أبو محمد القلموني
08-03-2007, 04:10 PM
وقعت في يدي أحد الإخوة الذين أجلهم و أحترمهم فأشار علي بوضعها في منتدى القلمون .
إذا رأيتم فيها ما يستحق القراءة فأعدكم بالمزيد إن شاء الله.
وهي عبارة عن رسائل كتبت بها إلى أختي أم عبد الله حفظها الله و رعاها. أبثها فيها أشواقي و شجوني إلى العهود الأولى في الوطن .
خزانة ذكريات -1-
بحبر الشوق الممزوج بالألم و قلم الذكريات الجميلة الضاربة في أعماق الروح أكتب إليك كلماتي هذه. كلمات هي كجسور ممتدة فوق بحار ومحيطات من الماضي ؛ أعبر بها إليك هناك حيث كنت تتمددين بقربي تحادثينني في حنادس الظلم حين تنطفئ الأنوار و تسكن الأنفاس. لقد كانت كلماتك لي حينها بسيطة في مضمونها مبعثرة في أسلوبها عبثية في منطقها ؛ عن الجارات و أولاد خالتي و أولاد الجيران و أنواع الألعاب وعن عصام صاحب البناية . وكنت أشاركك في هذا كله ؛ أشاركك البساطة و العبثية و البعثرة فقد كنت مثلك يومها حزورا يافعا أحلامي كأحلامك و كلماتي ككلماتك و هواي كهواك ! أهوى البكاء و الضحك و اللعب و الهرب من عصام !
هل تذكرين أيام كنا نجلس معا على السجادة في غرفة نومنا التي كانت أيضا كما كل باقي أرجاء البيت الصغير ساحة لعبنا ولهونا ؛ هناك ! ... قرب مكتبة قديمة لونها بني مائل إلى السواد كنا نخبئ في داخلها بعض ألعابنا بل كنا نختبئ في داخلها أحيانا. فكانت على ضيقها الشديد تبدو رحبة ممتدة كسماء القلمون الغالية!
لست أدري لماذا صرت اليوم أكره و أنفر من الأماكن الضيقة بل تكاد أنفاسي تنقطع لمجرد تخيلها ، بينما أنا الآن أستذكر ذلك المكان الذي لا يتسع لغير طفل صغير في الرابعة من عمره ، ومع ذلك أشعر أنني أستطيع أن أدخله و أطل منه على سماء الوطن كله!
هل أصبحت سماء الوطن بحجم ذلك المكان الضيق؟! أم أن ذلك المكان هو الذي إتسع و يتسع أكثر فأكثر كلما تقدمنا خطوات في نفق الزمان؟!
لقد كان في الغرفة نافذتان خشبيتان لونهما أبيض . (الأباجور) الخشبي الخاص بهما كان أحمرا قاتم اللون . النافذة الشرقية التي بجوار سريري كانت تظل مقفلة طيلة العام فلا تفتح إلا للتنظيف بين الحين و الحين . النافذة الغربية التي بجوار سريرك كانت تفتح كل يوم و لا تغلق إلا عند الحاجة إتقاء لأشعة الشمس المحرقة أو لهبة ريح عاصفة ماطرة. لكنها في غير ذلك من الحالات تبقى مفتوحة مشرعة تستقبل نسائم الحقول و أنغام الطيور . وكانت هذه النافذة تطل مباشرة على شرفة صغيرة تلتقي بصالة البيت . فليس من طريق إلى تلك الشرفة إلا نافذتك أو الصالون. وكنت أحب أن أعتلي سريرك و أفتح النافذة لأقفز إلى الشرفة في غمرة و بهجة لو قسمت على أهل الوطن كله لوسعتهم!
لست أدري ما سبب تلك الهموم التي يعانيها الناس في الوطن؟! أليسوا يملكون نوافذا يطلون منها على ربوعه ، فيستقبلون أريجه و عبقه؟! هل يا ترى أقفلت كل تلك النوافذ فأصبحت كالنافذة الشرقية الأخرى التي بجوار سريري مقفلة طيلة أيام السنة؟! والتي قدر لي أن أحملها معي إلى الغربة لأضعها هناك منسية في أرجاء قلب منفي!
