مشاهدة النسخة كاملة : قصص قصيرة للكاتب التركي الساخر عزيز نيسن - آه منا نحن معشر الحمير
أبو حسن
20-11-2007, 12:44 PM
إشارة:
كلكم تتذكرون مسلسل "الدغري" بطولة دريد لحام ...
هذا المسلسل مأخوذ من رواية "زوبك" تأليف الكاتب التركي الساخر الشهير عزيز نيسن
كما أن الكثير من لوحات مسلسل "مرايا" لياسر العظمة مأخوذة من قصص قصيرة تأليف هذا الكاتب الرائع
سأحاول أن أرفع لكم هنا بعضا من قصص عزيز نيسن القصيرة آملا أن تنال إعجابكم ...
تعريف بالكاتب مأخوذ من مجموعته القصصية "آه منا نحن معشر الحمير":
تخطت مؤلفات عزيز نيسن الأدبية حدود الجغرافية واللغة، ولامس أرواح القراء في بلدان العالم المختلفة. ورغم أن عمله الأول قد صدر بعد أن تجاوز الكاتب الأربعين فقد قدم خلال عقود أربعة أكثر من تسعين مؤلفاً في القصة والرواية والمسرح والشعر.
يبرز في أعمال نيسن عمق في ملامسة هموم الإنسان ضمن إطار ساخر فكه، ولعل ذلك من الأسباب التي أسهمت في انتشار نتاجاته.
في معرض جوابه عن أسباب الانتشار المطرد لمؤلفاته يقول عزيز نيسن:
" هاجسي الوحيد هو تجسيد الفكرة ـ أية فكرة تجول في أعماقي ـ على الورق دون إهتمام بأي شيء آخر".
خلق عزيز نيسن عالماً أدبياً متميزاً، له ملامحه الجمالية الخاصة به، وفي مجموعته القصصية "آه منا نحن معشر الحمير" يمكننا أن نرى ذلك بوضوح.
أبو حسن
20-11-2007, 12:47 PM
آه منا نحن معشر الحمير
كنا، نحن معشر الحمير، سابقاً نتحدث بلغة خاصة بنا، أسوة بكم معشر البشر، هذه اللغة كانت جميلة وغنية، ولها وقع موسيقي جذاب كنا نتكلم ونغني . لم نكن ننهق مثلما عليه الحال الآن. لأن النهيق بدأ عندنا فيما بعد، وتعلمون أن جميع حاجاتنا ورغباتنا وحتى عواطفنا، نعبر عنها الآن بالنهيق.
ولكن ما هو النهيق؟ هاق، هاق.
هو عبارة عن مقطعين صوتيين، أحدهما غليظ وثخين، والآخر رفيع، يصدران الواحد إثر الآخر.
هذا هو النهيق.. الذي بقي في لغتنا ، لغة الحمرنة، لكن كيف تغيرت هذه اللغة حتى أصبحت بهذا الشكل؟
ألا يهمك معرفة هذه الحكاية وكيف حدثت؟
حسناً إذاً ، بما أنكم تهتمون بذلك، سأرويها لكم باختصار، لجم الخوف ألسنتنا وذهب بعقولنا ، وبسبب الخوف نسبنا للغتنا الحميرية.
في غابر الزمان كان يلهو حمار هرم وحده في الغابة، يغني بعض الأغاني بلغة الحمير ويأكل الأعشاب الغضة الطرية، وبعد فترة من اللهو تناهت إلى منخريه رائحة ذئب قادم، من بعيد. رفع الحمار رأسه عالياً وعبّ الهواء ملء رئتيه وقال: لا يوجد رائحة ذئب، لا، لا ليست رائحة ذئب ، وتابع لهوه قافزاً من مكان إلى آخر، ولكن الرائحة أخذت تزداد كلما دنا الذئب أكثر. هذا يعني أن المنية تقترب.
- قد لا يكون ذئباً، قد لا يكون، ولذلك حاول الحمار الهرم أن يطمئن نفسه، إلا أن الرائحة كانت تزداد باطراد، فلما ازداد الذئب اقتراباً، كانت فرائص الحمار ترتعد رعباً، ومع ذلك كان يحاول إقناع نفسه بأن القادم ليس ذئباً.
- إنه ليس ذئباً، إن شاء الله كذلك، ولم يكون كذلك؟ ومن أين سيأتي وماذا سيفعل؟ وهكذا ظل الحمار الهرم يخدع نفسه، حتى بات يسمع صوتاً غير مستحب، صوت دبيب الذئب القادم.
- إنه ليس ذئباً، لا ليس صوت ذئب، ولا يمكن أن يكون كذلك، وماذا سيعمل الذئب هنا، ولمَ سيأتي؟؟؟
ومع اقتراب الذئب أكثر فأكثر أخذ قلب الحمار يخفق وعيناه ترتجفان، وعندما حدّق عالياً صوب الجبل، رأى ذئباً مندفعاً مخلفاً وراءه سحباً من الغبار.
- آه آه.. آه إنه ذئب، وكنت أحلم بذلك؟ قد يكون خيّل إليّ أن ما أراه ذئب أو كنت أحلم بذلك.
وبعد فترة ليست طويلة رأى ذباً قادماً من بين الأشجار، مرة ثانية حاول أن يطمئن نفسه قائلاً:
- أتمنى أن لا يكون ما أراه ذئباً، إن شاء الله لن يكون كذلك، ألم يجد هذا اللعين مكاناً آخر غير هذا المكان؟ لقد أصاب الوهن عيني، لذلك أخذت أرى هذا الشيء ذئباً قادماً.
تقلصت المسافة بينه وبين الذئب حتى أصبحت خمسين متراً. أيضاً حاول طمأنة نفسه قائلاً:
- إن شاء الله أن يكون ما أراه ليس ذئباً، قد يكون حملاً أو فيلاً أو أي شيء آخر. ولكن لمَ أرى كلّ شيء بهيئة ذئب؟
- أعرف تماماً أن ما أراه ليس ذئباً ، ولكن لمَ لا أبتعد قليلاً.
أخذ الحمار الهرم يبتعد قليلاً ناظراً إلى الوراء، أما الذئب فقد اقترب منه فاغراً فاه.
- حتى لو كان القادم ذئباً ماذا سيحصل... لا، لا لن يكون ذئباً، ولكن لم ترتعد فرائصي؟
جهد الحمار الهرم أن تكون خطواته أسرع، حتى بات يركض بأقصى سرعة أمام الذئب المندفع.
