تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : إمتاع الأفهام وترويح السآم بفوائد من كلِم العلماء الأعلام



أبو حسن
14-05-2008, 09:56 AM
تمرّ معي بين الحين والآخر فوائد علمية من كلام أهل العلم الربانيين، المتقدمين منهم والمتأخرين؛ أغتبط بقراءتها وأطرب لها، حتى يُخيّل إلي أنها ستعلق بذهني أبدا فلن أنساها... لكن بعد حين، أكتشف كم كنت واهما...

تفكرت في الأمر، فخطر لي أن أشرككم معي بهذه الكلمات التي فيها قبس من نور النبوة ومشكاة الوحي، حيث أقيدها في منتدانا العزيز هذا فلا أنساها وأحتسب أجر من قرأها فاستفاد منها.

وقد ارتأيت أن لا أورد الفائدة هكذا مجردة، بل أن أسلك مسلكا فيه شيء من الإسهاب، بحيث أورد، قبل ذكر الفائدة العلمية، كل ما أستطيع من تنبيهات ونُكت علمية متعلقة بهذه الفائدة وصاحبها حتى يحصل المقصود من الاستفادة والفهم التام لها.

قد يسأل سائل: أما كان أولى لو تفيدنا بذكر آية من كتاب الله أو حديث لرسولنا صلى الله عليه وسلم ؟

أجيبه: إنني فيما سأورده لن أحيد عن هذين الأصلين؛ فالعلماء الربانيون، كان همهم العمل بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. إذ أن أثر الكتاب والسنة ظاهر جليا في قولهم وعملهم وهديهم. فلا يصدر عنهم إلا ما يعكس أثر فهمهم لهذين الأصلين. فمن تأمل كلامهم ظفر بفوائد وفرائد وزاده الله فهما بهذين الأصلين.

أود التنبيه إلى أن هذا الموضوع لن يتم تحديثه يوميا بل ولا حتى أسبوعيا، وإنما وفق التوفيق والتجلي. فاسألوا الله أن ييسره علي ويوفقني فيه.

أترككم مع الفائدة الأولى.

أبو حسن
14-05-2008, 10:04 AM
شرف العلم

فائدتنا هذه تتعلق بمذاكرة حصلت بين الشيخ الفقيه عطية سالم رحمه الله وشيخه العلامة الفقيه المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله.

ولد العلامة الشنقيطي رحمه الله، نسبة لبلاد شنقيط، موريتانيا حاليا، يتيما، وطلب العلم من صغره حتى بزّ فيه الأقران. فلما كبُر، تولى التدريس والفتيا والقضاء. كان شاعرا مجيدا، شعره رقيق عذب المعاني، إلا أنه فيما بعد تورّع عن قول الشعر، مبررا ذلك بأن الشعر أعذبه أكذبه...

إرتحل لبلاد الحرمين قاصدا الحج، وقد ترك لنا كتابا رائعا يصف فيه رحلته وما جرى له فيها من مواقف ومُذاكرات وفوائد علمية وأدبية تدلّ على علو كعبه في العلم (تجدونها على هذا الرابط: www.ahlalhdeeth.net/twealib/0136.pdf)

وبعد الحج طاب له البقاء في بلاد الحرمين، وصار له مجلس في المسجد النبوي للتفسير.

ترك الشيخ رحمه الله آثارا عدة لعل أشهرها كتابه "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" الذي سلك فيه منهجا يقوم على تفسير القرآن بالقرآن.

وقد توفي الشيخ قبل أن يتم تفسيره، فأكمله تلميذه المقرب منه الشيخ عطية سالم رحمه الله، ابتداء بسورة الحشر إلى آخر سورة الناس.

