تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في متاعي.. تلثيمة شهيد



روعة
02-03-2008, 11:38 PM
على أعتاب غزة

في متاعي.. تلثيمة شهيد

داليا صلاح الدين

ثقُل علَيّ متاعي منذ أن استقبلت تلك الرسالة الهاتفية القصيرة المكتوبة بأحرف معدودة ومداد مخضب بالألم والصمود، أرسلتها لي إحدى رفيقات سفرتي القصيرة إلى غزة تو أن استَقبلَتها على هاتفها المحمول، نظرت إلى شاشة محمولي أحاول جاهدة أن أَجَمع أفكاري لأفهم معنى الكلمات وأستشعر حقيقة أن رحلوا.

قرأت ما لم أودّ أن أقرأ: "ارتقاء سبعة شهداء من القوة التنفيذية في أثناء تأديتهم صلاة العصر داخل الموقع الذي قمتن بزيارته"..

اجتهدت ثوينيات من الزمن.. أي موقع فيهم؟ أي منهم رحل؟ حاولت أن أتفادى الاستيعاب.. إن كان لساني قد خاطب لسان أحدهم، إن كانت عيني قد وقعت على أيّ منهم، إن كان دعائي قد اختص بواحد منهم بالذات، إن كنت قد تقاسمت مع أحد منهم لحظة تواجد إنساني في هذه الدنيا.

سارعت إلى بقايا رصيدي المتهالك، أتصل بغزة آملة أن يصل إلى مسامعي ذلك الصوت الأبوي المرح لأحد الأصدقاء الغزاويون. فإذا بالصوت يصلني ممزوجًا بذبذبات الألم المصهورة في الصبر والاحتساب. سألته على أمل الإنكار: "من منهم؟ هل فيهم من تقابلنا معهم؟".

أجابني بنبر حزن دفين، لم أعهده: "نعم.. هذا قدرنا.. قابلتم ثلاثة منهم، فيهم ذاك الذي أعطاك تلثيمته".

لحظة صمت

لحظة صمت.. صمت معها كل شيء الدنيا.. سارعت إلى حقيبة يدي الصغيرة التي لم أسافر إلا بها، وعدت بغنائم غزاوية تملؤها تحت مسمى الهدايا، بحثت في الحقيبة برهبة وقلق شديد، وكأني سأجده فيها، وكأني سأعرفه منها، ما وجدته وما عرفت وجهه، ولكني وجدت التلثيمة.

ما زلت أحمل في حقيبة يدي، تلك التلثيمة أو غطاء الوجه الذي يُخفي خلفه المجاهدون وجوههم خشية المعرفة وأملاً في الاستمرار، عدت بها من غزة ومعها غيرها من الهدايا التي أكرمنا بها أهل فلسطين بالرغم من شدة احتياجهم لكل شيء، امتدت إلى بها يد محارب لم أر وجهه، في ظلمة الليل أو عتمة الفجر، لا أذكر.

كل ما أذكره أن زملاءنا من الصحفيين الفلسطينيين وإخواننا من أهل فلسطين كانوا يسارعون لتلبية أبسط أحلامنا، وكأنها أمرٌ مطاع، فقط لأننا مصريون؛ ولأنهم فرحوا بحبنا لهم وزيارتنا لهم، عبّروا بصدق قائلين إنها "زيارة العمر"، وأننا "أعز الأصدقاء" برغم أن منهم من لم نقابله إلا يوما وليلة أو ليلتين أو بعض يوم، فعبّروا عن رد الجميل الذي رأوه في سِفرتنا إليهم، مُحَمَلين بالقليل من الزاد لعونهم، بأن فرحوا بنا أكثر مما فرحوا بالزاد، بالرغم من قلة ما لديهم.