- آه كم أنا أحمق فقد صرت أظن القطّ ذئباً وأركض هكذا كالمعتوه، لا ليس ذئباً... زاد الحمار من سرعته حتى أخذت ساقاه ترتطمان ببطنه ومع ذلك استمر في خداع نفسه قائلاً:
- حتى لو كان الذي أراه ذئباً ، فهو ليس كذلك، إن شاء الله لن يكون كذلك.
نظر الحمار الهرم وراءه فرأى عيني الذئب تشعان وتطلقان سهاماً نارية، وتابع ركضه مطمئناً نفسه بقوله:
- لا ، لا يمكن أن يكون ذئباً.
نظر الحمار خلفه عندما شعر بأنف الذئب يلامس ظهره المبلل، فوجده فاغراً فمه فوق ظهره.
حاول الركض إلا أنه لم يستطع ذلك لأن قواه خانته، فأصبح عاجزاً عن الحراك تحت ثقل الذئب، ولكي لا يراه فقد عمد على إغلاق عينيه وقال:
- أعرف تماماً أنك لست ذئباً.
لا تدغدغ مؤخرتي إني لا أحب مزاح اليد.
غرز الذئب الجائع أسنانه في ظهر الحمار الهرم، ونهش منه قطعة كبيرة، ومن حلاوة الروح، كما يقولون، إرتبط لسان الحمار ونسي لغته.
- آه آه إنه ذئب آه، هو آه هو .....
تابع الذئب النهش من لحم الحمار الهرم ذي اللسان المربوط، حيث لا يصدر منه سوى آه هو ... هاق .... هاق.
منذ ذاك اليوم نسينا أيها السادة ، ولم نستطع التعبير عن رغباتنا وأفكارنا إلا بالنهيق.
ولو أن ذاك الحمار لم يخدع نفسه، لكنا نجيد الحديث بلغتنا إلى الآن. ولكن ماذا أقول آه منا نحن معشر الحمير.. هاق ... هاق ...
أبو حسن
20-11-2007, 01:26 PM
تعيش الحكومة
إصطاد رجل سمكة، فسارع بها الى زوجته طالبا منها أن تقليها...
لكن الزوجة اعتذرت لعدم وجود زيت...
فقال الرجل لها: إشويها...
فاعتذرت الزوجة لعدم وجود مشواة...
فطلب منها أن تسلقها...
فصرخت فيه الزوجة: لا نملك غازا...
فحمل الرجل السمك وراح الى البحر وألقاها في الماء...
فهتفت السمكة: "تعيش الحكومة" !!!
محمد أحمد الفلو
20-11-2007, 02:42 PM
حلوين
مشكور أبو حسن
الزاهر
20-11-2007, 05:33 PM
يا هلا بالأرايب أبو حسن!!!
والله لولا أن هذه القصص تحمل في طياتها ما يدمي القلب.......لكنا ضحكنا!!!!!!
أبو حسن
21-11-2007, 11:20 AM
شكرا على مروركم وتعليقاتكم وأهلا بكم ...
سأواصل بعون الله إضافة قصص عزيز نيسن وسأختار منها القصيرة التي لا إطالة فيها حتى لا تسأموا من قراءتها ...
كتابات عزبز نيسن قريبة جدا من واقعنا وشخصيات قصصه كأنها موجودة معنا في مجتمعاتنا ... لذا فقراءة قصصه فيها متعة وفائدة ...
فيا ليتكم تواصلون تزيين هذا الموضوع بتفاعلكم وردودكم حتى لا أصاب أنا بالسأم !
أبو حسن
21-11-2007, 11:23 AM
"وبدأ الناس يفهمون" أو "المُراقَب"
أيامه الأخيرة في السجن كانت جحيما لا يطاق.. هجرته زوجته وهو مسجون.. بعد خروجه كادت الوحدة تقتله.. كان في شوارع العاصمة.. غريبا يائسا.. لم يجد نفسه فيها.. حالته المادية كانت سيئة للغاية.. لا تساعده على دفع إيجار شقته الضيقة الصغيرة.. قرر أن يتركها ويبحث عن غرفة صغيرة خارج المدينة يقدر على دفع كلفتها..
لقد كان فيما مضي ناشطا سياسيا.. يطالب بالعدالة الاجتماعية.. وبحقوق الفقراء والمعدمين.. لقد أفنى حياته وزهرة شبابه مطالبا بحقوقهم.. لكنه الآن بعد خروجه من السجن صار أكثر بؤسا منهم..
بعد بحث طويل عثر علي بغيته.. منزل شعبي مؤلف من غرفة صغيرة.. يبعد عن المدينة مسافة ساعتين سيرا على الاقدام.. كتب قديمة.. ملابس باليه.. كل ما يملك.. قبالة المنزل بنيت بقالة صغيرة من بقايا الاخشاب والتنك المهترئ.. وإلى يسارها كوخ لبيع الخضار.. كان البائعان يشتكيان من قلة عدد الزبائن فى المنطقة.. ومن فقرهم المدقع. .توطدت عرى الصداقة بينه وبينهم..
بعد فترة قصيرة من استقراره في مسكنه الشعبي حضر إلى الحي بائع الكعك وبائع الذرة.. ثم بائع حلوى الغريبة.. ثم بائع المياه الغازية وأخيرا الإسكافي.. واستقروا جميعا مع عائلاتهم في الحي.. تحول المكان بمرور الوقت إلى سوق تجاري بسيط.. بدأ عامل النظافة يكنس الشوارع…وكثر الباعة المتجولون.. وشيد هناك مقهى..
كان يشعر بالسعادة الغامرة لهذا الجو الرحب الباعث للفرح والبهجة.. لكنه مع الأسف ما زال عاطلا عن العمل.. ولم يبق أمامه سوى الإستدانة من أصدقائه.. لكنهم للأسف جميعا مفلسون.. عرض عليه أحد معارفه العودة إلى المدينة والسكن معه في غرفة واحدة مجانا.. أعجبته الفكرة كثيرا.. لكن يستحيل عليه إخلاء منزله.. فهو مدين للبقال وبائع الخضار وآخرين..
وفي ليلة من الليالي وبينما هو يفكر في مخرج لما هو فيه.. إذا بالباب يقرع.. كان الحاضرون البقال وبائع الخضار.. وصاحب المقهى..
إعتذر لهم أنه لا يملك شيئا ليقدمه لهم..