والشيخ عطية، أصله مصري، جاء إلى بلاد الحرمين طفلا صغيرا، حيث التحق بطبيبة يخدمها ويتعلم منها. وفي يوم من الأيام حدث أن لم يرتح معها، وضاقت به الحال فذهب للحرم حيث وجد الشيخ الشنقيطي يُدرّس فتركه حتى انتهى ثم جاءه فقال: يا شيخ أنا أريد انقطع عندك في البيت أقرأ عليك. وقصّ عليه خبره فرضي الشيخ ذلك. فأصبح معه في البيت يخدمه خدمة الولد ويطعم معه ويقرأ عليه ولازمه عشرين سنة في حله وترحاله حتى وفاة الشيخ الشنقيطي رحمه الله.

وكان الشيخ عطية رحمه الله عالم فقيها، ترك الكثير من الآثار العلمية والأدبية والموسوعية ومن ضمنها شرحه الشهير لكتاب بلوغ المرام لابن حجر الذي يقع في أكثر من 300 شريط (متوفرة على موقع طريق الإسلام: www.islamway.com/?iw_s=Scholar&iw_a=groups&scholar_id=104&group_id=50)

عذرا على الإطالة، وأترككم مع الفائدة:

حدّث الشيخ عطية سالم بهذه القصة قال:

سافرت مع شيخنا محمد الأمين إلى مالي، وفي ذات يوم خرج المشايخ إلى القنص وآثرت البقاء، فجلست أُفكر حتى خطرت ببالي فائدة علمية في شرف العلم...

وعندما جاء الشيخ الأمين قلت له: أيهما أشرف الأسد أم الكلب ؟

فقال: الأسد

فقلت: أيهما تأخذ صيده الأسد أم الكلب المُعَلَّم ؟

فقال: الكلب المُعَلَّم

فقلت: بالعلم شَرُف الكلب على غيره !!

الزاهر
14-05-2008, 01:30 PM
شرف العلم
فقلت: بالعلم شَرُف الكلب على غيره !!




بارك الله بك أبا الحسن!!!..................


موضوع رائع................الله ييسرك تستمر فيه بشكل دوري................

Nader 3:16
14-05-2008, 03:26 PM
موضوع جميل يا اخ أبو حسن...

و فائدة جميلة.:)

مايا
14-05-2008, 08:35 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مشكور اخ ابو حسن وان شاء الله رح تتوفق فيه والله يجزيك الخير على الفائدة

أبو حسن
19-05-2008, 01:59 PM
بين مذهب أهل الحديث ومذهب أهل الرأي

كنت لا أزال يافعا (أول طلعتي) حين قرأت متن العقيدة الطحاوية لأول مرة (بالإمكان تحميلها من هنا: www.waqfeya.com/open.php?cat=10&book=187). والعقيدة الطحاوية هي متن مختصر في العقيدة، ألفه الإمام أبو جعفر الطحاوي مبتدئا فيه بقوله:

" هذا ذكر بيان عقيدة أهل السنة والجماعة على مذهب فقهاء الملة ، أبو حنيفة النعمان بن ثابت الكوفي، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري، وأبي عبد الله محمد بن الحسن الشيباني ، رضوان الله عليهم أجمعين، وما يعتقدون من أصول الدين ويدينون به رب العالمين"

وقد أراد الإمام الطحاوي من خلال هذا المتن بيان عقيدة أهل السنة والجماعة بطريقة سلسة بسيطة، بعيدة عن التطويل والاستدلال بالآيات والأحاديث، حتى يسهل حفظها على الصغار قبل الكبار، ويُكتب لها القبول والإنتشار.

وهذه العقيدة تلقتها الأمة بالقبول ولم يختلفوا فيها إلا على حرفين أو ثلاثة... وقد اهتم بها وشرحها الكثير من العلماء، ومن أشهر شروحها شرح الإمام ابن أبي العز الحنفي (لتحميل الشرح: www.waqfeya.com/open.php?cat=10&book=1779).

وقد علق متن الطحاوية بقلبي، كمعظم اليافعين الذين يشدّهم موضوع العقيدة بتشعباته ومسائله، فكنت دائم النظر فيه، وقرأت شيئا من شرح ابن أبي العز له على أحد مشايخنا، وأتممت الباقي لوحدي، وكنت دائم الإستفسار عما يُشكل علي من معانيها، وقد حصل لي منها الكثير من النفع بفضل الله.

