المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : خزانة ذكريات ( شوق إلى الوطن )



أبو محمد القلموني
08-03-2007, 04:10 PM
وقعت في يدي أحد الإخوة الذين أجلهم و أحترمهم فأشار علي بوضعها في منتدى القلمون .
إذا رأيتم فيها ما يستحق القراءة فأعدكم بالمزيد إن شاء الله.

وهي عبارة عن رسائل كتبت بها إلى أختي أم عبد الله حفظها الله و رعاها. أبثها فيها أشواقي و شجوني إلى العهود الأولى في الوطن .


خزانة ذكريات -1-

بحبر الشوق الممزوج بالألم و قلم الذكريات الجميلة الضاربة في أعماق الروح أكتب إليك كلماتي هذه. كلمات هي كجسور ممتدة فوق بحار ومحيطات من الماضي ؛ أعبر بها إليك هناك حيث كنت تتمددين بقربي تحادثينني في حنادس الظلم حين تنطفئ الأنوار و تسكن الأنفاس. لقد كانت كلماتك لي حينها بسيطة في مضمونها مبعثرة في أسلوبها عبثية في منطقها ؛ عن الجارات و أولاد خالتي و أولاد الجيران و أنواع الألعاب وعن عصام صاحب البناية . وكنت أشاركك في هذا كله ؛ أشاركك البساطة و العبثية و البعثرة فقد كنت مثلك يومها حزورا يافعا أحلامي كأحلامك و كلماتي ككلماتك و هواي كهواك ! أهوى البكاء و الضحك و اللعب و الهرب من عصام !

هل تذكرين أيام كنا نجلس معا على السجادة في غرفة نومنا التي كانت أيضا كما كل باقي أرجاء البيت الصغير ساحة لعبنا ولهونا ؛ هناك ! ... قرب مكتبة قديمة لونها بني مائل إلى السواد كنا نخبئ في داخلها بعض ألعابنا بل كنا نختبئ في داخلها أحيانا. فكانت على ضيقها الشديد تبدو رحبة ممتدة كسماء القلمون الغالية!

لست أدري لماذا صرت اليوم أكره و أنفر من الأماكن الضيقة بل تكاد أنفاسي تنقطع لمجرد تخيلها ، بينما أنا الآن أستذكر ذلك المكان الذي لا يتسع لغير طفل صغير في الرابعة من عمره ، ومع ذلك أشعر أنني أستطيع أن أدخله و أطل منه على سماء الوطن كله!

هل أصبحت سماء الوطن بحجم ذلك المكان الضيق؟! أم أن ذلك المكان هو الذي إتسع و يتسع أكثر فأكثر كلما تقدمنا خطوات في نفق الزمان؟!

لقد كان في الغرفة نافذتان خشبيتان لونهما أبيض . (الأباجور) الخشبي الخاص بهما كان أحمرا قاتم اللون . النافذة الشرقية التي بجوار سريري كانت تظل مقفلة طيلة العام فلا تفتح إلا للتنظيف بين الحين و الحين . النافذة الغربية التي بجوار سريرك كانت تفتح كل يوم و لا تغلق إلا عند الحاجة إتقاء لأشعة الشمس المحرقة أو لهبة ريح عاصفة ماطرة. لكنها في غير ذلك من الحالات تبقى مفتوحة مشرعة تستقبل نسائم الحقول و أنغام الطيور . وكانت هذه النافذة تطل مباشرة على شرفة صغيرة تلتقي بصالة البيت . فليس من طريق إلى تلك الشرفة إلا نافذتك أو الصالون. وكنت أحب أن أعتلي سريرك و أفتح النافذة لأقفز إلى الشرفة في غمرة و بهجة لو قسمت على أهل الوطن كله لوسعتهم!

لست أدري ما سبب تلك الهموم التي يعانيها الناس في الوطن؟! أليسوا يملكون نوافذا يطلون منها على ربوعه ، فيستقبلون أريجه و عبقه؟! هل يا ترى أقفلت كل تلك النوافذ فأصبحت كالنافذة الشرقية الأخرى التي بجوار سريري مقفلة طيلة أيام السنة؟! والتي قدر لي أن أحملها معي إلى الغربة لأضعها هناك منسية في أرجاء قلب منفي!
وأما أنت فحملت النافذة الغربية الثانية المشرعة التي كانت بجوار سريرك ، حملتيها معك إلى الغربة فلم تطل غيبتك ! بل عدت سريعا إلى القلمون الحبيبة!

سافرت قبل ستة سنوات إلى جدة و هناك كان بجوار سريري أيضا نافذة مقفلة! حملتها معي وسافرت إلى الرياض فإذا سريري و بجواره نافذتان مغلقتان عدت بهما إلى جدة بعد سنوات !

فهل يكون قدري دائما أن أحمل النوافذ المقفلة لأنتقل بها من غربة إلى غربة؟! متى يأتي اليوم الذي أفتح فيه هذه النوافذ وأعود بها إلى الوطن مفتوحة مشرعة ، أضعها إلى جانب سريري وأطل برأسي منها في الصباح مستمتعا بهبات باردة تلفح وجهي و بمنظر البلابل تزقزق على أغصان شجر الزيتون الأخضر؟!

خارج الغرفة كان ثمة ممر ضيق ، ولكن ضيقه كان يساعدنا على التسلق إلى الأعلى ، فكنا نصل إلى السقف الذي يتخايل إلي اليوم عاليا مرتفعا كما سماء الوطن الحبيب!
اليوم نحن نتيه في دروب وممرات الغربة الواسعة لا نحسن صعودا و لا تسلقا!
أفيكون ضيق الوطن متسعا ومنفذا إلى علو و متسع الغربة مضيقا ومنزلقا إلى سفال ! هل هذا هو الناموس الذي يغيب عن الكثيرين هنا في هذه الغربة المتلاطمة؟!

الممر ينتهي بممر آخر ويتصل بغرفة والدي الحبيبين . وفي الزاوية على مدخل الغرفة كانت آلة الخياطة التي تجلس عليها والدتي الحبيبة ، وقد وضعت نظارتها على عينيها و في يدها قميص أو بنطال أو تنورة تمررها تحت إبرة مهتزة خارجة من آلة متحركة ، تتحكم بحركتها قدم أمي الغالية ، فتدوس باستمرار ومرة بعد مرة على عجلة متصلة بتلك الآلة. لا زلت أذكر ذلك المنظر البهي وأحن إليه فليس في الغربة كلها منظر هو أبهى و أجمل و أمتع منه.