فقالوا له: لا بأس فقد أحضرنا معنا الشاي والسكر..
لقد كان يعتقد أنهم حضروا للمطالبة بديونهم..
قالوا له.. لقد سمعنا أنك تنوي أن تغادر..
قال لهم اطمئنوا لن أغادر المنزل قبل أن ادفع لكم ديونكم..
قالوا له: عيب يا سيد.. ديون ماذا.. وهل بيننا ديون.. هل طالبناك بشيء..؟ نحن نعرف ما فعلت من أجل الفقراء والمساكين.. لقد حضرنا لمنزلك لنطلب منك البقاء وعدم الإنتقال.. فأنت رجل بركة.. ومنذ أتيت لهذا الحي.. والحركة التجارية في ازدياد مستمر.. ونحن من سيدفع لك إيجارك وأيضا سندفع لك أجرة لكي تبقي.. فأنت كما قلنا لك رجل بركة وأي بركة ! ..
شكرهم على عرضهم..واعتذر عن قبوله.. لكنهم أصروا عليه.. كان على وشك أن يجهش بالبكاء.. ثمة تغيير في هذا البلد يحدث.. وكأن صحوة بدأت توقظ الناس من سباتهم.. فهو لم يعمل مع رفاقه كل تلك السنين لأمور تافهة.. وهؤلاء الأشخاص الواقفون أمامه كانوا يشيحون بوجوههم عنه ويحتقرونه فيما مضى ! ..
أدامكم الله.. شكرا جزيل الشكر.. ولكن اسمحوا لي فأنا لا يمكن أن اقبل معونتكم.. ! ..
عرضوا عليه أن يستأجروا له منزلا أفضل.. وأن يضعوا خادما يخدمه.. وأن يبعثوا له بالطعام كل يوم مجانا.. لكنه أصر على الرفض..
حينها نظر الثلاثة في وجوه بعضهم وقرروا انه لابد من إخباره بالحقيقة..
إسمع يا أستأذنا الكبير.. أدامك الله لنا ذخرا وعزا.. عندما حضرت إلى حينا.. بدأت الشرطة السرية تجوب أزقته بمظاهر متعددة (زبال، ماسح أحذية، الخ..) لمراقبتك ووضعك باستمرار تحت أنظارهم.. وعلى هؤلاء الشرطة جاءت شرطة آخرون لمراقبتهم.. وعلى الآخرون جاء آخرون لمراقبتهم.. حتى استقر أغلبهم في هذا الحي.. فازدهرت تجارتنا.. وأصبحت حالتنا المادية ممتازة.. فإذا انتقلت أنت من هنا.. ستعود المنطقة إلى حالها من الفقر والعوز لأن جميع أفراد الشرطة سيرحلون ليقتفوا أثرك.. فلا ترحل الله يخليلنياك يا سيدنا لا ترحل..
وأجهشوا بالبكاء.. وأجهش معهم بالبكاء.. ولكن لأمر آخر !! ...
أبو حسن
22-11-2007, 09:57 AM
الذئب أصله خروف ...
في مكان مجهول لا تعرف موقعه بسهولة يعيش راع وأغنامه وكلابه. لكن الراعي لا يشبه الرعاة الآخرين.. فهو لا يعرف للرحمة معنى. ولا يعتقد أن للألم وجوداً.. كان ظالما. يحمل بدل الناي صفارة.. وبيده هراوة. والنعاج –التي يحلبها ويجز صوفها ويبيع أمعاءها ويأخذ روثها ويسلخ جلدها ويأكل لحمها ويستفيد من كل ما فيها– لا يكن لها شفقة أو محبة.. يحلب الأغنام يوميا ثلاث مرات حتى يسيل الدم من أثدائها.. وعندما تشكو ذارفة الدموع من عينها ينهال عليها ضربا على رؤوسها وظهورها.
لم تحتمل النعاج وحشيته فكانت تتناقص يوما بعد يوم.. لكنه ازداد قسوة.. فقد كان على العدد المتناقص من الأغنام أن يعوضه عن كل ما هرب أو مات من القطيع.. وقد فقد الراعي عقله وجن لأنه كان يحصل على حليب وصوف أقل مما كان يحصل عليه. وراح يطارد الأغنام المتبقية في الجبال والسهول حاملا هراوته في يده. ومطلقا كلابه أمامه. كان بين الأغنام خروف نحيف كان الراعي يريد حلبه والحصول منه على حليب عشرين جاموسة.. وكان غضبه أنه لا يحصل على قطرة حليب منه.. لأنه ببساطة خروف. وليس نعجة.. وفي يوم غضب الراعي منه وضربه ضربا مبرحا جعله يهرب أمامه.. فقال له الخروف: "يا سيدي الراعي أنا خروف قوائمي ليست مخصصة للركض بل للمشي.. الأغنام لا تركض. أتوسل إليك لا تضربني ولا تلاحقني". لكن الراعي لم يستوعب ذلك ولم يكف عن ضربه.. ومع الأيام بدأ شكل أظلاف الخروف يتغير لكثرة هروبه إلى الجبال الصخرية والهضاب الوعرة للخلاص من قسوة الراعي القاتل.. طالت قوائمه ورفعت.. فازدادت سرعة ركضه هربا لكن الراعي لم يترك إليته.. فاضطر الخروف للركض أسرع. ولكثرة تمرغه فوق الصخور المسننة انقلعت أظلافه ونبتت مكانها أظافر من نوع آخر.. مدببة الرأس ومعقوفة.. لم تعد أظافر بل مخالب.
مرة أخرى لم يرحمه الراعي فواصل الخروف الركض فكان أن شفط بطنه إلى الداخل واستطال جسمه وتساقط صوفه.. ونبت مكان الصوف وبرة رمادية قصيرة وخشنة. وأصبح من الصعب على الراعي أن يلحق به.. لكن ما إن يلحق به حتى يواصل ضربه وإهانته. وهو ما جعل الخروف يرهف السمع حتى يستعد للهرب كلما سمع صوت قدوم الراعي أو كلابه. ومع تكرار المحاولة انتصبت أذناه وأصبحت مدببة قابلة للحركة في كل إتجاه.. على أن الراعي كان يستطيع أن يصل إليه ليلا وضربه براحته فالخراف لا ترى في الظلام.. وفي ليلة قال الخروف له : سيدي الراعي.. أنا خروف.. لا تحاول تحويلي إلى شيء آخر غير الخروف.. لكن الراعي لم يستوعب ما سمع.. فكان أن أصبح الخروف يسهر ليلا ويحدق بعينه في الظلام.. ولكثرة تحديقه كبرت عيناه وبدأت تطلقان شررا.. وغدت عيناه كعودي كبريت في الليل.. تريان في الظلام أيضا.