كما صرت من محبي الإمام الطحاوي، صاحب الكتاب الفذ "شرح مشكل الآثار" (أنظر هنا: www.waqfeya.com/open.php?cat=14&book=738) فصرت أطلب رأيه في العديد من المسائل الفقهية. ولكن ظلّ يُغيظني في الإمام الطحاوي أمر واحد، هو أنه كان شافعيا، ثم انتقل إلى المذهب الحنفي.

ومحسوبكم، رغم عدم تعصبي لمذهب، إلا أني متعلق كثيرا بمذهب الإمام الشافعي وأكاد لا أخرج عن رأيه في معظم المسائل الفقهية خصوصا في الفروع. وكنت أسمع، وأنا صغير، أن أهل قريتنا هم على المذهب الشافعي (لا أعلم من أطلق هذه الإشاعة !) فبحثت عن كتاب يتحدث عن الإمام الشافعي، حتى وقعت على ترجمته ضمن سلسلة أعلام المسلمين (يمكنكم تحميله من هنا: www.waqfeya.com/open.php?cat=17&book=350)، ولعله من أوائل الكتب التي أقرؤها، وبعد قراءته عظم الإمام الشافعي في عيني ووقعت محبته في قلبي. فكان يُغيظني دائما كون الإمام الطحاوي ترك مذهبه وانتقل إلى مذهب الحنفية خصوصا أنه، أي الطحاوي، ابن أخت الإمام المزني، أحد أخص أصحاب الإمام الشافعي، ومن أكثر المساهمين في نشر مذهبه بعد وفاة إمامه.

ومذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله مشهور بأنه مذهب أهل الرأي. وسبب إطلاق هذه التسمية عليه أن أبا حنيفة وتلاميذه كانوا يكثرون من القول بالرأي والقياس. وليس هنا مجال تفصيل هذه المسألة، لكن يكفي في شرحها أن الإمام أبا حنيفة كان متقدما على بقية الأئمة الأربعة مالكا والشافعي وأحمد، وكان دونهم معرفة برواية الأحاديث، في حين كان الثلاثة الباقون محدثين وعلماء في الحديث، فكان يقيس ما يُسأل عنه مما لا يَعلم دليله على ما عُلم دليله، فكان يقيس الأمثال على أمثالها والأشباه على أشباهها، برأي قوي ومنطق سديد، فسمي مذهبه "مذهب أهل الرأي والقياس".

أما مذهب الشافعية فهو مشهور بأنه مذهب أهل الحديث، والشافعي رحمه الله هو أول من وضع الأصول في الفقه والحديث، وعنه أخذ الباقون.

ولتحول الإمام الطحاوي من مذهب الشافعية إلى مذهب الحنفية قصة ذكرها الإمام الذهبي في تذكرة الحفاظ (3|809) حيث قال: «وكان أولاً شافِعياً، يقرأ على المزني (صاحب الشافعي وخال الطحاوي). فقال له يوماً: "والله لا جاء منك شيء". فغضِبَ من ذلك، وانتقل إلى ابن أبي عمران (قاضي مصر الحنفي). فلما صنّف مختصره، قال: "رحم الله أبا إبراهيم (أي خاله المزني)، لو كان حيّاَ لكفّر عن يمينه"».

فالطحاوي كان يدرس على المزني، فغضب منه المزني مرة وقال له (بالقلموني) : شكلو ما حيطلع منك شي أبدا. فحينها ترك الإمام الطحاوي المذهب الشافعي والتحق بمذهب الحنفية. ثم بعد دراسته لذهب الحنفية صنّف مختصرا في فقه المذهب. فلما رأى أنه خرج منه شيء، قلا أن المزني لو كان حيا، لكفر عن يمينه بأنه لا يكون مني شيء...