تمنينا أن نقابل المجاهدين وجها لوجه، فأخذنا أحدهم في سيارته، مستهلكا ما بقي له من وقود قد لا يتيسر له أن يعوضه وتوجه في ظلام الليل إلى أحد المواقع التابعة للشرطة الفلسطينية بخان يونس، وليل الخان حالكا فوق ما تتصور، ليس فقط لأن إسرائيل تقطع عنهم هم أيضا الكهرباء، ولكن لأنه حتى إذا استطاع أحد منهم أن يعتمد على مُوَلِّد خاص، فالضوء في الليل في ذاته خطر، شرح لنا أحد الإخوة الفلسطينيين أنه بعد السابعة والنصف مساء الكل يغلق مصابيحه ويدخل داره خشية القصف، فتنام البلدة وكأنك في دولة أسطورية مهجورة لا يسكنها إلا الجان!.

تشق بنا السيارة الطريق المظلم، ثم تتوقف، نهبط من السيارة في شارع صامت، عميق العتمة، ليلتف حولنا جمع من الأشباح الملائكية السوداء! من هؤلاء؟ إنهم الشباب المجاهد المرابط في جوف الليل وشدة المطر وصقيع الشتاء، ملثمين بالسواد، لا ترى منهم شيئا في ذلك الليل الغامق إلا عيونا فرحة، قوية، تطل عليك من خلف تلثيماتهم.

ملابسهم داكنة كالليل ووجوههم ملثمة بالأقنعة السوداء، لا تفرقهم عن بعضهم البعض إلا من الصوت أو فرق القوام، كلهم نفس العيون: ضاحكة مستبشرة، قوية منشغلة بالمراقبة، فرحة بنا! وكأننا فعلا أدخلنا السرور على قلوبهم الصغيرة السن الكبيرة المسئولية.

تعظيم سلام

حقيقة، رفعت يدي إلى جبهتي في "تعظيم سلام" أُحيي فيهم الصمود والإصرار والتفاني، رأيت البسمات تضيء وجوههم من خلف أقنعتهم السوداء، سألَتهم رفيقاتي عن أسلحتهم وذخائرهم، فأرونا شيئا ذا أسلاك لم أستوعب في الظلام الدامس إلا أنه خطر، وأنه من الممكن أن ينفجر، انشغلت أنا بوجوههم الملثمة وما يخفون خلفها من ألم ومرح، فبعضهم في العشرين أو الحادي والعشرين، ومن المحتمل أن يكون لكل منهم حلم خاص صغير يتركه على وسادته إذا حل الليل ووجب عليه أن يشق جوفه ليرابط مع رفاقه.



تلثيمة الشهيد.. الحمل الثقيل(عدسة داليا صلاح الدين)

في ذهول حقيقي وجدتهم يغدقون علينا بعض الهدايا الرمزية في خلال الثواني القليلة التي بقيناها معهم، كان علينا أن نُسرع ونرحل مع قائد السيارة بعيدا عن المكان الذي لم أفقه خطورته إلا بعد عودتي لبلادي، الشرح كان قليلا وسريعا، والوقت كان غاليا وعزيزا، سيطر عليّ عند الرحيل شعور عجيب بالسلام والأمان! في محاولة لتفسيره، لم أجد إلا أنه انْبَثَّ في نفسي من أرواحهم القوية، فهم لا يعرفون مشاعر للقلق والتوتر، أو حتى الخوف، يبدو أنهم كانوا في حالة تصالح مع النفس، لا يتمتع به كثير من أهل الزمان.
مع تنفس الصباح، عدنا باحثين عنهم بنفس السيارة وبقايا الوقود الذي يبدو أنه اختلط بالماء، فعرقل سرعة المسيرة. وصلنا إلى موقع أوضح مع أشعة الضوء، شارع هادئ ومبنى صغير متهالك، فتحوا لنا بابه، هم أم إخوانهم، لم أعرف. نفس الموقع أم غيره، لم أسأل. دخلنا لمدة ثوانٍ أخرى، باب كبير معدني صدئ يُفتح على قاعة واسعة خالية إلا من الحُصر، المكان يجعلك تظن أنك في مرآب سيارات كما شبهته رفيقتي، ولكنه ليس كذلك، هو فقط أبسط مما تتخيل. هكذا هو، أحد المقرات التابعة للشرطة. تحاورنا معهم حوارا مرحا بسيطا من خلف تلثيماتهم، وما زالت نبراتهم الفَرِحة بنا تطن في أذني وهم يؤكدون لنا من بين السطور أنهم سعداء وأقوياء بالرغم من كل شيء، ويسألونا -نحن- الدعاء!.