بخار الماء المنبعث بعد حمام ساخن يختلط بروائح زكية آتية من المطبخ و أصوات عجلات آلة الخياطة تختلط بتنبيهات والدتي المتلاحقة وأصوات بعض الجيران تأتي بعيدة خافتة ... هكذا كان حال ذلك الممر . وعلى يسار الممر كانت خزانة حائط قديمة مممتلئة بالملابس ومقسمة إلى أقسام عدة. أجمل قسم منها يقع خلف الباب لأنه الأبعد عن نظر الناظر وفيه فرصة للإختباء و قضاء وقت طويل بعيدا عن الأعين!

هل كان هذا هو السبب الذي حملني على السفر ؟! هل هو حب قديم للإختفاء والتواري بعيدا؟! هناك في الوطن كنت أختفي لأظهر سريعا فأجد من ينتظرني ويسألني بلهفة : أين كنت ؟ و كيف اختبأت؟! فيزيدني ذلك شغفا بالإختباء و التخفي! و ظلت هذه الرغبة تزداد و تزداد حتى جاءت بي إلى هنا ، إلى خزانة كبيرة لم أعد أعرف كيف أخرج منها؟ ولا من ينتظرني خارج أسوارها؟!

في أعلى الممر وعلى يسار أمي الجالسة إلى آلة الخياطة كانت غرفة صغيرة مرتفعة نسميها(التختية) وكانت ممتلئة بالكنوز و النوادر أو هكذا كنت أحسها . أجمل اللحظات كانت حين يغفو والدي بعد الظهر في غرفتهما فأستغلها فرصة و أصعد إلى (التختية) لتلمس يداي كنوزها المبعثرة هنا و هناك و لأمشي في تلك الغرفة التي لا يمكن الوقوف فيها ، حاني الظهر وبخطوات متعثرة! لكنها كانت توصلني إلى أهدافي كلها!

فما بال خطواتنا المتزنة اليوم لا توصلنا إلى شيء من مبتغانا ؟! فهل هي حقا خطوات متزنة أم هكذا يزين و يخيل إلينا؟! لكن ماذا عن خطواتنا المتعثرة في الوطن؟ ولماذا توصلنا هناك و لا توصلنا أو تصلنا بأهدافنا هنا؟! هل هو الناموس سالف الذكر نفسه؟!

أعطني يدك و تعالي ندخل معا إلى المطبخ . ولنجلس هنا على تلك الكنبة القديمة لنستريح قليلا من الركض واللهث. فليس في الأرض مقعد أوثر و لا أنعم و لا ألذ من تلك الكنبة! تعالي نتأمل والدتي واقفة تغسل الصحون و بين الحين و الحين تنادي على والدي كي يساعدها في سحب السجادة ، قبل أن يغمرها ماء منهمر من الأسفل سببه خلل في التمديدات...

هناك عن يمين الجالس في المطبخ شرفة تطل على جبل أخضر تفوح منه رائحة الزعتر البري !

لقد مضى زمن لم أسأل فيه عن زعتر الوطن! كنت في سالف الزمن أنتظر موسمه بفارغ الصبر لأنطلق إليه مع الأصدقاء أو مع العمات ، أطلب أريجه و عطره أشمه بقوة و كأنني أريد له أن يبقى أكبر مدة في دماغي و صدري ؛ كأنني أودعه! ثم ودعته و مضيت إلى غربتي و عطره أبدا عابق لم يزل في مخيلتي و روحي.

هل تذكرين غرفة الجلوس ؟ حيث كانت تجلس أمي مع خالتي و بعض الجيران. والدتي الحبيبة تجلس على الكنبة الأقرب إلى المطبخ ثم تليها خالتي سميرة و تتوزع الجارات ندى و فردوس على باقي الكنبات. رائحة القهوة تنبعث من الأقداح لتزكم أنوفنا وأحاديث مرتفعة لا نلقي لها بالا و أخرى خافتة نشد أسماعنا إليها بقوة !

ترى إلى متى ستظل الأصوات الخافتة تستهوينا ؟ هل هو كره الضجيج وحب الهمس أم أن صوت الحق في الوطن قدره أن يبحث دون جدوى عن الأصوات المرتفعة حتى إذا وجدها خفتت فجأة!

خطوتان في غرفة الجلوس ثم تكون الثالثة بعدهما في أرض الصالون المكان الأوسع في المنزل و الذاكرة. دعيني أجلس هنا للحظات متأملا صامتا أتدبر في كلمات أرجائه الناطقة و في صفحات زواياه الصارخة . ليتك تدركين كم أحتاجه؟ هنا في غربتي لا أحلم إلا به و لا تطأ شخصيات أحلامي غير خشبته الساحرة! لا زلت أحفظ شكل بلاطه و مواطن نمش موزع على جدرانه! واها لكنباته كم مرة نمت عليها فغفوت حالما بالغربة و اليوم في غربتي أنام و لا أحلم إلا بها !
أشعر بتعب شديد لا يريحني منه إلا غفوة طويلة على واحدة من تلك الكنبات أحلم فيها أنني عدت أخيرا بنوافذي مشرعة إلى الوطن!

متى أستيقظ لأجد نفسي على واحدة من تلك الكنبات الوثيرة فأعتدل جالسا ثم أنظر في الأرجاء مبتسما مطمئنا ليصلني صوت والدتي تدعوني إلى المطبخ لتناول الطعام ؟!

في بعض الأحيان كنت أجلس على طاولة السفرة أقرأ في كتبي ، حتى إذا شعرت بالنعاس يدب إلي أبعدت كرسيين غير الكرسي الذي أجلس عليه و صففتهما إلى جانبه ، ثم أتمدد ساحبا الكراسي إلى الداخل لأنام هناك فلا يراني إلا من يقترب مني. كم كانت تلك الإغفاءة القصيرة ممتعة!

لقد حلمت يومها كثيرا بغرفة مستقلة و مكتبة كبيرة بجوار سرير مريح ، أجلس فيه متناولا الكتب مقلبا في صفحاتها حتى إذا شعرت بالنعاس أطفأت النور و نمت في سريري هانئ البال. أما اليوم فأتمنى لو كانت هذه الغربة حلما طويلا أصحو منه قريبا لأجد نفسي ممددا على تلك الكراسي ، فأعتدل وأدفعها إلى مكانها ثم أفتح الكتاب وأتابع القراءة!

لي مع هذا المكان حديث طويل وأسرار لا تكاد تنتهي . لكن سرا منها يلح علي بإصرار أن أبوح لك به فهو متعلق بك أنت مباشرة.