وبعد قراءة قصة تحول الطحاوي المذهبي، وقفت على تعليق الإمام الحافظ ابن حجر على هذه القصة في كتابه "لسان الميزان" (الجزء الأول ص 620/621 تحقيق أبو غدة)، وهو التعليق الذي فشّ خلقي في الموضوع، وهنا مربط الفرس في هذه المشاركة الطويلة، حيث عقّب الإمام ابن حجر بعد ذكر هذه القصة: "فأجابه بعض الفقهاء بأن المزني لا يلزمه الحنث أصلا، لأن من ترك مذهب أصحاب الحديث وأخذ بالرأي لم يفلح".

أبو حسن
09-07-2008, 11:14 AM
فقولك‏:‏ لم قد شاء ‏؟‏ مثل سؤال من * يقول‏:‏ فلم قد كان في الأزلية ؟

لفتني سؤال إحدى الأخوات الفاضلات عن معنى هذا البيت في موضوع لأخينا الحبيب أبي محمد القلموني. وقد عزمت على توضيح الأمر وقتها، لكن خشيت أن يأتي جوابي مختصرا لا يشفي عليلا ولا يروي غليلا، و حال بيني وبين التطويل في الجواب ضيق الوقت، إذ كنت عدت للتو من إجازتي، ودوني مشاغل كثيرة تحول بيني وبين التفرغ للمنتدى.

ثم لما تفرغت لكتابة الجواب، ارتأيت وضعه في موضوعنا هذا لعلة؛ فهذا البيت بالذات، وهو من قصيدة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعرف بالقصيدة أو المنظومة التائية في القدر، هو أكثر بيت علق بذهني عند قراءتي لهذه القصيدة من أربع سنين خلت، إذ فيه فائدة مهمة في ردّ وسوسات الشيطان في القدر والمشيئة، بل لعله هو المسكت لكل هذه الوسوسات إذا عقله المرء وتدبره حق التدبر. فما أجدره بأن يكون في موضوعنا هذا المخصص لفوائد كلم العلماء.

والقصيدة التائية، هي رد كتبه شيخ الإسلام ابن تيمية جوابا لقصيدة تحوي أسئلة عن القدر والمشيئة، وهل الإنسان مخير أم مسير، أرسلها إليه شخص ادعى أنه ذمي بهدف التشكيك في دين الإسلام وفي الإيمان بالقضاء والقدر، فجاءت قصيدة الذمي هذا في ثمانية أبيات من الشعر. ويُقال أن ابن تيمية ما إن قرأ القصيدة حتى حرّر في الحال قصيدته التائية ردا عليها فجاءت في مائة وخمسة وعشرين بيتا ! فلله دره من إمام ...

ولن أبتدأ هنا، كما فعلت سابقا، بالتعريف بابن تيمية رحمه الله، فهو أشهر من نار على علم، والكلام عنه يطول ولا ينقضي؛ يكفي أنه كلما قيل "شيخ الإسلام"، لم يستقر في الأذهان إلا اسمه، ويكفيه شهادة ابن دقيق العيد رحمه الله وهو من هو، إذ يقول فيه: (لما اجتمعت بابن تيمية رأيت رجلاً العلوم كلها بين عينيه، يأخذ منها ما يريد، ويدع ما يريد)، وشهادة أحد خصومه السابقين، أبو البقاء السبكي، حيث يقول: (والله ما يبغض ابن تيمية إلا جاهل أو صاحب هوى، فالجاهل لا يدري ما يقول، وصاحب الهوى يصده هواه عن الحق بعد معرفته به). ويكفيه مقولته الشهيرة، التي تدل على شخصيته أعظم دلالة، بعد أن تكالب عليه الخصوم والأعداء وآذوه وحبسوه: (ماذا يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أين رحت فهي معي لا تفارقني، أنا حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة).

بالعودة إلى مقصدنا من هذا الموضوع، فمن المعلوم أن الإيمان بالقضاء والقدر هو من أركان الإيمان في الإسلام، فالمسلم يؤمن بأن كل ما في هذا الكون، هو بقضاء الله وقدره، وأن للعبد مشيئة وقدرة وإرادة وأن الله هو خالق هذه المشيئة والقدرة والإرادة. وقد ضلّ عن فهم هذا الركن العظيم طوائف من الناس، منهم القدرية والجبرية والجهمية والمعتزلة وغيرهم، ضلوا عنها لأنهم أعملوا فيها فهمهم السقيم وأهواءهم الضالة، ولم يقفوا عند آيات الكتاب وما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم في ها الباب.