كانت نقطة ضعف الخروف هي إليته.. فهي ثقيلة تعطله عن الركض. لكن.. لكثرة الركض ذابت إليته واستطالت. وفي النهاية أصبحت ذيلا على شكل سوط. ورغم فشل الراعي في اللحاق به فإنه كان يلقي الحجارة عليه ويؤلمه.. وكرر الخروف على مسامع الراعي: "إنني خروف يا سيدي.. ولدت خروفا.. وأريد أن أموت كبشا.. فلماذا تضغط علي كي أتحول إلى مخلوق آخر؟".
لم يكن الراعي يفهم.. فبدأ الخروف يهاجم الراعي عندما كان يحصره في حفرة ما لحماية نفسه من الضرب. وغضب الراعي أكثر.. فضاعف من قسوته بجنون لم يشعر به من قبل.. فاضطر الخروف أن يستعمل أسنانه. لكنه لم يستطع ذلك لأن أسنانه داخل ذقنه المفلطحة. وبعد محاولات دامت أياما بدأت أسنانة تنمو. وفيما بعد استطال لسانه أكثر. وأصبح صوته غليظا خشنا. ولم يستوعب الراعي ذلك.. وواصل ما يفعل وبالقسوة نفسها.
ذات صباح شتوي استيقظ الراعي مبكرا ليجد المكان مغطى بالجليد. وتناول هراوته التي سيحث بها نعاجه المتبقية على حليب عشر بقرات وذهب إلى الزريبة. لكن ما إن خرج من الباب حتى وجد بقعا من الدم الأحمر فوق الثلج.. ثم رأى أشلاء أغنام متناثرة.. لقد قتلت كافة النعاج ومزقت. ولم يبق منها ولا واحدة.. وظلل عينيه بيديه ونظر بعيدا فرأى الخروف.. كان الخروف قد مد قائمتيه الأماميتين قدامه وتمدد بجثته الضخمة على الثلج وهو يلعق بلسانه الطويل الدماء من حول فمه. ثمة كلبا حراسة يتمددان على جانبيه دون حراك.. ونهض الخروف وسار بهدوء نحو الراعي.. كان يصدر صوتا مرعبا.. وبينما الراعي يتراجع إلى الخلف مرتجفا قال متمتما: "يا خروفي.. ياخروفي.. ياخروفي الجميل". عوى الخروف قائلا: "أنا لم أعد خروفا".
كرر الراعي ما قال.. عوى الخروف قائلا: "في السابق كنت خروفا. ولكن بفضلك أصبحت ذئبا". وجرى وراءه...
وسيم أحمد الفلو
22-11-2007, 02:09 PM
مشكور أخي أبو حسن على إهتماماتك الأدبية الراقية والجميلة
عمار الفلو
22-11-2007, 03:05 PM
والله هالكاتب عندو خيال رائع
الله يبارك فيك يا أخ أبو الحسن
أبو حسن
22-11-2007, 08:26 PM
وفيكم بارك الله أخويّ وسيم وعمار
سأواصل رفع قصص عزيز نيسن قريبا إن شاء الله
Nadine
24-11-2007, 11:43 AM
قصص رائعة , تحتوي على الكثير من العبر .
بارك الله فيكم اخ ابو حسن, وننتظر المزيد.
أبو حسن
25-11-2007, 07:27 AM
الحمار الحائز على وسام
كان في قديم الزمان.. بلد، الغربال في التبن، والجمل دلاّل، والجربوع حلاق، وأنا في حضن أمي اهتز، وبكري مصطفى شيخ الاسلام، والجاويش انجلي قائد عام، وكركوز رئيس وزراء، وكان حاكم سلطان،البلاد التي كانت تحت نفوذ هذا السلطان أشرقن شمس الحرية عليها، واخضوضرت شجرة الديمقراطية في تربتها.. الخير كثير والراحة أكثر، سكانها لا هم لهم ولا غم.
راحت ايام جاءت أيام، حل فيها -وقاكم الله – قحط لا يوصف. الذين كانو يأكلون الكثير واللذيذ أصبحوا محرومين حتى من كسرة الخبز اليابس.
وجد السلطان أن المجاعة ستفتك بالرعية فبحث عن طريق للخلاص. أطلق المنادين في أنحاء البلاد، دارها بلدة بلدة، قرية قرية، حارة حارة، كان القرار الذي نادى به هكذا :
– يا أهالي البلد !الحاضر يعلم الغايب ! كل من قدم خدمة للسلطنة أو نفعا للوطن، فليسرع إلى القصر ليقدم له مولانا السلطان وساماَ.
نسي الناس جوعهم، حرمانهم، همومهم، ديونهم،مصاريفهم... وهرعوا إلى السلطان هائمين بأوسمته.. فلكل وسام حسب حجم خدماته.. وسام المرتبه الاولى مطلي بالذهب، وسام المرتية الثانية بماء الذهب، وسام المرتية الثالثة بالفضة، وسام المرتبه الرابعة بالقصدير، والخامس توتياء والسادس تنك وهكذا.. وهكذا فالأوسمة أنواع.. الذاهب يحصل على وسام والآيب يحصل على وسام.
وبقي الحال على هذا حتى انه، من فرط صنع الأوسمة، لم يبق في بلاد السلطان ذاك شيء من خردة الحديد أو توتياء أو تنك.. وكما أن (الجنجل) المعلق في رقبة البغل يصدر باهتزازه صوتا (شنغر شنغر) هكذا أخذت الاوسمة تهتز على الصدور المنفوخة كالمنافيخ.
سمعت بقرة عن الأوسمة، شنغر شنغر، تقرقع على صدور الناس، وأن السلطان يمنح قاصديه أوسمة، ففكرت .. "الوسام في الواقع من حقي أنا" !! ووضعت في ذهنها فكرة الحصول على الوسام.
وبالرغم من كون عمودها الفقري وقفصها الصدري ناقبين، وأنها تطب على الأرض كمن يزحف زحفا، فقد حضرت إلى باب القصر ركضاَ، قالت لرئيس البوابين :
– اخبروا السلطان بأن بقرة تريد مقابلته.
أرادوا صرفها فبدأت تخور:
- لا أخطو خطوة واحدة من أمام الباب قبل أن أواجه السلطان !
