تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : عصام العطار ينعى من دار هجرته حفيدته «هدى»



النور الساطع
10-12-2007, 03:38 PM
بقلم: عصام العطار

المراقب العام السابق للإخوان المسلمين في سوريا

حضرتُ مَوْلِدَها في «آخن» في 1/12/1980م، وحضرتُ تشييعَها ودفنَها في «آخن» قُرْبَ جدّتها لأُمّها الشهيدة «بنان» التي كانت أَحْفَى الناسِ بها قبل أن تُسْتَشْهَد.
وفَتَح الْفَقْدُ الجديدُ جُرْحاً جديداً في قَلْبٍ تَقَاسَمَتْهُ الجِراح، فلا يَزال جرحُ جدّتها، وجراحاتٌ عميقةٌ أُخرى تَنْزِفُ في القلب ولا تَلْتَئِم.

تَمُرُّ بِنا الأيامُ يا أُمَّ أَيْمن بأَحْداثِها الكُبْرى سِراعاً جَوارِيا
فَلا تَلأَمُ الأيامُ جُرْحَكِ دامِياً ولا تلأمُ الأيامُ جرْحِيَ داميا
كانت هدى رحمها الله تعالى أوّلَ ولدٍ لبنتي هادية، وكانت عندما وُلِدَتْ بَسْمَةَ سعادة في حياتنا في غربتنا، وكان لها في طفولتها وعلى امتداد حياتها صفات بارزة تدعو إلى محبتها، وإلى الإعجاب بها والإشفاقِ عليها في وقتٍ واحد.
كانت في طفولتها وصباها وشبابها مُرْهَفَةَ الحسّ، مَشبُوبَة العاطفة، إنسانية الشعور، صادقة الطبع، قويمة السلوك، عظيمة الطموح، توّاقةً على الدوام إلى الأفضل والأقوم والأكمل.
حبّ العلم
وحُبِّبَ إليها المعرفةُ والعلم، والسَّبْقُ، والعطاءُ النافعُ من خلال المعرفة والعلم؛ فكانتْ متقدِّمةً في دراستها للعربية والدين في البيت وفي المسجد، وكانت متقدّمة في دراستها الابتدائية والثانوية في المدارس الألمانية.
واختارتْ هدى بعد الشهادة الثانوية الاختصاص بالقانون؛ لحاجة مجتمعاتنا في الغرب إلى القانون، وحاجة عالمنا في قضاياه العادلة إلى القانون، واختارتْ أن يكون اختصاصها في جامعة القانون في هامبورغ التي تُعَدُّ في مجالها من أرقى جامعات العالم، فلا تضمّ إلا نُخْبَةَ النخبة من الأساتذة والطلاب، ولا تقبل كلَّ سنة إلا عدداً محدوداً من الطلبة الذين حازوا في شهاداتهم ودراساتهم السابقة أعلى العلامات والذين يجتازون امتحاناً تحريريّاً وشفويّاً صعباً واختباراً شاملاً للشخصية والإمكانات، ويدفعون أقساطها المالية المرتفعة مباشرة إن كانوا قادرين، أو يوقّعون عَقْداً يلتزمون فيه بدفعها مقسّطة بعد التخرجِ والعملِ إن كانوا من المتفوقين غير القادرين، وهذا ما فعلته هدى.
كانت متفوقةً متألقةً في الجامعة، كما كانت متفوقةً متألقةً في شخصيتها وعطائها، وكانت موضع الإعجاب والاحترام أيضاً في إيمانها والتزامها حيثما كانت بدينها وحجابها وزيّها الإسلامي في جامعتها، وفي جامعة (إكستر) التي درست فيها في إنجلترا، وفي مكاتب المحاماة الدولية التي تدربت فيها.
وأتقنتْ هدى خلال مسيرتها العلمية والثقافية بجدِّها واجتهادها خمسَ لغات قراءةً وكتابةً وحديثاً؛ العربيةَ والألمانيةَ والفرنسيةَ والإنجليزيةَ واللاتينية، كما عرفت شيئاً يسيراً من المعرفة عن لغات أُخرى.
وكان يُرْجَى لها لو امتدّ بها العمرُ مستقبل علمي وإسلامي وإنساني كبير جدّاً.
قال لنا أحد الأساتذة في تعزيته: «إن هدى ليست فقيدةً أُسريّةً، ولكنها فقيدةٌ إنسانيةٌ وأخلاقية، فقد كان يُرجى لها أن تكون في المستقبل من أكبر فقهاء القانون في العالم، ومن أكبر حرّاس الحق والعدالة والقيم الإنسانية العليا». ودعا مدير الجامعة أسرة الفقيدة الغالية إلى هامبورغ لتستقبلهم الجامعة وتُقدّم إليهم كتاباً تذكاريّاً أعدته عن هدى.
لسان الحق
لا أقول هذا تفاخراً، معاذ الله، وهل ينفعُها أو ينفعُنا التفاخر؟ ولكنها كانت رحمها الله تعالى أَملي في أن تكون لنا -نحن العربَ والمسلمين، ونحن أبناءَ العالم الثالث- عيناً من العيون البصيرة الأمينة التي نُطِلُّ بها على العالم والعصر، وقضايا العالم والعصر، ولساناً من الألسنة العليمة السديدة التي تنطق بالحق في هذا العالم، وصورة صادقة باهرة للمرأة المسلمة في مجالات العلم والفكر والعمل، فقد آتاها الله عز وجل من الإيمان والخلق والمواهب ما يؤهلها لهذا الدور المأمول.