الدرع الواقية

قفزنا عائدين إلى السيارة بعد ثوانٍ من تركها، وعلى وجوهنا تبسمات طفولية لا أعرف لها مصدرا أرضيا عاقلا ملموسا، إلا أنهم نقلوا إلينا شعورهم الغريب بالسعادة، وبثرثرة طفولية عبّرت وأنا أركب السيارة عن شعور ما بداخلي تجاه تلثيماتهم، لا أذكر ما نطقت به، وإذا بيد أحدهم تمتد إليّ عبر نافذة السيارة بتلثيمته التي خلعها في التو ليُهديني إياها.

لم أفهم هؤلاء.. أو ليست تلك التلثيمة هي درعهم الواقية؟ ولكن يبدو أنه كان يعرف أنه لن يحتاجها كثيرا بعد ذلك... مددت إليها يدي فَرِحَة أقبَل الهدية في ذهول، بل أخطفها من يده، قبل أن ترحل عني الفرصة، انشغلت بها كطفلة تنشغل بدميتها الجديدة وأخذت أَريها لرفيقاتي وأتباهى عليهن بأني صاحبة الكنز، سارعت السيارة بالرحيل عنهم قبل أن أنتبه لوجه صاحب التلثيمة أو أنظر إليه أو أتأكد أنه سمع شكري، ولكني أظنه تأكد من امتناني من شدة ما فرحت بها وتشاغلت بها مع رفيقاتي اللاتي وجهن إليّ نفثات الغيرة، ورحلنا ضاحكات.

أحفظها اليوم في حقيبتي، أرحل بها هنا وهناك، أخرجها لأسأل نفسي: "لم يا رب هذا الحمل الثقيل؟.. لم هذه الأمانة؟ كيف أنقل للعالم ولأهلي ولبلدي ما رأيت؟ كيف أُوصِّل الصورة الحقيقية لعوزهم وعزهم؟ كيف أنقل هول ما رأيت وجمال ما رأيت؟ لم حمّلتَني أيها الشهيد -الذي لم أعرف اسمه ولا شكله- أمانة منك؟ لماذا لبيت لي أمنية ساذجة لا أستطيع في مقابلها أن أكون عند حسن ظنك بي وببلادي؟ إنّا ناصرونك؟".

عذرا، فأنا في شدة الحرج، عدت يا صاحب التلثيمة لأجد أصحاب الأمر في بلادي يخشونك! يخشون "الخطر الفلسطيني" على "سيادتهم". لم أجد منهم خشية عليك أو على رفاقك المصلين. لم أجد فيهم من يحمل هم سيادتكم على أرضكم المنتهكة أو حتى على سيادة مسرى النبيّ المُحتل. لم تعد هذه الأمور محل النقاش...

سبعة من زهر الشباب، يقومون لصلاتهم جماعة أثناء رباطهم المتلاحق بين الليل والنهار، يُقصفون جماعة عصر الثلاثاء الخامس من فبراير2008 في ذلك المقر التابع للشرطة على الطريق العام بشرق مدينة خان يونس، جنوب قطاع غزة. يرحلون مسارعين، لاحقين بأمة من الشهداء سبقتهم، وسابقين لجمع أخر سيلحق بهم حتما، مع بقاء الحال على ما هو عليه.. ونبقى نحن.. تبقى أنت تقرأ كلماتي، وأبقى أنا.. وتليثمة الشهيد في حقيبتي.



--------------------------------------------------------------------------------

كاتبة ومستشارة بقسم التعريف بالاسلام

المهند
03-03-2008, 01:17 AM
موضوع رائع وطويل..وجميل..وله في النفس أثر!!حزين!!..والله ما تأثرت بقراءم موضوع عن غزة هزه الايام بمثل ما تاثرت به حين قرأت هزا المقال!! اين نحن من هؤلاء!!

