المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ورقتي الضائعة!!...



admin
01-04-2007, 09:45 PM
ما زلت أذكر حين أعطاني "المعلم" تلك الورقة!.. كنت إذ ذاك فتى صغيراً على مقاعد الدراسة الأولى.. يومها كتب لنا كلمة على صفحات بيضاء، ثم وزعها علينا قائلاً: "عاهدوني جميعاً أن تحتفظوا بهذه الورقة، لأن فيها سبب السعادة والكرامة!!"... ورفع الجميع أياديهم حينها معاهدين المعلم!!... يومها أخذت تلك الورقة، وألصقتها بروحي الواعدة!!... كما فعل الكثيرون!!.. راحت ترافقني عبر السنين!!... وأنا أحاول الحفاظ عليها.. خفت كثيراً أن أفقدها!..

فقد سمعت عن أناس كثيرين أضاعوها.. لقد جعلت منها شمعتي حين يطبق غلس الهموم!.. وسلوتي في رحلة العمر القاسية!!.. وأملي في إصلاح ما أفسدت من عمري!.. كانت ميناء قاربي في هدأة الليل!!... يرسو على ضفافها عند الغروب، بعد أن تاه بين لجج من البعد والضياع!!... حاولت أن أتقمصها في سلوكي، ففشلت!!... لا لشيء، ولكن مفاتن الحياة كانت مغريةً أكثر بكثيرٍ مما سمعت عنها!!... وكيدها كان أدهّى بمراتٍ ومراتٍ مما تخيلت!!...

مرّت بي الأيام، وأنا أحاول جاهداً الوفاء بعهدي الطفولي الذي قطعناه للمعلم!!... ورحت أحمل ورقتي معي أنّى رحلت!.. وأنّى حللت.. أنقلها بين أوراقٍ من كتاب مسيرتي.. كلما سطرت عملاً جديداً في صفحةٍ من صفحاته، وجدت نفسي أصنعها بين طياتها لأزنه بميزانها الدقيق!!... وذات مرّة!.. فكرت أن أسأل عن أحوال الرفاق مع تلك الورقة!... ترى ماذا صنع كل بورقته؟!.. وهل عاشت معه أيامه ولياليه؟!.. أم أنهم علقوها على جدرانهم.. وانتهوا من همِّ حملها الثقيل عليهم؟!... فقلتُ أزورهم... وأؤنس وحشة تيهي بهم!.. علّني أجد بينهم من كان على غير شاكلتي، وبرَّ بعهده ووعده!.. فيشدُّ من أزري، ويقوي من عزيمتي!.. فأرقّع ثوبَ تقصيري الممزق على يديه!...

وبينما رحت أتحضر لتلك الزيارة بشغف.. إذ وقع علييّ خبر وقوع الصاعقة!... فقد سمعت عن أناس ما من هذه الأرض، يشوِّهون ورقتي برسومٍ همجيّةٍ بشعة!!... نعم!.. رأيت بأم عيني أناملهم الخبيثة، وقد لطخت بياضَ ورقتي الناصع بمدادها الأسود الحاقد!!... عجبت من جرأتهم الوقحة عليي وعلى رفاقي!...

وتوالت الأخبار، ثم الأخبار... وفاحت رائحة كيدهم الدفين في شتى المدن والبلاد!... وتراقصت أطياف رسومهم الشيطانية على حلبات الجرائد والمجلات!!... ورحت أتساءل في خَلَدي مندهشاً!!... وأبحث عن سبب لما حدث!!... ورجعت الى نفسي فجأةً!... وتذكرت العهد!!... أتراني فرطتُ بالعهد؟!... أترى "المليار" من الرفاق ضيعوه أيضاً؟!... فازدادت رغبتي بزيارتهم من جديد!...

فقلت أشدّ الرحال لواديهم!.. علّني أثلج صدر حيرتي... وأروي ظمأ حزني بثباتهم وصبرهم!... فذهبت إليهم... ومررت بديارهم... فإذا بهم قد سمعوا أيضاً بالخبر المفجع!!... ووجدتهم، وقد ملؤوا الساحات مستنكرين!!... فقلت بادئ الأمر: "هذه بارقة أمل!!...

فالرفاق ما زالوا على العهد"!!... فزادني ذلك رغبةً أن أمكث بينهم فترة... فأتقصى أحوالهم... وأرقب أفعالهم... وأستزيد من وفائهم، وصدقهم!!... وما هي إلا أيام وشهور...