وأما أنت فحملت النافذة الغربية الثانية المشرعة التي كانت بجوار سريرك ، حملتيها معك إلى الغربة فلم تطل غيبتك ! بل عدت سريعا إلى القلمون الحبيبة!
سافرت قبل ستة سنوات إلى جدة و هناك كان بجوار سريري أيضا نافذة مقفلة! حملتها معي وسافرت إلى الرياض فإذا سريري و بجواره نافذتان مغلقتان عدت بهما إلى جدة بعد سنوات !
فهل يكون قدري دائما أن أحمل النوافذ المقفلة لأنتقل بها من غربة إلى غربة؟! متى يأتي اليوم الذي أفتح فيه هذه النوافذ وأعود بها إلى الوطن مفتوحة مشرعة ، أضعها إلى جانب سريري وأطل برأسي منها في الصباح مستمتعا بهبات باردة تلفح وجهي و بمنظر البلابل تزقزق على أغصان شجر الزيتون الأخضر؟!
خارج الغرفة كان ثمة ممر ضيق ، ولكن ضيقه كان يساعدنا على التسلق إلى الأعلى ، فكنا نصل إلى السقف الذي يتخايل إلي اليوم عاليا مرتفعا كما سماء الوطن الحبيب!
اليوم نحن نتيه في دروب وممرات الغربة الواسعة لا نحسن صعودا و لا تسلقا!
أفيكون ضيق الوطن متسعا ومنفذا إلى علو و متسع الغربة مضيقا ومنزلقا إلى سفال ! هل هذا هو الناموس الذي يغيب عن الكثيرين هنا في هذه الغربة المتلاطمة؟!
الممر ينتهي بممر آخر ويتصل بغرفة والدي الحبيبين . وفي الزاوية على مدخل الغرفة كانت آلة الخياطة التي تجلس عليها والدتي الحبيبة ، وقد وضعت نظارتها على عينيها و في يدها قميص أو بنطال أو تنورة تمررها تحت إبرة مهتزة خارجة من آلة متحركة ، تتحكم بحركتها قدم أمي الغالية ، فتدوس باستمرار ومرة بعد مرة على عجلة متصلة بتلك الآلة. لا زلت أذكر ذلك المنظر البهي وأحن إليه فليس في الغربة كلها منظر هو أبهى و أجمل و أمتع منه.
بخار الماء المنبعث بعد حمام ساخن يختلط بروائح زكية آتية من المطبخ و أصوات عجلات آلة الخياطة تختلط بتنبيهات والدتي المتلاحقة وأصوات بعض الجيران تأتي بعيدة خافتة ... هكذا كان حال ذلك الممر . وعلى يسار الممر كانت خزانة حائط قديمة مممتلئة بالملابس ومقسمة إلى أقسام عدة. أجمل قسم منها يقع خلف الباب لأنه الأبعد عن نظر الناظر وفيه فرصة للإختباء و قضاء وقت طويل بعيدا عن الأعين!
هل كان هذا هو السبب الذي حملني على السفر ؟! هل هو حب قديم للإختفاء والتواري بعيدا؟! هناك في الوطن كنت أختفي لأظهر سريعا فأجد من ينتظرني ويسألني بلهفة : أين كنت ؟ و كيف اختبأت؟! فيزيدني ذلك شغفا بالإختباء و التخفي! و ظلت هذه الرغبة تزداد و تزداد حتى جاءت بي إلى هنا ، إلى خزانة كبيرة لم أعد أعرف كيف أخرج منها؟ ولا من ينتظرني خارج أسوارها؟!
في أعلى الممر وعلى يسار أمي الجالسة إلى آلة الخياطة كانت غرفة صغيرة مرتفعة نسميها(التختية) وكانت ممتلئة بالكنوز و النوادر أو هكذا كنت أحسها . أجمل اللحظات كانت حين يغفو والدي بعد الظهر في غرفتهما فأستغلها فرصة و أصعد إلى (التختية) لتلمس يداي كنوزها المبعثرة هنا و هناك و لأمشي في تلك الغرفة التي لا يمكن الوقوف فيها ، حاني الظهر وبخطوات متعثرة! لكنها كانت توصلني إلى أهدافي كلها!