ها أنا ذا أترك الطاولة و أمشي لأقف على باب الشرفة . هناك ... في الواجهة بين أشجار الزيتون تقع المدرسة التي درسنا فيها منذ الصغر وهي عبارة عن خزانة كبيرة لن أفتحها الآن! إلى يمينها يبدو جبل القلمون شاهقا مرتفعا ممتدا يسحر الألباب بخضاره و خزائنه الكثيرة الممتلئة!

هناك في ربوعه الخلابة كسرت رجلي ذات مرة وأنا أقفز جذلا في براريه ، فلزمت الفراش فترة ثم عدت إلى الجبل مرة أخرى بشغف أكبر و لهفة أعظم.

وحدها جبال الوطن تكسر أرجلنا و تهشم عظامنا فيزداد عشقنا لها و يشتد هيامنا بها !

أعود خطوتين إلى الوراء و أقف في إتجاه القبلة وأكبر رافعا يدي و أدخل في صلاة خاشعة... أسلم عن يميني و عن يساري و أجلس واضعا رأسي في كفي و أبكي كولد صغير أضاع أمه... أبكي و أبكي دون توقف وعيناي و سمعي يلتفتان بين الفينة و الفينة إلى باب الصالة تحسبا أن يدخل علي أحد فيكشف سري ! لقد احتفظت به لنفسي ولم أشأ أن يعرف به أحد على الإطلاق! اليوم فقط بعد كل تلك السنوات أبوح لك به...
لقد كانت تلك السنة التي ستسافرين فيها خارج أسوار الوطن حاملة معك نافذتك الغربية المشرعة . وكان سفرك بعد أشهر قليلة كنت أعد أيامها و لياليها كمريض يئس الأطباء من شفائه فأدار للدنيا ظهره و جلس ينتظر موعده مع الموت!

لقد كنت يومها ساذجا و لم يخبرني أحد بأن الذين يسافرون بنوافذ مفتوحة يعودون سريعا إلى الوطن !

الشامي
08-03-2007, 06:54 PM
السلام عليكم ..

جُزيت خيراً أخي أبو محمد .. فقد كتبت بأقلامنا وتحدثت بأفواهنا.. وفتحت قلب كل مُغترب ...أظن كما الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.. فإن القلمون تاج على رؤوسنا لا يراه إلا كلُ مغترب...

فنسألك الإستمرار على بركة الله ... ولتفتح خزائننا خزانة تلو أخرى.. فنحن لا نمل من كل ما يتعلق بتلك الديار..

أخوكم:rolleyes:

Nadine
09-03-2007, 02:32 AM
السلام عليكم ,فعلا كلمات رائعة, وبالاخص التختية , فكنا نقضي كل النهار انا واخوتي نلعب بألعابنا على التختية.

عمر ملاط
10-03-2007, 03:03 PM
السلام عليكم ورحمة الله...
أخي أحمد.... لست أدري إن كان يسعدني أو يؤسفني أن أقول لك هذا الكلام، فلم أعد أميز بين السعادة والأسى وبين الفرح والحزن... باتت الأمور عندي سيان، فها أنا ذا قد حملت نافذتي منذ أيام معدودة... وهمت بها في أرجاء الأرض... ومع ذلك فقد رق قلبي لكلامك ودمعت عيني لذكرياتك... ترى، ماذا يحل بمن غطاهم غبار السفر حتى دفنوا وهم أحياء!!!!....
لقد أصبت موضعاً حساساً ضعيفاً في قلوبنا.. غير أن لهذا الموضع منطق غريب.. فهو يطيب إذا أصيب... ويبرأ إذا نُهِش... وإني أدعوك أخي لأن تجمع سهام ذكرياتك، وحِراب مخيلتك فتصوبها بكل طاقتك إلى هذا الموضع المصاب العليل..
لقد فتحنا قلوبنا، وقلما تفتح القلوب في هذه الأيام... فإرم، أيدك الله ورعاك....

وليد الأبيض
10-03-2007, 04:21 PM
السلام عليكم

جزاك الله خيرا" أخي أبو محمد, و نسألك المواصلة, فلقد حركت في أعماقنا ذكريات جميلة كاد أن يطمسها طول غربة وبعد مسافة.

و الله لقد جعلتني أتخيل نفسي و أنا آكل حلوى عيش السرايا عندكم :d و إذا ما قدر الله لنا اللقاء لابد أن تدعوني مجددا لهذا الطبق:)

أبو محمد القلموني
12-03-2007, 02:22 PM
بارك الله بالإخوة جميعا و أخص منهم من علق على الجزء الأول : الشامي و عمر و نادين و وليد .

أخي وليد هذا الطبق يفتقد إليكم و هو قد فقد طعمه الحقيقي منذ افترقت أبداننا. قبل مدة يسيرة عدت إلى طبق قديم كنا نتحلق حوله معا كل أسبوع لو كنت تذكر ! ثم شاءت الأقدار أن تحول بيني و بينه لسنوات طويلة . واليوم عدت أجده شهيا كعهدي به في تلك الأيام ! لست أدري كيف تغيير طعمه في حلقي كل تلك السنوات ؟! بعض الاطباق ربما يجب أن تؤخذ مرتبة و إلا أفقد سابق طعم لاحق ! كم أتمنى أن يبقى هكذا ، على الأقل طيلة مكثي في قحط هذه الغربة الجافة المدلهمة !

أسأل الله عز وجل أن يجمعنا جميعا في الجنة على عيش طيب في ضيافة رب كريم منان.

سأعد هذه التعليقات تشجيعا لي على المضي في فتح أبواب و أدراج هذه الخزانة.

وليد الأبيض
13-03-2007, 05:19 AM
أخي الحبيب

جزاك الله خيرا" على هذا الإخلاص في الحب و الوفاء في الأخوة.
أسـال الله تعالى أن يعننا على تحمل عذابات الغربة.

و لكن أنتم في ديار المسلمين و هذه حالكم, فماذا عساه يقول غريب الدار و الأهل؟؟


من كان للأحباب مفتقد
إني إلى القلمون أفتقد

و أيضا" إلى أهل القلمون الحبيبة.

فشلان
13-03-2007, 01:05 PM
بسيطة جداً: يقول: أسير الأرض من حولي
:D ;) :cool:

أبو محمد القلموني
15-03-2007, 03:38 PM
خزانة ذكريات-2-

أستأنف الحديث إليك نافضا من جديد غبار الأيام و الليالي عن ذاكرتي لأعود بها إلى العهود الأولى : الطريق الفوقانية حيث يقع بيتنا ، الجنينة الملحقة بالعمارة ، السطوح التي كنا نخطوها بحذر خوفا من شبح عصام ، مدخل البناية الواسع الجميل حيث كنا نركض خلف بعضنا تارة و أخرى في إثر الكرة و أخرى هربا منها!

