف والهواء وآلات التلغراف، وفي اللوح المحفوظ، وفي أنفس الملائكة والبشر - لا يخرجه عن كونه كلامه - تعالى - ولا يقتضي أن تكون صفة الكلام النفسية له - تبارك وتعالى - مشابهةً لصفة الكلام في أنفس البشر، أو غيرهم من خلقه - تعالى - ولا أن يكون تكليمه للملائكة ولموسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، كتكليم بعضنا لبعض، ولكن مؤداه واحد، فالذي نقرأه أو نكتبه في المصاحف هو عين ما نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم فتلقاه عنه بهذه اللغة العربية وهذا الأسلوب المعجز الذي يعجز عليه الصلاة والسلام كغيره من البشر عن مثله بمقتضى ملكته العربية، ولذلك نرى أسلوبه غير أسلوب الحديث، ونظمه غير نظمه، بل يكثر في الحديث من الألفاظ المترادفة، والصيغ المفردة غير ما في القرآن كلفظ (عرفة) وهو لم يذكر في القرآن إلا بلفظ (عرفات) ولفظ الصوم، وإنما ذكر في القرآن لفظ (الصيام).

ولو كان ما تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم من كلام الله - تعالى - هو معاني القرآن دون عبارته، لكان القرآن كلامه صلى الله - تعالى - عليه وآله وسلم، لا كلام الله تعالى ؛ لأن الكلام هو العبارة التي تتجلى فيها المعاني من علم المتكلم، ومن أخذ عن غيره علمًا من العلوم ففهم منه القواعد والمسائل، ثم كتب في ذلك كتابًا، فإن ما في الكتاب من الكلام ينسب إلى كاتبه، لا إلى أستاذه الذي تلقى عنه تلك المعاني التي دونها في كتابه، والقرآن كلام الله - تعالى - نسب إليه في آيات كثيرة، كقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} (التوبة: 6) وفي أحاديث متعددة، وأجمع على ذلك المسلمون، وإنما اختلف المتكلمون منهم في نظريات فلسفية في تعريف الكلام النفسي واللفظي، وفي كونه من الصفات التي تقوم بذات الله - تعالى - أو التي لا تقوم بها. تولَّدَ منها شبهات يصادم بعضها بعضًا، وكل ما خالف منها ما فهمه جمهور السلف الصالح من نصوص الكتاب والسنة فهو مردود على أهله بالنقل القطعي الذي لا مصادم له من البرهان العقلي.

وأول من أحدث هذه النظريات في الإسلام الجعد بن درهم و جهم بن صفوان، ونصرت المعتزلة نظريات جهم، وانخدع ببعضها كثير من أهل السنة، وكان الإمام أبو الحسن الأشعري من نظار المعتزلة، ثم رجع إلى مذهب أهل السنة، ولكنه لم يترك نظرياتهم المخالفة للسلف كلها دفعةً واحدةً، ومذهبه في مسألة الكلام الإلهي لم يكن عين مذهب السلف ولا غيره من مذهب المعتزلة والجهمية، وقد تبعه فيها كثير من كبار النظار، كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وأشهر المصنفين في الكلام من أتباعه، وله عبارة في ذلك اتخذوها أصلاً وفرعوا عليها ؛ لذلك صار ينقلها علماء العقائد والمفسرون وشراح الأحاديث في كتبهم، ولا شك في كون بعض تلك البدع تعد خروجًا من الملة، وكون بعضها يستلزم ذلك، ولكن التحقيق عند علماء الأصول والكلام أن لازم المذهب ليس بمذهب، وأن أكثر أصحاب تلك النظريات المخالفة لظواهر نصوص الكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح - لم يقولوا بها إلا عن شبهات عرضت لهم أو لغيرهم من المنكرين للإسلام فأرادوا أن يقيموا حجة الإسلام بما قالوه بحسب اجتهادهم، مع إذعانهم لأحكامه وعملهم به، فكيف يقدم أحد على تكفيرهم مع ذلك.

أبو حسن
14-11-2007, 10:48 AM
وقد رجع أشهر محققي المتكلمين من الأشاعرة في مسألة الكلام والقرآن والصفات إلى مذهب السلف في أواخر أعمارهم، ومنهم من أرجع كلام مخالفي السلف من أئمتهم إلى وفاق، وإليك ما قاله في مسألة الكلام علاّمتهم (العضد) صاحب كتاب الموافقات الشهير، ونقله عنه في شرحه له السيد الجرجاني قال: (واعلم أن للمصنف مقالةً مفردةً في تحقيق كلام الله - تعالى - على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب، ومحصولها أن لفظ المعنى يطلق تارةً على مدلول اللفظ، وأخرى على الأمر القائم بالغير، فالشيخ الأشعري لما قال: الكلام هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده: مدلول اللفظ وحده، وهو القديم عنده، وأما العبارات فإنما تسمى كلامًا مجازًا ؛ لدلالتها على ما هو كلام حقيقي، حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه أيضًا، لكنها ليست كلامه حقيقةً، وهذا الذي فهموه من كلام الشيخ له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم إكفار من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف، مع أنه علم من الدين ضرورة كونه كلام الله- تعالى - حقيقةً، وكعدم المعارضة والتحدي بكلام الله الحقيقي، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه حقيقةً، إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطن في الأحكام الدينية، فوجب حمل كلام الشيخ على أنه أراد به المعنى الثاني فيكون الكلام النفسي عنده أمرًا شاملاً للفظ والمعنى جميعًا قائمًا بذات الله - تعالى - وهو مكتوب في المصاحف، مقروء بالألسن، محفوظ في الصدور، وهو غير الكتابة والقراءة والحفظ الحادثة، وما يقال من أن الحروف والألفاظ مترتبة متعاقبة، فجوابه أن ذلك الترتب إنما هو في التلفظ بسبب عدم مساعدة الآلة، فالتلفظ حادث، والأدلة الدالة على الحدوث يجب حملها على حدوث اللفظ دون حدوث الملفوظ جمعًا بين الأدلة، وهذا الذي ذكرناه، وإن كان مخالفًا لما عليه متأخرو أصحابنا، إلا أنه بعد التأمل تعرف حقيقته. تم كلامه).

(قال السيد) : (وهذا المحمل لكلام الشيخ (أي الأشعري) مما اختاره الشيخ محمد الشهرستاني في كتابه المسمى بنهاية الإقدام، ولا شبهة في أنه أقرب إلى الأحكام الظاهرية المنسوبة إلى قواعد الملة) اهـ، فالسيد الجرجاني قد ارتضاه أيضًا.

وقول السيد في مقدمة العبارة (على وفق ما أشار إليه في خطبة الكتاب) يعني به قول صاحب المواقف في الكلام على رسالة النبي صلى الله عليه وسلم من الخطبة ما نصه: (وأنزل معه كتابًا عربيًّا مبينًا، فأكمل لعباده دينهم، وأتم عليهم نعمته، ورضي لهم الإسلام دينًا، كتابًا كريمًا، وقرآنًا قديمًا، ذا غايات ومواقف، محفوظًَا في القلوب، مقروءًا بالألسن، مكتوبًا في المصاحف، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا يتطرق إليه نسخ، ولا تحريف في أصله أو وصفه).

قال السيد الشارح في شرح ما قبل الجملتين الأخيرتين من هذه الأوصاف والنعوت: (وصف القرآن بالقدم، ثم صرح بما يدل على أنه هذه العبارة المنظومة، كما هو مذهب السلف حيث قال: إن الحفظ والقراءة والكتابة حادثة لكن متعلقها - أعني المحفوظ والمقروء والمكتوب - قديم، وما يتوهم من أن ترتب الكلمات والحروف وعروض الانتهاء والوقوف مما يدل على الحدوث، فباطل ؛ لأن ذلك لقصور في آلات القراءة، وأما ما اشتهر عن الشيخ أبي الحسن الأشعري من أن القديم معنى قائم بذاته قد عبر عنه بهذه العبارات الحادثة، فقد قيل: إنه غلط من الناقل منشأه اشتراك لفظ (المعنى) بين ما يقابل اللفظ وبين ما يقوم بغيره، وسيزداد ذلك وضوحًا فيما بعد إن شاء الله تعالى) اهـ.

ونقول: إذا كان ما ذكره (العلامة العضد) ووافقه عليه (السيد السند) هو مراد الشيخ الأشعري من عبارته المشهورة - التي لا يبعد ظاهرها الذي تمسك به جمهور أتباعه عن نظريات أصحابه القدماء من المعتزلة وغيرهم - فبها ونعمت، وإلا فهي مردودة عليه، وعلى كل من خالف السلف الصالح من أتباعه وغيرهم عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ولا يغترن أحد بتلك النظريات التي بنى عليها الجهمية والمعتزلة، وبعض الأشاعرة والكلابية وغيرهم أقوالهم في الكلام النفسي واللفظي، وجعل بعضه حقيقيًّا وبعضه مجازيًّا، ووصف بعضه بالقديم، وبعضه بالحادث، أو تسميته مخلوقًا، فكل ذلك مبني على الهرب من وصف الخالق بصفات المخلوقين لئلا يكونوا مشبهين له بخلقه، ومذهب السلف مبني على وصفه - تعالى - بكل ما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، وإسناد ما أسنده إليه كلامه وكلام رسوله مع الجزم بالتنزيه، وكونه ليس كمثله شيء، كما نزه نفسه وقامت البراهين العقلية على تنزيهه، ولا تنافي بين الأمرين ولا تناقض، على أن الأشاعرة قد أجمعوا بعد تفلسف بعضهم في الكلام النفسي واللفظي بما تفلسفوا به عن ما هو معلوم من الدين بالضرورة من أن ما بين دفتي المصحف كلام الله - تعالى - حقيقةً، ليس للنبي صلى الله عليه وسلم فيه كسب، وإنما هو مبلغ له عن ربه - عز وجل - كما أمره بقوله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (المائدة: 67).