فما بال خطواتنا المتزنة اليوم لا توصلنا إلى شيء من مبتغانا ؟! فهل هي حقا خطوات متزنة أم هكذا يزين و يخيل إلينا؟! لكن ماذا عن خطواتنا المتعثرة في الوطن؟ ولماذا توصلنا هناك و لا توصلنا أو تصلنا بأهدافنا هنا؟! هل هو الناموس سالف الذكر نفسه؟!
أعطني يدك و تعالي ندخل معا إلى المطبخ . ولنجلس هنا على تلك الكنبة القديمة لنستريح قليلا من الركض واللهث. فليس في الأرض مقعد أوثر و لا أنعم و لا ألذ من تلك الكنبة! تعالي نتأمل والدتي واقفة تغسل الصحون و بين الحين و الحين تنادي على والدي كي يساعدها في سحب السجادة ، قبل أن يغمرها ماء منهمر من الأسفل سببه خلل في التمديدات...
هناك عن يمين الجالس في المطبخ شرفة تطل على جبل أخضر تفوح منه رائحة الزعتر البري !
لقد مضى زمن لم أسأل فيه عن زعتر الوطن! كنت في سالف الزمن أنتظر موسمه بفارغ الصبر لأنطلق إليه مع الأصدقاء أو مع العمات ، أطلب أريجه و عطره أشمه بقوة و كأنني أريد له أن يبقى أكبر مدة في دماغي و صدري ؛ كأنني أودعه! ثم ودعته و مضيت إلى غربتي و عطره أبدا عابق لم يزل في مخيلتي و روحي.
هل تذكرين غرفة الجلوس ؟ حيث كانت تجلس أمي مع خالتي و بعض الجيران. والدتي الحبيبة تجلس على الكنبة الأقرب إلى المطبخ ثم تليها خالتي سميرة و تتوزع الجارات ندى و فردوس على باقي الكنبات. رائحة القهوة تنبعث من الأقداح لتزكم أنوفنا وأحاديث مرتفعة لا نلقي لها بالا و أخرى خافتة نشد أسماعنا إليها بقوة !
ترى إلى متى ستظل الأصوات الخافتة تستهوينا ؟ هل هو كره الضجيج وحب الهمس أم أن صوت الحق في الوطن قدره أن يبحث دون جدوى عن الأصوات المرتفعة حتى إذا وجدها خفتت فجأة!
خطوتان في غرفة الجلوس ثم تكون الثالثة بعدهما في أرض الصالون المكان الأوسع في المنزل و الذاكرة. دعيني أجلس هنا للحظات متأملا صامتا أتدبر في كلمات أرجائه الناطقة و في صفحات زواياه الصارخة . ليتك تدركين كم أحتاجه؟ هنا في غربتي لا أحلم إلا به و لا تطأ شخصيات أحلامي غير خشبته الساحرة! لا زلت أحفظ شكل بلاطه و مواطن نمش موزع على جدرانه! واها لكنباته كم مرة نمت عليها فغفوت حالما بالغربة و اليوم في غربتي أنام و لا أحلم إلا بها !
أشعر بتعب شديد لا يريحني منه إلا غفوة طويلة على واحدة من تلك الكنبات أحلم فيها أنني عدت أخيرا بنوافذي مشرعة إلى الوطن!
متى أستيقظ لأجد نفسي على واحدة من تلك الكنبات الوثيرة فأعتدل جالسا ثم أنظر في الأرجاء مبتسما مطمئنا ليصلني صوت والدتي تدعوني إلى المطبخ لتناول الطعام ؟!
في بعض الأحيان كنت أجلس على طاولة السفرة أقرأ في كتبي ، حتى إذا شعرت بالنعاس يدب إلي أبعدت كرسيين غير الكرسي الذي أجلس عليه و صففتهما إلى جانبه ، ثم أتمدد ساحبا الكراسي إلى الداخل لأنام هناك فلا يراني إلا من يقترب مني. كم كانت تلك الإغفاءة القصيرة ممتعة!
لقد حلمت يومها كثيرا بغرفة مستقلة و مكتبة كبيرة بجوار سرير مريح ، أجلس فيه متناولا الكتب مقلبا في صفحاتها حتى إذا شعرت بالنعاس أطفأت النور و نمت في سريري هانئ البال. أما اليوم فأتمنى لو كانت هذه الغربة حلما طويلا أصحو منه قريبا لأجد نفسي ممددا على تلك الكراسي ، فأعتدل وأدفعها إلى مكانها ثم أفتح الكتاب وأتابع القراءة!