حتى عرفت ما لم أرغب يوماً أن أعرفه!!... وسمعتُ ما انكسر له القلب!... وعرفت وقتها لماذا استباح التتار حياضنا من جديد!!... وعلمت علم اليقين لماذا غزا الرعاة الأجلاف رياض أمتنا الخضراء!... وأدركت لماذا اجترؤوا أن يدوسوا بسنابكهم الوحشية زنبقنا وسنابلنا "القدسية"!!... ذاك أني سألت عن الأمانة فينا فلم أكد أعثر لها على أثر!!... ورأيت الغش في البيع يلبس وجوهاً كثيرة!... وشاهدت الكذب في التعامل!!... وسمعت أبواق الخيانة بين الأزواج ينفخ بها النمامّون!!...

رأيت الكثيرين ممن رفعوا نفس الورقة... واتخذوها شعاراً... رأيتهم يؤذون جيرانهم... ويغصبون حقوق أخواتهم في الميراث!!... نعم!... رأيت بعضهم وللأسف...

يكسبون رزقهم بالتلويح بتلك الورقة بين عامة الناس!!... وسمعت عن آخرين... وقد استبدلوا التراتيل والآيات بالمجون والفجور في جوف السحر!!... وسمعت عن ألسنة بعضهم... وقد صارت مزماراً للغرباء... وآخرين قد قنعوا بالذل والاستعباد للغزاة!..

فصاروا أجراء عندهم... وسيفاً مسلطاً على رقاب المجاهدين والثوار!!... لينعموا برخاء العيش، ورغيد الحياة!!... رأيت الكثيرين وقد ظنوا الخلود!... ونسوا الموت ووحشة أهل القبور!!... وسمعت عن الابن يسبُّ أبويه في هرمهما!!... بعد أن ربياه صغيراً!!... وشاهدت رؤوس الفقراء تغوص بين تلال القمامة، بينما أموال الأغنياء مكنوزة على نحور نسائهم وبناتهم!!... وبين جدران "خزناتهم" الفولاذية!!... ورأيت كيف أن رب العمل يبخس أجيره أجرته!!... وتنادى الى سمعي كيف يستعبد الرجل زوجته!!... وكيف يكون سبباً في فساد سريرتها ومعصيتها له!!...


وسمعت... وسمعت!!... ولكنني لم أطق أن أسمع المزيد، لأنني علمت حينها لماذا اجتاحتنا تلك الثيران الهائجة!!... وعرفت سرّ تلك الخفافيش السوداء التي نقشت أسرابُها شفقَ غروبنا الوردي!!... وتيقنت اذاك لماذا لم يطب لها إلا أن تقتات على مص دماء عقيدتنا؟!... فحزمت حقائبي وقفلت راجعاً أسفاً الى بيتي...

وفور وصولي.. ركضت الى خزانة الذكريات!... وانتشلت ورقتي!... ورحت أمسح عنها غبار النسيان والاهمال!... وضممتها الى صدري بقوة!... وعلمت بحق أنها هي مصدر سعادتنا!... يومها فقط فهمت كلام "المعلم"... وأدركت كم كان العهد صعباً لتلك الكلمة!... نعم!... لقد فرطنا بعهدك يا معلم البشرية!!... ودفع كل منا ثمن ذلك ذلاً وهواناً وشقاءً!!...

وها نحن في ذكراك الجميلة.. عدنا لنرفع ورقتك من جديد!.. لتقرأها عيوننا الباكية أسىً مما أصابنا!.. وكأننا نقرؤها لأول مرة في حياتنا!.. بخشوعٍ وندمٍ وحسرةٍ!.. عدنا لنجدد لك العهد من جديد!... ليعود لنا سؤودد فقدناه!.. وعزّ ضيعناه!.. ولنكتب على صفحات قلوبنا من جديد:
"محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "توشك أن تدّاعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها... قالوا: أومن قلةٍ نحن يؤمئذٍ يا رسول الله؟!.. قال: لا.. إنكم يومها كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل!.. ولينزعن الله المهابة من قلوب أعدائكم منكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوَهَن!... قيل: وما الوهن يا رسول الله؟!.. قال: حب الدنيا وكراهية الموت..."