وجملة القول أن ما نزل به الروح الأمين من كلام الله - تعالى - على قلب محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا القرآن العربي ذو الأسلوب الذي علا جميع أساليب العرب، فبلغه صلى الله عليه وسلم كما تلقاه ووعاه بدون أدنى تصرف فيه، ولو تصرف فيه أدنى تصرف لذكر مضمون الأمر دون التلفظ بفعل الأمر الذي خوطب به في مثل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الكهف: 110) وقوله عز وجل: {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا} (النمل: 91) فلم يذكر لفظ (قل) في مثل هذه الآيات وهو كثير، ولو تصرف فيه أدنى تصرف لما ذكر في أثناء بعض السور ما ألقي إليه على طريقة الاستطراد الذي اقتضته الحال في وقت تبليغ السورة فكان كالأجنبي منها، كقوله - تعالى - في سورة القيامة في سياق الكلام عن حال الإنسان وشأنه في القيامة: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16-19) فهذه الآيات أجنبية عما قبلها وعما بعدها خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم في أثناء وحي السورة إليه ؛ لأنه أنشأ يقرأ بلسانه ما كان يلقى إليه قبل أن يتم وحيه خوفًا أن ينسى شيئًا منه، فخوطب بهذه الآيات على طريقة الالتفات والاستطراد ليطمئن ويعلم أن الله - تعالى - عصمه من نسيان شيء من القرآن، وهو في معنى قوله - تعالى - في سورة طه: {وَلاَ تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} (طه: 114) ولو كان الذي ألقي إليه المعنى دون العبارة لكان تدبره وإطالة الفكر فيه مع السكوت هو الذي يثبته في ذهنه بحسب العادة، لا تحريك اللسان بالعبارة المكتسبة التي يؤديه هو بها، فتحريك لسانه قبل نهي الله - تعالى - إياه عنه دليل على أنه كان يُلقى إليه المعنى في العبارة المخصوصة، فحرك لسانه بقراءة العبارة لئلا ينسى شيئًا منها، فنهاه - تعالى - عن ذلك، وأخبره أنه ضمن له العصمة من ضياع شيء منه.

وقد صح في التفسير المأثور أن المراد بقوله - تعالى -: (قرآنه) : مصدر قرأ، أي: قراءته أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وغيرهم عن ابن عباس في تفسير الآية، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدةً، وكان يحرك به لسانه وشفتيه مخافة أن يتفلت منه، يريد أن يحفظه فأنزل الله: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} (القيامة: 16-17) قال: يقول: إن علينا أن نجمعه في صدرك، ثم تقرؤه {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ} (القيامة: 18) يقول: إذا أنزلناه عليك {فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} (القيامة: 18) : فاسمع له، وأنصت {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 19) : أن نبينه بلسانك، وفي لفظ: علينا أن تقرأه، فكان رسول الله بعد ذلك إذا أتاه جبريل أطرق - وفي لفظ استمع - فإذا ذهب قرأ، كما وعده الله عز وجل، وفي رواية: قرأ كما أقرأه، ولو لم يرد في المسألة إلا هذه الآية وتفسيرها المأثور في الصحيح لكفى بها إثباتًا لكون النبي صلى الله عليه وسلم ليس له من عبارة القرآن إلا حفظها، كما أوحيت إليه وتبليغها، كما حفظها معصومًا من الخطأ والنسيان فيها، فكيف والآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة، ومنها ما ذكره السائل في سؤاله الأول. وإننا لا نرى فائدة ما في شرح تلك النظريات والشبهات الباطلة التي ترتب عليها ذلك القول الباطل الذي جزم السائل بكونه كفرًا، ولكننا نذكر السائل والقارئ بأن أهل الحق يتحامون التكفير ما أمكن، ويشترطون في تكفير المخالف للنصوص أن لا يكون مجتهدًا متأولاً، وإننا ننقل هنا نبذةً نافعةً في هذه المسألة من كتاب (موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول) لشيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، قال في أثناء شرح مسألة الكلام الإلهي وأقوال الفرق فيها، وعبارة الأشعري التي تقدم تأويل صاحب المواقف لها، ونصر القاضي أبي بكر الباقلاني الشهير له فيما فهمه هو والجمهور منها، ما نصه:

أبو حسن
14-11-2007, 10:51 AM
(وقال الشيخ أبو الحسن محمد بن عبد الملك الكرخي الشافعي في كتابه الذي سماه (الفصول في الأصول عن الأئمة الفحول) وذكر اثني عشر إمامًا، الشافعي ومالك، والثوري، وأحمد، وابن عيينة، وابن المبارك، والأوزاعي، والليث بن سعد، وإسحاق بن راهويه، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم قال فيه: سمعت الإمام أبا منصور محمد بن أحمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر عبد الله بن أحمد يقول: سمعت الشيخ أبا حامد الإسفرايني يقول: مذهبي ومذهب الشافعي وفقهاء الأمصار أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، والقرآن حمله جبريل مسموعًا من الله - تعالى - والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه من جبريل، والصحابة سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي نتلوه نحن بألسنتنا، وفيما بين الدفتين، وما في صدورنا مسموعًا ومكتوبًا ومحفوظًا ومنقوشًا، وكل حرف منه كالباء والتاء كله كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، عليه لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

قال الشيخ أبو الحسن: وكان الشيخ أبو حامد (أي: الإسفرايني) شديد الإنكار على الباقلاني وأصحاب الكلام قال: ولم تزل الأئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن يُنسبوا إلى الأشعري، ويتبرأون مما بنى الأشعري مذهبه عليه، وينهون أصحابهم وأحبابهم عن الحَوْم حواليه، على ما سمعت (من) عدة من المشايخ والأئمة منهم الحافظ المؤتمن ابن أحمد بن علي الساجي، يقول: سمعنا جماعةً من المشايخ الثقات قالوا: كان الشيخ أبو حامد أحمد بن أبي طاهر الإسفرايني إمام الأئمة الذي طبق الأرض علمًا وأصحابًا إذا سعى إلى الجمعة من قطيعته إلى جامع المنصور يدخل الرباط المعروف بالزوري المحاذي للجامع، ويقبل على من حضر ويقول: اشهدوا علي بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، كما قال ابن حنبل لا كما يقوله الباقلاني، وتكرر ذلك منه جُمُعًا، فقيل له في ذلك فقال: حتى ينتشر في الناس وفي أهل الصلاح، ويشيع الخبر في أهل البلاد أنني بريء مما هم عليه، يعني: الأشعرية، وبريء من مذهب أبي بكر الباقلاني ؛ فإن جماعةً من المتفقهة الغرباء يدخلون على الباقلاني خفيةً ويقرءون عليه فيفتنون بمذهبه فإذا رجعوا إلى بلادهم أظهروا بدعته لا محالة فيظن ظان أنهم مني تعلموه، وأنا ما قلته، وأنا بريء من مذهب الباقلاني وعقيدته.

قال الشيخ أبو الحسن: وسمعت شيخي الإمام أبا منصور الفقيه الأصبهاني يقول: سمعت شيخنا الإمام أبا بكر الزاذقاني يقول: كنت في درس الشيخ أبي حامد الإسفراييني، وكان ينهى أصحابه عن الكلام، وعن الدخول على الباقلاني فبلغه أن نفرًا من أصحابه يدخلون عليه خفيةً لقراءة الكلام، فظن أني معهم ومنهم، وذكر قصةً قال في آخرها: إن الشيخ أبا حامد قال لي: يا بني قد بلغني أنك تدخل على هذا الرجل - يعني: الباقلاني - فإياك وإياه فإنه مبتدع يدعو الناس إلى الضلالة، وإلا فلا تحضر مجلسي، فقلت: أنا عائذ بالله مما قيل وتائب إليه، واشهدوا علي أني لا أدخل إليه. قال أبو الحسن: وسمعت الفقيه الإمام أبا منصور سعد بن علي العجلي يقول: سمعت عدةً من المشايخ والأئمة ببغداد - أظن الشيخ أبا إسحاق الشيرازي أحدهم - قالوا: كان أبو بكر الباقلاني يخرج إلى الحمام متبرقعًا خوفًا من الشيخ أبي حامد الإسفراييني، قال أبو الحسن: ومعروف شدة الشيخ أبي حامد على أهل الكلام حتى ميز أصول فقه الشافعي من أصول فقه الأشعري، وعلقه عنه أبو بكر الزاذقاني، وهو عندي، وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق في كتابه (اللمع والتبصرة) حتى لو وافق قول الأشعري وجهًا لأصحابنا ميزه، وقال: هو قول بعض أصحابنا وبه قالت الأشعرية، ولم يعدهم من أصحاب الشافعي، استنكفوا منهم ومن مذهبهم في أصول الفقه فضلاً عن أصول الدين.

(قلت[أي ابن تيمية]) : هذا المنقول عن الشيخ أبي حامد وأمثاله من أئمة أصحاب الشافعي أصحاب الوجوه، معروف في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وغيرها، وقد ذكر ذلك الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وأبو إسحاق الشيرازي، وغير واحد بينوا مخالفة الشافعي وغيره من الأئمة لقول ابن كلاب والأشعري في مسألة الكلام التي امتاز بها ابن كلاب والأشعري عن غيرهما، وإلا فسائر المسائل ليس لابن كلاب والأشعري بها اختصاص، بل ما قالاه قاله غيرهما إما من أهل السنة وإما من غيرهم، بخلاف ما قاله ابن كلاب في مسألة الكلام، واتبعه عليه الأشعري فإنه لم يسبق ابن كلاب إلى ذلك أحد، ولا وافقه عليه أحد من رؤوس الطوائف، وأصله في ذلك هي مسألة الصفات الاختيارية ونحوها من الأمور المتعلقة بمشيئته وقدرته هل تقوم بذاته أم لا، وكان السلف والأئمة يثبتون ما يقوم بذاته من الصفات والأفعال مطلقًا، والجهمية من المعتزلة وغيرهم تنكر ذلك مطلقًا، فوافق ابن كلاب السلف والأئمة في إثبات الصفات، ووافق الجهمية في نفي قيام الأفعال به وما يتعلق بمشيئته وقدرته، ولهذا وغيره تكلم الناس فيمن اتبعه كالقلانسي والأشعري ونحوهما بأن في أقوالهم بقايا من الاعتزال، وهذه البقايا أصلها هو الاستدلال على حدوث العالم بطريقة الحركات، فإن هذا الأصل هو الذي أوقع المعتزلة في نفي الصفات والأفعال، وقد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر بباب الأبواب أنه طريق مبتدع في دين الرسل، محرم عندهم، وكذلك غير الأشعري كالخطابي وأمثاله، يذكرون ذلك لكن مع هذا قد وافق ابن كلاب فيما يضاهيه. وهذا الذي نقلوه من إنكار أبي حامد وغيره على القاضي أبي بكر بن الباقلاني هو بسبب هذا الأصل، وجرى له بسبب ذلك أمور أخرى، وقام عليه الشيخ أبو حامد، والشيخ أبو عبد الله بن حامد وغيرهما من العلماء من أهل العراق وخراسان والشام، وأهل الحجاز ومصر مع ما كان فيه من الفضائل العظيمة والمحاسن الكثيرة، والرد على الزنادقة، والملحدين، وأهل البدع حتى إنه لم يكن في المنتسبين إلى ابن كلاب والأشعري أجل منه ولا أحسن تصنيفًا، وبسببه انتشر هذا القول، وكان منتسبًا إلى الإمام أحمد وأهل السنة حتى كان يكتب في بعض أجوبته محمد بن الطيب الحنبلي، وكان بينه وبين أبي الحسن التميمي وأهل بيته من التميميين من الموالاة والمصافاة ما هو معروف، كما تقدم ذكر ذلك، ولهذا غلب على التميميين موافقته في أصوله، ولما صنف أبو بكر البيهقي كتابه في مناقب الإمام أحمد، وأبو بكر البيهقي موافق لابن الباقلاني في أصوله ذكر أبو بكر اعتقاد أحمد الذي صنفه أبو الفضل عبد الواحد بن أبي الحسن التميمي، وهو مشابه لأصول القاضي أبي بكر، وقد حكى عنه أنه كان إذا درس مسألة الكلام على أصول ابن كلاب والأشعري يقول: هذا الذي ذكره أبو الحسن أشرحه لكم، وأنا لم تتبين لي هذه المسألة، فكان يحكي عنه بالوقف فيها إذ له في عدة من المسائل قولان وأكثر، كما تنطق بذلك كتبه، ومع هذا تكلم فيه أهل العلم، وفي طريقته التي أصلها هذه المسألة بما يطول وصفه كما تكلم من قبل هؤلاء في ابن كلاب ومن وافقه حتى ذكر أبو إسماعيل الأنصاري قال: سمعت أحمد بن أبي رافع وخَلْقًا يذكرون شدة أبي حامد - يعني: الإسفراييني - على ابن الباقلاني قال: وأنا بلغت رسالة أبي سعد إلى ابنه سلام ببغداد: إن كنت تريد أن ترجع إلى هراة فلا تقرب الباقلاني، قال: وسمعت الحسين بن أبي أمامة المالكي يقول: سمعت أبي يقول: لعن الله أبا ذر، فإنه أول من حمل الكلام إلى الحرم، وأول من بثه في المغاربة.

أبو حسن
14-11-2007, 10:52 AM
قال ابن تيمية: (قلت) : أبو ذر فيه من العلم والدين والمعرفة بالحديث والسنة وانتصابه لرواية البخاري عن شيوخه الثلاثة، وغير ذلك من المحاسن والفضائل ما هو معروف به، وكان قد قدم إلى بغداد من هراة فأخذ طريقة ابن الباقلاني وحملها إلى الحرم فتكلم فيه وفي طريقته من تكلم، كأبي نصر السجزي وأبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، وأمثالهما من أكابر أهل العلم والدين بما ليس هذا موضعه، وهو ممن يرجح طريقة الثقفي والضبعي على طريقة ابن خزيمة وأمثاله من أهل الحديث، وأهل المغرب كانوا يحجون فيجتمعون به، ويأخذون عنه الحديث وهذه الطريقة، ويدلهم على أصلها، فيرحل منهم من يرحل إلى المشرق، كما رحل أبو الوليد الباجي فأخذ طريقة أبي جعفر السمناني الحنفي صاحب القاضي أبي بكر، ورحل بعده القاضي أبو بكر بن العربي، فأخذ طريقة أبي المعالي في الإرشاد.

ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة وحسنات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع والانتصار لكثير من أهل السنة والدين ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيه بصدق وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء احتاجوا إلى طرده والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكرها المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوسطها، وهذا ليس مخصوصًا بهؤلاء، بل مثل هذا وقع لطوائف من أهل العلم والدين، والله - تعالى - يتقبل من جميع عباده المؤمنين الحسنات، ويتجاوز عن السيئات {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} (الحشر: 10).

ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم وأخطأ في بعض ذلك، فالله يغفر له خطأه تحقيقًا للدعاء الذي استجابه الله لنبيه وللمؤمنين حيث قالوا: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} (البقرة: 286) ومن اتبع ظنه وهواه فأخذ يشنع على من خالفه بما وقع فيه من خطأ ظنه صوابًا بعد اجتهاده، وهي من البدع المخالفة للسنة، فإنه يلزمه نظير ذلك، أو أعظم، أو أصغر فيمن يعظمه هو من أصحابه فقلّ من يسلم من ذلك في المتأخرين لكثرة الاشتباه والاضطراب، وبعد الناس عن نور النبوة وشمس الرسالة الذي به يحصل الهدى والصواب، ويزول عن القلوب الشك والارتياب، ولهذا تجد كثيرًا من المتأخرين من علماء الطوائف يتناقضون في مثل هذه الأصول ولوازمها فيقولون القول الموافق للسنة، وينفون ما هو من لوازمه غير ظانين أنه ينافيه، ويقولون بملزومات القول المنافي، الذي ينافي ما أثبتوه من السنة، وربما كفّروا من خالفهم في القول المنافي وملزوماته، فيكون مضمون قولهم أن يقولوا قولاً، ويكفروا من يقوله ! ! وهذا يوجد لكثير منهم في الحال الواحد لعدم تفطنه لتناقض القولين، ويوجد في الحالين لاختلاف نظره واجتهاده، وسبب ذلك ما أوقعه أهل الإلحاد والضلال من الألفاظ المجملة التي يظن الظان أنه لا يدخل فيها إلا الحق والباطل، فمن لم ينقب عنها أو يستفصل المتكلم بها، كما كان السلف والأئمة يفعلونه صار متناقضًا أو مبتدعًا ضالاًّ من حيث لا يشعر، وكثير ممن تكلم بالألفاظ المجملة المبتدعة، كلفظ الجسم، والجوهر، والعرض، وحلول الحوادث، ونحو ذلك كانوا يظنون أنهم ينصرون الإسلام بهذه الطريقة، وأنهم بذلك يثبتون معرفة الله وتصديق رسله، فوقع من الخطأ والضلال ما أوجب ذلك، وهذه حال أهل البدع، كالخوارج وأمثالهم، فإن البدعة لا تكون حقًّا محضًا موافقًا للسنة ؛ إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضًا لا حق فيه ؛ إذ لو كانت كذلك لم تَخْفَ على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئًا غالطًا، وإما متعمدًا لنفاق فيه وإلحاد، كما قال تعالى: {وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} (التوبة: 47) فأخبر أن المنافقين لو خرجوا في جيش المسلمين ما زادوهم إلا خبالاً، ولكانوا يسعون بينهم مسرعين يطلبون لهم الفتنة، وفي المؤمنين من يقبل منهم ويستجيب لهم، إما لظن مخطئ، أو النوع من الهوى، أو لمجموعهما فإن المؤمن إنما يدخل عليه الشيطان بنوع من الظن واتباع هواه.

ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله يحب البصر النافذ عند ورود الشبهات، ويحب العقل الكامل عند حلول الشهوات) وقد أمر المؤمنين أن يقولوا في صلاتهم: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 6-7) فالمغضوب عليهم عرفوا الحق ولم يعملوا به، والضالون عبدوا الله بلا علم، ولهذا نزه الله نبيه عن الأمرين بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} (النجم: 1-2) وقال - تعالى -: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} (ص: 45) اهـ كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو فصل الخطاب في هذا الباب.


المنار، عدد ذو الحجة - 1338هـ الموافق سبتمبر - 1920م

أبو حسن
18-11-2007, 10:16 AM
من عنيزة إلى قاهرة مصر
في رجب سنة 1346

بسم الله الرحمن الرحيم

أبعث جزيل التحيات، ووافر السلام والتشكرات، لحضرة الشيخ الفاضل السيد محمد رشيد رضا المحترم حرسه الله تعالى من جميع الشرور، ووفقه وسدده في كل أحواله آمين، أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فالداعي لذلك ما اقتضاه الحب ودفعه الود المبني على ما لكم من المآثر الطيبة التي تستحقون بها الشكر من جميع المسلمين التي من أعظمها تصديكم في مناركم الأغر لنصر الإسلام والمسلمين، ودفع باطل الجاهلين والمعاندين، رفع الله قدركم وأعلى مقامكم، وزادكم من العلم والإيمان ما تستوجبون خير الدنيا والآخرة، وأنعم عليكم بنعمه الظاهرة والباطنية، ثم إننا نقترح على جنابكم أن تجعلوا في مناركم المنير بحثًا واسعًا لأمر نراه أهم البحوث التي عليها تعولون وأنفعها لشدة الحاجة بل دعاء الضرورة إليه ألا وهو ما وقع فيه كثير من فضلاء المصريين وراج عليهم من أصول الملاحدة والزنادقة من أهل وحدة الوجود والفلاسفة بسبب روجان كثير من الكتب المتضمنة لهذه الأمور ممن يحسنون بهم الظن ككتب ابن سينا وابن رشد وابن عربي ورسائل إخوان الصفا بل وبعض الكتب التي تنسب للغزالي وما أشبهها من الكتب المشتملة على الكفر برب العالمين والكفر برسله وكتبه واليوم الآخر، وإنكار ما عُلِمَ بالضرورة من دين الإسلام، فبعض هذه الأصول انتشرت في كثير من الصحف المصرية بل رأيت تفسيرًا طبع أخيرًا منسوبًا للطنطاوي قد ذكر في مواضع كثيرة في تفسير سورة البقرة شيئًا من ذلك ككلامه على استخلاف آدم وعلى قصة البقرة والطيور ونحوها بكلام ذكر فيه من أصول وحدة الوجود وأصول الفلسفة المبنية على أن الشرائع إنما هي تخييلات وضرب أمثال لا حقيقة لها، وأنه يمكن لآحاد الخلق ما يحصل للأنبياء ما يجزم المؤمن البصير أنه مناقض لدين الإسلام وتكذيب لله ورسوله، وذهاب إلى معانٍ يُعلم بالضرورة أن الله ما أرادها وأن الله بريء منها ورسوله، ثم مع ذلك يحث الناس والمسلمين على تعلمها وفهمها، ويلومهم على إهمالها وينسب ما حصل للمسلمين من الوهن والضعف بسبب إهمال علمها وعملها.

وَيْح من قال ذلك، لقد علم كل من عرف الحقائق أن هذه العلوم هي التي أوهنت قوى المسلمين وسلطت عليهم الأعداء وأضعفتهم لزنادقة الفرنج وملاحدة الفلاسفة، وكذلك يبحث كثير منهم في الملائكة والجن والشياطين ويتأولون ما في الكتاب والسنة من ذلك بتأويلات تشبه تأويلات القرامطة الذين يتأولون العقائد والشرائع فيزعمون أن الملائكة هي القوى الخيرية التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بالملائكة كما أن الشياطين هي القوى الشريرة التي في الإنسان فعبَّر عنها الشرع بذلك، ولا يخفى أن هذا تكذيب لله ولرسله أجمعين، ويتأولون قصة آدم وإبراهيم بتأويل حاصله أن ما ذكر الله في كتابه عن آدم وإبراهيم ونحوهما لا حقيقة له، وإنما قصد به ضرب الأمثال، وقد ذكر لي بعض أصحابي أن مناركم فيه شيء من ذلك وإلى الآن ما تيسر لي مطالعته ولكن الظن بكم أنكم ما تبحثون عن مثل هذه الأمور إلا على وجه الرد لها والإبطال كما هي عادتكم في رد ما هو دونها بكثير، وهذه الأمور يكفي في ردها في حق المسلم المصدق للقرآن والرسول مجرد تصورها، فإنه إذا تصورها كما هي يجزم ببطلانها ومناقضتها للشرع، وأنه لا يجتمع التصديق بالقرآن وتصديقها أبدًا، وإن كان غير مصدق للقرآن ولا للرسول صار الكلام معه كالكلام مع سائر الكفار في أصل الرسالة وحقيقة القرآن.

وقد ثبت عندنا أن زنادقة الفلاسفة والملحدين يتأولون جميع الدين الإسلامي : التوحيد والرسالة والمعاد والأمر والنهي بتأويل يرجع إلى أن القرآن والسنة كلها تخييلات وتمويهات لا حقيقة لها بالكلية ويلبسون على الناس بذلك ويتسترون بالإسلام، وهم أبعد الناس عنه كما ثبت أيضًا عندنا أنه يوجد ممن كان يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر ويعظم الرسول وينقاد لشرعه وينكر على هؤلاء الفلاسفة ويكفرهم في أقوالهم أنه يدخل عليه شيء من هذه التأويلات من غير قصد ولا شعور لعدم علمه بما تؤول إليه ولرسوخ كثير من أصول الفلسفة في قلبه، ولتقليد من يعظمه وخضوعًا أيضًا، ومراعاة لزنادقة علماء الفرنج الذين يتهكمون بمن لم يوافقهم على كثير من أصولهم ويخافون من نسبتهم للبلادة وإنكار ما علم محسوسًا بزعمهم فبسبب هذه الأشياء وغيرها دخل عليهم ما دخل، فالأمل قد تعلق بأمثالكم لتحقيق هذه الأمور وإبطالها فإنها فشت وانتشرت وعمت المصيبة بها الفضلاء فضلاً عمن دونهم، ولكن لن تخلو الأرض من قائم لله بحجة يهتدي به الضالون، وتقوم به الحجة على المعاندين، وقد ذكرت لحضرتكم هذه الأشياء على وجه التنبيه والإشارة ؛ لأن مثلكم يتنبه بأدنى تنبيه، ولعلكم تجعلونه أهم المهمات عندكم ؛ لأن فيه الخطر العظيم على المسلمين، وإذا لم ير الناس لكم فيه كلامًا كثيرًا وتحقيقًا تامًا فمن الذي يعلق به الأمل من علماء الأمصار ؟ والرجاء بالله أن يوفقنا وإياكم لما يحبه ويرضاه ويجعلنا وإياكم من الهادين المهتدين إنه جواد كريم، وصلى الله على محمد وسلم.

........................... محبكم الداعي
..................... عبد الرحمن بن ناصر السعدي


( المنار )


إننا لا نألو جهدًا في الرد على كل ما نطلع عليه من البدع المخالفة لكتاب الله والصحيح من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفي الدعوة إليهما على الوجه الذي كان عليه جمهور السلف الصالح، وفي الرد على خصومهما كما يرى في مقالة أعداء الإسلام من هذا الجزء، والذي نعلمه أن بدعة وحدة الوجود وفلسفة اليونان في الإلهيات والرسالة التي فتن الناس بها الباطنية وغيرهم في عصرهم قد نسخت وزالت في هذا العصر فلم يبق لهم دعاة، وإن كان لها اتباع قليلون وتفسير الشيخ طنطاوي جوهري لم نطلع عليه وإنما رأينا جزءًا واحدًا منه عند أحد أصدقائنا فتصفحت قليلاً منه في بضع دقائق فرأيت أن همه منه حث المسلمين على علوم الكون وشرح الكثير من مسائلها بمناسبة الآيات التي ترشد الناس إلى آياته تعالى في خلقه ونعمه على عباده كما جرى عليه في كتب أخرى له، وما نعرفه إلا مسلمًا يغار على الإسلام ويحب أن يجمع المسلمون بين الاهتداء به والانتفاع بعلوم الكون التي تتوقف عليها قوة الدول وثروة الأمم في هذا العصر، ونحن قد سبقناه بالدعوة إلى هذا، وبيناه بالدلائل في مواضع كثيرة من تفسيرنا من المنار وإن كنا أشرنا إلى الانتقاد على خطة الأستاذ المذكور في تفسيره فيما بيناه من أساليب المفسرين في فاتحة الجزء الأول من تفسيره ومراجعة ما كتبه من الآيات التي ذكرتموها.

ويجب عليكم أن تفرقوا بين علوم الكون التي ندعو إليها وبين الفلسفة قديمها وحديثها، فالفلسفة آراء ونظريات فكرية، وعلوم الكون عبارة عن العلم بما أودع الله تعالى في خلقه من المنافع كمنافع الماء وبخاره والهواء وما تركبا منه ومنافع الكهرباء التي منها التلغراف والتليفون وغيرهما بجميع الصناعات العجيبة والآلات الحربية من برية وبحرية وهوائية وجميع العقاقير الطبية مأخوذة من هذه العلوم فهي حقائق قطعية ثابتة بالحس، فمن يزعم أنها تخالف ما بعث به الله رسله فقد طعن في دين الله وصد العلماء بها عنه ؛ لأنهم لا يستطيعون أن يكذبوا حواسهم.

وأما كفر من يكفرون في هذا العصر فأكثره من تأثير فلسفة الإفرنج المخالفة لفلسفة اليونانيين ومن جرى على طريقتهم كالعرب، وإن خالفهم في بعض النظريات كابن سينا وابن رشد وغيرهما، والرد على هؤلاء بما يرجى أن ينفعهم أو يقي كثيرًا من الناظرين في فلسفة العصر من إضلالهم يتوقف أحيانًا على تأويل بعض الآيات والأحاديث تأويلاً ينطبق على مدلولات اللغة في مفرداتها وأساليبها ويتفق مع العلم والعقل.

وليعلم أخونا صاحب هذه الرسالة أن الملاحدة والمعطلين في مصر وأمثالها قد يصرَّحون بكفرهم ولا يخشون عقابًا ولا إهانة فهم لا يحتاجون إلى التستر بالإسلام كزنادقة الباطنية المتقدمين، وقصارى ما يلقونه من النقد إذا صرَّحوا بكفرهم في الكتب أو الجرائد أن يرد عليهم بعض المسلمين بالكتابة والناس أحرار فيها، فإذا ادعى بعضهم مع نشر الكفر أنه مؤمن وجد من ينصره ويقول : إن ما كتبه لا ينافي الإيمان ولا يصادم الإسلام، ولم يصرح أحد من المصريين في هذا العهد بالطعن في الإسلام وتكذيب القرآن بمثل ما صرَّح به الدكتور طه حسين المشتغل بالجامعة المصرية تدريسًا وتأليفًا ولم يلق أحد من التكفير والتجهيل والطعن على ذلك مثل ما لقي من الكُتَّاب والمؤلفين من علماء الدين وعلماء الدنيا حتى اقترح بعض أعضاء مجلس النواب عزله من الجامعة فلم تعزله الحكومة ؛ لأن أنصاره فيها كانوا أقوى من خصومه وكان منهم عدلي باشا رئيس الوزارة وثروت باشا وزير الخارجية الذي طرز الدكتور طرة كتاب الطعن باسمه، وعلي باشا الشمسي وزير المعارف وأحمد لطفي السيد مدير الجامعة.

وقد بيَّنا في فاتحة تفسيرنا وفي مواضع أخرى منه مسألة التأويل فذكرنا أننا نلم بتأويل بعض الآيات لأجل الدفاع عن القرآن، ورد بعض الشبهات التي يوردها الفلاسفة أو غيرهم عليها حتى لا يكون لهم حجة مقبولة عليها مع تصريحنا بأن اعتقادنا الذي ندعو إليه ونرجو أن نموت كما نحيا عليه هو اتباع مذهب السلف في كل ما يتعلق بعالم الغيب من الإيمان بالله وصفاته وملائكته وجنته وناره.

والتأويل قد يكون المنقذ الوحيد لبعض الناس من الكفر وتكذيب القرآن ؛ إذ من المعلوم أن الموقن بصدق القرآن لا يخرج من الملة بفهم بعض آياته فهمًا مخالفًا لفهم غيره إذا لم يكن في فهمه هذا جحد لشيء مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، ونرجو أن يقرأ أخونا صاحب هذه الرسالة الجزء الأول من تفسير المنار المشتمل على هذا البحث ويكتب إلينا بما يراه فيه، فإنني كنت منذ سنين كثيرة أتمنى لو يطلع بعض علماء نجد على المنار ويفتح بيني وبينهم البحث والمناظرة العلمية الدينية فيما يرونه منتقدًا لينجلي وجه الصواب فيها، وقد كنت كتبت إلى إمامهم بذلك، وإنني سأرسل إليه عشر نسخ من كل جزء ليوزعها على أشهرهم، وفعلت ذلك عدة سنين ولكن لم يأتني منه جواب، ثم ترجَّح عندي أن تلك النسخ كانت تختزل من البريد البريطاني في سني الحرب وما بعدها.


مجلة المنار، الجزء التاسع والعشرون، الصفحة 143

أبو حسن
13-08-2008, 10:00 AM
نشر الشيخ رشيد رحمه الله في مجلة المنار، المجلد السابع عشر، مقالة من جزأين، الجزأ الأول في عدد رمضان - 1332هـ، الموافق أغسطس - 1914م والجزء الثاني في عدد شوال - 1332هـ، الموافق سبتمبر - 1914م، والمقالة بعنوان:


أقوال علماء القرن الثالث الأثبات في عقيدة السلف وإثبات الصفات

نقل فيها عقيدة أئمة أهل السنة في باب الصفات من كتاب العلو للإمام الذهبي، وبدأ المقالة بقوله:

لما ظهرت بدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل، وتأويل ما ورد منها في الكتاب والسنة - هَبَّ حفظة الدين وحملته من التابعين ومن بعدهم للرد عليهم، وتفنيد تأويلاتهم، والاستمساك بعروة النقل، حذرًا من تحريفها بنظريات العقل، التي ينخدع بها بعض القاصرين، توهمًا أنها من قطعيات البراهين، وإننا ننقل من كتاب العلو للذهبي (الذي يُطبع في مطبعة المنار) بعض أقوال الأئمة المتبوعين، الذين جهل أقوالهم من يجلهم من المعاصرين، ولكن الذهبي ينقل في هذا الكتاب ما صح وما لم يصح، ويشير إلى ضعف الرواية الضعيفة أو نكارتها غالبًا على أن من غلاة الأثريين من يقبل كل ما روي في ذلك.

وختمها بالتعليق على قول الذهبي في نهاية المقالة: وكان ابن أبي زيد من العلماء العاملين بالمغرب، وكان يلقب بمالك الصغير، وكان غاية في علم الأصول وقد ذكره الحافظ ابن عساكر في كتاب (تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأشعري)، ولم يذكر له وفاة. توفي سنة ست وثمانين وثلاثمائة، وقيل سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، وقد نقموا عليه في قوله (بذاته) فليته تركها. بقوله:

لله در المؤلف ما ألطف نقده وإنكاره لهذه الكلمة وإنما تلطف هذا التلطف لأن الهفوة من بعض علماء الأثر وأنصار مذهب السلف، ولو قالها أحد المعتزلة لشنع عليه بأنه قال في أصول العقيدة ما لم يقله أحد من السلف ولا ورد به أثر، ولا هو مما ثبت بالبرهان العقلي أيضًا ولكثير من الأثريين مثل هذه الهفوات والشذوذ، يحشرون آراءهم في النصوص ويفسرونها بها مع ادعائهم اتباع مذهب السلف وأنه التفويض والإمساك عن تعيين المراد من آيات الصفات وأحاديثها ونرى كثيرًا من الناس يقبل منهم ذلك ويقول به ويعده اتباعًا للسلف ولو بمعنى مخالفة الجهمية ولا يستغرب مع هذا تسليمهم وقبولهم بعض الروايات المنكرة المخالفة للأحاديث الصحيحة كقول مجاهد: إن الله تعالى يُقعد النبي معه على العرش، كأن مَن قبله اكتفى بأن يخالف الجهمية في عدم قبول مثله وإن صح إلا بالتأويل، وقد تقدم بيان المصنف لنكارته ومخالفته للأحاديث الصحيحة مع ذكر من قبله، ونقل آنفًا عن الدارقطني أنه لا يجحده!! على أن العقائد يطلب فيها القطع وهذا لم يصل إلى مرتبة الظن وهنالك مخالفة أخرى لطريقة السلف بينها الغزالي في (إلجام العوام عن علم الكلام) وهي جمع معاني الآيات والأحاديث الواردة في الصفات بترتيب لم يرد في الكتاب والسنة بحيث يفيد الجمع معنى غير معنى الإيمان بكل منها مع التنزيه عن الكيفية: كأن تلقن العامي عقيدته بمثل قولك: يجب أن تؤمن بأن لله تعالى وجهًا وعينين ويدين وقدمين وأنه ينزل ويمشي ويهرول ويضحك، فإن هذا يُحدث في خيال العامي صورة حسية لعله لا يزيلها منه قولك: وإنه لا يشبه في ذلك البشر ولا غيرهم من الخلق، ومذهب السلف أن يذكر ما ورد في السياق الذي ورد فيه، مع اعتقاد التنزيه ونفي التشبيه، وترك التأويل، والقال والقيل.


المقالة في المرفقات

أبو حسن
04-11-2008, 12:13 PM
ردّ من الشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله على من يزعم أنه ينكر الجن أو يؤولهم بأنهم الجراثيم والمكروبات. وقد نشره رحمه الله في مجلة المنار، المجلد 32، عدد رمضان 1351هـ الموافق ديسمبر 1932م.


البُهيتة الثانية: إنكار الجن

هذه أخت التي قبلها (يقول أبو حسن: أي ادعاء أن الشيخ رشيد يتأول الملائكة، وقد ردّ الشيخ على هذا الزعم في مقالة سبقت هذه)، والكلام فيها متمم لما قبله ومشترك معه في بعض شواهده كما تقدم في خاتمة المقالة السابقة، ولهذا قدمناها على مسألة الشمس.

قال في مجلة الأزهر بعد مسألة الملائكة:
ومثل ذلك ما قرره في المكروبات عند ذكر الجن في القرآن، وليت شعري هل هذه المكروبات الجنية هي التي كانت تعمل لسليمان ما يشاء من محاريب وتماثيل وقدور راسيات ؟ وهل هي التي قال عفريت منها لسليمان عليه السلام {أَنَا آتِيكَ بِهِ} بعرش بلقيس {قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ} (النمل: 39) ؟ وهل هي التي قالت لقومها: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} (الأحقاف: 30) إلخ. اهـ بنصه وقد أعاد هذه المسألة في غير المجلة.

يوهم محرر مجلة مشيخة الأزهر من ابتلاهم الله بقراءتها أن صاحب المنار يقول أن الجن الذين أخبر الله بهم في كتابه عبارة عن هذه المكروبات التي كشف الأطباء أمرها في القرن الماضي، وأنه ما ثم شيء يطلق عليه هذا الاسم واسم العفاريت والشياطين غيرهم. وهذا افتراء وبهتان كالذي قبله سواء.

الجن خلق خفي مستتر من عالم الغيب أثبتتهم جميع الأديان وطريقتنا فيهم هي وجوب الإيمان بكل ما أخبر الله تعالى من أمرهم في كتابه وبكل ما صح عن رسوله صلى الله عليه وسلم لمن علم به وليس منه شيء قطعي يدخل في العقيدة، ولا نزيد على ما ثبت عندنا من خبر المعصوم شيئًا.

وقد ورد ذكر الجن والشياطين وإبليس في مواضع كثيرة من أجزاء تفسيرنا العشرة وفي مواضع كثيرة من مجلة المنار فأثبتنا في كل موضع من التفسير ما أثبته الكتاب العزيز بما يقربه إلى العقل ورددنا على المنكرين والمتأولين لما هو المتبادر من النصوص.

ولو أردنا إيراد الشواهد منها كالشواهد في الملائكة لطال الكلام فيما لا فائدة من نشره في الجرائد اليومية وإنما نشير إلى بعض مواضعها لمن يريد مراجعتها، ونكتفي منها بما نثبت به أن محرر مجلة مشيخة الأزهر وعضو هيئة كبار العلماء فيه بين أمرين لا ثالث لهما: إما أنه لا يفهم ما يُقرأ له ولا يعقله مهما تكن درجة وضوحه وتكراره !! وإما أنه يتعمد الكذب والبهتان والخيانة في النقل والعزو انتقامًا لنفسه لا خدمة للعلم والدين. لتعلم الأمة أن العلم الصحيح لا يكون بالألقاب الرسمية، ولا بمجرد الشهادات المدرسية. وقد بينا في المنار وفي تاريخ الأستاذ الإمام ما كان من قيمة شهادات العالمية في الأزهر وما كان من المحاباة والرشوة فيها قبل الإصلاح الذي وضع قواعده ذلك المصلح العظيم، على أن الإصلاح لم يشفِ العلل كلها كما يعلم أهل الأزهر أكثر من غيرهم. ومن شاء الوقوف على هذه الحقائق فليقرأ المقصد الثاني من الفصل السادس من تاريخ الأستاذ الإمام من صفحة 425 484 باكيًا على العلم والدين.

بعض الشواهد في مسألة الجن والشياطين:

(1) جاء في تفسير {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ} (البقرة: 34) من جزء التفسير الأول ص 265 ما نصه ملخصًا من درس الأستاذ الإمام: (أي سجدوا كلهم أجمعون إلا إبليس وهو فرد من أفراد الملائكة كما يفهم من هذه السورة وأمثالها في القصة إلا آية الكهف فإنها ناطقة بأنه كان من الجن {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} (الكهف: 50) وليس عندنا دليل على أن بين الملائكة والجن فصلاً جوهريًّا يميز أحدهما عن الآخر، وإنما هو اختلاف أصناف عندما تختلف أوصاف كما ترشد إليه الآيات، فالظاهر أن الجن صنف من الملائكة، وقد أطلق في القرآن لفظ الجنة على الملائكة على رأي جمهور المفسرين في قوله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجِنَّةِ نَسَباً} (الصافات: 158) وعلى الشياطين في آخر سورة الناس.

(2) زاد الأستاذ الإمام هنا بعد نشر تفسير هذه الآيات في المنار سنة 1320 ما نصه بخطه: (وعلى كل حال فجميع هؤلاء المسميات بهذه الأسماء من عالم الغيب لا نعلم حقائقها ولا نبحث عنها، ولا نقول بنسبة شيء إليها ما لم يرد فيه نص قطعي عن المعصوم صلى الله عليه وسلم. اهـ.
فكان رحمه الله يرى أن تعريف الملائكة والجن بالحد المنطقي متعذر لأنهم من عالم الغيب، وقد اشتركوا في اسم الجن المفيد لمعنى الخفاء والستر، والمعقول أن يكون تعريفهم بالرسم وهو الصفات كالطاعة والعصمة للملائكة دون الجن، فهم في الجنس الروحي الخفي كالأنبياء في البشر، والشياطين كأشرار البشر الظالمين المجرمين الفاسقين، وسائر الجن كسائر البشر يتفاوتون في الصلاح والفساد مثلهم، وللراغب الأصفهاني كلام كهذا في مفردات القرآن ذكرته في تفسير سورة الأعراف.

(3) ما تقدم نقله عن الأستاذ الإمام في المسألة من بحث الملائكة وتعليقنا عليه وهو مسألة إسناد الوسوسة إلى الشياطين والإلهام إلى الملائكة وما هو ببعيد.

(4) ذكرت في صفحة 96 من الجزء الثاني من التفسير أن قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} (البقرة: 168) لا يقتضي معرفة ذات الشيطان وإنما يعرف بأثرة وهو وحي الشر وخواطر الباطل والسوء في النفس التي يفسرها قوله تعالى {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 169) وفصلنا ذلك تفصيلاً، وكذا تفسير هذه الجملة بعينها من آية 207 من سورة البقرة أيضًا وهو في ص 257 من الجزء وفيه تفصيل آخر.

(5) ذكرت في بحث إعاذة مريم وذريتها من الشيطان الرجيم من ص 29 ج3 حديث (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه إلا مريم وابنها) وتفسير البيضاوي للمس بالطمع في الإغواء، وقول الأستاذ الإمام أن الحديث من قبيل التمثيل، وحديث إسلام شيطان النبي صلى الله عليه وسلم وما يرد على الموضوع من قوله تعالى {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (الحجر: 42) ومشاغبة دعاة النصرانية للمسلمين في تفضيل المسيح على نبينا وما يرد عليهم من إنجيل مرقس في تجربة إبليس ليسوع المسيح أربعين يومًا لم يأكل فيها طعامًا مع تحقيق المسألة. وهذا كله ينافي الافتراء علينا بأننا نقول: الجن والشياطين عبارة عن الميكروبات فقط.

(6) في الصفحات 425 - 430 من جزء التفسير الخامس تفسير لقوله تعالى {إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} (النساء: 117) إلى الآية 119 بينت فيه نصيب الشيطان من الناس وإضلاله لهم واشتغالهم بالأماني وما يأمرهم به في وسوسته، وحال من يتخذه وليًّا من دون الله، وهو في جملته وتفصيله يدحض شبهة مجلة الأزهر وبهتانها.

(7) في ص 65 ج66 تفسير لقوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم} (الأنعام: 128) الآية، وفي أوله: وإنما يسمى كل من الجن والإنس معشرًا لأنهم جماعة من عقلاء الخلق. وفي هذا البحث شبهنا تأثير الشياطين في النفس بتأثير الميكروبات في الجسم بعد ذكر المنكرين لوجود الجن، وهذا نص عبارتنا:
فإن كل إنسي يوسوس له شياطين الجن بما يزين له الباطل والشر ويغريه بالفسق والفجور كما تقدم مفصلاً، فإن هذا الخلق الخفي الذي هو من جنس الأرواح البشرية يلابسها بقدر استعدادها للباطل والشر ويقوي فيها داعيتهما كما تلابس جنة الحيوان الخفية الأجساد الحيوانية فتفسد عليها مزاجها وتوقعها في الأمراض والأدواء، وقد مر على البشر ألوف من السنين وهم يجهلون طرق دخول هذه النسم الحية في أجسادهم وتقوية الاستعداد للأمراض والأدواء فيها، بل إحداث الأمراض الوبائية وغيرها بالفعل، حتى اكتشفها الأطباء في هذا العصر وعرفوا هذه الطرق والمداخل الخفية بما استحدثوا من المناظير التي تكبر الصغير حتى يرى أكبر مما هو عليه بألوف من الأضعاف ولو قيل لأكبر أطباء قدماء المصريين أو الهنود أو اليونان أو العرب أن في الأرض أنواعًا من النسم الخفية تدخل الأجساد من خرطوم البعوضة أو البرغوث أو القملة ومع الهواء والماء والطعام وتنمي فيها بسرعة عجيبة فتكون ألوف الألوف وبكثرتها تتولد الأمراض والأوبئة القاتلة لقالوا إن هذا القول من تخيلات المجانين، ولكن العجب لمن ينكر مثل هذا في الأرواح بعد اكتشاف ذلك في الأجساد، وأمر الأرواح أخفى، فعدم وقوفهم على ما يلابسها ألوفًا من السنين أولى. وقد روي في الآثار ما يدل على جنة الأجسام ولو صرح به قبل اختراع هذه المناظير التي ترى بها لكان فتنة لكثير من الناس بما يزيدهم استبعادًا لما جاء به الرسل من خبر الجن، ففي الحديث (تنكبوا الغبار فإن منه تكون النسمة) والنسمة في اللغة كل ما فيه روح، وفسره ابن الأثير في الحديث بالنَّفَس بالتحريك أي تواتره الذي يسمى الربو والنهيج وتبعه شارح القاموس وغيره، وهو تَجَوُّز لا يؤيد الطب ما يدل عليه من الحصر. وروي عن عمرو بن العاص: اتقوا غبار مصر فإنه يتحول في الصدر إلى نسمة. وهو بعيد عن تأويلهم وظاهر فيما يقوله الأطباء اليوم وهو مأخوذ من الحديث الذي تأولوه، وعمرو من فصحاء قريش جهابذة هذا اللسان. اهـ.
وذكرت في مواضع أخرى من المنار ما ورد من الآثار في أنواع الجن ومنها حديث (خلق الله الجن ثلاثة أصناف: صنف حيات وعقارب وخشاش الأرض وصنف كالريح في الهواء وصنف عليهم الحساب والعقاب) أخرجه ابن أبي الدنيا والحكيم الترمذي وأبو الشيخ وابن مردويه. وفي معناه غيره.

(8) في (ص328 - 372 جزء 8) بسط قصة آدم مع إبليس. وقد فصلت في هذا البحث ما تقدم في سورة البقرة من كون الجن الروحاني جنسًا يشمل الملائكة.
وقلت: إن لفظ الجنة اللغوي يشمل الجن الروحاني والجن المادي التي تسمى المكروبات 342 ثم فصلت هذا في تفسير قوله تعالى من هذا السياق {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} (الأعراف: 27) تفصيلاً موضحًا لهذا البحث يراجع في (ص 264 - 371) ومنه يعلم مأخذ شبهة المفتري المحرف للكلم عن مواضعه، ولا نطيل القول في هذا لأنه لا طائل تحته، وحسبنا ما ذكرنا دليلاً على قلة اطلاع المفتري علينا وسوء فهمه وفساد نيته، وما سيأتي في المقال الآتي أقوى دليلاً، وأقوم قيلاً.

__________
(1) سبق ذلك في مواضع أشبهها بما هنا ما في (ص 508 - 515 ج 7) تفسير.

أبو حسن
24-02-2009, 10:50 AM
مجلة المنار، المجلد 26، عدد شعبان - 1344هـ الموافق فبراير - 1926م


موقف الشيخ العلامة محمد رشيد رضا رحمه الله من الدعوة إلى وحدة الأديان

استفتاء في كلمة للملك فيصل في الأديان السماوية

نشرت جريدة الخلافة (خلافت) التي تصدر في بمبي (الهند) في عددها الذي صدر في 22 صفر من هذه السنة (1344) الاستفتاء الآتي، وقد نشر في كثير من جرائد الأقطار الإسلامية، ولهج كثير من الناس بعد اطلاعهم على ما قاله الملك فيصل عن الأديان والأنبياء بأنه ردَّة عن الإسلام، وهذا نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم
إلى العلماء الأعلام في مشارق الأرض ومغاربها:
(عقيدة الأمير فيصل ملك العراق ابن الملك حسين بن علي المكي في الأديان السماوية).
هذه خطبة للأمير فيصل ابن الشريف حسين، ألقاها في الحفلة التي أقامها اليهود في دار الرئاسة الحاخامية لليهود في بغداد، ونشرتها جريدة دجلة التي تصدر هناك في عددها الثاني والعشرين تاريخ 12 ذي القعدة سنة 1329 هـ 19 تموز سنة 1921 ننقلها للقراء بحروفها، ليطلعوا على حقيقة معتقد هذا الأمير في الأديان السماوية، وأنه كوالده في اعتماده في كل أموره على الإنكليز لا على الله.

***
الخطبة بنصها

(إني أشكر مواطني الإسرائيليين العراقيين لإقامتهم هذه الحفلة الكريمة التي أعربت عن شعورهم نحو البلاد، وإني أسأل الله تعالى أن يوفقني إلى الأعمال التي تزيد ثقتهم بي، واعتمادهم علي).

(إني لا أرى في هذا الاحتفال مسلمًا أو يهوديًّا أو نصرانيًّا، وإني أعتقد (أنه) لو جاء موسى و عيسى و محمد إلى هذا الاحتفال، وشهدوا منا ما نقوله من يهود ونصارى ومسلمين [1] لغضبوا علينا غضبًا شديدًا، أنا أريد أن يقول الجميع:

إننا ساميون عراقيون نرجع إلى جد واحد، وما الاختلاف [2] الدينية والمذاهب إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين، وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جدٍّ واحد، إننا أولاد سام، وآباؤنا سكنوا العراق مدة طويلة، وقاموا بأمر تعميره مشتركين، قال أحد الخطباء الآن: إن للأمة العربية أيادي بيض (؟)على اليهود في جزيرة العرب، وأنا أقول: ما قام العرب تجاه اليهود إلا بالواجب المفروض الذي لا يطلبون مقابله حمدًا ولا شكرانًا. إن البلاء قد نزل باليهود والمسلمين [3] على حدٍّ سواء، إني أرغب أن يتزايد الاعتماد في هذه الأيام لننقذ البلاد من الخراب الذي أنزلته بها أيادي الظلم والاستعمار السابقة التي عاثت بأرض العراق فسادًا).

(فإني لم أزل أتذكر كلمة لأكبر رجل في العالم - وهو المستر لويد جورج زعيم الحكومة الإنكليزية - قالها في مانشستر على ما أظن، وهي قوله: نحن دخلنا العراق ونرغب أن نرجعها إلى حالها حال جنات النعيم).

(نحن لا نستطيع أن نبلغ بالبلاد العراقية إلى درجة جنات النعيم في خمسين عام أو أكثر، ولكننا نقول: كل من سار على الدرب وصل، إن لي الأمل العظيم في نجاحنا في هذه المسألة ؛ لأننا اليوم بعهدة أكبر دولة وأعظم أمة ألا وهي بريطانيا العظمي، فإن المراحل البعيدة لا نستطيع قطعها، ولكن بمساعدة بريطانيا ومعاضدتها ستكون المراحل قصيرة، فإنا نبلغ مُنانا إذا ساعدتنا بريطانيا كما هي تساعدنا اليوم، فبسعي الإنكليز ومعاضدتهم سيكون النجاح قريبًا، إني أرغب أن أرى هذا النجاح، ولكن من أين لي ذلك العمر الطويل، فإننا إذا لم نراه (؟) فإن أبناءنا سيشهدوه (؟) ويشكرونا على ذلك العمل، وفي الأخير أقول: إن ليس لي غاية سوى تقدم البلاد، وليس لي حزب إلا الجميع، وأملي وطيد بأن إخواني الإسرائيليين سيبذلون جهدهم لرقي البلاد العراقية كما هو شأنهم في البلاد الأخرى.
ا هـ، انتهت بحروفها.

فنوجه رجاءنا إلى علماء الإسلام أن يفتونا في رجل يعتقد ويصرح على رءوس الأشهاد بأن الديانات والمذاهب ما هي إلا دسائس دنيوية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية، وأنه لو جاء موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام، وسمعوا كلامه يغضبون عليه غضبًا شديدًا، ومع ذلك هو لا يبالي بهم، ويريد أن يرفع اسم اليهود والنصارى والمسلمين من بين أفراد الشعب الذي يحكمه، هل هذا الرجل (يُعد) مسلمًا ؟ أفتونا مأجورين ا هـ، الاستفتاء.

***

(جواب المنار)

هذه الكلمة التي قالها فيصل ملك العراق البريطاني هي هِجّيرَى فريقين من الناس: دعاة اللادينية، وأعداء الرابطة الإسلامية، الذين يرى القارئ بعض مقاصدهم في مقالنا الخاص بالمسألة السورية - وقد فصلناه من قبل في مقالات كثيرة - ولقد كان فيصل في غنى عن اتباعهم وعن الحكم بهواه على ما يرضي رسل الله صلواته وسلامه عليهم وما يغضبهم، لو كان حريصًا على مظاهر الدين الذي نشأ فيه، نعم كان يسعه أن يدعو اليهود إلى الاتفاق مع المسلمين والنصارى في التعاون على ترقية العمران في العراق، فإن ذلك لا ينافي استمساك كل منهم بدينه.

إن كان فيصل يعرف عقائد الإسلام وقواعده التي يكون بها المسلم مسلمًا، ويؤمن بما جاء في كتاب الله تعالى وبما أجمع عليه المسلمون منها، فعليه إذا لم يقل بها ويدعُ إليها أن يسكت عنها، أو أن لا يصرح بمخالفتها، وهذا أقل ما يباح له في مثل ذلك الموقف.

إن حكم الإسلام في الاختلاف بين المسلمين واليهود والنصارى في الدين هو أن دين الله تعالى على ألسنة رسله واحد وهو الإسلام، قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ} (آل عمران: 19) الآيات، وهو واحد في العقائد والمقاصد، ولكنه مختلف في الشرائع العملية والمناهج، كما قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} (المائدة: 48)، ومن أصول الإسلام أن محمدًا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم وأن بعثته عامة، وأنه لا يعتد بدين أحد بلغته دعوته إلا إذا اتبعه، وأن موسى صلى الله عليه وسلم لو كان حيًّا ما وسعه إلا اتباعه، وكذا غيره من الرسل {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ} (آل عمران: 81).

إن كان فيصل ملك العراق البريطاني مؤمنًا بما ذكر فالواجب عليه أن يقول: لو جاء موسى وعيسى ومحمد - عليهم صلوات الله وسلامه بالرغم من كل منافق وكافر مجاهر - لغضبوا غضبًا شديدًا من ترككم لوحدة الإسلام، وعدم اتباع خاتم الرسل عليه وعليهم الصلاة والسلام، الذي بعث هاديًا لإزالة الاختلاف والاختصام، وناسخًا لما كان من الاختلاف في الشرائع والأحكام، وداعيًا إلى ما يحبه الله ويرضاه من الإخاء الإنساني العام، ومحرمًا لعصبيات الأجناس والأوطان والآيات والأحاديث في هذا الموضوع كثيرة، والتفرقة بين من يؤمن بخاتم الرسل ويتبعه ومن يكفر به ويخالفه معلومة بالضرورة، لا يسع مسلمًا جهلها، ومن أنكرها وخالفها لا يعد مسلمًا، ولا أن يعامل معاملة المسلمين في ولاية عامة ولا خاصة ولا زواج ولا إرث ولا غير ذلك، ولولا أن أهل العراق خانعون لسلطة أجنبية قاهرة لطالبه علماؤهم من السنة والشيعة جميعًا أن يصرح بعقيدته، ويتبرأ مما تبادر إلى أذهان الناس الذين قرؤوا خطبته في كل قطر من مخالفة ما ذكر، ويعتذر عنه بأنه لم يكن يريد بما ذكر في الخطبة ما يخالف شيئًا من تلك الأصول الإعتقادية القطعية في الإسلام، ولكن العبارة كانت قاصرة - مثلاً - أو يجدد إسلامه.

إذا كان فيصل يجهل ما لا يسع مسلمًا جهله من عقائد الإسلام وأصوله، فهو بدين اليهود والنصارى وتاريخهما أجهل ؛ لأنه لم يتلق علوم الدين ولا غيرها عن العلماء فيتكلم عن علم، وجل ما يعلمه مقتبس من الجرائد وأحاديث المجالس، ليس له قاعدة يرجع إليها فيها، فيكون على بينة من مراد قائليها منها، فيظهر أنه سمع أو قرأ قول بعض أهل العلم والرأي: إن اختلاف المذاهب الذي كان مثار الشقاق والتفرق بين أهل الدين الواحد كالإسلام، إنما كان سببه البدع والأهواء، والتنازع على الملك أو الجاه، ثم استغلته الأمم والدول الطامعة في ملك أهله واستعمار بلادهم كما فعل الإنكليز في الهند، وكما يفعلون الآن في العراق ؛ ففهم الكلام مقلوبًا أو حرفه بهواه فحمله على اختلاف الأديان، جاهلاً أو غير مكترث بالإجماع ونصوص القرآن، ولو كان كلامه في الخلاف المذهبي بين أهل السنة والشيعة بقصد جمع كلمتهم لكان يكون له وجه، وكلامه نص في الخلاف بين المسلمين واليهود والنصارى فلا وجه له.

أي فيصل ! إن الخلاف بين اليهود والنصارى منشؤه عدم إيمان اليهود بالمسيح عليه السلام، وأن الخلاف بين المسلمين من جهة وبين اليهود والنصارى جميعًا من جهة أخرى هو في التوحيد المحض والإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن، ولم يكن هذا ولا ذاك (دسائس أجنبية دسها بعض الأشخاص أو الأمم الخارجية) ؛ ليوقعوا الشقاق بين أبناء سام كما زعمت حتى يصح قولك: (ومتى عرفنا ذلك يرفع من بيننا اسم اليهود والنصارى والمسلمين) ؟

ثم ما معنى قولك بعد هذا: (وإني لا أرى لزومًا لتكرار القول، فإنا أولاد جد واحد، إننا أولاد سام) فهل انتساب الشعوب إلى جد واحد يقتضي عقلاً أو طبعًا أن يكونوا على دين واحد ؟ كيف وأولاد الأب الواحد القريب قد يختلفون في الدين، ولو صح قولك لما وجد في الأرض دينان، فإن جميع أهل الأرض من أولاد نوح أبي سام، ومن أولاد آدم عليهما السلام ؟

على أن أهل العراق ليسوا كلهم من أولاد سام كما زعمت، فالمشهور أن الكلدانيين - وهم أقدم أمم الحضارة في العراق - من أولاد كوش بن حام بن نوح، وفي البلاد كثير من سلائل الفرس الآريين، ويقال: إن الكرد بدوهم، وقيل: من عرق آخر، وقيل: بل هم من العرب، ومع هذا فقد سمح فيصل لهم بأن يحافظوا على جنسيتهم، ثم أي حاجة إلى اشتراط انتساب أهل الوطن الواحد إلى جد واحد من ألوف السنين، وماذا يقول في الإنكليز الذي يمهد لهم سبيل السيادة الدائمة في البلاد بخطبته هذه وسائر أقواله وأعماله هل هم من أولاد سام أيضًا ؟ وهل يقبلون أن يرتفع اسم النصارى عنهم أو عن بقايا الآشوريين والكلدانيين الذين يتخذونهم ذريعة لفصم عروة كل اتحاد في العراق، كيف وملك الإنكليز هو حامي الإيمان المسيحي، وشعبه من أشد شعوب الأرض عناية وبذلاً في سبيل نشر النصرانية ؟ ومما أودعه الإنكليز في المعاهدة الإنكليزية العراقية حرية دعاة النصرانية في العراق ؛ ليعملوا ما استطاعوا في تحويل المسلمين فيه عن الإسلام.

يا حسرة على فيصل وعلى أبي فيصل وعلى إخوة فيصل ! يا حسرة على أهل بيت ينتسبون إلى خاتم الرسل وسيد ولد آدم ثم يكون هذا حظ أمته وملته ومنهم ! ولماذا هذا كله ؟ لأجل التمتع بلقب (ملك) في ظل الإنكليز، ألا بعدًا لملك زائل بل لقب باطل، يتوسل إليه بهذه الوسائل، وصاحبه لا يملك به إلا تنفيذ أمر الأجنبي فيما يهدم به سلطان أمته وتشريع ملتها.

يبشر الملك فيصل البريطاني أهل العراق بأن مستر لويد جورج الذي زعم أنه أكبر رجل في العالم قال: (نحن دخلنا العراق، ونرغب أن نجعلها جنات النعيم)، وأن العوام ورعاة الإبل والغنم في العراق لترتعد فرائصهم من هذه البشارة ؛ لأنها صريحة في أن الإنكليز لا ينشئون هذه الجنات للعراقيين بل لأنفسهم ؛ لأنهم ينوون امتلاك العراق وعدم الخروج منه، وفيصل يعتقد هذا ويرضاه، ولكنه لا يعلم أن أكثر أهل العراق يفهمونه، كما يعلم أنهم إذا فهموه لا يرضونه، ولذلك بشرهم به ! كأنه لا يقرأ كما يقرءون يوم ما يفعل الإنكليز في السودان وفي مصر أيضًا.

وجملة القول في جواب الاستفتاء أن ما تبادر إلى أفهام الناس في الهند ومصر وغيرهما من عبارة فيصل هو عين ما عليه المعطلون للأديان، المنكرون للوحي، الداعون إلى استبدال الروابط الجنسية والوطنية بالدين، ولا مخرج له إذا أراد أن يحافظ على ظاهر الإسلام لاشتراطه في ملك العراق أو لذاته إلا أن يتأول لنفسه بأنه لجهله باللغة العربية لم يستطع أن يعبر عن مراده، ويذكر نحوًا مما تقدم في كلامنا، أو يتوب ويجدد إسلامه، ويجب على علماء العراق مطالبته بذلك، وأن ينذروه بخلعه إذا أبى، ولا يستطيع هو ولا سادته الإنكليز أن يعاقبوهم على هذه المطالبة، كما عللنا سكوتهم فيما تقدم، والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

__________
(1) كذا، ولعل في العبارة حذفًا، والمعنى المفهوم من السياق سابقه ولاحقه أن الرسل يغضبون من انتماء الناس إلى مللهم، إنما يرضون استبدال الجامعة الجنسية والوطنية بها.
(2) كذا، ولعل أصلها الاختلافات.
(3) أي على العرف القديم لا على عرفه الذي اقترحه آنفًا.

أبو الفداء أحمد بن طراد
14-02-2010, 08:53 PM
بارك الله فيكم ورحم العلاّمة الجليل محمد رشيد رضا