أما القدرية، وهم قوم ينكرون القدر فنُسبوا إليه، فقد زعموا أن العبد مستقل بإرادته وقدرته وليس لله في فعله مشيئة ولا خلق، وأنكر غلاتهم علم الله السابق. وهذا القول ظاهر البطلان إذ أن الآيات والأحاديث التي ترده كثيرة مستفيضة؛ قال تعالى: (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ) [القمر:49]، وقال: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ ‏نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ) [الحديد:22]

والرد على القدرية يكون بإثبات صفة العلم لله جل وعلا، قال الإمام الشَّافِعِيّ والإمام أَحْمَد وغيرهما: "ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وأقيمت الحجة عليهم"، أي إثبات أن الله سبحانه وتعالى عليم بكل شيء ما كان وما سيكون أزلاً وأبداً. فإن أقروا بعلم الله، فقد قامت عليهم الحجة وزالت بدعتهم وانمحت شبهتهم.

أما المعتزلة فقد فرّقوا في القدر بين الخير والشر، فالخير بزعمهم يُنسب إِلَى الله، أما الشر يخلقه ويفعله العبد، والله تَعَالَى لم يُرد وقوعه.

ومن لطيف ما يُحكى في إظهار بطلان هذا القول، أن أعرابيا سُرقت ناقته، وطلبها فلم يجدها، فجاء إلى عمرو بن عبيد، إمام المعتزلة، وكانوا يعظمونه ويضربون به المثل في العبادة والزهد، فقال له: إن ناقتي سرقت، وإني أرجو أن تدعوا الله ليردّها علي، فرفع عمرو بن عبيد يديه وقال: اللهم إنك لم ترد أن تسرق ناقة هذا الأعرابي، اللهم فارددها عليه! فقال الأعرابي وكان فطنا: لا حاجة لي في دعائك!! فإن كان لم يُرد أن تُسرق فسرقت، فأخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع !!!...

أما الجبرية، فقد ذهبوا إلى أن الإِنسَان مثل الريشة في مهب الريح، وأن أفعال الإنسان لا إرادية سواء فعل الخير أو فعل الشر، فهي مثل حركات المرتعش، ليست إرادية ولا اختيارية. فعندهم، كل ما يجري في هذا الكون من أفعال، الله تَعَالَى هو الفاعل لها، وليس لغير الله مشيئة ولا إرادة.

وهذه الشبهة هي أكثر ما يضل بها الناس ويحيرون فيها، وقد دلت أدلة الكتاب والسنة، أن العباد هم الفاعلون لفعلهم حقيقة بقدرتهم واختيارهم ومشيئتهم، فالله تعالى أضاف إليهم كل ما فعلوه من إيمان وكفر، وطاعة ومعصية. والله تعالى هو الذي مكنهم من هذا ومن هذا. ولكنه تعالى بين لهم سبيل الحق وسبيل الباطل، وحبّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

وبيتنا الذي أفردنا له هذا الموضوع، هو في ردّ هذه الشبهة، وفي الردّ على من يزعم أن كل ما يقوم به الإنسان مجبور عليه مسير فيه ولا مشيئة للعبد ولا إرادة له فيه. فالله تعالى أثبت لنفسه مشيئة وأثبت للعبد مشيئة كذلك، يقول تعالى: (لمن شاء منكم ‏أن يستقيم* وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين) [التكوير:28،29]. فللعبد مشيئة وإرادة، لكنه يذهب بمشيئته وإرادته إلى مشيئة الله وإرادته.

وحل هذه المعضلة كامن في بيتنا:

فقولك‏:‏ لم قد شاء ‏؟‏ مثل سؤال من * يقول‏:‏ فلم قد كان في الأزلية ؟
فالأصل الأول الذي ينبغي أن يرجع إليه المسلم المؤمن عند كل شبهة، هو الإيمان بالله، أول أركان الإيمان، ومعرفة الله ومعرفة صفاته من خلال وحي الله عبر رسله.