ولكن جهدها الكبير الكبير، وتعبَها المتواصل، للتفّوق والتقدم، وأداء رسالتها المرجوّة على أفضل وجه ممكن، كانا أكبر من طاقتها الإنسانية، فأخذ الضعف والوهن يتسرّب إلى جسمها وصحتها على توالي الأيام وهي تُكَابِرُ الضعف والوهن، حتى عجز الجسم الضعيف عن مطالبِ الروح العظيم، فانهار الجسم، ورجعت الروحُ إلى ربها راضيةً مَرْضِيّة إن شاء الله.
أكتب هذه السطور وفي عينيَّ وفي قلبي وأنا أكتبُ صُور حية رائعة مُتَتابعةٌ تتراءى لي صورة بعد صورة لكل مرحلة من مراحل حياتها الغنية منذ كانت طفلة صغيرة إلى أن وارينا جثمانها التراب.
كانت رحمها الله تحرص على العربية حِرْصها على قُرآنها ودينها، وكانت تُذَكِّرني في كثير من أحاديثها معي بالحرص كل الحرص على تعليم أبنائنا العربية، فالعربية كما تقول: هي الشخصية والهوية والدين والمصير.
وحرصتْ هدى في مختلف مراحل حياتها على أن تعيش إسلامها كاملاً باطناً وظاهراً، فأصرّتْ على لبس الحجاب قبل أن يُفرض عليها الحجاب، واستمرّت على هذا النهج في مختلف الأمكنة والأوقات والظروف، وفَرَضَتْ بعلمها وتقدّمها وخلُقها ومزاياها المختلفة احترام اختيارها ونهجها هذا حيث تكون.
القرب من الله
كانت هدى تتصل بي في شهور حياتها الأخيرة كل يوم، فتغمرني بفيض إيمانها وعاطفتها وحُبها، وقد شَفَّتْ نفسُها فليس فيها إلا الإيمان، وصدق التوجّه إلى الله عز وجل، والأمل في خدمة أفضل للإسلام والمسلمين، والإنسانية والإنسان، وعمل الخير بمختلف ضُروبه وسُبُلهِ على كل صعيد.
قالت لي في ليلة من ليالي رمضان المنصرم: إنني أحسّ في هذه الأيام والليالي إحساساً عميقاً جدّاً بأنني أقرب إلى الله مني إلى الناس، وإلى الآخرة مني إلى الدنيا، وأجدُ في الذِّكر والدعاء وقراءة القرآن سعادةً لا توصف، وأجدُ في قلبي طمأنينة كاملة للقاء ربي، ولا أستشعر خوفاً من الموت، ولكنني أحبكم وأكره أن أفارقكم، ويَحُزّ في نفسي أن أخرج من الدنيا ولم أحقّق فيها ما كنت أحلُم بتحقيقه لديني وأسرتي ونفسي، وللإنسانية كلها، وأكره أن أُسبّب لكم الألم والحزن.
هل ستحزنون عليَّ كثيراً إن مِتُّ؟ هل ستحزن عليَّ كثيراً يا جدّو؟ مسكينة مسكينة أُمّي.. واحسرتاه عليها.. أعانَها أعانَها الله..
وَأَحْسَسْتُ بصوتها يَخْتَلِج، وبأنها تمانع البكاء، وأحسست - وأنا في آخن وهي في هامبورغ - بدمعاتها تتقاطر على الخدين، ثم قالت: عفواً يا جدّو، لا بد أنني أحزنتك؛ ولكن تأكّد تأكد أنني سأكافح لأعيش، ولأنجح، ولأسعدَ بكم وأُسْعِدَكم، وأحقّق ما أستطيع تحقيقه من الآمال.
وفي الليلة التي سَبقت ليلةَ وفاتِها اتصلتْ بي في الساعة الثانية بعد منتصف الليل.
قالت لي: لقد استيقظت من النوم لأتصل بك وأطمئنك، فأنا أعلم أنك ساهر وبالك مشغول؛ لأنني لم أتصل بك في موعدنا المعتاد قبل النوم.. لا تَقْلَقْ عليَّ يا جدّو فأنا بخير.
نَعَمْ أيتُها الحبيبة العزيزة، نَعَمْ يا هدى.. أنتِ بخيرٍ إن شاء الله تعالى، وكيف لا يكون بخير من صار إلى الرحمن الرحيم؛ وهو أرحم به من أمه وأبيه، ولقيه مؤمناً صادقاً لا يشرك به شيئاً.
رحم الله حفيدتي هدى.. لقد كانت زهرة نادرة لم يمهلها العمر ليملأ أريجُها الدنيا.. وشجرة طيبة صَوَّحَتْ قبل أن تُعطِيَ ثمارَها المنتظرة.. وكوكباً غاب في مَطْلَعه قبلَ أن يبلغ مَدَى النظَر.. ولكنها حكمةُ اللهِ وإرادتُه عز وجل، ونحنُ راضون كل الرضا بقضاء الله وقدره.. «إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ، وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى».. «اللَّهُمَّ لاَ تَحْرِمْنَا أَجْرَهَا، وَلاَ تَفْتِنَّا بَعْدَهَا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلَهَا».. و إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ .

المصدر: مجلة الأمان
http://www.al-aman.com

محمد أحمد الفلو
11-12-2007, 08:21 PM
والله متلما توقعت
بعد 3 إيام ... المشاهدات 12 وبس
مع إنو الموضوع كتير مؤثر ...