أرسلوا للسلطان:
- مولانا، بقرة من رعيتكم تسأل المثول أمامكم.
- لتأت لنرى بأية حال هي هذه البقرة !
قال السلطان :
– خوري لنرى ما ستخورين به !
قالت البقرة :
– مولاي، سمعت بأنك توزع أوسمة أريد وساما.
فصرخ السلطان :
– بأي حق ؟ وماذا قدمت ؟ ما نفعك للوطن حتى نعطيك وساما !؟
قالت البقرة :
– إذا لم أعط أنا وساما فمن يعطاه ؟؟؟ ماذا أقدم للإنسان بعد كل هذا ؟ تأكلون لحمي وتشربون حليبي وتلبسون جلدي. حتى روثي لا تتركونه.. بل تستعملونه فمن أجل وسام من التنك ماذا أعمل أيضا ؟؟؟
وجد السلطان الحق في طلب البقرة فأعطاها وساما من المرتبة الثانية.
علقت البقرة الوسام في رقبتها وبينما هي عائدة من القصر، ترقص فرحا َ، التقت البغل:
– مرحبا يا اختي البقرة ؟
– مرحبا يا أخي البغل!
– ما كل هذا الانشراح ؟من أين أنت قادمة ؟
– شرحت البقرة كل شيء بالتفصيل، وإذ قالت أنها أخذت وساما من السلطان، هاج البغل، وبهياجه، وبنعاله الأربعة، ذهب إلى قصر السلطان :
- سأواجه مولانا السلطان
- ممنوع
إلا أنه وبعناده الموروث عن أبيه، حرن وتعاطى على قائميه الخلفيين. أبى التراجع عن باب القصر. نقلوا الصورة إلى السلطان فقال :
– البغل أيضا من رعيتي، فليأت ونرى ؟؟
مثل البغل بين يديه. أخذ سلاما بغلياًَ، قبّل اليد والثوب، ثم قال أنه يريد وساما فسأله السلطان :
– ما الذي قدمته حتى تحصل على وسام ؟؟
– آ... يا مولاي.. ومن قدم أكثر مما قدمت ؟ ألست من يجمل مدافعكم وبنادقكم على ظهره أيام الحرب ؟ ألست من يركب أطفالكم وعيالكم ظهره أيام السلم ؟؟ لولاي ما استطعتم فعل شيء.
أصدر السلطان -إذ رأى البغل على حق- قرارا :
أعطوا مواطني البغل وساما من المرتبة الأولى !
وبينما كان البغل عائدا من القصر بنعاله الأربعة، وهو في حالة فرح قصوى.. التقى بالحمار. قال الحمار :
– مرحبا يا ابن الاخ
قال البغل:
- مرحبا أيها العم.
– من أين أنت قادم والى أين أنت ذاهب ؟
حكى له البغل حكايته .قال الحمار :
– ما دام الأمر هكذا سأذهب إنا الآخر إلى سلطاننا وآخذ وساماً!
وركض بنعاله الأربعة إلى القصر.
صاح حراس القصر : داه.. جي.. لكنهم لم يستطيعوا صده بشكل من الأشكال، فذهبوا إلى السلطان :
– مواطنكم الحمار يريد المثول بين أيديكم. هلا تفضلتم بقبوله أيها السلطان ؟؟
قال السلطان:
– ماذا تبغي يا مواطننا الحمار ؟
فاخبر الحمار السلطان رغبته. فقال السلطان وقد وصلت روحه إلى أنفه :
– البقرة تنفع الوطن والرعية بلحمها وحليبها وجلدها وروثها، وإذا قلت البغل، فانه يحمل الأحمال على ظهره في الحرب والسلم، ومن ثم فانه ينفع وطنه، ماذا قدمت أنت حتى تأتي بحمرنتك وتمثل أمامي، دون حياء، وتطلب وساماً؟.. ما هذا الخلط الذي تخلطه ؟
فقال الحمار وهو يتصدر مسرورا ً:
– رحماك يا مولاي السلطان. ان أعظم الخدمات هي تلك التي تقدم إليكم من رعاياكم الحمير، فلو لم يكن الألوف من الحمير مثلي بين رعيتكم، أفكنتم تستطيعون الجلوس على العرش ؟ هل كانت استمرت سلطتكم ؟ إحمد ربك على كون رعيتكم حمير مثلي تماما، ومن ثم على استمرار سلطنتكم !
أيقن السلطان أن الحمار الذي أمامه لن يرضى بوسام من التنك كغيره فقال:
- إيه يا مواطني الحمار، ليس عندي وسام يليق بخدماتكم الجليلة، لذا آمر بأن يقدم لك عدل من التبن يوميا في إسطبل القصر. كل، كل، كل، حتى تستمر سلطنتي...
الزاهر
25-11-2007, 03:32 PM
يا ويلااااااااااااااااااااااااااااااي...........هادي هية......جيت بوئتها يا ارايب!!!!
بارك الله بكم!!!
عمار الفلو
25-11-2007, 04:06 PM
فاستخف قومه فأطاعوه
أبو حسين
25-11-2007, 06:02 PM
قصص جميلة وواقعية ممتعة , تابع في كتابتها
ننتتظر المزيد
السلام عليكم
أبو حسن
26-11-2007, 08:49 AM
يا هلا بالأخوة أبو حسين وعمار وزاهر والأخت نادين
سأواصل رفع القصص بإذن الله وشكرا على التشجيع
أبو حسن
26-11-2007, 08:55 AM
تنكة صدئة في الخزينة
كان يا ما كان.. كان، أو ما كان... في قديم الزمان، مكان ما في العام، مكان ما كان فيه شيء، في هذا المكان الذي ما كان فيه شيء، كان ثمة سلطان، السلطان عنده خزينة، في الخزينة أمانة الشعب الغالية. الشعب يفخر بهذه الأمانة الآيلة إليه من أجداده... يتناسى فقره وبؤسه ويتباهى بها قائلا:
وحتى لو لم يكن عندنا شئ يكفينا أن تكون عندنا هكذا أمانة من الأجداد لا يفعل ذلك شخص شخصان... وإنما كل فرد من أفراد الشعب يستأثر بحصة من المباهاة بهذه الأمانة القيمة الباقية له من أجداده... يحميها بروحه وجسده.