حُسَينْ ... !
03-03-2008, 01:40 AM
شيء جيد ان يكون الكلام في المنتدى كتابيا فقد عقد لساني و الصمت عم افكاري لا أدري ما يقال في هذه الموقف و لكن هو سؤال هل نحن احياء و هم احياء؟ فلم اجد وجهة مقارنة بين كيفية عيشنا و عيشهم

شكرا اخت روعة على هذا الموضوع

سارية الجبل
03-03-2008, 02:16 AM
لكم ألف تحية يا أيها المجاهدون ــ من أبي عبيدة إلى أبي عبير ــ مرورا بأبي مجاهد ـــ_____________________________________وصولا إلى كل القساميين وكل من رفع لواء المقاومة في زمن الذل والخنوع ـــما رأيكم لو تعرفنا إلى أحد الشباب الذي عشق التلثيمة ـــــ فكانت أنيسه في وحدته ــــإنه سعد العرابيد ــــ أحد أبرز القيادات العسكرية لكتائب القسام _____________________________بسم الله والحمد لله والله أكبر ::::::::::: سبحانه ما كان اسمه على عسر إلا تيسر ::::: ولا شيب لقلب كدر إلا تطهر ::::: ولا رمي به عدو إلا تكسر :::: وصلى الله وسلم على المجاهد الأشجع الأبر الأطهر ذي الجبين الأغر والوجه الأزهر والآل والصحب والتابعين __________________ظن سكان مدينة غزة أن الدولة العبرية لن تقدم مرة أخرى على استخدام طائرات مقاتلة من نوع ;إف 16; في عمليات الاغتيال، بعد استهدافها للشيخ صلاح شحادة القائد العام لكتائب القسام _______________________________ففي الثالث والعشرين من تموز (يوليو) الماضي قصفت ;إف 16; منزل شحادة في حي الدرج، بقنبلة تزن طناً من المتفجرات، ليسقط في هذه العملية خمسة عشر فلسطينياً، بينهم القائد العسكري لـ&;حماس________________________فقد عاش سكان مدينة غزة مساء الثلاثاء أجواء مدينة بغداد التي عرفت طوال الأسابيع الثلاثة الماضية قصفاً عنيفاً، وذلك حينما أغارت عليها الآلة العسكرية للاحتلال، لاغتيال أحد القادة العسكريين لحركة المقامة الإسلامية حماس. وسادت حالة من الرعب والفزع بعد أن أغارت طائرات من طراز ;إف 16; ومروحيات أباتشي أمريكية الصنع على مدينة غزة، وهي تقصف المدينة عدة مرات.___________أسرابا من الطائرات الحاقدة ؟؟____________________________فبينما كان سكان مدينة غزة يستعدون لأداء صلاة العشاء، التي اعتادوا ومنذ بدء الحرب على اغتنامها في الدعاء للشعب العراقي، كان سلاح الجو الصهيوني يخرج أسراباً كثيرة من طائراته لملاحقة سعد العرابيد (33 عاماً)، الذي يعتبر الساعد الأيمن لمحمد ضيف، قائد كتائب عز الدين القسام، الذي نجا في السادس والعشرين من أيلول (سبتمبر) من محاولة اغتيال صهيونية محكمة.________________وكان من الواضح أنّ تحليق طائرات الاحتلال في أجواء غزة مساء الثلاثاء (8 نيسان/ أبريل) لم يكن عبثياً، إذ أطلقت صاروخين باتجاه سيارة من نوع سوبارو كانت تسير أمام مسجد الإمام الشافعي في حي عسقولة، وسط المدينة، وهو حي شعبي مكتظ بالسكان. وسرعان ما تجمع المواطنون الفلسطينيون لإنقاذ من في السيارة المستهدفة، ولكن بعد مضي عشرين دقيقة عادت الطائرات المقاتلة لتقصف العشرات من الفلسطينيين الذين تجمعوا حول السيارة ذاتها.___________________هبوا لنجدة من كان في السيارة ؟؟__________________________وبات واضحاً أنّ الدولة العبرية سعت إلى تحقيق عدة أهداف من خلال قصفها للفلسطينيين الذين تجمعوا حول السيارة المستهدفة. إذ خشي المحتلون من أن يلحق بمحاولة اغتيال العرابيد الإخفاق، كما حدث من قبل في اغتيال ضيف، حينما أصيب في محاولة اغتيال استهدفته في حي الشيخ رضوان، استشهد فيها اثنان من مرافقيه. وزيادة على ذلك؛ كان الهدف يتمثل في دبّ الرعب في نفوس الفلسطينيين الذين هبوا لنجدة من كان في السيارة، وتحذيرهم من ذلك._________________________ويتساءل الناس في غزة من ذلك "الرجل الخطير" الذي تخرج له الدولة العبرية هذه الأسراب من الطائرات من نوع "إف 16" ومروحيات أباتشي؟. ولكن الذي يعرف الشهيد سعد العرابيد لم يستغرب من ذلك؛ لأنه يدرك مدى خطورة هذا الشاب على الدولة العبرية بالفعل._________________________________لقد أمضى سعد حياته مقاتلا متنقلا بين ربوع فلسطين حيث لم يعرف لها حدود، ونفذ العشرات من العمليات الفدائية ضد الدولة العبرية في غزة والقدس والضفة الغربية، وخطط لعلميات أخرى كذلك.____________________________سجلا حافلا بالجهاد وذراعا مهما للضيف ؟؟____________________وسرعان ما امتلأ سجل سعد بالعمليات الفدائية القوية والنوعية، فقد ظل يرتقي في صفوف كتائب القسام منذ أن كان جندياً صغيراً في إحدى المجموعات وحتى أصبح الذراع الأيمن لمحمد ضيف قائد كتائب القسام، فعاصر أجيالاً كثيرة في الكتائب خلال أحد عشر عاماً، أمضاها مقاتلاً وقائداً ومهندساً في الكتائب.____________ويقول أحد المقربين من سعد العرابيد إنه ومنذ انطلاق الانتفاضة الشعبية السابقة (1987-1994) التحق بصفوف حركة "حماس"، فقد كان من نشطاء الحركة البارزين في مسجد الشمالي في مخيم الشاطئ للاجئين غرب مدينة غزة، وعمل في أجنحتها المختلفة بشكل سري، دون أن يتم كشفه من قبل قوات الاحتلال، إذ لم يخضع للاعتقال_____________________________إلى حلقات مقبلة بإذنه تعالى ــــــــــــــوآخر دعوانا أن الحمدلله رب العالمين::::::::::::