لي مع هذا المكان حديث طويل وأسرار لا تكاد تنتهي . لكن سرا منها يلح علي بإصرار أن أبوح لك به فهو متعلق بك أنت مباشرة.
ها أنا ذا أترك الطاولة و أمشي لأقف على باب الشرفة . هناك ... في الواجهة بين أشجار الزيتون تقع المدرسة التي درسنا فيها منذ الصغر وهي عبارة عن خزانة كبيرة لن أفتحها الآن! إلى يمينها يبدو جبل القلمون شاهقا مرتفعا ممتدا يسحر الألباب بخضاره و خزائنه الكثيرة الممتلئة!
هناك في ربوعه الخلابة كسرت رجلي ذات مرة وأنا أقفز جذلا في براريه ، فلزمت الفراش فترة ثم عدت إلى الجبل مرة أخرى بشغف أكبر و لهفة أعظم.
وحدها جبال الوطن تكسر أرجلنا و تهشم عظامنا فيزداد عشقنا لها و يشتد هيامنا بها !
أعود خطوتين إلى الوراء و أقف في إتجاه القبلة وأكبر رافعا يدي و أدخل في صلاة خاشعة... أسلم عن يميني و عن يساري و أجلس واضعا رأسي في كفي و أبكي كولد صغير أضاع أمه... أبكي و أبكي دون توقف وعيناي و سمعي يلتفتان بين الفينة و الفينة إلى باب الصالة تحسبا أن يدخل علي أحد فيكشف سري ! لقد احتفظت به لنفسي ولم أشأ أن يعرف به أحد على الإطلاق! اليوم فقط بعد كل تلك السنوات أبوح لك به...
لقد كانت تلك السنة التي ستسافرين فيها خارج أسوار الوطن حاملة معك نافذتك الغربية المشرعة . وكان سفرك بعد أشهر قليلة كنت أعد أيامها و لياليها كمريض يئس الأطباء من شفائه فأدار للدنيا ظهره و جلس ينتظر موعده مع الموت!
لقد كنت يومها ساذجا و لم يخبرني أحد بأن الذين يسافرون بنوافذ مفتوحة يعودون سريعا إلى الوطن !
إذا رأيتم فيها ما يستحق القراءة فأعدكم بالمزيد إن شاء الله.
وهي عبارة عن رسائل كتبت بها إلى أختي أم عبد الله حفظها الله و رعاها. أبثها فيها أشواقي و شجوني إلى العهود الأولى في الوطن .
خزانة ذكريات -1-
بحبر الشوق الممزوج بالألم و قلم الذكريات الجميلة الضاربة في أعماق الروح أكتب إليك كلماتي هذه. كلمات هي كجسور ممتدة فوق بحار ومحيطات من الماضي ؛ أعبر بها إليك هناك حيث كنت تتمددين بقربي تحادثينني في حنادس الظلم حين تنطفئ الأنوار و تسكن الأنفاس. لقد كانت كلماتك لي حينها بسيطة في مضمونها مبعثرة في أسلوبها عبثية في منطقها ؛ عن الجارات و أولاد خالتي و أولاد الجيران و أنواع الألعاب وعن عصام صاحب البناية . وكنت أشاركك في هذا كله ؛ أشاركك البساطة و العبثية و البعثرة فقد كنت مثلك يومها حزورا يافعا أحلامي كأحلامك و كلماتي ككلماتك و هواي كهواك ! أهوى البكاء و الضحك و اللعب و الهرب من عصام !
هل تذكرين أيام كنا نجلس معا على السجادة في غرفة نومنا التي كانت أيضا كما كل باقي أرجاء البيت الصغير ساحة لعبنا ولهونا ؛ هناك ! ... قرب مكتبة قديمة لونها بني مائل إلى السواد كنا نخبئ في داخلها بعض ألعابنا بل كنا نختبئ في داخلها أحيانا. فكانت على ضيقها الشديد تبدو رحبة ممتدة كسماء القلمون الغالية!
لست أدري لماذا صرت اليوم أكره و أنفر من الأماكن الضيقة بل تكاد أنفاسي تنقطع لمجرد تخيلها ، بينما أنا الآن أستذكر ذلك المكان الذي لا يتسع لغير طفل صغير في الرابعة من عمره ، ومع ذلك أشعر أنني أستطيع أن أدخله و أطل منه على سماء الوطن كله!