وطالما أن أحسن مكان لحفظ الأمانة التي هي مال الشعب هو خزينة السلطان فقد خبئت فيها، يحرسها رجال مدججون، لا يغمض لهم جفن ولا يدعون الطير تطير فوقها.
السلطان والصدر الأعظم وذوو المراتب في القصر يقسمون بشرفهم مرة كل عام على حمايتها.
ودارت الأيام، ومرت الأيام... حتى جاء يوم فكر فيه السلطان بمعرفة ما هي هذه الأمانة التي يستفديها الناس بأرواحهم ودمائهم
فصار يتحرق شوقأ إلى معرفة ما بداخل خزينة الأمانة تلك.ولم يعد يطيق صبرأ فدخل جناح الخزينة. لا يستطيع الحراس القول للسلطان:ممنوع. فالسلطان والصدر الأعظم والوزراء يدخلون متى ما شاؤوا ليرو ما إذا كانت الخزينة لا تزال في مكانها.
السلطان فعل هكذا: الأمانة موجودة في غرف متداخلة. كل غرفة تؤدي إلى أخرى حتى الحادية والأربعين، حيث الخزينة في خزائن متداخلة كل خزينة تفتح عن خزينة... حتى الحادية والأربعين. فتح الأربعين غرفة وخش الحادية والأربعين. فتح أربعين خزينة... وبينما كان يفتح الحادية والأربعين، أخذ قلبه يضرب... ذلك أنه كان يمتلك الكثير من الفضول لمعرفة الشيء الذي يحمونه طيلة هذه السنين. فماذا رأى؟
كانت جوهرة لم تقع عين بشر على مثيلها حتى ذلك الزمان... جوهرة تتلألأ وتضطرم كألسنة النار. لو قلت من ذهب ما حزرت، أو قلت بلاتينأ لأخطأت، أو قلت من فضة ما أصبت. لم يتمالك نفسه فقال: آخذ أمانة الأجداد هذه لي، تصبح ملكي... ومن الذي سيعرف وكيف؟
أخذ الأمانة المقدسة التي كانت تتلألأ كقطعة من الشمس ودسها في جيبه. لكنه بدأ يتخوف ماذا لو اكتشفوا أنني سرقتها؟... لأضع مكانها قطعة من الذهب مزينة بالماس واللؤلؤ والزمرد والصدف والياقوت. وطالما أنه لم يسبق لأحد أن رآها فلن يفهم أنها مسروقة، فيما لو فتحت الخزنة ذات يوم...
ومثلما قال فعل. أقفل إحدى وأربعين خزينة متداخلة، وفوقها واحد وأربعين بابا، وهو يرتعش من خشية أن يشك أحد أنه سرق الأمانة.
حتى ذلك الزمان كان يقسم يمين واحد في السنة على حماية الأمانة، فضاعفها إلى مرتين: يجتمع أبناء الشعب والمديرون والسلطان ويقسمون على أنهم سيحمون الأمانة المقدسة الباقية من الأجداد، بأرواحهم ودمائهم.
الصدر الأعظم رجل داهية. داخله الشك فقال لنفسه كنا نقسم مرة في السنة فلماذا رفعها السلطان إلى اثنين؟
وفي يوم من الأيام دخل جناح الخزينة موسوسا: ما هي هذه الأمانة التي نحميها طيلة هذه السنين؟ مر من إحدى وأربعين غرفة، فتح إحدى وأربعين خزينة رأى الأمانة. وقف مشدوها أمام قطعة الذهب التي وضعها السلطان لئلا ينتبه لفعلته أحد. آخذ هذه الأمانة مكانها قطعة ذهب مزينة بحجارة لماعة. وكيفما كانت، وطالما أن الأمانة لا يعرفها أحد، فإن من يفتح الصندوق يومأ سيعتقد أن هذه هي الأمانة المقدسة...
ومثلما قال فعل. وخوفأ من أن تكشف عملته أزمع أن يرفع عدد المرات التي يقسم فيها اليمين إلى أربع: في الصيف والشتاء والربيع والخريف، مثلما سبق للسلطان أن رفعها إلى اثنتين.
أحد الوزراء رجل داهية. دخل الشك نفسه، كنا حتى الآن نقسم مرتين، فلماذا زادوها إلى أربع؟
هو الآخر، وطالما أنه يستطيع الدخول دون اعتراض من أحد، فقد دخل يوما عبر الإحدى والأربعين غرفة، فتح الإحدى والأربعين خزينة، فلمعت عيناه بفرح إذ رأى قطعة الذهب المزينة بالحجارة اللماعة: لو آخذها وأضع مكانها قطعة فضة، فمن سيعرف؟
ومثلما قال فعل، ورفع مدفوعا بخوفه من أن يكتشف أمره عدد مرات الحلفان إلى مرة كل شهر.. صار الشعب يجتمع في الساحات العامة مرة كل شهر، ويقسم على أنه سيحمي الأمانة المقدسة حتى آخر رجل وآخر قطرة دم.
مشرف القصر واحد داهية، توسوس من رفع معدلات الإقسام إلى مرة في الشهر قال: ثمة ما يريب. لأذهب وأر. مر من إحدى وأربعين غرفة، فتح الإحدى وأربعين خزينة.. رأى أمانة الأجداد المقدسة فأعجب بها: لو آخذها وأضع مكانها قطعة نحاس فمن الذي سيدري ؟
ومثلما قال فعل. فعلها، وخوفأ من افتضاح أمره، ولكي يعتقد الناس أنه حريص عليها، فقد جعل اليمين يقسم مرة في الأسبوع.
الضابط الذي يحمي الخزينة -هو الآخر- داهية: ما الذي يجري ؟ كل أسبوع نقسم. لأذهب وأر هذه الأمانة المقدسة.. وكما فعل الآخرون مر من إحدى وأربعين غرفة فتح إحدى وأربعين خينة. رأى قطعة نحاس اللامعة ففرح بها: إذا أخذتها ووضعت مكانها قطعة حديد، فمن سيعرف؟
ومثلما قال فعل. ولكي يملص من عملته، وليعتقد الناس أنه غيور على الأمانة يفتديها بروحه وجسده، فقد رفع معدلات الحلفان إلى مرة في اليوم !
ودارت الأيام، ومرت الأيام.. ظهر من بين الناس رجل قال:
كل يوم ونحن نقسم على أننا سنحمي الأمانة الباقية من الأجداد بدمائنا وأرواحنا.. ونحن في واقع الحال نخبئها في الخزينة ونحميها على نحو جيد.. لكن ما هذه الأمانة؟ ألسنا نحن المؤتمنين عليها؟ تعالوا إذن نفتح الغرف والخزائن لنر ما نحمي.