روعة
08-03-2008, 09:12 PM
على أعتاب غزة

آل الحية.. "معذرتي"

داليا صلاح الدين

هالني المشهد!

لم ألحظ في تلك الغرفة المُجردة من منعمات الحياة إلا ذلك الجسد المُلتوي..

يرقد على فراشٍ منزو بجوار النافذة.. في محاولة مضنية للتواصل مع عقله المسلوب ومع تلك الأجساد المتراصة من حوله، متلهفة في أنين صامت.

في زيارة خاطفة لمستشفى العريش أثناء عودتي من غزة إلى القاهرة، وجدت الشاب القسامي عماد الحية يصارع الخيالات على فراش المرض، وفي رفقته اثنان من أهله، ظننتهما عند بادئ الأمر أخويه.
طالع:

* رسائل شهيد.. من غــزة

انشغلت بعماد عن أخويه، لما أصابني من ألم جسدي عند رؤيته، زلزلني جسدي ألما وأنا واقفة أمامه أبحث عنه، شعرت بدوار عنيف وألم حاد في رأسي، انقبضت مني عضلة ما في القلب، عاجزة عن التواصل مع إشارات المخ لأتفوه بأي حرف.

آلام عماد

في التو قد عدت من غزة، وودعت أمثاله من القساميين، فتية في مقتبل العمر، ذوو أجساد مفتولة وعقول واعية ونفوس قوية، كان يوما فيهم.. كان معهم.. أين هو اليوم من أيامه الماضية.