وفي المدخل كنا نستمتع برؤية البحر في الأفق ، ومراقبة مراكب الصيد المنتشرة في أنحائه هنا و هناك. هذا المنظر البديع لا يمل القلب من الإلتفات إليه المرة بعد المرة برغم كل تلك السنين التي راكمته في زوايا الذاكرة!

هنا في غربتي كلما وقعت عيناي على البحر من بعيد ، إنتفضت تلك الصورة من غياهب الماضي لتمثل أمامي تهيج قلبي المهتاج و تلوعه فوق لوعته!

عند الدرابزين ، في مقدمة المدخل كنا ننتظر والدي في أيام الشتاء الماطر الشديد وقد سبقنا إلى السيارة معرضا نفسه للمطر و الهواء . فكان والدي يدير السيارة و يتركها فترة ليسخن محركها ، ثم يقودها ليصل بها أسفل الدرج المؤدي إلى المدخل. ينزل من السيارة ليصحبنا واحدا واحدا ، يحتضننا بذراعه ، و بيده مظلة تظللنا من الماء المنهمر ، و خارج المظلة كان رأسه يسبح في الهواء و المطر! حتى إذا دخل جميعنا السيارة شق طريقه بنا إلى المدرسة ...

هذه الصور كمطر الوطن كلما تعرضت لها مخيلتي تبللت أنحائي و أخذتني نوبة شوق حارة ، تجعلني ألزم فراش الذكريات محموما صامتا متأملا و محدقا في عتمة ليل الغربة البهيم! كعاشق مجنون متيم حالت بينه وبين حبيبته الأيام فجعل يبكيها بشفتيه الناطقتين بالود وأنفاسه المثقلة بالهيام و تصرفاته المهتزة على وقع ألحان الذكريات ، ثم لما طال عهد الفراق و صارت أرجاء غربته رجعا و صدى لكلماته و أشعاره لزم الصمت و أنصت يستمع ، مرتعشا ، إلى جدران الغربة تحدثه عن محبوبته!

سأترك المدرسة ثانية ، وأترجل خلسة من السيارة عند أول توقف لها لأقفل عائدا إلى مدخل البناية!

عجيب ما يحصل معي الآن ، في إسترجاعي لذكريات ذلك العهد ، أنا كثير الهرب من المدرسة بينما لم يكن ذلك حالي أيام كنت أشعر بمتعة الجلوس خلف المقعد قرب الأصدقاء ؛ أحس بسعادة غامرة وأنا أتلقى الدروس ، أستمتع برائحة الكتب الجديدة الملونة ، و تأخذني رعشة جميلة و أنا أفض الأغلفة الشفافة عن الدفاتر البيضاء الممشوقة!

المدرسة هي واحدة من الأمكنة التي كلما ضربت لها موعدا أخلفه ! وذلك أنني لما يحين الموعد و أعتذر من زوجتي سائلا إياها أن تتركني لأوراقي ، أفتح لها ملفا جديدا و أختار لها أجمل الخطوط ... ثم لما أيمم وجهي إتجاهها أجد نفسي على مفترق طرق متشعبة !

أرمي ببصري هنا فأجد الطريق مزدحما بالأحداث و الذكريات فأتهيب سلوكه ثم أحول بصري إلى طريق آخر فأجده أشد إزدحاما و هكذا ... فأبدل وجهتي ، و وجدي بها على حاله لم يتبدل ! أمشي في طريق آخر أقل إزدحاما و أيسر سلوكا ممنيا نفسي بلقاء معها قريب ، أقضيه في يوم عطلة من المشاغل و الوظائف المتزاحمة ، و أكون فيه أكثر إستعدادا لمتطلباتها وأهوائها! فيعلم الله أنني لست ممن يخونها و لا ممن يطعن في جمالها و سحرها بل هي عندي كذلك و أكثر لكنني أخاف أن أذهب إليها فتسرق مني قلبي و ساعتي!

تحت المطر ، في صباح يوم مدرسي ، أركض هاربا من زحمة السير و زحمة الذكريات في طريق (طلعة المنار) حتى إذا حاذيت محلة (سمير) إنعطفت يمينا ومشيت متظللا بشجرة الليمون ، مستنشقا بقوة لعبيرها المختلط برائحة الأرض وقد أزكى خلوفها حديث العهد بالسماء !
هنا في هذا المكان ، ونحن عائدون ذات مرة من المدرسة ، سمعنا خبر ولادة أم أمل . وقد لبثت من يومها أذكر هذه الولادة كلما مررت به!
وهكذا هي الكلمات التي نسمعها على أنغام مطر الوطن ؛ تحفر في ذاكرتنا حفرا لتصير نشيدنا الوطني في الغربة!

أسرع الخطى في (طريق الفوقانية) متوقفا للحظات في مدخل بناية الشيخ (علي كسن) ، ثم أجري وأجري لأصل إلى مدخل البناية التي كان يسكنها (فاروق ملاط) سابقا ، فأقف هناك للحظات أيضا تحت شجرة ليمون أخرى . أتلفت يمينا و شمالا ثم أرسل إبتسامة خجلة تحت المطر إلى زوايا المكان ... أودعه على عجل ، وصور من حماقات ذلك العهد تدغدغ ذاكرتي !

ها أنا ذا أخطو درج البناية و منه إلى مدخلها . أنفض الماء عن شعري و ملابسي ، وأبحث في الأرجاء عن دراجة لطالما ركبتها في أحلامي وطفت بها في أنحاء هذا المكان ... هدير محركات الماء يأتي مختلطا بأصوات الريح العاصفة و صرير الباب الحديدي القديم المهتز على أنغامها . وهناك خلف الباب برك صغيرة منتشرة ، كنا في غابر الأزمنة نختبئ خلفها حيث الماء المتسرب و رائحة الصدأ الفائح و نشوة الفرار!

اليوم نحن في الغربة نختبئ وراء صدأ الأيام والأحداث فلا نشعر بالفرحة و لا تغمرنا نشوة الفرار!

حتى رائحة الصدأ في الوطن يحتاج المغترب أحيانا أن يستنشقها ، وقد يجدها أزكى من زاكيات عطور الغربة !

سأجلس هناك في الزاوية مفترشا أرض المدخل وساعات الكهرباء عن يساري تدور و تدور عداداتها لتحصي أعمارا وأنفاسا تذهب طاقاتها يوما بعد يوم. في هذا المكان أحس براحة منقطعة النظير ، أشعر الآن أنني أستعيد جزءا من كياني فتدب إلى داخلي نشوة تبتلع الهموم ابتلاعا... كأنني خرجت من عالم الواقع إلى عالم الذكريات ومنه إلى عالم ، إنعدم فيه الزمن ، فلا تلاحقني فيه تلك الساعات!

ليتني أهتدي دائما إلى فك شيفرة هذا الصندوق في خزانة ذكرياتي كلما إحتجت أن أفتحه و أدخله !

ركام الأحداث و زخم هموم الحاضر و المستقبل يجعل تلك الشيفرات و الطريق إلى صناديقها ديناميكية متبدلة ، تعدل في حروفها و رموزها ريشة الزمن ! فهي بالتالي تحتاج ذهنا متقدا و قلبا مثقلا بالعشق يكسر الشيفرة في كل مرة و يشق طريقه إلى خزانة الذكريات بتؤدة و عزم لينفض الغبار عن أقفال صناديقها و يدخل الرموز الصحيحة ليلج ساحاتها الرحبة!

هناك نوعان من الشيفرات نوع يدخلك ساحات الذكريات و آخر تلج به ساحة الأحلام خطأ ! المسافة بين الأحلام و الذكريات طويلة و شاقة ، تملؤها أشواك من الزمن المنقضي !

بعض من أحلامنا قد نحوله إلى ذكريات إذا يئسنا من تحققه! فنرمي بصوره و أحداثه عارية إلى ساحة الواقع على أمل أن يتحقق وتكسوه التفاصيل الواقعية حلة تقيه من البرد وتثبته في أرض الحقيقة . ثم نحاول جهدنا أن نغذيه و ننميه لكنه يموت فجأة ! فنرمي به ، عن غير قصد ، إلى ساحة الذكريات و نخبئه في إحدى خزائنها و نضع له شيفرة مزيفة وعنوانا مخادعا !

لكن الفارق بين الحلم و الذكرى كالفارق بين الحلم و الحقيقة وفي بعض الأحيان قد يكون العبور من الحلم إلى الذكرى أصعب و أعقد من إجتياز الحلم إلى الواقع!

الذكرى هي آخر المراحل ، فهي تأتي بعد تحقق الأحلام في الواقع ! وهي قد تكون أهم من كل حلم لأنها تمثل الجانب المتحقق في شخصيتنا !

وتمييز الذكرى عن الحلم قد لا يدرك إلا بذوق نكتسبه بعيدا عن الوطن ... هناك ... حيث الذكريات واحة حقيقية نتفيأ ظلالها الوارفة ونرشف من مياهها العذبة كلما ألم بنا العطش ونحن نضرب في طريق الزمن أو صحراء الغربة !

عمر ملاط
21-03-2007, 03:20 PM
أخي أبو محمد.
بت أشعر أن أبناء القلمون كالورود... تسقيهم ماءها فيزهرون، ويكبرون... أما تلك الطائفة التي هجرت أمها الحنون وارتضت لنفسها البعد والغربة.. فها هي الآن تشكو العطش وزوال المورد... وكأني بنا نذبل شيئاً فشيئاً، فمنا من يحتفظ بشيء من الورود التي نمت على سقاء البلدة الحبيبة.. ومنا من سقطت وروده وبات يحتفظ بالأوراق الخضراء فحسب... ومنا من سقطت وروده... وذبلت أوراقه... ومنا من بات كومة من الأشواك اليابسة... ومنا من أكلته الأرض حتى صار هباءً منثوراً... فمن أي الأصناف سنكون يا ترى...
صحيح أننا لا نحس بقيمة الشيء إلا عند فقدانه... ولكن هذه المجوهرات التي تحتفظ بها في هذا الصندوق... تؤمن لنا بعض الماء لنحيا به.... فلا تبخل بها علينا.... علنا نقوى بها على قساوة الأيام.... فنحن نسافر في صحراء قاحلة... ورسائلك هذه واحات نتفيأ ظلالها، ونروي بها ظمأنا الدائم...
فسر على بركة الله

الشامي
21-03-2007, 06:31 PM
السلام عليكم ...

صدقت أخي عمر .. تصوير جميل .. ويلامس الواقع ... ولكن ان شاء الله من الآن فصاعدا لا ذبول .. بوجود هذا التواصل الجميل .. عبر هذا المنتدى المبارك .. فلتتابع أخونا أحمد إخراج جواهرك لتعرضها هنا ...

اخوكم:rolleyes:

HARD
21-03-2007, 08:08 PM
احسنت التعبير اخي عمر مشكور كتير

المهند
22-03-2007, 12:27 AM
انو ما بعرف ليش صبحة عصام هالقد معقدتك يا خيي ابو محمد القلموني!!!!!:p يعني تلات أرباع ذكرياتك الغابرة متمحورة حول نقرتو المخيفة وهي عم تلمع عند المدخل!!ههههههه بعدين انت التانى يا خيي عمر ملاط انو طول بالك شوية دموعك جارية نهر وما صرلك بهالقصر الا من مبارح العصر!!ريتكون تقبرو عضيماتي انتو و زيد و هارد!! والله ماحدا عامل فيكون هيك غير هالوطر زيد..!!!لك يقبرو قلبي كل الاخوة المغتربين انا!!!والله أشفرتولي شعري ريتكون تاكلوا من فتات ضميري الميت;) هههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههههه ههههههههههههههههههههههه

ريتكون تقبرو كزازي:p

المهند
22-03-2007, 12:35 AM
الى الامام خيي بو محمد الى الامام وشوي شوي عالناس ورفقا بالمغتربين فوالله لقد أسلت بياض عيوننا حليبا ساخنا زعلا عليهم لافض فوك:p هههههههههههههههههههههه

HARD
22-03-2007, 06:34 PM
سلام ،يلعن ديبك ايها المهند عندك كلام بموت من الضحك ، شو هل حنك يلى معك .

أبو محمد القلموني
24-03-2007, 05:17 PM
أشكر لجميع الإخوة هذا التواصل الجميل و تلك الكلمات الرقيقة المعبرة و العابرة للقلوب.
وأخص منهم الأخ الحبيب عمر و الإخوة الأحباء جميعا : الشامي و المهند و هارد .



خزانة ذكريات-3-

وأخيرا قررت أن أذهب إليها ! ها هي تنتظرني بين أشجار الزيتون وقد أسدلت شعرها الناعم الحريري على أعواد شجر الليمون .. . هناك حيث الخضرة و الوجه الحسن وعطر الليمون ممتزجا بأنفاسها . تنتظرني في ملل أنثوي، تملأ فراغ أوقاته وهي تنتقل من جنب إلى جنب على سرير من العشب الأخضر . و تتمدد على ظهرها بين الفينة و الفينة لتطلق تنهيدة تختصر شوقا كامنا ...

هكذا تبدو لي في أحلام ذكرياتي ، كعروس ناضجة في العشرينات من عمرها ، لم يعد إذنها صماتها !

وأنا لم أعد أبحث عن الصمت الذي ملته شفتاي و إن كان لا يزال يستهويني الهمس !

تحيرت أمام مجموعة العطور التي أمتلكها ! لمعت في ذهني فكرة ... فتحت قاموسا قديما و تناولت منه قصاصة صغيرة فيها أربعة أسطر ، و في الأسفل إسم مكون من كلمتين. وضعتها في جيبي الأعلى.

الآن عرفت أي العطور أضع ! لكأن تلك القصاصة رقاقة الكترونية تختزن ذكريات من ذلك العهد !

لقد قررت أن أذهب بلا عطور مصطنعة تضلل الأنف وتبدد عبق الذكريات ! ولن ألبس أقنعة مخادعة و لن أرتدي ثوبا مزيفا ! سأذهب إليها كما كنت أذهب في السابق ، لكنني لن أرتدي ( المريول ) ولن أحمل معي غير قواميس حشيت قصاصات صغيرة ! هي ستسألني عنها بلا شك! ولماذا تنساها و أنا لم أنس حرفا منها ؛ فلا زلت برغم كل تلك السنين أحفظها عن ظهر قلب ... قصاصات عقدها الحبر في صورة حروف و أشعار مكتوبة وكم كنت أتمنى أن تكون في صورة ألحان مسموعة !
هي أرادت أن تكون مكتوبة و أرادتني أن ألحنها على أوتار سنين الشوق الطويلة !

اليوم سألسألها عن ألحاني و سأستعين بها لضبط أوزاني !

قلبي يخفق على غير عادة ! كأنني لست على موعد حقيقي ! كأنني ذاهب لألقى أحلامي! كأن تلك الذكريات لم تتحقق بعد !

لن أسلك إليها الطريق المعبدة حيث زحمة الماضي مممتزجة بفوضى من مشاعر الحاضر . سآتيها من حيث كنت أحب أن آتيها دوما .

بين الأشجار أمشي في استقامة و سكينة ، تتناقل خبر خطواتي حشائش سريرها الأخضر و الريح تشي بي في كل ناحية !

لست أدري هل وشت بي الريح لديها قبل أن أصل ! لكن ماذا يضيرني ؟ أنا اليوم ذاهب للقائها لأنني اشتقت إلى أنفاسها و اشتهت نفسي أركانها ! هناك بين يديها ولدت و على صدرها ترعرعت أسمع دقات قلبها كل صباح و كل مساء ! جدرانها تعرفني و أعرفها ، بيننا عهود و مواثيق . ملاعبها كانت ملاعبي و أهازيج عصافيرها كانت ولا تزال أناشيدي !

ستسرين جدا عندما تعرفين أنني اليوم أنشد بعضها لصغيري ! وفي أحد الأيام لم ينم حتى أسمعته تلك الترانيم القديمة !
ليتك ترينه ! ستحبينه كثيرا ! فيه الكثير مما علمتني إياه ! ذات يوم إن زارك ستذكرينني فيه ! كوني له كما كنت لي ! إحكي له بعضا من أخباري ! فإذا أحبك أقصصي عليه كل تقاصيل حماقاتي ! دعيه يعرف أكثر و يعي أكثر و ينتشي أكثر بين دفتي سريرك ! ما يعرفه هنا لا يبقى معرفة و لن يتحول إلى كره ؛ لكنه سيبقى نجما في سماء ذاكرته يستدل بموقعه على مواقعه فيهتدي به و ينطلق إلى الأمام ؛ إلى حيث تريدينه أن يمضي !

أتابع السير على سريرها ، لا زلت أمشي على حوافه ! أنقل أقدامي ببطئ لأنني أريد أن أفاجئها ! لكن هل سأفاجئها حقا ؟!

هل مازالت تذكرني ؟! سأعرض عليها تلك القصاصات ... سأقرأ بعضها بين يديها. ستعرفني بلا شك ! من ملامح صوتي ستكتشفني ! ... فلأواصل السير ! ... لن أمشي ببطئ بعد الآن ! أريد أن أسرع إلى مصيري لديها ! لا بد أن تعرفني ! لكن ماذا لو لم تعرفني ؟!

و ماذا لو طلبت إثباتا أنني أنا صاحب تلك القصاصات ؟! وأنني جئت بها من خزانة ذكرياتي لا من خزانة أحلامي ؟!

من أجل ذلك مضيت إليها بلا عطور ، لكي تتعرف علي ولا يضللها عني شيء ...
أمام بوابتها الحديدية العتيقة ... على حائط مكسور ، جلست منكسرا بين يديها أناجيها في صمت و أتلو عليها عهودي الغابرة و مواثيقا قديمة بيننا. أنتظر جوابها وأنا أجيل بصري في الأنحاء ؛ أنقله من شجرة زيتون إلى شجرة زيتون أخرى . وتحت كل شجرة شيفرة حقيقية كتبت بخط واضح و تكررت نسخ منها على الأغصان و الأوراق و الجذوع . وبينما أتناول مفكرتي لأنقل إليها تلك الشيفرات إذ فتح الباب الحديدي فجأة و دون مقدمات ! ... لقد جاء الإذن بالدخول !

نهضت بسرعة من مكاني و ولجت إلى الداخل بجرأة المقتحم . استقبلتني نسائم شجر الزيتون وقد احتفت أغصانها بالجدران وأحاطت بها من كل صوب و من كل ناحية ! حتى شعرت كأنني في حضنها تداعبني بأناملها و تهمس في أذناي بكلمات من ذلك العهد البعيد !

علتني قشعريرة الإحتضان المفاجئ الذي يأتي حين لا نتوقعه ، و إن كنا في عقلنا الباطن ننتظره ونبحث عنه !

تسمرت في مكاني أتملى من مفاتن كلماتها الخافتة ترحب بي و تعاتبني .

عيناي تتتبع مواضعا وآثارا علاها غبار الزمن ، و بدأ يكشفها و يعريها شيئا فشيئا نسيم همسها المنطلق بقوة.

هنا مواقع أقدام ، هنا كلام ، هنا مناجاة ، هنا ضحك ، هنا لعب ، هنا دموع ، هنا جد ، هنا هزل ، هنا كلمات كبيرة ، و أسرار جد خطيرة ... لأول مرة أقرؤها دفعة واحدة في صفحة واحدة ... لقد كنت دائما أحس أن ثمة شيئا تريدين قوله لي و لم تقوليه ... في نهاية كل موعد كنت وأنا أشيعك بنظرات الوداع الأخيرة ألمح بين شفتيك كلمات عالقة لا تسمحين لها بالظهور و ترفضين أن تتوارى في جوفك ! كنت أحسبها كلمات حب خجولة يربكك البوح بها ... كم كنت ساذجا يوم شككت في نضجك و رزانتك !

اليوم فقط علمت أنك كنت ستقولين ما لن أفهمه يقينا إلا بعد كل تلك السنوات!

توجهت إلى الملعب وأخذت عيناي تتفحص أرجاءه . وكان أول ما لفت انتباهي هو خلوه من المرمى الحديدي الذي كنا ندخل فيه أهدافنا الكروية !

هل أنت من أمر بنزع هذا المرمى قبل مجيئي ؟! هل تقصدين أن ألعب منذ اليوم بلا مرمى و بلا أهداف ! هل هي مرحلة جديدة تريدينني أن أبدأها ! صدقيني لقد بدأتها مذ حطت رجلاي في أرض الغربة !

هل كان حقا ينقصني أن أتغرب لأنتقل هذه النقلة البعيدة ؟!

اللعب بلا مرمى وبلا أهداف يخلصنا من جزع يكبلنا و من فرح قد يلهينا فيعيق تقدمنا. اللعب بلا مرمى و بلا أهداف يعني أن تلعب من أجل اللعب فقط لا من أجل الفوز ولا لأجل أن تهرب من الفشل ! يعني أن تقع ثم تتابع وإن كان ليس ثمة هدف مباشر تسعى إلى أن تفرح به ! تماما كما الغربة اليوم !

وصلتني رسالتك ! هي كأوضح ما تكون الآن ! شكرا للغربة ! لقد ساعدتني على فهم كلماتك ومراميك !

تقدمت وتقدمت إلى أن وصلت إلى المدرج حيث نجلس لنشاهد اللاعبين و ننتظر دورنا في اللعب ! يا لله كم هو مريح ! كم هو وثير ! كم هو دافئ !

اليوم في الغربة لا نخرج من الملعب إلا نادرا و إذا خرجنا فلا ننتظر دورنا بلهفة ، بل نرجع إليه سريعا و الغصة تحرق قلوبنا شوقا إليك و إلى الوطن !
هذا الشعور يلازمني اليوم كلما عدت من غربتي إلى الغربة و أنا اسافر متنقلا بين أرجاء المنفى الكبير و السجن الفسيح الخالي من أي مدرج !

أرجعت ظهري إلى الخلف و أسندته إلى الحائط . وتركت لبصري العنان ليجول بحرية متفحصا المكان. ثم سددت ناظري على بوابتك الخارجية أنتظر بشوق وجوها طالما سبقتني لهفتي إليها ففضحتني عندها!

وجوه علاها النور و اكتحلت ببياض أعينها قمم جبال الوطن و أهدت، بسخاء ، عطر أنفاسها إلى زهور و ورود تلك المرابع الوضيئة التي كنا نؤمها معا في غابر الأزمنة !
من هنا كنا ننطلق إلى القمم ! هنا في هذه الفسحة وقبيل كل قبلة وداع نرسمها على جدران شفتيك الباسمة لنا قبل الذهاب ، كنا نعد العدة للتسلق و الإلتحام مع طبيعة الوطن الساحرة . وكانت تلك الوجوه كالحادي ينفخ فينا العزم و يحرك في أعماقنا الإرادة ويلهب بواطننا بعشق مهيب يخرج أنفاسا تلفح الوجوه فتحرق فيها الظلمة !

هنا تعلمنا كيف نصيد الكلمات لنغنيها على الملأ و في أعلى القمم ! كلمات في منتهى الروعة كانت تلقى في أعماق فكرنا و تنمو مع الأيام و السنين . كلمات كبيرة تختصر أفكارا مثيرة و تضعها في قوالب من اللفظ الصارخ. بعض تلك الكلمات كنا نغنيها دون أن نفقه مراميها ، لكن وقع ألحانها كان يحفر فينا مساربا و دروبا لكلمات أخرى تأتي في المستقبل !

أبو محمد القلموني
05-05-2007, 03:29 PM
ثلاث حلقات فقط ... لم أضع الرابعة و جاءني الخبر !

ألا فليحفظ الله هذا المنتدى الطيب المبارك فإن فيه على ما يظهر من إذا أقسم على الله أبره !

لقد كانت أجمل مكالمة هاتفية بل أجمل محادثة منذ أن وطأت قدماي أرض الغربة قبل ست سنوات !

لقد بت يومها بخير ليلة ! لم يغمض لي جفن البتة ... ذهبت إلى هناك حتى قبل أن أحزم أمتعتي... وقفت على الشاطئ و تأملت الغروب ثم انتظرت انبلاج الصباح و استغرقت مع الشروق ... التفتت إلى الجبل أتأمل كيف تداعب خيوط الشمس تضاريس جسده الأخضر ... ثم نهضت فدخلت المسجد ، صليت فيه الضحى ، و انطلقت أجوب في طرقاتها ، أستنشق هواءها و ألقي تحية الصباح على أركانها . وكانت القديمة منها الموغلة في الزمن هي من تستوقفني عندها طويلا !
لست أدري هل سأبدأ الآن رحلة شوق جديدة إلى ماض قريب حرمت منه نفسي و آخر بعيد حالت بيني و بينه أزمنة متباعدة !
هكذا نحن لا نكف عن الحنين أبدا ولا نمله ولو ملنا ! فإذا نضب ، قبضنا من زوايا مشاعرنا قبضة من أثر الخواطر التائهة و خلقنا منها طيفا نعكف عليه حنينا !

في الصباح توجهت إلى حقائبي لأوضب فيها أمتعتي و دموعي تنهمر مسرعة إلى زواياها تحجز لها مكانا في رحلة العودة ! يا لله حتى دموعي ملت الغربة و امتلأت شوقا إلى الوطن.

هناك إلى جانب السرير قوارير عطر أوشكت على النفاد ، وضعتها جانبا تمهيدا للتخلص منها ، فإذا بها تقع على غير إرادة مني لتدخل حقيبة العودة !

أجمع ملابسي و كتبي و أوراقا مبعثرة هنا و هناك . سألتني زوجتي : لماذا تضع هذه الأوراق ؟ فأجبتها : لأن كل ورقة منها تحمل تاريخا صيرها جزءا من الذكريات. وأنا لا أفرط بذكرياتي أبدا !

أحس و كأن كل شيء كان لي به صلة في هذه الغربة ، يريد اليوم أن يذهب معي إلى الوطن !

أتأمل في جوانب منزل انتقلت إليه منذ ستة أشهر فقط ، أودع أركانه التي ما لبثت أن استقبلتني حتى ودعتني . ستة أشهر و أنا أحكي لجدرانه في ليال الصمت حكايا عن الوطن . أحكي له عن جدران البساتين والحقول وهامات الهضاب و الجبال ، وأقصص عليه عذبا من قصص الأشجار و الطيور و الينابيع والجداول. حسبتني أسيرا أوشك أن أغادر سجنها إلى الحرية أو شهيدا أزف من أرض المعركة إلى الفردوس!

سأفتقد من الغربة مجلسي الإثنين و الثلاثاء. مجلس السيرة حيث تتعطر الأنفاس بالصلاة و السلام على حبيب القلوب محمد صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم ، و مجلس القرآن حيث تتعطر الأرواح بعطر القرب والصلة بالله عز وجل.

سأفتقد إخوة وجوههم كالقمر ليلة البدر من أثر العشق الذي يعتلج في قلوبهم. إخوة كانوا لي خير مصبر ومعين في غربتي. لن أنسى كلماتهم لي أبدا و لن أنسى كلماتي لهم أبدا.
سنبقى على العهد دوما يا أبا أنس و يا أبا عبد العليم و يا أبا جابر و يا أخ عبد الله...

ستبقى مجالسنا نجوما لامعات في سماء ذاكرتنا تضيء لنا من دروب الحب والعشق و توقد في أعماقنا نار الحرية .

أما أخي أبو عبد الرحمن حافظ سري و حافظ سره ، قرين ما أزكاه و ما أطيبه قضيت معه أجمل ست خلت فإني لأرجو من الله أن لا نفترق حتى نجتمع سريعا حيث يهوى فؤادانا.


اللهم إذا كان يوم القيامة واجتمع كل محب بمحبوبه فاجمعني بإخواني على حوض حبيبنا محمد صلى الله عليه و آله و صحبه و سلم.

أبوأنس
12-05-2007, 03:19 PM
بسم الله والصلاة والسلام على اشرف خلق الله محمد بن عبدالله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
اخي الحبيب ابا محمد، اكتب اليك وعبراتي تسبق عباراتي, اكتب اليك و صور ذاك الوجه الوضاء تعمر جدران ذاكرتي ، أكتب اليك وانا أستشعر حلاوة تلك اللحظات التي قضيناها سوية بصحبة كتاب الله عز وجل ننهل من معين لاينضب ، أكاد اسمع صوتك رنانا تفيدنا من علم راسخ وآفاق واسعة تنم عن فهم عميق لكتاب الله.
لقد راودتني نفسي وانا أُسْأل عنك من قبل موظِفِكَ الجديد، راودتني بأن اعطي معلومات مضلله اضيّع بها عليك فرصة لطالما حلمت بها "ان تكون بين أهلك وذكرياتك" لا لشئ إلا لغاية في نفسي ما قضيتها هي ان لا تفارقنا.

أسأل الله وأرفع اليه أكف الضراعه ان يكتب لك التوفيق في كل امر من أمور دنياك وآخرتك وان يجمعنا وإيَاك بمن نحب على حوض نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لنشرب من يده الكريمه شربة هنيئة مريئه لا نظمأ ولا نفترق بعدها أبداً.

أخوك المحب أبو أنس

ابوحذيفة
16-05-2007, 07:48 PM
لقد احتضرت الكلمات في حناجرنا
وذرفت منا الدموع
وهيجت اشجاننا
تفوقت على جبران
بارك الله بك اخي ابو محمد ورد لنا كل احبابنا القلمونيين الى ربوع بلدتنا الحبيبة

فراس حسامي
23-05-2007, 11:41 AM
الحمد لله الذي خلق كل شيئ فقدره، وعلم مورد كلِ مخلوقٍ ومصدره، وأثبت في أ م الكتاب ما أراده وسطره، فلا مؤخر لما قدمه، ولا مقَدم لما أخره... اما بعد:
أخي الغالي ابو محمد:
كنا نتجالس مرة في الاسبوع نتناول تفسير بعض آيات كتاب الله , كنت أنتظر يوم الاثنين لأرسل رسالة جوال الى جميع الاخوة أذكرهم فيها أن موعد الدرس غداً بعد صلاة العشاء عند أحدنا .... هكذا مرت سنة ونصف تقريبا .... كنتَ بما تحمله من معلومات نيرة و آراء سديدة ودرر لامعة تضفي على الجلسة عذوبة وجمال , نفتقدها أحياناً عندما كنت تعتذر عن الحضور وسنفتقدها بعد رحيلك الى ارض الوطن لتترك فراغا كبيرا بيننا.......
أخي الحبيب :
لن تستطع كلماتي أن تعبر لك عما يختلج في النفس ويعصف بالروح فقد كنت نعم الأخ ونعم الصاحب وأني أدعو الله القدير أن يسدد خطواتك و ان يجعل النجاح والتوفيق حليفك اينما كنت.....
أخوك أبو جابر

THE TERRORIST
06-12-2008, 10:25 PM
الحمد لله الذي خلق كل شيئ فقدره، وعلم مورد كلِ مخلوقٍ ومصدره، وأثبت في أ م الكتاب ما أراده وسطره، فلا مؤخر لما قدمه، ولا مقَدم لما أخره... اما بعد:
أخي الغالي ابو محمد:
كنا نتجالس مرة في الاسبوع نتناول تفسير بعض آيات كتاب الله , كنت أنتظر يوم الاثنين لأرسل رسالة جوال الى جميع الاخوة أذكرهم فيها أن موعد الدرس غداً بعد صلاة العشاء عند أحدنا .... هكذا مرت سنة ونصف تقريبا .... كنتَ بما تحمله من معلومات نيرة و آراء سديدة ودرر لامعة تضفي على الجلسة عذوبة وجمال , نفتقدها أحياناً عندما كنت تعتذر عن الحضور وسنفتقدها بعد رحيلك الى ارض الوطن لتترك فراغا كبيرا بيننا.......
أخي الحبيب :
لن تستطع كلماتي أن تعبر لك عما يختلج في النفس ويعصف بالروح فقد كنت نعم الأخ ونعم الصاحب وأني أدعو الله القدير أن يسدد خطواتك و ان يجعل النجاح والتوفيق حليفك اينما كنت.....
أخوك أبو جابر


مين فراس الحسامي؟