فالمسلم يؤمن بأن الله (قديم بلا ابتداء) [العقيدة الطحاوية]، فهو الأول، وهو متصف بصفات ذاتية أزلية كالعلم والمشيئة، وعلمه ومشيئته صفات كمال له، لم تتغير بعد أن خلق الخلق، يقول الإمام الطحاوي في عقيدته:
(ما زال بصفاته قديما قبل خلقه، لم يزدد بكونهم شيئا لم يكن قبلهم من صفاته، وكما كان بصفاته أزليا كذلك لا يزال عليها أبديا‏.‏ ليس بعد خلق الخلق استفاد اسم الخالق، ولا بإحداث البرية استفاد اسم الباري)

أما الإنسان، فهو مخلوق بحول الله وقدرته، أعطاه الله مشيئة وإرادة، وهداه النجدين، فهو يختار بمشيئته وقدرته طريق الخير أو طريق الشر، والله عالم به، وهو، أي الإنسان، لا يحيط بشيء من علم الله، إلا ما علمه الله، والله قد استأثر بالغيب لنفسه، فاحتجاج الإنسان على الكفر بأن الله قدّره له أو أمره به باطل. يقول تعالى، حاكيا عن الكفار قولهم: (وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا)، فيردّ عليهم: (أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) ؟

أي، أكنتم تعلمون أن الله قدّر عليكم ذلك وشاءه منكم ؟

فإن احتجوا على ذلك، كما يحتج المبتدعة، وكثير من أهل زماننا بقولهم: فلم شاء الله ذلك منا ؟

كان الردّ: قد علمتم أن الله موجود قبل خلقه، وأن ذاته متصفة منذ الأزل بصفات الكمال كالعلم والمشيئة، فعدم علمه أو مشيئته في الأزل هو انتقاص من ألوهيته سبحانه، والمعترض على كون الله شاء منه المعصية هو كالمعترض على كونه سبحانه موجود في الأزل قبل خلقه الخلق.

فمن تأمل هذا المعنى المذكور في البيت آنفا، وتدبر الآيات والأحاديث في هذا الباب، وتعرّف على الله وأسمائه وصفاته حق المعرفة من خلال ما ورد في السنة والكتاب، زال لديه الإشكال ووضحت الصورة واهتدى إلى الحق والصواب.

والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل.

الزاهر
09-07-2008, 11:39 AM
صار فينا نؤول بلش يصير عنا منتدى!!!

شكرا جزيلا لكم أبا الحسن ... موضوع مميز !!! .... وهي أعطيناه 5 نجوم !!!

أبو حسن
17-09-2008, 10:51 PM
كيف تقيس درجة اتباعك للهوى ؟

ذكر العلامة عبد الرحمن المعلمي اليماني رحمه الله في كتابه الماتع "تأنيب الخطيب" مقاييس تساعد على قياس درجة الهوى عند طالب العلم الشرعي الباحث عن الحق والساعي لتطهير نفسه من اتباع الهوى والتعصب الأعمى والتقليد الجاهل، ومنها:

1- إفرض أنه بلغك أن رجلاً سب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وآخر سب داوود عليه السلام، وثالثاً سب عمر أو علياً رضي الله عنهما، ورابعاً سب إمامك، وخامساً سب إماماً آخر، أيكون سخطك عليهم وسعيك في عقوبتهم وتأديبهم أو التنديد بهم موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء وأشد مما بعدهما جداً، وغضبك على الثالث دون ذلك وأشد مما بعده، وغضبك على الرابع والخامس قريباً من السواء ودون ما قبلهما بكثير ؟

2- إفرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليها سواء، لا تبالي أن يتبين منها بعد التدبر صحة ما لاح لك أو عدم صحته ؟

3- إفرض أنك و قفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً لإمامك والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيها سواء، لا تبالي أن يصح سند كل منهما أو يضعف ؟