الفتى في أوائل العشرينات من عمره، أصابته القذيفة في أعصاب المخ، مع تدميرها لكثير من أعضاء جسده، أدت إصابته في المخ إلى هذا المشهد الذي أرقبه أمام عيني، تحول الفتى القسامي المجاهد إلى هيكل إنسان يصارع الخيالات ولا يتفوه إلا بالهلاوس وخربشات الكلم.

جاهدت جسدي كي أنطق، لعله يسمعني:

"كيف حالك يا عماد؟".

"بدي آكل".

"ألم تأكل بعد؟" (والطعام في فمه).

"لا.. اتركي قدمي!".

"لم أمس قدمك أخي، لمَ أنت هنا؟".

فإذا به يعود إلينا: "كنت أرابط.. بيجولوا عليّ مجرم!".

أكدت له: "لا أخي.. أنت بطل..".

عاد إلى المستقبل: "وسأستشهد؟"، وإلى الخيال: "وتستشهد المدام؟".

واستمر في عالمه: "أبويا استشهد والمدام استشهدت".

حزنت لحاله، فتدخل أخوه حمزة الحية وشرح لي: "هو ليس متزوجا، ولكنه يهلوس".

وسأله أحد أخويه: "بعد ما تطيب هتعود تاني تضرب في اليهود؟".

تبسم عماد أخيرا: "آآآآه... أضربهم بعبوة... مراتي استشهدت.. هتشفع لي؟".

وتداخلت الأزمنة في كلماته مع آلامه وأحلامه وأوهامه، فازداد ذهولي أن الحقيقة الوحيدة التي ينطق بها هي تمسكه بالشهادة والشفاعة!!!!!!! غير هذا، فهو في عالم آخر.

شرح لنا حمزة أخوهم الثالث مأساة عماد؛ أصيب الفتى منذ ستة أشهر إثر ضربة من طائرة إسرائيلية، فاستشهد زميل له وتوقف هو عن الحياة! أصيب في يده وقدمه ومخه، كُسرت الجمجمة وتسبب الكسر في نزيف ضاغط على أعصاب المخ، أجريت له جراحة في غزة قام فيها الجراحون بنزع العظمة المكسورة من المخ وتخزينها في أمعائه!!!!!!

تصورت الألم!
سبقه بشهر واحد اجتماع عائلة الحية للتسامر في "ديوان آل الحية"، قُصف الديوان بما فيه من صغار وكبار، استشهد أبو عماد وأخوه وعمه وثلاثة من أبناء عمه وابن عم أبيه، وأصيب حينها اثنان من إخوته وابن عمته.

توقفت عند وصف حمزة الحية لديوان العائلة، ما زال للقوم ديوان ودوار يجمعهم، ونحن هنا نناطح الأشجار بعبواتنا الحجرية، ما هذا الزمن الجميل الذي ما زالوا يعيشونه رغم الغارات والزلازل؟!

ما هذا الدفء الأسري الذي ما زال يربطهم رغم المحارق والمآسي؟! نسيناه يا عرب؟

عدت أستمع إلى حوار حمزة مع رفيقة رحلتي وأنا أقف أمام سرير عماد، عيني ترقبه لا تحيد عنه، شكا حمزة إلينا أنهم محبوسون في العريش منذ خمسة أيام، وكانوا قد دخلوا مصر عند بداية فتح المعبر وتوجهوا إلى مستشفى رفح المركزي، حيث أكد لهم الأطباء أن عماد في حاجة إلى رنين مغناطيسي وهو غير متواجد برفح أو العريش، ورغم هذا أخبرهم مدير المستشفى أنه "ممنوع منعا باتا" ذهاب أي فلسطيني إلى القاهرة.

فتركوا رفح وعادوا إلى ديارهم بمنطقة الشجاعية على الخط الشرقي لغزة، ثم أعادوا المحاولة قبل أن نقابلهم بخمسة أيام، يوم الإثنين 28 من يناير 2008 وصلوا إلى العريش وظلوا بها في انتظار للمجهول كما حدثنا حمزة.