هل أصبحت سماء الوطن بحجم ذلك المكان الضيق؟! أم أن ذلك المكان هو الذي إتسع و يتسع أكثر فأكثر كلما تقدمنا خطوات في نفق الزمان؟!
لقد كان في الغرفة نافذتان خشبيتان لونهما أبيض . (الأباجور) الخشبي الخاص بهما كان أحمرا قاتم اللون . النافذة الشرقية التي بجوار سريري كانت تظل مقفلة طيلة العام فلا تفتح إلا للتنظيف بين الحين و الحين . النافذة الغربية التي بجوار سريرك كانت تفتح كل يوم و لا تغلق إلا عند الحاجة إتقاء لأشعة الشمس المحرقة أو لهبة ريح عاصفة ماطرة. لكنها في غير ذلك من الحالات تبقى مفتوحة مشرعة تستقبل نسائم الحقول و أنغام الطيور . وكانت هذه النافذة تطل مباشرة على شرفة صغيرة تلتقي بصالة البيت . فليس من طريق إلى تلك الشرفة إلا نافذتك أو الصالون. وكنت أحب أن أعتلي سريرك و أفتح النافذة لأقفز إلى الشرفة في غمرة و بهجة لو قسمت على أهل الوطن كله لوسعتهم!
لست أدري ما سبب تلك الهموم التي يعانيها الناس في الوطن؟! أليسوا يملكون نوافذا يطلون منها على ربوعه ، فيستقبلون أريجه و عبقه؟! هل يا ترى أقفلت كل تلك النوافذ فأصبحت كالنافذة الشرقية الأخرى التي بجوار سريري مقفلة طيلة أيام السنة؟! والتي قدر لي أن أحملها معي إلى الغربة لأضعها هناك منسية في أرجاء قلب منفي!
وأما أنت فحملت النافذة الغربية الثانية المشرعة التي كانت بجوار سريرك ، حملتيها معك إلى الغربة فلم تطل غيبتك ! بل عدت سريعا إلى القلمون الحبيبة!
سافرت قبل ستة سنوات إلى جدة و هناك كان بجوار سريري أيضا نافذة مقفلة! حملتها معي وسافرت إلى الرياض فإذا سريري و بجواره نافذتان مغلقتان عدت بهما إلى جدة بعد سنوات !
فهل يكون قدري دائما أن أحمل النوافذ المقفلة لأنتقل بها من غربة إلى غربة؟! متى يأتي اليوم الذي أفتح فيه هذه النوافذ وأعود بها إلى الوطن مفتوحة مشرعة ، أضعها إلى جانب سريري وأطل برأسي منها في الصباح مستمتعا بهبات باردة تلفح وجهي و بمنظر البلابل تزقزق على أغصان شجر الزيتون الأخضر؟!
خارج الغرفة كان ثمة ممر ضيق ، ولكن ضيقه كان يساعدنا على التسلق إلى الأعلى ، فكنا نصل إلى السقف الذي يتخايل إلي اليوم عاليا مرتفعا كما سماء الوطن الحبيب!
اليوم نحن نتيه في دروب وممرات الغربة الواسعة لا نحسن صعودا و لا تسلقا!
أفيكون ضيق الوطن متسعا ومنفذا إلى علو و متسع الغربة مضيقا ومنزلقا إلى سفال ! هل هذا هو الناموس الذي يغيب عن الكثيرين هنا في هذه الغربة المتلاطمة؟!
الممر ينتهي بممر آخر ويتصل بغرفة والدي الحبيبين . وفي الزاوية على مدخل الغرفة كانت آلة الخياطة التي تجلس عليها والدتي الحبيبة ، وقد وضعت نظارتها على عينيها و في يدها قميص أو بنطال أو تنورة تمررها تحت إبرة مهتزة خارجة من آلة متحركة ، تتحكم بحركتها قدم أمي الغالية ، فتدوس باستمرار ومرة بعد مرة على عجلة متصلة بتلك الآلة. لا زلت أذكر ذلك المنظر البهي وأحن إليه فليس في الغربة كلها منظر هو أبهى و أجمل و أمتع منه.
بخار الماء المنبعث بعد حمام ساخن يختلط بروائح زكية آتية من المطبخ و أصوات عجلات آلة الخياطة تختلط بتنبيهات والدتي المتلاحقة وأصوات بعض الجيران تأتي بعيدة خافتة ... هكذا كان حال ذلك الممر . وعلى يسار الممر كانت خزانة حائط قديمة مممتلئة بالملابس ومقسمة إلى أقسام عدة. أجمل قسم منها يقع خلف الباب لأنه الأبعد عن نظر الناظر وفيه فرصة للإختباء و قضاء وقت طويل بعيدا عن الأعين!
هل كان هذا هو السبب الذي حملني على السفر ؟! هل هو حب قديم للإختفاء والتواري بعيدا؟! هناك في الوطن كنت أختفي لأظهر سريعا فأجد من ينتظرني ويسألني بلهفة : أين كنت ؟ و كيف اختبأت؟! فيزيدني ذلك شغفا بالإختباء و التخفي! و ظلت هذه الرغبة تزداد و تزداد حتى جاءت بي إلى هنا ، إلى خزانة كبيرة لم أعد أعرف كيف أخرج منها؟ ولا من ينتظرني خارج أسوارها؟!
في أعلى الممر وعلى يسار أمي الجالسة إلى آلة الخياطة كانت غرفة صغيرة مرتفعة نسميها(التختية) وكانت ممتلئة بالكنوز و النوادر أو هكذا كنت أحسها . أجمل اللحظات كانت حين يغفو والدي بعد الظهر في غرفتهما فأستغلها فرصة و أصعد إلى (التختية) لتلمس يداي كنوزها المبعثرة هنا و هناك و لأمشي في تلك الغرفة التي لا يمكن الوقوف فيها ، حاني الظهر وبخطوات متعثرة! لكنها كانت توصلني إلى أهدافي كلها!
فما بال خطواتنا المتزنة اليوم لا توصلنا إلى شيء من مبتغانا ؟! فهل هي حقا خطوات متزنة أم هكذا يزين و يخيل إلينا؟! لكن ماذا عن خطواتنا المتعثرة في الوطن؟ ولماذا توصلنا هناك و لا توصلنا أو تصلنا بأهدافنا هنا؟! هل هو الناموس سالف الذكر نفسه؟!
أعطني يدك و تعالي ندخل معا إلى المطبخ . ولنجلس هنا على تلك الكنبة القديمة لنستريح قليلا من الركض واللهث. فليس في الأرض مقعد أوثر و لا أنعم و لا ألذ من تلك الكنبة! تعالي نتأمل والدتي واقفة تغسل الصحون و بين الحين و الحين تنادي على والدي كي يساعدها في سحب السجادة ، قبل أن يغمرها ماء منهمر من الأسفل سببه خلل في التمديدات...
هناك عن يمين الجالس في المطبخ شرفة تطل على جبل أخضر تفوح منه رائحة الزعتر البري !
لقد مضى زمن لم أسأل فيه عن زعتر الوطن! كنت في سالف الزمن أنتظر موسمه بفارغ الصبر لأنطلق إليه مع الأصدقاء أو مع العمات ، أطلب أريجه و عطره أشمه بقوة و كأنني أريد له أن يبقى أكبر مدة في دماغي و صدري ؛ كأنني أودعه! ثم ودعته و مضيت إلى غربتي و عطره أبدا عابق لم يزل في مخيلتي و روحي.
هل تذكرين غرفة الجلوس ؟ حيث كانت تجلس أمي مع خالتي و بعض الجيران. والدتي الحبيبة تجلس على الكنبة الأقرب إلى المطبخ ثم تليها خالتي سميرة و تتوزع الجارات ندى و فردوس على باقي الكنبات. رائحة القهوة تنبعث من الأقداح لتزكم أنوفنا وأحاديث مرتفعة لا نلقي لها بالا و أخرى خافتة نشد أسماعنا إليها بقوة !
ترى إلى متى ستظل الأصوات الخافتة تستهوينا ؟ هل هو كره الضجيج وحب الهمس أم أن صوت الحق في الوطن قدره أن يبحث دون جدوى عن الأصوات المرتفعة حتى إذا وجدها خفتت فجأة!
خطوتان في غرفة الجلوس ثم تكون الثالثة بعدهما في أرض الصالون المكان الأوسع في المنزل و الذاكرة. دعيني أجلس هنا للحظات متأملا صامتا أتدبر في كلمات أرجائه الناطقة و في صفحات زواياه الصارخة . ليتك تدركين كم أحتاجه؟ هنا في غربتي لا أحلم إلا به و لا تطأ شخصيات أحلامي غير خشبته الساحرة! لا زلت أحفظ شكل بلاطه و مواطن نمش موزع على جدرانه! واها لكنباته كم مرة نمت عليها فغفوت حالما بالغربة و اليوم في غربتي أنام و لا أحلم إلا بها !
أشعر بتعب شديد لا يريحني منه إلا غفوة طويلة على واحدة من تلك الكنبات أحلم فيها أنني عدت أخيرا بنوافذي مشرعة إلى الوطن!
متى أستيقظ لأجد نفسي على واحدة من تلك الكنبات الوثيرة فأعتدل جالسا ثم أنظر في الأرجاء مبتسما مطمئنا ليصلني صوت والدتي تدعوني إلى المطبخ لتناول الطعام ؟!
في بعض الأحيان كنت أجلس على طاولة السفرة أقرأ في كتبي ، حتى إذا شعرت بالنعاس يدب إلي أبعدت كرسيين غير الكرسي الذي أجلس عليه و صففتهما إلى جانبه ، ثم أتمدد ساحبا الكراسي إلى الداخل لأنام هناك فلا يراني إلا من يقترب مني. كم كانت تلك الإغفاءة القصيرة ممتعة!
لقد حلمت يومها كثيرا بغرفة مستقلة و مكتبة كبيرة بجوار سرير مريح ، أجلس فيه متناولا الكتب مقلبا في صفحاتها حتى إذا شعرت بالنعاس أطفأت النور و نمت في سريري هانئ البال. أما اليوم فأتمنى لو كانت هذه الغربة حلما طويلا أصحو منه قريبا لأجد نفسي ممددا على تلك الكراسي ، فأعتدل وأدفعها إلى مكانها ثم أفتح الكتاب وأتابع القراءة!
لي مع هذا المكان حديث طويل وأسرار لا تكاد تنتهي . لكن سرا منها يلح علي بإصرار أن أبوح لك به فهو متعلق بك أنت مباشرة.
ها أنا ذا أترك الطاولة و أمشي لأقف على باب الشرفة . هناك ... في الواجهة بين أشجار الزيتون تقع المدرسة التي درسنا فيها منذ الصغر وهي عبارة عن خزانة كبيرة لن أفتحها الآن! إلى يمينها يبدو جبل القلمون شاهقا مرتفعا ممتدا يسحر الألباب بخضاره و خزائنه الكثيرة الممتلئة!
هناك في ربوعه الخلابة كسرت رجلي ذات مرة وأنا أقفز جذلا في براريه ، فلزمت الفراش فترة ثم عدت إلى الجبل مرة أخرى بشغف أكبر و لهفة أعظم.
وحدها جبال الوطن تكسر أرجلنا و تهشم عظامنا فيزداد عشقنا لها و يشتد هيامنا بها !
أعود خطوتين إلى الوراء و أقف في إتجاه القبلة وأكبر رافعا يدي و أدخل في صلاة خاشعة... أسلم عن يميني و عن يساري و أجلس واضعا رأسي في كفي و أبكي كولد صغير أضاع أمه... أبكي و أبكي دون توقف وعيناي و سمعي يلتفتان بين الفينة و الفينة إلى باب الصالة تحسبا أن يدخل علي أحد فيكشف سري ! لقد احتفظت به لنفسي ولم أشأ أن يعرف به أحد على الإطلاق! اليوم فقط بعد كل تلك السنوات أبوح لك به...
لقد كانت تلك السنة التي ستسافرين فيها خارج أسوار الوطن حاملة معك نافذتك الغربية المشرعة . وكان سفرك بعد أشهر قليلة كنت أعد أيامها و لياليها كمريض يئس الأطباء من شفائه فأدار للدنيا ظهره و جلس ينتظر موعده مع الموت!
لقد كنت يومها ساذجا و لم يخبرني أحد بأن الذين يسافرون بنوافذ مفتوحة يعودون سريعا إلى الوطن !