4- إفرض انك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في ترجيح أحد القولين بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه ؟

5- إفرض أن رجلا تحبه وآخر تبغضه تنازعا في قضية فاستفتيت فيها ولا تستحضر حكمها وتريد أن تنظر ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه ؟

6- إفرض أنك وعالماً تحبه وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية واطلعت على فتويي صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر اعترض على واحدة من تلك الفتاوى وشدد النكير عليها أتكون حالك واحدة سواء كانت هي فتواك أم فتوى صديقك أم فتوى مكروهك ؟

7- إفرض أنك تعلم من رجل منكراً و تعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن عالماً أنكر عليه وشدد النكير ، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان المنكر صديقك أم عدوك، والمنكر عليه صديقك أم عدوك ؟

8- فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أو نقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية أو نقص آخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به، فهل تجد إستشناعك ما هو عليه مساوياً لإستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه ؟


ثم قال المعلمي رحمه الله:

وقد جربت نفسي أنني ربما أنظر في القضية زاعماً أنه لا هوى لي فيلوح لي فيها معنى، فأقرره تقريراً يعجبني، ثم يلوح لي ما يخدش في ذاك المعنى، فأجدني أتبرم بذاك الخادش و تنازعني نفسي إلى تكلف الجواب عنه وغض النظر عن مناقشة ذاك الجواب، وإنما هذا لأني لما قررت ذاك المعنى أولاً تقريراً أعجبني صرت أهوى صحته، هذا مع أنه لا يعلم بذلك أحد من الناس، فكيف إذا كنت قد أذعته في الناس ثم لاح لي الخدش ؟ فكيف لو لم يلح لي الخدش ولكن رجلاً آخر أعترض علي به ؟ فكيف لو كان المعترض ممن أكرهه ؟


فتأمل هذا الكلام أخي الكريم وتدبره جيدا ثم اسأل نفسك:

كيف حالي مع الهوى؟

منقول بتصرف بسيط

яiиda
18-09-2008, 01:01 AM
مشكور اخّ ابو حسن ....والله يجزيك الخير على الفائدة...
سلام:)

ALRifai
27-09-2008, 03:12 PM
من بعد إذنك أخي ، بس هيك عندي تعليق بسيط :
ما بعرف إنو شوي أنا و عم إقرأ لما كنت عم تحكي عن الطحاوي و حكيت عن أبوحنيفة
يا أخي ما بعرف حسيت كأنو كلامك شوي كان قاسي على أبو حنيفة كأن مانو إمام مجتهد مطلق !؟
طبعاً هيدا الشي بيرجع إلي إنو أنا متعصب لأبوحنيفة بس بعتقد إنك ما بتمانع إني هيك سجلت هالإعتراض .
طبعاً أما مقتنع إنو إنت ما هيك بتقصد بس كلامك يمكن السياق بيوحي للي متلي من الناس يللي ما إلن بهالقصص زيادة شي من هالنوع .
ما تواخزنا بس أنا شويتين بغار عأبو حنيفة .

AbouRajaa
27-09-2008, 04:25 PM
أخي " ابن العم "
لو أنك قرأت جيداً لما وقعت في هذا الإلتباس ، و لعل في كلام الأخ أبو حسن جملةً لو تنبَّهتَ لها لكانت برداً نازلاً على قلبك ، حيث قال :" أنه متعلق بالإمام الشافعي " و هذا يعني أنه حرِّيٌّ به أن يكون قد قرأ قول الشافعي في أبي حنيفة

" الناس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة "

AbouRajaa
27-09-2008, 04:28 PM
فهذه شهادة بالفضل لأبي حنيفة من الشافعي رضي الله عنهما .
لكنه كما قلتَ التعصُّبُ لأبي حنيفة !

it's ha
27-09-2008, 04:55 PM
السلام عليكم
الله يعطيك العافية
اذا زاهر عطاك 5نجوم انا بعطيك 5نجوم و*كمان واكتر الشي عجبني اخر موضوع"كيف تقيس درجة اتباعك للهوى"
جزاك الله خيرا