عند عودتي إلى القاهرة، ظللت أتابع حالة حمزة جهد طاقتي، تزاحمت عليّ الواجبات، وانشغلت بعموم أهل غزة وحالهم عن التواصل الشخصي مع الكثير من الإخوة والأحبة هناك.

رحت أكتب وأحاضر وأبحث عن حلول، لم أنم ليلي منذ أن عدت، بحثت لعماد عن جراح مخ وأعصاب على أمل أن يذهب إليهم في العريش، لم يسعفني أحدهم بالذهاب.

عرفت أن أحد الأطباء المصريين فحص عماد وكتب له دواء، وأخبرهم أنه لا يحتاج إلى جراحة، لم يطمئن قلبي ولكن لم أستطع أن أفعل شيئا.

لا أستطيع أن أدخلهم القاهرة، ولم أجد من يذهب إليهم، عادوا إلى غزة وظللت أتابع أخبارهم عن بعد، دأبت رفيقتي على التواصل مع حمزة خاصة لمتابعة حالة عماد، وكنت أتابع منها الأخبار، وأوجهها لبعض الأفكار لتقترحها عليهم، وأعود وينشغل وقتي فيهم عنهم، وأقول لنفسي: غدا أتصل بهم، المهم أن أفعل لهم ولغزة، أهم من التواصل والحديث، فالأوقات أقل كثيرا من الواجبات.


ذات صباح


صباح ما، في أسبوعي الماضي، أشارت إلىّ زميلتي لأنظر إلى شاشة حاسوبها الآلي.. أنظر.. أقرأ.. استشهاد القائد الميداني مسئول الوحدة المدفعية في كتيبة الشجاعية حمزة الحية ابن الدكتور خليل الحية القيادي بحركة حماس.

أصمت.. أحزن.. أبكي...

هو ليس أخا عماد، بل ابن عمه.. لم ألحظ لشدة الترابط..

هو ليس فتى فلسطينيا يرافق جريح العائلة.. هو قائد ميداني ومجاهد هو الآخر..

هو لم يسبقني إلى الأربعينات كما نطقت ملامحه، بل هو أيضا في أوائل العشرينات!

نخرج أنا ورفيقاتي في العشية.. نتوجه إلى ميدان محمود بالقاهرة.. نُعلي لافتات الاعتراض الحزين.. نضيء الشمع من أجل غزة.. نرفع علم فلسطين في وقفة نسائية صامتة.. نسأل الله القبول، نرجو من المارة الانتباه.. ننعى حمزة وأهله ورفاقه، ندين الصمت العربي، نئن صامتات على صدر الوطن..


أيها الوطن العربي الصامت، إخوتك بفلسطين يرحلون عنك ويفوتك أن تسجل عندهم طلب الشفاعة.. أيها الوطن المصري الساخر من آلامك، ابنتك سماح تُقصف أمام عينيك على حدود سيادتك، فتوقف عن نحيبك الساخر وأيقظ سلاحك.. "خلي السلاح صاحي.." يا مصري.. أتذكر؟

تتساقط دمعات شمعتي على كفي، فأستشعر لهيبها.. أتألم بدايةً.. يستمر الذوبان، فلا أعبأ.. يكسو يدي قفاز من الشمع الدافئ.. أهلوس لنفسي أنه في سبيل الله، وأني على درب الجهاد.. يزداد الدفء في يدي، فأذهل لاستمتاعي به.. ألمحه من بين دمعاتي المتحجرة وأنا أرفع بيدي الأخرى لافتة: "لا لحصار غزة".

أبكي رحيل حمزة.. ليس ألما على فراقه، ولكن خوفا أن تكون الفرصة قد فاتتني لأستأذنه الشفاعة يوم الدين..

أيها الشهيد الحي، أتسمعني؟

أستأذنك الشفاعة يوم العرض..

لك سبعون من أهلك..

أدرجني فيهم..

لا حاجة لكل آل الحية بشفاعتك..

فأنت الثامن، ولكل منكم سبعون..

أعرف.. قصرت في التواصل.. انشغلت بكم عنك..

معذرة.. تقبل اعتذاري..

آل الحية.. اعذروا طلبي.. ...