أحدثت كلمات الرجل تأثيرا كتأثير القنبلة. الذين خانوا الأمانة، وعلى رأسهم السلطان، تقدموا نحوه وطوقوه، الذين أخذوا الأمانة، على التوالي، واستبدلوها بأشياء مزورة، مكل واحد منهم يعتقد أنه فعلها دون علم الآخرين، ارتعشوا خوفا من اكتشاف السرقة، فقالوا للرجل الذي قال لنر الأمانة التي نحميها:
- آخ يا خاين.. وأنت من أنت حتى ترى الأمانة المقدسة التي انتقلت إلينا من الأجداد؟؟
ألبسوه تهمة الإقلال من هيبة الأمانة.. وما بقى إلا شيء قليل حتى يتحول الرجل إلى.. ممسحة...
قال السلطان:
إذا كنا سنقتل هذا الرجل فلنقتله وفق القانون...
ولكي يعدموا الرجل سنوا قانونا خاصا، وقتل الرجل بقرار محكمة خاصة.
بيد أن المسألة لم تنته بإعدام الرجل. كلماته انتقلت من فم إلى الفم.. والفكرة أخذت تكبر كجرف ثلجي.
في يوم من الأيام فكر رجل من الناس لنذهب ونر هذه الأمانة طالما أننا سنموت في سبيلها لكنه ولأنه يعرف ما جرى للذي قبله لم يتفوه بكلمة أمام البشر، وضع في رأسه أنه سيتسلل إلى الخزينة ويرى ما بداخلها سرا.
السلطان والصدر الأعظم والوزراء، وكافة حرامية الأمانة بمن فيهم الضابط الذي استبدل قطعة الحديد بتنكة صدئة ولكيلا تظهر سرقتهم، أو بالأحرى لئلا يكتشف أنهم استبدلوها صاروا يحرسونها على نحو أشد.
وبينما كان الرجل الذي نجح في الدخول سرا إلى الخزينة، بينما كان خارجا بالأمانة المقدسة ليريها للناس، رأى الضابط التنكة في يده، فصرخ:
- هذه ليست هي !
الوزير قال أيضا: هذه ليست هي !
الذين في القصر، بمن فيهم السلطان، قالوا:
هذه ليست هي !.. هذه ليست هي!..
فسألهم الرجل الممسك بالتنكة الصدئة:
وكيف عرفتم أن هذه ليست الأمانة المقدسة؟ وإذا لم تكن هي، فما هي..؟
لم يتمكن أحد من الحاضرين من الإجابة على سؤاله، ذلك أن كل واحد منهم قد فهم أن الشيء الذي وضعه بدل الأمانة قد سرق فيما بعد.
خنقوا الرجل الممسوك وأعادوا التنكة الصدئة إلى مكانها ضمن إحدى وأربعين خزينة وإحدى وأربعين غرفة. ولحماية الأمانة المقدسة سنوا قانونا يتوجب على كل فرد من الشعب بموجبه أن يحلف صباحا وظهرا ومساء على حماية الأمانة المقدسة.
ولم يستطيع أحد من الذين يقسمون الأيمان أن يعرف أن الأمانة قد تحولت من سرقة إلى سرقة إلى تنكة صدئة.
أبو حسن
19-07-2010, 09:22 AM
من أروع قصص عزيز نيسن، قرأتها حين كنت في العاشرة من عمري... ومن حينها لا أستطيع أن أنساها...
كيف تم القبض على حمدي الفيل؟
قامت مديرية امن استانبول بتعميم البرقية التالية على جميع مديريات الامن خارج مدينة استانبول:
في الخامسة والثلاثين من العمر. طويل القامة ، وزنه حوالي مائتي كيلو غرام ، حنطي اللون ، ثلاثة من أسنانه غير موجودة. في فكه العلوي ضرس فيه (حشوة) ، اما في فكه السفلي فهناك ضرس مطعم بالذهب ، يرتدي ثيابا بنية اللون مقلمة ، شعره قليل ، وجهه عريض ، عيناه بلون بني ، لقبه حمدي الفيل ، محتال ومن اصحاب السوابق المتوحشين ، هرب من قبضة اثنان من الشرطة كانا يقومان بحراسته ليلا نهارا طيلة ثلاثة ايام دون ان يغمض لهما جفن ، استغل لحظة غفلة عيونهم ، وهرب من بين أيديهم ، وقد تبين بصورة قطعية لا تدع مجالا للشك بعد ان قمنا بجميع انواع التحقيق والتعقيب والتدقيق ان حمدي الفيل قد هرب.
لذا يرجى التعميم على جميع المخافر من أجل الانتباه واخذ الحيطة والحذر عندما يسألهم عن عنوان او طريق. ونرجو في حالة العثور عليه في محافظتكم وتوابعها من القرى والأقضية ، ارساله الى مديرية أمن استانبول بالسرعة والوقت الذي ترونه مناسبا. علما بأننا ننتظره بفارغ الصبر. ونرجو ان لا تتركونا بالانتظار لفترة اطول. مرفق، صورة لصاحب السوابق المتوحش حمدي الفيل.
***
في احدى المحافظات النائية وقف اثنان من رجال الشرطة يتحادثان
- انظر يا صديقي رمضان أنا متأكد ان هذا الشخص الذي يشرب الشاي هو حمدي الفيل.
- لعله يشبهه.. أعطني الصورة لكي نتأكد.
- هذه ليست صورته يا رمضان ، انها صورتك.
- نعم انها صورتي لقد تصورتها في العيد.
- حسنا ولكن يا ليتك ضحكت.. هيا اخرج صورة حمدي الفيل.. اخرج رمضان من جيبه مجموعة من الصور وبدأ بالبحث.
- هذه صورة ابني.. ذكرى خدمته في الجيش.. وهذا محمود..
- هل تسأل عن هذه الصورة؟ هذه صورة علي مهرب الهيرويين.
- وهذا صبحي (فأر الأوتيل) لقد اختلطت الصور ببعضها. هيا اخرج لنا هذا الفيل يا رمضان.
بدأ محمود ورمضان يبحثان بين الصور لعلهما يجدان صورة حمدي الفيل.
- اسرع يا محمود لقد انتهى الرجل من شرب الشاي وسوف يهرب الان.
- انظر كيف يتلفت يمينا وشمالا.
- لقد وجدتها هذه هي الصورة بالضبط.. انه هو.
تقدما نحو الرجل المشتبه به وقالا له:
- قف هكذا أيها المواطن.
وبدأوا بالنظر مرة الى الصورة ومرة اخرى الى وجه الرجل.
- قف جانبا لكي نرى.
- انه لا يشبهه يا رمضان.
- لنأخذه الى رئيس المخفر لعله يتعرف عليه ، ربما استطاع تمييز الشبه.
- هيا بنا أيها المواطن سوف تذهب معنا الى المخفر.
***
وفي محافظة نائية اخرى كان هناك موظفان أمنيان يقفان في السوق وهما يتحدثان.
- قال احدهما من المعيب علينا يا أخي شكري ، فنحن نبحث منذ الصباح وحتى المساء دون ان نتمكن من القبض على حمدي الفيل.
- انظر لعله ذلك الرجل؟
- ربما.. دعنا نسأله.
ذهبا الى الرجل وسألاه:
- ما اسمك أيها السيد؟
- مصطفى.
تكلما مع بعضهما همسا.
- يقول ان اسمه مصطفى.
- يجب ان يقول حمدي،.. ربما يخفي علينا اسمه..
- وهل يظن انه يستطيع خداعنا.
- هل يمكن أن تأتي معنا؟
***
في محافظة بعيدة اخرى كان هناك موظفان أمنيان جالسان في المقهى وهما يتحدثان.
- لقد قبضت البارحة على ثلاثة اشخاص مثل حمدي الفيل وسقتهم الى المخفر ولكن رئيس المخفر لم يعجبه اي واحد منهم.
- يا اخي ان رئيس مخفرنا يحب المشاكل.
- اسكت.. تكلم بصوت منخفض لكي لا يسمعنا احد.. انظر الى ذلك الرجل الذي يشرب الشاي.. انظر اليه بطرف عينيك.
- انه هو.. نفسه.
- ولكن المكتوب في الاوراق ان حمدي الفيل بدين وهذا الرجل ضعيف البنية وكأنه هيكل عظمي.
- حتما سيصبح ضعيف البنية فهو يتجول هاربا وهذا ليس بالامر السهل
- معك حق.. ولكن هذا الرجل اسمر اللون بينما حمدي الفيل حنطي اللون.
- لقد اصبح لونه داكنا من كثرة تجواله في البوادي والجبال.
- صحيح.. لكن هذا الرجل شعره اسود وكثيف بينما كتب في الاوراق ان شعر حمدي الفيل قليل وقد تساقط معظمه.
- هذا ممكن ، وقد يكون الرجل بقصد التنكر قد وضع علي رأسه شعرا مستعارا.
- ماذا ننظر اذن. دعنا نقبض عليه.
- اقترب الاثنان من الرجل وسألاه.
- ما اسمك أفندم؟
- حمدي.
- انظر الي بعضهما وهما يضحكان ضحكة ذات مغزى.
- هيا بنا الى المخفر.
- ما الامر.. ماذا جرى.
- لا تسأل كثيرا.. سوف تفهم في المخفر كل شيء.
***
وفي محافظة نائية اخرى كانت الامور تجري كغيرها في باقي المحافظات ، استوقف اثنان من الشرطة شخصا سائرا على الطريق العام.
- افتح فمك..
- لا يوجد شيء في فمي.
- افتحه ما دام لا شيء فيه.
فتح الرجل فمه وحدق الشرطيان مليا داخل فمه وخاصة أسنانه ، قال شرطي لزميله:
- دقق في الاوراق التي معك كم ينقصه من الاسنان.
- قرأ الثاني في الاوراق. ثلاثة اسنان ناقصة.. ضرس في الفلك الاعلى فيه حشوة طبية.. وفي فكه السفلي هناك ضرب مطعم بالذهب.
وبدأ الشرطي في احصاء أسنان الرجل.
- واحد ، اثنان ، ثلاثة ، اربعة ، لا تمزج لقد أخطأت في التعداد ، واحد ، اثنان ، ثلاثة ، اربعة ، خمسة.. اربعة وعشرون.. لديه اربع وعشرون سنا.
- هل قلت اربع وعشرون ، كم واحد ناقص؟.. أنت كم ينقصك من الاسنان هل تعلم.
- ثمانية..
- لقد خلع أسنانه ، لكي يخفي الأدلة.
- الاسنان التي في فمي هي (طقم اسنان) وأنا ليس لدي سن اصلي ، حتى ان اربعة منهم كسروا عندما كنت أمضع الذرة المشوية.
- هل ذُكر في الاوراق ان اسنانه تركيب.؟
- لم يذكر ولعلهم نسوا ان يكتبوا ان أسنانه تركيب. انه هو يا عزيزي.. هو بعينه.. انظر الى الضرس المطعم بالذهب.. تعال معنا يا سيد.
- الى أين؟
- الى المخفر.
***
كان يصل الى مديرية امن استانبول من المحافظات الاخرى مئات البرقيات يوميا وجميعها ذات مضمون واحد تقريبا.
«جوابا على برقيتكم رقم.. وتاريخ.. نفيدكم بأننا قبضنا ضمن حدود محافظتنا على اربعة عشر شخصا يرتدون ألبسة بنية مقلمة منهم ثمانية اشخاص لهم ضرس في الفك السفلي مُطعم بالذهب.
يعني اننا قبضنا على اربعة عشر شخصا حمدي الفيل ، يرجى اعلامنا فيما اذا كان هذا العدد كاف أم لا. وهل تريدون منا الاستمرار في البحث أم لا. يرجى التفضل بما ترونه من الأوامر ودمتهم».
عممت مديرية امن استانبول الى المحافظات البرقية التالية:
«لقد امتلأت جميع الاماكن في الوقت الحاضر ، ونرى ان عدد الاشخاص الذين ألقي القبض عليهم باسم حمدي الفيل كاف ، نرجو كف البحث من اجل القبض علي حمدي الفيل ، لغاية صدور أوامر اخرى.
***
ملاحظة: لقد تم القبض على الفار حمدي الفيل.
ريمون حمية
19-07-2010, 04:28 PM
أنا بدأت اليوم بالقراءة بالفعل قصص كتير حلوة
ننتتظر المزيد
أبو حسن
19-07-2010, 08:28 PM
أهلين خيي ريمون،
سأحاول بإذن الله متابعة الموضوع وإضافة قصص جديدة كل فترة...
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir