مشاهدة النسخة كاملة : خطوات في طريق التوحيد
أبو محمد القلموني
20-06-2008, 10:48 PM
انقطاعي عن المتدى لم يولد عندي برودا نحوه ولم يفتت رغبتي في العودة إليه كلما سنحت فرصة يجود بها وقتي.
اليوم سأبدأ بوضع أولى حلقات القصة الأولى التي كتبتها قبل ست سنوات . وهي بعنوان ( خطوات في طريق التوحيد ) وتحكي معاناة متخيلة تلتقي مع الواقع في كثير من دلالاتها و إيحاءاتها . و في بعض جوانبها مناجاة من طرف خفي لأحلام وأمنيات تتوق إليها قلوب متميزة غريبة عن مجتمعاتنا ترمق الأفق بنظرات حزينة منكسرة و تتطلع بشوق جارف إلى اليوم الذي تشرق فيه شمس الآمال على ظلام دامس مجته و عافته .
الزاهر
21-06-2008, 01:22 AM
كل الشعب بالإنتظار..........بس بدنا تكبر الخط وتفصل الفقرات .........:)...........مو متل مواضيعكم القديمة!!!.........شي بيغبب عالألب!!!
أبو محمد القلموني
21-06-2008, 09:39 AM
طلبكم أخي زاهر مجاب و رغبتكم ستكون نافذة بمشيئة الله
أبو محمد القلموني
21-06-2008, 09:42 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
خطوات في طريق التوحيد
أبرز شخصيات القصة:
1- الشيخ محمد.
2- علي مصطفى تلميذ الشيخ محمد.
3- جعفر تلميذ الشيخ محمد و رفيق درب علي.
4- الحاج مصطفى والد علي.
5- الحاجة صفية والدة علي.
6- عائشة أخت علي.
7- حسين أخو علي و يصغره بثلاثة أعوام.
8- خديجة خطيبة علي.
9- حسام والد خديجة.
أبو محمد القلموني
21-06-2008, 09:45 AM
-1-
دعاء حار ختم به الشيخ محمد درسه ، قام على أثره متكئا على كرسي التدريس يطوي صحفه و يتأبطها. ثم يرتدي بردته و يتناول عصاه متجها إلى باب المسجد. و فيما كان يهم بالخروج من المسجد إذ لمح شابا في مقتبل العمر يجلس في الباحة الخارجية مصوبا عينيه نحو الأفق في تأمل عميق و استغراق ملفت.
اقترب الشيخ من الشاب و ألقى التحية عليه. سأله عن اسمه فعرف أنه ابن الحاج مصطفى الذي كانت تربطه به صداقة قديمة و زيارات كثيرة ، انقطعت منذ سنوات بسبب خلاف في وجهات النظر بينهما حول ظاهرة الحماس لدى الشباب و كيف يجب التعامل معه.
الخلاف لم يكن مجرد خلاف نظري بل نشأ بعد مشكلة حصلت في المسجد بين أحد الشباب المتحمس و أحد الكهول الصالحين الذي كان يصر على عمل وجد عليه مشايخه من قبل ؛ فإذا بالشاب يصفه و بكل ثقة و برود و اطمئنان ، على حد تعبير الحاج مصطفى، بأنه بدعة و ضلالة! هذه الحادثة لم تكن إلا حلقة من سلسلة حوادث كثيرة مشابهة ، لكنها تطورت هذه المرة و أدت إلى أن يقف العنصر الشبابي مع أخيهم بينما ساند وجهاء القرية و كبراؤها الكهل الصالح . و انتظر الجميع موقف الشيخ محمد ؛ كل يرجو تأييده و نصرته. فكان للشيخ محمد رأي لم يعجب الوجهاء و الكبراء حيث لمحوا فيه ميلا إلى الشباب و تأييدا خفيا لهم. ومنذ ذلك الحين انقطع أغلب هؤلاء عن الصلاة في مسجد الشيخ محمد ولم يبقى من مرتادي المسجد سوى العنصر الشبابي و نذر يسير من الكهول الصالحين الذين بقوا مصرين على تخطئة الشيخ محمد في وجهة نظره تلك. و لكنهم لم يروا في هذا مبررا كافيا لترك الصلاة في المسجد ، خصوصا و أنهم من الأحياء القريبة من مسجد الشيخ محمد و لا يستطيعون لتقدم سنهم قصد الجامع الآخر الذي يقع في شرق القرية ؛ فإن ذلك يشق عليهم فعله إذا أرادوا المواظبة على الصلوات الخمس في المسجد كما هو حالهم ودأبهم.
علي كان إلى حينها مترددا بين وجهتي نظر متضادتين واحدة من أبيه ؛ سمعها مرارا و تكرارا في اجتماعات العائلة و الأصحاب. وملخصها تخطئة الشيخ محمد لتساهله مع هذه الظاهرة الشبابية التي ينبغي الأخذ على يديها بشدة كما هو رأي الحاج مصطفى ، الذي لا ينكر علم الشيخ و فضله ولكنه يأخذ عليه هذا الميل لهؤلاء الشباب. و أما وجهة النظر الثانية فهي وجهة نظر جعفر صديق علي الحميم و زميل الدراسة. فجعفر يثني على الشيخ و يعده من المشايخ الصالحين الذين لا يخافون في الله لومة لائم ، فهو ليس كالشيخ مفيد الذي لايتردد جعفر في وصفه بالخضوع للكبراء و أصحاب الأموال و الثروات.
في كل الأحوال ، لم يكن علي في تلك الفترة مهتما جدا بهذا النوع من الخلاف .و لم يكن يشغل نفسه بتمييز المخطئ من المصيب في هذه المشكلة بخلاف جعفر الذي كان كثير الإهتمام بهذه القضايا. علي كان متجها وقتها بكليته إلى الدراسة و التحصيل العلمي. التفوق رائده و النجاح بأعلى الدرجات هاجسه . لم يكن يزعجه شيء أكثر من أن يجد طالبا يلم بأنواع من العلوم و المعرفة لا يلم هو بها حتى و لو كان ذلك الطالب أعلى منه في السنوات الدراسية. فكان يبذل جهدا مضاعفا ليتفوق حتى على هؤلاء الذين هم أكبر منه سنا و سنوات دراسية. كل ما يأخذه من والده و والدته من مال كان يدخره لشراء الكتب العلمية ما يتصل منها بالدراسة و ما لا يتصل. ولا يكاد يسمع بافتتاح معرض للكتاب حتى يشد إليه الرحال بما معه من مال مدخر فلا يرجع إلا و قد صرف المال كله على ألوان الكتب و أنواعها. حتى كون في فترة قصيرة نسبيا مكتبة علمية ضخمة قل أن تبحث ولا تجد فيها ضالتك. هذا و أهله وخصوصا إخوته و والدته يتعجبون من صنيعه هذا ، و أما والده فيفتخر به أمام أقرانه و يعد هذا من مزاياه و إشارة إلى مستقبل مشرق و واعد.
جعفر لم يكن في مثل اجتهاد علي لكنه كان طالبا ذكيا و نبها و كان من أخلص أصدقاء علي و أقرب المقربين إليه. والده رحمه الله تعالى كان من الرجال الصالحين المتمسكين بدينهم وكان من ألزم الناس بالشيخ محمد وأقربهم إلى قلبه؛ إذ كان صديقه الحميم منذ الصغر ولم تنقطع صداقتهما يوما إلى أن لقي أبو جعفر وجه ربه . والدته تلقب بالتقية ابنة التقي و ذلك لشدة تقواها و حرصها على الدين قبل كل شيء. و كذلك والدها الحاج برهان الذي كان يعده أهل القرية من الأولياء الصالحين أصحاب الكرامات. بعد وفاة والد جعفر قامت والدته بتربيته هو و إخوته الأربعة فأنشأتهم على الدين و تعاليمه وحرصت كل الحرص على غرز الخوف من الله وتعظيمه في قلوبهم ، وذلك منذ نعومة أظفارهم. إضافة إلى هذا كانت تحث الذكور منهم على ارتياد المساجد و حضور حلق التدريس و خصوصا حلقات الشيخ محمد صديق زوجها الراحل. ولذلك درج جعفر منذ صباه على حضور دروس الشيخ محمد و ملازمته بصورة شبه يومية.
وهكذا كان على علي أن يقصد مسجد الشيخ محمد كلما أراد لقاء جعفر خارج دوام المدرسة أو في فترات الصيف.
فإن صادف يوم الميعاد بينهما يوم درس للشيخ محمد صلى علي في المسجد الشرقي القريب من داره ، ثم توجه إلى المسجد الآخر ينتظر فراغ جعفر من حضور الدرس.
أيمن غ القلموني
21-06-2008, 02:09 PM
بارك الله بكم أخ أبو محمد؛
ولكن عندي تساؤل : لقد لاحظت أن في القصة أشياء مشتركة بينها وبين الواقع في القلمون ، و أنت في البداية قلت أنها تحكي معاناة متخيلة تلتقي مع الواقع في كثير من دلالاتها و إيحاء اتها ، فهل هي قصص حصلت في القلمون وأنت آثرت تدوينها وإعطاءها صبغة من خيالك لتضفي عليها رونقا جماليا ، أم أنها قصص من معين نفسك ولكن بحكم الواقع الذي تعيشه فلا بد أن تكون متأثرة به.
وجزاكم الله خيرا .
أبو محمد القلموني
21-06-2008, 02:57 PM
أخي الكريم أعتقد أنك سألت سؤالا ثم أجبت عنه في بعض كلامك و هذا من نباهتك بلا شك.
أما المشترك الذي لاحظته فهو قد يكون مشتركا عرضيا وهو ما يسميه المناطقة بالعرض العام. وهذا يتعلق بأنواع كثيرة كما هو معلوم. وليس ببعيد عندي أن تشترك القلمون في تلك الصور التي عنيتها مع بلدات كثيرة في العالم الإسلامي. فهناك تفاصيل كثيرة قد تبدو لنا مميزا ذاتيا بينما هي في الحقيقة لا ترقى إلى أن تكون مميزا عرضيا .
أخي الكريم هذه القصة كتبتها في الغربة حين كانت المساحة الأكبر من المخيلة محجوزة و بإلحاح لذاكرة أنهكها الشوق إلى الوطن. من هنا أنا لا أنفي تورطي في حب تفاصيل القلمون و لا أنزه نفسي عن التعلق بها إلى الدرجة التي قد يجري بها قلمي دون أن أشعر.
لكنني أؤكد لك بأن أحداث هذه القصة ليست شيئا حدث معي و لا مما شهدته أو عاينته .
وفي الختام أشكر لك سؤالك و تعليقك الجميل .
أيمن غ القلموني
22-06-2008, 12:12 AM
أخي الكريم أعتقد أنك سألت سؤالا ثم أجبت عنه في بعض كلامك و هذا من نباهتك بلا شك.
أخي العزيز ، لكم الشكر على كلامكم الجميل.
أما المشترك الذي لاحظته فهو قد يكون مشتركا عرضيا وهو ما يسميه المناطقة بالعرض العام. وهذا يتعلق بأنواع كثيرة كما هو معلوم. وليس ببعيد عندي أن تشترك القلمون في تلك الصور التي عنيتها مع بلدات كثيرة في العالم الإسلامي. فهناك تفاصيل كثيرة قد تبدو لنا مميزا ذاتيا بينما هي في الحقيقة لا ترقى إلى أن تكون مميزا عرضيا .
هذا عين العقل ، وبخاصة عندما تخرج من مجتمعك الضيق إلى رحاب الله الواسعة ، فترى أن ما حسبته خاصا بمنطقة أو بلدة معينة هو حقيقة مصغرة عن الحقيقة الكبرى التي
تشترك بها كل المناطق الإسلامية.
أخي الكريم هذه القصة كتبتها في الغربة حين كانت المساحة الأكبر من المخيلة محجوزة و بإلحاح لذاكرة أنهكها الشوق إلى الوطن. من هنا أنا لا أنفي تورطي في حب تفاصيل القلمون و لا أنزه نفسي عن التعلق بها إلى الدرجة التي قد يجري بها قلمي دون أن أشعر.
أي شخص لا بد أن تتأثر كتاباته بما نشأ عليه ولو حاول تجنب ذلك. فالطبع يغلب التطبع.
لكنني أؤكد لك بأن أحداث هذه القصة ليست شيئا حدث معي و لا مما شهدته أو عاينته .
صادق ولو.:):1 (86):
وفي الختام أشكر لك سؤالك و تعليقك الجميل .
أشكركم بدوري على رحابة صدركم.
أبو محمد القلموني
22-06-2008, 03:10 AM
-2-
خرج جعفر ليجد عليا يتكلم مع الشيخ محمد . فاقترب منهما وألقى السلام. ولما علم الشيخ محمد بالعلاقة التي تربط الشابين أثنى عليها و أوصاهما بالمحافظة على هذه الأخوة و تخليصها من الشوائب والمصالح الفانية . وهذا كان دأب الشيخ محمد حيثما وجد اثنين متآخيين أن ينصحهما بهذه النصيحة الملفتة التي قل من ينصح بها في هذه الأزمنة.
لفتت هذه النصيحة ذهن علي و قلبه معا فهي كما صاغتها شفتا الشيخ ومن خلال مفرداتها المتقنة بدت كأنها قاعدة علمية تشد الذهن خصوصا و أن الشيخ استشهد لها بقوله تعالى : ( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) فاستدل الشيخ من الآية أن الخلة إذا لم تؤسس على التقوى انقلبت يوم القيامة عداوة. ولامست هذه النصيحة أيضا شغاف قلب علي و سرت معانيها المفتوحة الواسعة في نفسه المرهفة فأحدثت لها قشعريرة هزت أعماقه هزا. و كان أقل ما فعلته هذه النصيحة أن بددت سحائب مخاوف جمة كانت قد استوطنت نفس علي لكثرة ما يسمعه في مجالس والده من كلام يثير الشك و الريبة حول فكر الشيخ و مذهبه.
ومضى الأخوان يجوبان الشاطئ الشرقي للقرية ينتظران غروب الشمس ؛ تلك اللحظة الساحرة التي تأسر فؤاد علي و تهيج نفسه الرقيقة حتى لتكاد قطرات الدموع تقفز من عينيه فيداريهما خشية أن يلحظهما جعفر . لكن جعفر كان يلاحظ هذا التأثر و يتعجب له و يكلم فيه عليا و يسأله عن سره ، فلا يجيب علي سوى بكلام لا يكاد يفهمه جعفر إلا بصعوبة بالغة و لا يراه وجها محقا و لا سببا مقنعا . كان علي يقول له : جمال الطبيعة يأسرني يا جعفر! أحس بتناغم قوي بين داخلي و بين الطبيعة . الطبيعة تغني نفسي و تصقلها يا جعفر ! في كل مرة أقف فيها مع الطبيعة و أتأملها أشعر أنني أكشف جوانب أخرى في نفسيتي ! أحس بالطبيعة و كأنها مرآة مكثفة لنفسي!
هذا الكلام يبدو لجعفر أقرب إلى لغز يحاول فك رموزه فلا يفلح!
ما أن تحين لحظات الغروب حتى يتباعد الصديقان فيجلس كل واحد منهما على صخرة ينظران إلى الأفق ؛ كل ينظر بمنظاره الخاص و مشاعره الكامنة الخاصة . علي يستسلم لهيبة المشهد و دلالاته المتنوعة : دلالة الزمن المنقضي ، و دلالة الجمال المهيب ، و دلالة الوجود ، ودلالة الكنه الغائب المتواري خلف سحر المشهد !
وأما جعفر فيستحضر بعضا من مواعظ الشيخ محمد و يربط بين الكون و المكون (بضم الميم و فتح الكاف و تشديد الواو) و يتمتم خاشعا بما يحفظ من أدعية و أذكار.
ويسقط قرص الشمس فيقف جعفر والفرح و النشاط يعلوان وجهه و محياه . و يقفز من فوق الصخرة لينادي على علي قائلا : هيا يا أخ علي ؟ ألم تكتفي بعد؟ لقد غابت شمس هذا النهار. هيا لعلنا نجد مكانا في الصف الأول وراء الشيخ محمد.
تصل هذه الكلمات إلى ذهن علي المستغرق في تأمله و تفاعله مع روعة المشهد و جلاله وغموض إيحاءاته ، فتغدغه بمشاعر واقعية تشيع الراحة و الهدوء في نفسه بعد جرعة دسمة من التأمل الشاعري المتفجر !
وينطلق الأخوان إلى المسجد بجد و نشاط هذا يحدوه الأجر و الثواب الأخروي و ذاك يحدوه الأمل في أن يجد ما يشبع نهمته و حسه المرهف و تعطشه إلى الحقيقة المختبئة المتوارية وراء جمال الكون ، الذي لا تشبع نفسه من تمليه و تأمله و الإستغراق مع دلالاته الغامضة!
و يصلي الأخوان المغرب و يجلسان بعد الصلاة يقرآن القرآن إلى حين أذان العشاء . فيصليان العشاء ثم ينطلقان إلى التينة وهي مكان ناء في البرية تظلله شجرة تين ضخمة عتيقة ، غالبا ما يختلفان إليها بين الفينة و الفينة للحديث و نقاش المواضيع المختلفة المتصلة بالوضع السياسي و التطورات العلمية والأدبية و غيرها . و ينضم إليهما في الغالب بعض الإخوة من تلاميذ الشيخ محمد أيضا. والمكان معد و مهيأ لصنع الشاي و القهوة إذا اقتضت الجلسة ذلك. لكن عليا كان يفضل في بعض الأحيان أن يكون هو و جعفر منفردين يتهامسان في سكون الليل المهيب ، حيث يشعره هذا بنوع من الصفاء الفكري يستطيع من خلاله أن يصقل و يرتب كثيرا من الافكار العالقة في ذهن لا يمل من الإستقبال و التفكير و البحث و التأمل .
وسيم أحمد الفلو
22-06-2008, 10:23 PM
( الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) فاستدل الشيخ من الآية أن الخلة إذا لم تؤسس على التقوى انقلبت يوم القيامة عداوة.
أهلاً بعودة المشرف العام إلى المنتدى
أبو محمد القلموني
23-06-2008, 10:40 AM
أخي الحبيب وسيم إذا حضر الماء بطل التيمم. و وجودكم هو الماء المبطل للتيمم.
فبارك الله بك و بجميع المشرفين و جعل ما تقدمونه في ميزان حسناتكم
أبو محمد القلموني
23-06-2008, 10:42 AM
-3-
المدرسة ستبدأ بعد أيام قليلة وهذه السنة هي السنة المدرسية الأخيرة و ينتقل بعدها علي إلى الجامعة .
استيقظ علي هذا الصباح ليجد جارتهم إقبال في زيارة معتادة لبيتهم . ولكنها هذه المرة في صحبة ابنتها سارة ، ابنة السادسة عشر ربيعا والتي تصغره بسنة دراسية . كان يهم بفتح كتاب من كتبه العلمية ليبدأ بالقراءة حين وصله صوت والدته تتحدث إلى إقبال قائلة : علي يستيقظ عادة في هذا الوقت لأنه لا ينام بعد العشاء بل يظل ساهرا يحيي الليل في القراءة ، ولا ينام إلا بعد أن يصلي الصبح في المسجد. وإقبال تتعجب من هذا و تثني عليه.
إقبال امرأة في الثلاثينات من عمرها ، متحررة إلى حد ما . فلا ترتدي في الغالب ثيابا محتشمة . وهذا كان يؤذي عليا و يؤلمه في أحيان كثيرة و يكاد لا يجد له مبررا أبدا! فهي امرأة متزوجة و عندها أولاد فما الذي يجعلها تتبرج على هذا النحو حتى و لو كانت غير متدينة؟! وأيضا ما الذي يجعل والديه يحرصان على هذه العلاقة المتميزة مع هؤلاء الجيران ؟ صحيح أن أهله لا يعدون في المصطلح العامي الشائع : متزمتين كما يتهم به أهل جعفر مثلا ، فالحاج مصطفى لا يرى ضيرا في السلام باليد على إقبال ولا يرفض دعواتهم المتكررة لحضور احتفالات مناسباتهم الخاصة التي لا تكاد تنتهي. ورغم ما يرافق هذه الإحتفالات من رقص و غناء و خمر في بعض الأحيان إلا أن الحاج مصطفى لا يعتذر عنها بل يحضر و يهنئ و يمشي سريعا. وفي ظنه أنه بهذا فعل الخير من تلبية الدعوة و التهنئة و لم يشارك في الشر الذي يتخلل الحفل .... لكن هذا التبرير لم يكن يعجب عليا أبدا بل يعده ضعفا واضحا لا وجه له!
وقد حصل و ألحت عليه والدته أن يحضر معهم بعض تلك الإحتفالات التي تؤكد لهم فيها إقبال مسبقا خلوها من الخمر و الغناء إلا أن عليا يرفض بشدة و لا يقبل المشاركة فيها. و أما والده فلا يضغط عليه في هذا بل لا يكاد يطلبه منه أبدا !
دخلت الحاجة صفية على علي لتقطع عليه حبل أفكاره و لتطلب منه أن يرتدي ثيابه و يحضر إلى الصالة فجارتهم إقبال تريده في أمر. استوقفها علي ليسألها عما تريده إقبال لكنها لم تجبه و أصرت أن يسمع منها بنفسه.
نهض علي ولبس ثيابه و اتجه إلى الصالة و الإنزعاج باد على محياه. ألقى السلام ثم جلس بعد أن رفض يد إقبال الممتدة إليه كالعادة ! فهي في كل مرة تمد يدها و يردها علي خائبة ! ومع ذلك لا تمل و لا تكل ! وكان هذا يزعج عليا ولا يكاد يحتمله ، إلى أن حوله إلى نوع من التحدي و التصميم أن يكسفها في كل مرة و أيا يكن الحضور!
وكالعادة تعزف إقبال سمفونيتها المعروفة أنها كوالدته تماما و أنها كانت تحمله في صغره كثيرا ... و كان لا ينام إلا على كتفيها! وعلي يبتسم و يعتذر و يحاول تغيير الموضوع.
ثم دخلت والدته مع إقبال في حديث عن الجيل الجديد الذي لا يعرف التوسط و الإعتدال أبدا ؛ فإما متفلت سكير و إما متزمت متشدد ، و أما التوسط الذي تصف به زوجها الحاج مصطفى فلا يكاد يوجد في هذا الجيل . و إقبال تثني على قولها و تؤكد عليه خصوصا ما كان منه متعلقا بوسطية الحاج مصطفى و اعتداله!
وبعد هذه التعليقات التفتت إقبال إلى علي لتخاطبه وقد كان على وشك الإنسحاب من المجلس الذي لم يرقه مطلقا خاصة مع وجود سارة التي يصنفها علي بأنها نسخة مطورة عن أمها !
ابتدأت إقبال حديثها بالثناء على تفوقه العلمي وشاركتها سارة في هذا ، فقاطعهم علي شاكرا لهم ثناءهم ومديحهم. بعد ذلك طلبت منه إقبال ما أربكه و أقلقه من تدريس ابنتها سارة مادة الرياضيات حيث ستنتقل إلى مدرسة القرية هذه السنة مما يستلزم أن تتقدم إلى امتحان الدخول بعد أيام قليلة . لم يرق لعلي الطلب كما لم يرق له السبب أيضا فهذا يعني أن سارة ستصبح طالبة في مدرستهم! والمدرسة لا ينقصها أمثال سارة من المتبرجات المستهترات! حاول أن يعتذر ويعطي حلولا بديلة كأن يعيرها بعض الكتب المساعدة . و لكن إقبال أصرت على طلبها وأحس علي أنه إن رفض طلبها فستعدها هذه المرأة إهانة ، و ليس هناك أي مجال أن تتفهم وجهة نظره الشرعية مهما حاول ! فهي في نظره مجرد قالب مقفل لا يستقبل و لا يرسل ؛ يتعامل فقط مع ما هو مخزن داخله! فقبل علي على مضض. و ضرب صباح الغد موعدا لبدء أول جلسة تعليم . وانفض المجلس و علي منشغل الذهن بما حدث معه .
أليس هذا ضعفا منه ؟ ألم يكن يجدر به أن يرفض هذا الطلب ؟ أو ليس هو من ينتقد صنيع والده أنه لا يقف منهم الموقف الشرعي الصحيح ؟ ما الفرق بين ما ينتقده في والده و يسميه ضعفا واضحا و بين ما فعله هو الآن منذ لحظات؟!!! أوليس الأمر واحدا وإن اختلفت التفاصيل ؟! لم يستطع ذهن علي أن يفرق بين الصنيعين فاستسلم لنتيجة أنهما مستويان و أن ما فعله آنفا مجرد ضعف ليس إلا!
هذا الضعف لم يستوقف حركة علي و لم يشل نشاطه لأنه تعود منذ تفتحه أن يكون شديد الصراحة مع نفسه . وهو توجيه تعلمه من إحدى المحاضرات المسجلة التي أهداها له جعفر قبل سنوات. وقد تأثر بها علي كثيرا و درج على حوار نفسه و مصارحتها منذ ذلك الحين.
فهذا الخطأ و هذا الضعف ليس هو أول و لا آخر أخطائه و ضعفه ؛ بل هناك كيت و كيت مما يقع فيه علي بين الفينة و الفينة. لكنه برغم هذا لا يسمح لنفسه أن تتعلق بأسباب واهية تبرر هذه الأخطاء من مثل فساد الزمان و عدم وجود الدولة الإسلامية التي تحفظ على الناس دينهم و خلقهم . علي لا يقنع بمثل هذه التبريرات و يعدها سخيفة لا تنهض لمجرد نقاشها.
وقد كان يشعر في داخله أنه ثمة شيء إن عرفه و انفتح له أغلق كل تلك الأبواب و لم يعد لتلك الاخطأء و لا لذلك الضعف سبيل إلى قلبه و نفسه! لكنه لا يعرف ما هو و لا أين يجده؟! إلا أن مجرد وجود هذه الفكرة وإستيلائها على قلبه و ذهنه كان كافيا لفتح باب الأمل و مساعدته على تخطي نتائج هذه الأخطاء وما قد تقتضيه من يأس و قعود!
أبو محمد القلموني
24-06-2008, 01:51 AM
-4-
في المساء أثناء لقاء التينة هم علي أن ينفرد بجعفر و يخبره بما حصل معه اليوم ، لكنه عدل عن ذلك و رأى ان يشغل نفسه بتأمل الطبيعة الساحرة ؛ فهو يشعر في أعماقه أن ما يبحث عنه سيجده يوما في لحظة من لحظات تأمله و تفاعله مع جمال الكون الساحر. هنا يكتشف علي نفسه أكثر فأكثر و تضيء له هذه التأملات مساحات واسعة من نفسه ، كانت مظلمة قاتمة فإذا بسحر الطبيعة يضيئها و يلونها بألوان متفتحة خلابة!
انقضت سويعات اللقاء الأخوي الحميم ، و مضى كل منهما إلى بيته يسرع الخطى ليبدأ عملا آخر يغني به ذاته و يرقي فيه نفسه. جعفر بثبات قلبه و بساطة فكره و قوة منطقه و إدراكه لما يريد ، و علي برهافة نفسه و تفجر مشاعره و تتطلعه نحو المجهول الذي يحسه و لا يدركه ! فعلي لا يسير إلى الهدف بعقله فقط بل غالبا ما يسبقه قلبه إليه فيتحسسه و يستشعره و يهيم به فترة. ثم إذا هدأت مشاعره و استقرت نفسه عاد يشق الطريق إليه مرة أخرى بالعقل و التجرد و دقة المحاكمة . و لذلك كان على علي أن يسلك الطريق التي يسلكها جعفر مرتين !
وصل جعفر منزله ليجد والدته كالعادة في غرفتها تركع و تسجد و تقرأ في كتاب الله تعالى دون كلل و لا ملل.
منذ الصغر و جعفر يرى والدته على هذا النحو ؛ لذلك كانت لكلمات أم جعفر وقع في نفسه ..... . هكذا صاغته منذ صغره بالتوجيه و السلوك المطابق لما توجهه به. فجاء على نحو فريد لا يكاد يشغله شيء غير الطاعة و تحقيق العبادة ؛ كما يحلو لأم جعفر أن تقول . فهذه العبارة هي واحدة من مجموع عبارات تشكل قاموس أم جعفر. و قد قامت أم جعفر ببناء ولدها لبنة لبنة بمفردات قاموسها الإسلامي المتميز ؛ و الذي هو عبارة عن حصيلة قراءاتها و سماعها للمحاضرات و الدروس ومنها دروس الشيخ محمد صديق زوجها الراحل .
مرة جاءها خطاب من المدرسة يطلبها أن تحضر على عجل. ولما حضرت ، أخبرها المدير بأن ولدها رفض أمرا مدرسيا وجه إليه.فطلبت من المدير أن يشرح لها حقيقة الأمر فعلمت أن ولدها إنما رفض تقسيم أحد الأساتذة الذي وضعه هو وفتاة مستهترة في مجموعة واحدة لتنفيذ مشروع يتطلب لقاءات خارج دوام المدرسة. وكم كانت دهشة المدير كبيرة عندما سمعها تقول : لأن يترك ولدي المدرسة خير لي من أن يقبل أمر هذا الاستاذ! ثم شرحت له خطورة هذا الأمر و كيف أنه أولا مخالف للشريعة و ثانيا قد يكون ذريعة إلى انحراف تضيع معه سعادة الدنيا و الآخرة..... إلى غير هذا من مفردات قاموسها الإسلامي التربوي الغني... ثم مضت أم جعفر وتركت المجلس وسط دهشة واستغراب المدير و الأساتذة الحاضرين!
ولكن الأمر تطور و ركب المدير رأسه فقرر أن يفصل جعفر إذا لم يلتزم أمر أستاذه متعللا بأنه إن رضخ لجعفر فستكون سابقة تجر ما بعدها!
و جاءها الخطاب الرسمي من الإدارة فقالت بكل بساطة و برود: فلينتقل جعفر إلى مدرسة جديدة!
ولما راجعتها أختها في الموضوع و كيف أن هذا قد يعني ضياع هذه السنة على جعفر .... أجابتها ببرود ، وهي تحدق في الأفق ، وبعد أن رشفت من قدح شاي كان في يدها رشفات عدة : بل يستغل جعفر ما تبقى من هذه السنة ليكمل حفظ كتاب الله تعالى و يلازم الشيخ محمد في دروسه العلمية كلها!
وبقي الطرفان على عنادهما إلى أن توسط بعض الأقرباء من وجهاء القرية لدى المدير و أقنعوه بالعدول عن قراره!
استيقظ علي على صوت والدته تقول له : هيا يا علي فقد حان موعد الجلسة مع سارة ، وما هي إلا لحظات و تصل. جلس علي في السرير و بدأت الأفكار تنساب في جداول الخواطر؛ خاطر يتبعه خاطر وزخم المشاعر يعلو و يتلاطم على جنباتها....... الآن بعد قليل سيفعل ما لا يجده صوابا! لماذا؟! مجاملة لجيرانهم و أصدقاء والديه! وكان هذا يعذبه و يؤلمه! فهو إن رفض الطلب دخل في مشاكل مع والديه و إن قبله دخل في مشاكل مع نفسه!
هذا من جهة و من جهة أخرى يخشى علي على نفسه من سهام إبليس التي سيرشق بها لا محالة في جلسة التدريس ولن تنفع كل الإحتياطات و الإستعدادات النفسية المسبقة فهو يعرف نفسه جيدا و يدرك حقيقة ضعفه! ....
لكن مهلا لماذا يفكر على هذا النحو؟ لماذا لا يقبل التحدي و يعطيها درسا في الخلق الإسلامي و الثبات الإيماني؟ لعله يؤثر فيها فتنقلب حالها! ..... لكن لا ..... أليس هذا قبولا بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة والتي طالما انتقدها و شنع على أهلها ! أليس هذا ضربا للإتباع الشرعي بعرض الحائط ؟!!.........
ارتدى علي ثيابه و جلس في الصالة ينتظر الموعد وخواطر شتى تتنازع نفسه و عقله. وما هي إلا لحظات حتى طرق الباب و دخلت سارة بزينة بهية و حلة كاشفة و عطر فواح ، وما هو إلا أن وقعت عينه عليها و شم أنفه عطرها حتى أصابه إبليس بمقتل فأسقط في يديه وانهدمت احتياطاته و استعداداته فوق رأسه!
الزاهر
24-06-2008, 02:48 AM
ارتدى علي ثيابه و جلس في الصالة ينتظر الموعد وخواطر شتى تتنازع نفسه و عقله. وما هي إلا لحظات حتى طرق الباب و دخلت سارة بزينة بهية و حلة كاشفة و عطر فواح ، وما هو إلا أن وقعت عينه عليها و شم أنفه عطرها حتى أصابه إبليس بمقتل فأسقط في يديه وانهدمت احتياطاته و استعداداته فوق رأسه!
بالإنتظار!!
أيمن غ القلموني
24-06-2008, 11:09 AM
بالإنتظار!!
:) صرنا ٢ :)
أبو محمد القلموني
24-06-2008, 09:11 PM
-5-
في المساء جلس الصديقان كالعادة على الشاطئ ينتظران غروب الشمس و يحدقان في الأفق البعيد. جعفر يتمتم بالأذكار و علي تتجاذبه الأفكار و الآلام إلى أن حانت لحظة الغروب فنسي علي كل شيء و استغرق مع المشهد البهي الساحر. ثم مرت لحظات تحول فيها ألمه إلى طاقة و خواطره المتصارعة إلى خاطر واحد وهم ملتهب و عزم صلب... في هذا المقام يستحضر علي أنه في صدد البحث عما به ستتضح الصورة و تنجلي الحقيقة ، فتتغير حاله و يشتد عوده و ينطلق بثبات تهفو إليه النفوس .....
يمر الوقت سريعا ولكن مسلسل الأفكار و صور الخواطر لم تحط رحالها بعد ، و لا يتوقع لها ذلك في ذهن كذهن علي و قلب كقلبه و نفس كنفسه... وينطلق الأخوان إلى المسجد و علي أبدا لا يتوقف عن التفكير و تملي الدلالات التي التقطها في جلسة تأمل الغروب ... هناك حقيقة كبرى يحس بها و لكنه لا يعيها بعد ؛ تناغم هائل بينها و بين مكوناته ورغم ذلك لا يهتدي إليها ! .... قلبه يتفطر و يتحرق شوقا إليها ؛ يناديها يصرخ بها في أعماقه أن تأتيه على عجل و لكن ما من مجيب ! تلوح و تتوارى ! هذا دأبها معه ! كفاتنة في حديقة غناء تميس وتتهادى بين الأشجار و الأزهار ليلوح منها جمال و يختفي جمال آخر فلا تكاد تحيطها الأعين و لا تكاد تكتمل منها الصورة ! فالنفوس منها على حرقة و القلوب إليها على شوق ! و أي شوق ؟! شوق تختلج به الأضلاع و يضطرب له الجنان و تسير بحدائه الدموع تزحف في أسى و صمت على صفحات الوجه الحزين !
بعد صلاة العشاء طلب جعفر من علي أن يرافقه إلى منزل الشيخ محمد ليسأله في بعض المسائل الفقهية. علي الذي كان يتوق إلى لقاء مع الشيخ محمد منذ زمن ، قبل على الفور و توجه مع جعفر إلى منزل الشيخ . فاستقبلهم الشيخ و البشر يعلو وجهه و محياه و رحب بهما أشد ترحيب . ثم اصطحب ابريقا من الشاي كان قد أعد للتو و سلة فواكه و انطلق بهما إلى حديقة المنزل ومنها إلى حديقة مجاورة تبعد عن البيت قليلا ، و تلتقي بطريق جبلية تعود أن يسلكها جعفر و علي في طريقهما إلى التينة.
وجلس الثلاثة تحت شجرة زيتون عتيقة في سكون ليل ساحر ، يضيء ظلمته بدر منير يتوسط سماء صافية كصفاء قلوب الثلاثة...
بعد السؤال عن الأحوال و الطمأنينة على الأهل و الخلان استأذن جعفر بطرح الاسئلة على الشيخ .
فسأله عن صيام التطوع إن فسد هل يقضى؟ و سأله أيضا عن الوتر وقضائه.
تنحنح الشيخ و النور يسري بين قسمات وجهه ويشع بريقا في عينيه وابتدأ الكلام قائلا بعد الحمد و السلام :
إخوتي الكرام لا يأتيكما سؤال من الفقه في المعاملات أو العبادات إلا أتيتكم ببيانه مفصلا شافيا من القرآن المحكم و السنة الصحيحة الصريحة ... ما هو راسخ منه في ذاكرتي أستظهره بعون الله و توفيقه و ما شذ عني و غاب أطلبه في بطون الكتب و أمهات التصانيف وأبذل جهدي في البحث عن أدلته حتى أضعه بين أيديكم غضا طريا يسيل له لعاب أهل التحقيق و الإتباع. ذلكما مما علمني ربي و أكرمني حيث ابتدأت منذ نعومة أظفاري بقراءة كتب السنة و شروحها ، حتى إذا اشتد عودي شددت الرحال إلى مجالس العلماء أسمع منهم و أتفقه عليهم و أتأدب على يديهم ؛ فما تركت عالما يبلغني إياه زادي و راحلتي إلا شددت إليه ولازمته و أخذت عنه. ولله وحده الحمد على ذلك كله ، إذ ليس بجهدي و لا جهادي وصلت و إنما بتوفيق ربي و كرمه و منته علي. إخوتي الكرام ما خلقنا الله في هذه الدنيا إلا لأمر واحد و هدف جامع : معرفته و توحيده. فوا أسفا على أناس أتوا إلى الدنيا فملأوها ضجيجا و صراخا ثم خرجوا منها و ما عرفوا أجمل ما فيها ! أتوا إليها فعاشوا كالأنعام بين أهلها ثم خرجوا فودعوها وما فقهوا منها شيئا و لا عرفوا لها و لا لوجودهم هدفا! إخوتي الكرام أحياة كهذه لا ضابط فيها و لا ميزان و لا أمن و لا أمان خير أم حياة التوحيد و الطاعة و الخضوع لله الواحد الديان؟! أيفضل المرء الظلمة على النور و الموت على الحياة ويبقى مع ذلك معدودا في العقلاء؟! ..... ثم شرع بذكر الأجوبة على أسئلة جعفر مستنبطا من القرآن و السنة و الأثر ؛ لا يتكلم كلمة و لا يذكر قاعدة إلا استظهر لها من الأدلة ما يعضدها و يؤكدها.
كل هذا و علي مشدوه يتابع بدقة و انفعال و توثب ، يلتقط المعاني معنى معنى بتلهف يتوق إلى المزيد و المزيد.
رغم أن الشيخ لم يتكلم كثيرا ولم يتكلم بكلام مبتكر غير مسبوق إلا أن عليا أدرك بأدواته الشاعرية المرهفة أن ثمة وراء هذا الكلام شيئا يتعلق بما يبحث عنه! إذ أن تفاعله النفسي مع هذا الكلام كان أشبه ما يكون بتفاعلاته وأحاسيسه مع الطبيعة في جلسة الغروب و جلسات تأمل الكون الساحر! هناك شيء مشترك بينهما يومض و يختفي ومع كل ومضة حزمة من الدلالات الغامضة يحاول علي أن يلتقطها و يترجمها فما يفلح! لا يزال يحتاج إلى لغة خاصة يترجم من خلالها هذه الدلالات ! و لكن أين يجد هذه اللغة وكيف له أن يتعلم أبجدياتها و تراكيبها؟!...
الشيخ بدا لعلي واثقا مما يقوله مطمئنا إليه غاية الإطمئنان يمضي في حديثه و كأنه يقرأ من كتاب مفتوح و سفر مكشوف لا رموز فيه و لا تعقيد و لا طلسمة! وكان هذا يشد عليا وكيف لا ؟! وهو المتعطش إلى هذه الطمأنينةو الباحث عن تلك الثقة ؟!
في لقائه الأول المباشر مع الشيخ محمد لم ينبس علي ببنت شفة ، اكتفى فقط بتشكر الشيخ على موعظته و استأذنه أن يزوره في القريب في أمر يشكل عليه و لم يجد له حلا. فرحب الشيخ بفكرة الزيارة أشد ترحيب . و انفض المجلس على أن يكون موعد الزيارة بعد غد .
مضى علي إلى منزله وهو يسترجع كلمات الشيخ و يدقق في معانيها و يقيس مستويات التأثير و الأهمية فيها و يبحث عن السر وراء عظمتها و رونقها ...... فلم يلبث طويلا حتى تبين له أن الشيخ يجيد لغة العقل تماما كما يجيد لغة القلب! بل يجيدهما معا في أسلوب متوازن لا يسمح لأحدهما أن يطغى على الآخر!.....
فشده هذا الإستنتاج للشيخ أكثر و عزم أن يختبره في اللقاء المقبل . و ليكن الإختبار الأول في مجال العقليات الذي يتصدر الأهم في اهتمامات علي ! ......
في صباح اليوم التالي كان علي لا يزال حديث عهد بلقاء العقل و العاطفة ، بلقاء الروح و الفكر ، بلقاء من نوع آخر من ماهية مختلفة من طبيعة متميزة ؛ لقاء طالما تاقت له النفس و اشتاقت له الروح و هفا إليه العقل ! علي في كينونته يحب هذا النوع من التمازج ، يهيم بهذا النسيج المتألق وهذا التناغم الساحر....
ولذلك مرت جلسة التدريس مع سارة دونما خسائر تذكر ؛ فجذوة جمال وسحر اللقاء الروحي الفكري لم تخبت بعد و ليس ثمة مقارنة بينها و بين جمال المادة في حس علي ! لهذا كان انتصارا مميزا تفتحت له نفس علي و تألقت مداركه ورقت روحه و سما عقله ...
وفي المساء كان لجلسة الغروب طعم مختلف و مذاق آخر فتفاعل الروح المنتصرة على الجسد مع جمال الكون و سحر الطبيعة ليس كتفاعلها وهي أسيرة الجسد و المادة! لقد أحس علي في هذه الجلسة أنه اقترب خطوة من فهم دلالات الجمال الكوني الساحر... لكن الحقيقة لا تزال تومض و تختفي و بين الحالين كم من رموز غامضة مكثفة تنتظر الترجمة و التحليل ...
أبو محمد القلموني
26-06-2008, 09:38 AM
-6-
في اليوم التالي توجه علي بصحبة جعفر إلى منزل الشيخ محمد بعد صلاة العشاء مباشرة كما هو الموعد المتفق عليه. استقبلهم الشيخ ببشر و سرور ثم طلب منهما الدخول إلى الدار فعرض علي على الشيخ أن يجلسا في نفس المكان الذي جلسا فيه أول أمس قائلا : الحديث في الطبيعة أجمل يا شيخ محمد. وافق الشيخ و اصطحبهما إلى المكان بعد أن طلب من ولده موافاتهم بالعشاء فور الإنتهاء من تحضيره...
هذا الطلب من علي أشعر الشيخ محمد برهافة نفسه و رقة روحه الهائمة بحثا عن جمال الحقيقة وهو ما كان قد سمعه من صديقه جعفر . كما سمع منه أيضا أخبارا طيبة تدل على رجحان عقله و صدق عاطفته و سمو أخلاقه... مما جعل الشيخ يرتاح إلى اللقاء راحة كبيرة فهو في هذا المجلس في حل من التكنية و التورية و التبسيط لأنه أمام عقل نشط ونفس صادقة.
بعد السلام ابتدأ علي سؤاله بقوله : إئذن لي يا شيخ محمد أن أسألك عن أمر ليس السؤال عنه بالجديد بل هو قديم لم يزل يطرح بين الناس ، و يتداوله المشايخ و العوام كلهم جميعا على السواء. وهو سؤال طاشت به عقول و زلت به أقدام و لم نزل نسمع عن بعضهم كيف يجعله حجة لرفض الدين و أهله... وهذا الأمر هو القدر ركن الإيمان الركين و أساسه المحكم كما سمعنا من المشايخ وقرأنا في الكتب و درس لنا منذ الصغر.....
السؤال يا شيخ محمد باختصار شديد : معلوم أنه لا يقع شيء في هذا الكون إلا بأمر من الله و حده و لا تنفذ مشيئة المخلوق و إرادته حتى تسبقها و تتقدمها إرادة الله جل وعلا . فإذا كان الأمر على ما ذكرنا فيكون الله قد شاء الكفر لأهل الكفر قبل أن يشاؤوه و كتبه عليهم قبل أن يعملوه. فكيف نوفق بين هذا و بين قولنا الإنسان مخير و كيف ننفي تعارضه مع صفة العدل الإلهي الكامل المطلق؟
هذا السؤال كان علي قد وجهه لبعض المشايخ و منهم الشيخ مفيد خطيب المسجد المجاور لبيتهم فأجابوه جميعا بأجوبة لم يستسغها عقله : فبعضهم ينهاه عن التفكير في مثل هذه القضايا و يعدها فوق عقل الإنسان و البعض يجيب بأجوبة يعدها علي في غاية الغرابة كقولهم : الله علم ما سيكون ثم كتبه ... فإذا سألهم : و لكن هل شاءه أم لم يشأه ؟ اضطربوا و لم يجيبوا بشيء يذكر ...
تنحنح الشيخ بعد أن سمع السؤال و توجه إلى علي بالكلام قائلا: هذا سؤال يدل على ذكاء و فطنة ، و لكن قبل الجواب عليه لا بد من التقديم بين يديه بمقدمة مهمة وهي أنه لا يطرأ على البشر شيء من مشكلات العقل و السلوك و الأخلاق إلا وفي القرآن بيانه الشافي الكافي مصداقا لقوله تعالى : ( تبيانا لكل شيء) . و لقوله تعالى : ( و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين ) فما من داء عقلي أو خلقي إلا وفي القرآن شفاؤه و دواؤه علمه من علمه و جهله من جهله. والله قد بين لنا في القرآن منهج المحاكمة العقلية في أوضح صورة و أقوى بيان . يقول الله تعالى: ( و لا تقف ما ليس لك به علم إن السمع و البصر و الفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) و يقول تعالى : ( قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن و إن أنتم إلا تخرصون) ، ( إن الظن لا يغني من الحق شيئا ) فبهذه الآيات و غيرها صار لنا نحن أهل التوحيد منهج عقلي متميز مفاده أنه لا يقبل شيء إلا بعلم و لا يبنى إلا على علم ، ومن بنى على ظن وهم و أخطأ . وما كان من الأمور معلومة مقدماته واضحة علاماته بني فيه على الواضح و قررت لوازمه بناء على ذلك . و ما كان غير معلوم و صورته غير متضحة لا يبنى فيه على الظن ، وإن بني فيه على شيء منه لزم برهانه أولا فإن قرر بالبرهان الصحيح الواضح بني عليه و إلا رد على صاحبه.... بهذا المنهاج الدقيق واجه القرآن المشركين . فعندما نسبوا الأنوثة إلى الملائكة رد الله عليهم بكلام واضح قوي فقال : ( أشهدوا خلقهم؟ ستكتب شهادتهم و يسألون ) . وعندما قرروا أن الله كتبهم مشركين و شاء لهم أن يستقلوا بالتحريم و التحليل رد عليهم الله بقوله : ( سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا و لا آباؤنا و لا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا: قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا ؟ إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون) إذ من أين لذلك المشرك أن الله كتبه مشركا وشاء له أن يبقى متعديا على شريعة الله تعالى ؟ هل عنده نسخة من اللوح المحفوظ مثلا؟ هل اطلع على غيب الله تعالى ؟
فهذه و غيرها يا إخوتي ، يتابع الشيخ ، أمثلة تدلنا على دقة المنهج القرآني و عظمته في مضمار العقليات . كيف لا و هو من عند الحكيم العليم ( و إنك لتلقى القرآن من لدن حكيم عليم ) .
فإن رجعنا إلى المسألة المطروحة وجدناها ترجع إلى السؤال التالي : لم شاء الله لفلان الكفر ؟
أليس كذلك ؟
أجابه علي و جعفر بالموافقة و كلاهما متلهف للجواب بعد تلك المقدمة المهمة.
تنحنح الشيخ و تابع : هذا سؤال سئله شيخ الإسلام ابن تيمية من نصراني فأجابه بقصيدة طويلة منها البيت الذي نذكره و فيه الجواب الشرعي الصحيح و الله أعلم .
(وقولك لم قد شاء مثل قول من * يقول لم قد كان في الأزلية) . وهذا من ابن تيمية عين جواب السائل لأن السائل لما سأل عن سبب المشيئة و هي صفة من صفات الرب جل و علا لم يكن بسؤاله هذا من حيث المضمون النهائي مختلفا عن سؤال من يسأل عن سبب الوجود . فإن كان السؤال عن سبب الوجود مردودا بالمنطق السليم فيكون أيضا السؤال عن سبب المشيئة مردودا بالمنطق السليم سواء بسواء.
و الآن لنشرع ببيان عدم منطقية السؤال عن سبب الوجود و منه يتضح عدم منطقية السؤال عن سبب المشيئة .
علي و جعفر يتابعان بتلهف شديد و تركيز عميق . وقد لاحظ الشيخ هذا فأراد إشراكهما في الحديث معه فسألهما : ما رأيكما بالقضية التالية أحق هي أم باطل : كل موجود له سبب؟
أطرق كل من جعفر و علي يفكران في هذا السؤال ... ثم بعد برهة أجابه جعفر بأن هذا صحيح و منه نثبت وجود الله. فأجابه الشيخ و لكن هذه القاعدة لو كانت صحيحة لطالبك الملحد بتطبيقها على الذات الإلهية و ألزمك بنتيجتها فبماذا تجيبه؟ هنا لمع الجواب في ذهن علي و أجاب الشيخ على الفور : بل هي قاعدة غير صحيحة و صوابها : كل موجود له بداية له سبب.
تهللت أسارير الشيخ و ابتهج ابتهاجا عظيما بجواب علي و امتدح فطنته و نباهته.و طلب منه ان يشكر الله على ما أولاه من عقل و ذكاء. ثم قال : فبهذا يا إخوتي يكون السائل عن سبب المشيئة ،وهي من صفات الرب القديمة ، سائلا عن شيء لا بداية له فيكون سؤاله غير منطقي البتة. ومثل هذا ما جاء من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم المسلم الذي يجيئه الشيطان بسؤال :من خلق الله؟! أن يتلو سورة الإخلاص ؛ التي فيها تقرير الأحدية و الصمدية و الأولية.....
هذا الجواب وقع من علي موقعا عظيما و انكشفت له به عظمة القرآن و علو منطقه و حلاوة تدبره. ووثق هذا اللقاء من علاقة علي بالشيخ محمد وولت كل تلك الهواجس السابقة إلى غير رجعة . فلم يعد يقبل بعد اليوم أن يسمع انتقاصا للشيخ و ذما له خصوصا إذا كان الذم في رجحان العقل و دقة المنطق كما يحلو لبعض الحاقدين أن يبهت به الشيخ جهلا و غباء ، وكما سمعه مرارا و تكرارا من بعض الوجهاء المتعجرفين!
في ختام اللقاء لم ينسى علي أن يستأذن الشيخ بالدخول عليه من الغد لاستكمال الحديث في منهج القرآن العقلي . فوافق الشيخ و رحب بالطلب والموعد. لقد أراد علي أن يستغل الوقت المتبقي قبل بدء الدراسة بعد أيام قليلة.
علي لم ينم ليلتها بل ظل ساهرا يبحث في كتاب الله تعالى عن آيات تتصل بموضوع البحث بينه و بين الشيخ محمد . وقد تناول كراسا فارغا وكتب في عنوانه : المنهج العقلي كما ورد في القرآن الكريم وبينته السنة النبوية المطهرة. و جعل كلما عثر على آية ذات صلة يدونها ذاكرا رقم الآية و السورة. ثم يقف معها و يتأملها مليا وهو يشعر بسعادة غامرة. وهكذا أمضى الليل كله يتأمل في سور القرآن باحثا متدبرا. حتى أدركه الفجر فنظر في الكراس ليجد أنه قد وقع على عدد كبير من الآيات ؛ كم قرأها من قبل ، و بعضها في محفوظاته ، و لكنه يشعر بأنه يكتشفها لأول مرة!
بسرور كبير و فرحة غامرة توجه علي إلى المسجد ليصلي الصبح مع الجماعة. ثم قفل راجعا إلى البيت منهكا متعبا ، فراح في ثبات عميق لذيذ لم يهنأ بمثله منذ زمن بعيد...
استيقظ علي قبيل صلاة الظهر على صوت والدته تدعوه إلى المائدة لتناول شيء خفيف قبل وجبة الغداء. ثم أخبرته بأن سارة قدمت ، ولكنها لما علمت بكونه لا يزال نائما فضلت عدم إيقاظه على أن ترجع بعد الظهر إن لم يكن منشغلا. فأجابها علي على الفور : أنا منشغل يا اماه ... أخبريها أن تحضر غدا وعلى أن يكون آخر يوم تدريس. انزعجت والدته من هذا الطلب وقالت له ما تعود سماعه منها في مناسبات كثيرة : يا بني إن أطعمت فأشبع و إن سقيت فأروي! تقصد أن يتمم خدمته على أكمل وجه . فضحك علي و تمتم في صوت منخفض : وإن ضربت فأوجع ! . أخته عائشة التي كانت تشاركهما المائدة سمعت تمتمته فأمسكت بعنقه قائلة : هكذا إذا يا شيخ علي... وبدآ يتهامسان و يضحكان و الحاجة صفية تتعجب من صنيعهما و تسألهما عما قاله علي فلا يجيبانها إلا بالضحك و التندر...
عائشة أخت علي الكبرى مدرسة حائزة على شهادتها الجامعية حديثا. هي محجبة و ملتزمة بالدين إلى حد ما. معجبة بعلي و أفكاره و تحليلاته و نهمه بالقراءة. كثيرا ما تتسلل ليلا إلى غرفته لتشغله عن القراءة بنقاش مواضيع متنوعة ؛ بعضها عائلي و بعضها ديني و بعضها ثقافي أو فكري.
أبو محمد القلموني
26-06-2008, 01:29 PM
جزاك الله خيرا أخي محمد
هناك ما إستصعب علي في قراءتي الأولى للمشاركة الأخيرة
ربما أفهمها في قراءة ثانية
.....
أبو محمد القلموني
27-06-2008, 10:10 AM
عذرا إن كان ثمة ما يحتاج إلى توضيح ولم أعطه حقه من البيان. فما أنا إلا قلم ضعيف يصيد المعاني بما في جعبته المتواضعة من سهام الألفاظ و التعابير. ثم إن بعض المعاني قد تحتاج إلى صائد ماهر فإن تصديت لها ولم أفلح فمن قصوري و قلة حيلتي.
وعلى كل أنا جاهز للإجابة عن أي سؤال أو استفسار.
أبو محمد القلموني
27-06-2008, 10:12 AM
-7-
في المساء توجه علي إلى الشاطئ ، ولكنه كان هذه المرة بمفرده لانشغال جعفر بأمر عائلي خاص. وقف علي على الشاطئ ينظر في صمت إلى الأفق و هواء البحر العليل يداعب صفحة قلبه فيموجها بأمواج من الذكرى و الحنين و الشوق.
في أعماقه يحس أنه ذو ماض عريق ممتد في جذور الزمن ضارب في أعماق التاريخ ؛ قديم قدم هذا العالم الذي يمتع الناظر جماله و يبهر المتأمل سحره و غموضه... يا لله أي جمال و أي بهاء و أي رونق هذا الذي تشع به الطبيعة على الحياة فتصيرها حياة أخرى ليست كالحياة . فهي في معناها تتجاوز معنى الكدح من أجل اللقمة و التعب من أجل الراحة إلى معنى أسمى ، يجعل التعب سلما إلى الحقيقة و الكدح طريقا إلى المعرفة و الصمت مهادا للتأمل...
الطبيعة لم تزل تنبض بالحقيقة وتنشر تردداتها عبر الأثير منذ فجر التاريخ ، حتى عبق الكون كله بعبقها واندمجت كل الأمواج في طيفها وصارت الدنيا كلها تهتز و ترقص على أنغامها و ألحانها.فلا يغرد عصفور و لا يشع ضوء و لا يفوح عطر إلا وطيفه مشبع بتردداتها ، تلتقطه النفس التائقة الرقيقة الباحثة عن الحقيقة و الجوهر.
ليلا كان علي جاهزا تماما و حاضرا بكليته و بمجامع نفسه للقاء آخر يتعانق فيه الروح و العقل فيرقصان على أنغام وترددات الحقيقة. في مثل هذه اللقاءات تذوب نفس علي ؛ فتفنى في الموضوع و تحلق مع الكلمات و الأفكار بأجنحة التأمل الهادئ و التفاعل المتفجر .
اللقاء ضم الثلاثة : جعفر و علي و الشيخ محمد. وقد استأنف فيه الحديث عن منهج القرآن و السنة في باب العقليات . وكيف أن الصحابة لما أخذوا بمنهج القرآن في هذا الباب عصموا من الزلل في الفهم بينما زل كثير من الخلف لتنكبهم المنهج العقلي العلمي القرآني. وتطرق الشيخ إلى البدايات التاريخية للانحراف المنهجي وكيف بدأ و ما العوامل التي أدت إلى ظهوره. ثم الحديث عن الفرق و أنواعها و كيف أنها تشترك جميعا في أن انحرافها لا يعدو تنكب المنهج العقلي القرآني الدقيق إلى مناهج متهافتة لا تكاد تثبت على رأي لا في فرع و لا في أصل. وذلك لأنها مضطربة في أصولها المنهجية جارية فيها وراء أهواء و آراء سقيمة ليس لها ما يسند من الدليل و البرهان.
علي وجعفر يستمعان و يتابعان بدقة و انفعال. ثم شرع علي بتوجيه سؤال للشيخ عن دور العقل و مساحته في الإسلام؟ وهل حد له الإسلام حدا لا يتعداه ؟ أم نظمه من حيث أطلقه في مواضع و ضيق عليه في مواضع أخرى؟ وما حقيقة قول بعضهم أن غالب الفرق الكلامية ضلت لاعتمادها العقل سبيلا للمحاكمة و التمييز؟!
تنحنح الشيخ و طلب من علي و جعفر أن يتابعا جوابه حتى ينتهي. ثم قال :
أحبتي في الله ، في التصور الإسلامي لا تنفك المسؤولية الشخصية عن العقل و التمييز بل لا توجد إذا عدم العقل. بل بمجرد ما يرتفع العقل ترتفع معه إلا أن يكون ارتفاعه اختيارا كأن يتعاطى ما يزيله و يحجبه ؛ فهذه الحالة يختلف حولها أهل العلم وفيها تفصيل ليس هذا أوانه ومكانه.
وفي التصور الإسلامي الإنسان ليس شيئا سوى عقل و أدوات علم من سمع و بصر . فأما أدوات العلم فهي لا تعدو كونها أدوات استقبال ليست إلا . و أما العقل فبه تتمايز الصور و الأشياء و يتحدد الوجود الخارجي و ترصد القوانين و الأحداث و الآيات و البراهين الخ...
فبالعقل أنت لا بشيء آخر ؛ ومتى ما ألغيت عقلك ألغيت وجودك و كيانك بالكلية. ولهذا حرص الإسلام على العقل كل الحرص فمنع المسلم من تعاطي ما يؤثر فيه فضلا عما يرفعه و يزيله بالكلية. ولم يميز الإسلام بين النائم حال نومه و السكران حال سكره و المجنون فترة جنونه وسوى بينها باعتبار أنها تشترك و تندرج جميعا تحت مسمى زوال العقل.
بل لو قيل أن معنى المسؤولية الشرعية هو العقل مطابقة لكان لهذا القول حظ من النظر و نصيب من الإصابة. ولو تأمل متأمل في الخطابات الشرعية لوجدها جميعها موجهة للعقل سواء منها ما كان حواريا أو تكليفيا أو وعظيا. فلهذا نقول ، و أرجو أن تنتبهوا و تدققوا في الآتي:
الإسلام أطلق للعقل العنان و فتح له الباب على مصراعيه فلا محدودية للعقل في ديننا على الإطلاق. إذ كيف نحد العقل ؟ وبأي شيء ؟ ليس ثمة جواب على هذا السؤال إلا أن نقول : بالعقل ؛ أي نحد العقل بالعقل. فهذا الجواب الإضطراري دليل بين على أنه لا يحد في باب العقليات إلا ما يحده العقل نفسه و بالتالي فإن إطلاقه هو المتعين. ولا يقال في هذا المقام بل العقل يحد بالشريعة ؛ فإن هذا ليس هو موضع البحث لأننا لا ننازع في هذا و لا نتردد في إثباته ، بل نضلل من يتردد في هذا . و من أثبت خلافه وقطع به هو عندنا زنديق ولا كرامة. بل كلامنا الآن منحصر حول العقل بوصفه أداة تمييز لا أصلا يرد إليه ؛ لأن الأصل الذي يرد إليه ينبغي أن يجمع أوصافا من بينها العصمة والإحاطة وغيرها مما لا يمكن إضافته للعقل . فهذا هو مفهوم العقل عندنا و هذا التصور هو الذي عليه المعول في خطابات الشارع ؛ ومن تأمل آي القرآن وجدها تتوسط العقل بوصفه أداة تمييز وتحليل لا مرجعا يرد إليه.
وأما الفرق الكلامية فغلطها وضلالها من جهة العموم أنها تعد العقل مرجعا لا مجرد أداة تمييز .وهذا لو تأملوه فيه مناقضة للعقل نفسه. وغلطهم و ضلالهم في التفاصيل واضح و بين لمن تأمل كلامهم و حجاجهم الذي يكثر فيه اعتماد ما لا دليل عليه و تركيب مقدمات خاطئة يرتبون عليها نتائج باطلة معارضة لنصوص الوحيين ؛ ثم لا يكترثون بهذه المخالفة و لا يغتمون لها بل سريعا ما يستلون سيف التأويل ويعملونه في ظواهر النصوص التي هي عندهم غير مرادة إلا إن وافقت أهواءهم وقواعدهم الخاصة!...
ومضى الشيخ يشرح و يفصل و يعدد وعلي وجعفر يتابعان باهتمام بالغ و استغراق كامل. علي لم يكتف بالمتابعة فقط بل كان يسجل في كراس عنده بعض الأفكار و العناوين ، إضافة إلى أسماء المراجع و الكتب و الشخصيات التي يذكرها الشيخ في كلامه.
وانفض اللقاء في ساعة متأخرة من الليل ليرجع كل من الأخوين إلى بيته بعد أن تواعدا على الذهاب غدا إلى السوق لشراء ما يتيسر من الكتب. وكانت تلك فكرة علي الذي لم يستطع النوم ليلتها من شدة شوقه أن يطلع الصباح و ينطلق مع جعفر للبحث عن تلك المراجع و الكتب المدونة عنده. وحتى في إغفاءته القليلة بعد صلاة الفجر لم يغب الموضوع عن ذهنه بل كان حاضرا بقوة من خلال حلم قصير ، زار فيه مكتبة ضخمة تحتوي على آلاف المراجع و الكتب . و فيما كان يهم بتناول أحد تلك الكتب الضخمة إذ زل من يده و ووقع على رأسه ليستفيق من حلمه ويجد أخاه حسينا يضربه بالوسادة على رأسه محاولا إيقاظه و هو يقول له : انهض يا علي فجعفر ينتظرك ...
في لمح البصر قفز علي من السرير و طلب من حسين الخروج من الغرفة ثم لبس ثيابه بسرعة و خرج مع جعفر إلى السوق و قلبه يسابق سيارة الأجرة فيسبقها بأشواط يستطلع الطريق إلى الهدف ثم يرجع بلهفة أزيد و شغف أعمق!
أمضى علي يوما كاملا في السوق يبحث و يشتري ما يتيسر له ولا يتوقف إلا حين يعلمه جعفر بدخول وقت الصلاة . و في المساء كان علي قد أنفق جميع مدخراته ولم يبق معه حتى ما يدفعه لسائق سيارة الأجرة!
دخل علي إلى المنزل برفقة جعفر الذي كان يعاونه في نقل الكتب إلى غرفته ، و أهله ينظرون إليهما في دهشة كبيرة و لا يكادون يفهمون هذا الدافع الكبير الذي يعتلج في صدر علي والذي حرمه النوم حتى الصباح وجعله ينفق جميع مدخراته المالية على مجرد كتب تحتوي على أوراق مطبوعة! لكنها في نظر علي أغلى و أثمن من جواهر الأرض و كنوزها .
نظر علي إلى الساعة كما هي عادته دائما ليحسب الوقت و الزمن المتبقي من العطلة الصيفية التي شارفت على نهايتها و لم يبق منها سوى خمسة أيام فقط . وكان هذا كافيا لإيقاد نار فوق النار التي تضطرم في داخله ، فتحول في لحظات إلى شعلة لا تنطفئ و جذوة لا تهدأ ؛ فألقى عنه غبار التعب و نفض عن عينيه رماد النعاس و استل سيف إرادته يبطش به في شهوتي النوم و الراحة....
ولم تنفع نداءات والدته المتكررة له أن ينضم إليهم في جلسة العشاء حيث الأطباق الفاخرة التي يحبها علي. ولما يئست الوالدة من ولدها أمرت بالطعام أن ينقل إلى غرفته . فدخلت عائشة إليه لتسلمه الطعام فيما هو منهمك بتصفح المراجع و تدوين الملاحظات هنا و هناك . لقد كان بصدد تفحص سريع لهذه المراجع سيخلص منه إلى خطة محددة و سريعة لبدء قراءتها و دراستها و جمع الفوائد منها. لذلك لم ينتبه لدخول أخته و لا لصينية الطعام التي أحضرتها له إلا بعد مضي ساعات طويلة شعر عقبها بجوع قاتل !
وهكذا أمضى علي الأسبوع المتبقي من إجازته الصيفية بين القراءة و التأمل و جمع المعلومات و تدوينها. فتحول إلى قارئ و قارئ فقط ، حتى أن الكثير الكثير من مشاكله اليومية كمراهق متدين يعيش في بيئة منفتحة ، نوعا ما ، تضاءلت و تضاءلت و كادت أن تنعدم....
وبدأ العام الدراسي فأقبل التلاميذ إلى صفوفهم بعد إجازة طويلة اقتضت من الاساتذة أن يقوموا بخطوات تمهيدية يحتاجون إليها في بداية كل عام ليأخذوا بأذهان الطلبة من جو اللعب و اللهو و الإسترخاء إلى جو الطلب و الكد و الإجتهاد. لكن الحال مع علي كان مختلفا تماما فهو لم يكن في حاجة إلى أي تمهيد ، إذ لم يكن في إجازته بعيدا عن جو القراءة و الدراسة و التفكير بل ابتدأ عامه الدراسي كما لو أنه ينتقل من فصل دراسي إلى فصل آخر لا تفصل بينهما أية إجازة أو استراحة ....
وقضى علي عامه الدراسي لا يكاد يخرج من منزله إلا إلى المسجد أو للقاء جعفر على الشاطئ أو في البرية بين الفينة و الفينة. حتى الشيخ محمد لم يلتق به إلا مرات قليلة و في جلسات الشيخ العامة مع طلابه. لكنه كان يهاتفه كثيرا ليسأله عن بعض ما يشكل عليه فهمه من مصطلحات جديدة ، فقهية كانت أو كلامية يواجهها وهو يغوص بمتعة لا نظير لها في كتب التراث الإسلامي .
وأحس جعفر بأن عليا أصبح ملما في فترة قصيرة بأنواع من العلوم اللغوية و الأصولية و الكونية و مطلعا على كم هائل من المذاهب الفلسفية الفكرية القديمة و المعاصرة. و كان من أهم ما يميز محصلته الثقافية الكبيرة أنها دوما في ازدياد و أنها في حسه دائرة واحدة و مشهد واحد ، لا يميز بين علم و علم ولا يحتقر علما فيؤخره و يقدر آخر فيقدمه .... الكل بالنسبة له سواء و شغفه بحقير العلوم هو كشغفه بجليلها و لكنه مع ذلك كان يتعامل معها بمنطق الأولويات و الأهم فالمهم ....
أيمن غ القلموني
27-06-2008, 11:34 AM
-7-
أحبتي في الله ، في التصور الإسلامي لا تنفك المسؤولية الشخصية عن العقل و التمييز بل لا توجد إذا عدم العقل. بل بمجرد ما يرتفع العقل ترتفع معه إلا أن يكون ارتفاعه اختيارا كأن يتعاطى ما يزيله و يحجبه ؛ فهذه الحالة يختلف حولها أهل العلم وفيها تفصيل ليس هذا أوانه ومكانه.
....
الله يبارك فيك أخ أبو محمد ؛ ولكن هل بإمكانكم أن تشرحوا لنا أكثر المعنى الذي تجسده هذه الجملة .
كذلك هل كلمة يغتمون تعني يهتمون ، أم هي خطأ مطبعي.
ثم لا يكترثون بهذه المخالفة و لا يغتمون لها
أبو محمد القلموني
27-06-2008, 12:10 PM
(يغتمون) هي من الغم . و الغم هو الكرب لغة. يقال غمه الأمر ، يغمه غما ، فاغتم ، و انغم . حكاها سيبويه كما في لسان العرب.
أما الجملة التي سألت عنها فأعني بها أن التكليف الشرعي موقوف على سلامة العقل و بلوغ سن التمييز. فعن ابن عباس ، قال : مر علي بن أبي طالب بمجنونة بني فلان ، وقد زنت وأمر عمر بن الخطاب برجمها ، فردها علي وقال لعمر : يا أمير المؤمنين ، أترجم هذه ؟ قال : نعم ، قال : أو ما تذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( رفع القلم عن ثلاث ، عن المجنون المغلوب على عقله ، وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن الصبي حتى يحتلم )؟ قال : صدقت ، فخلى عنها . أخرجه الحاكم و قال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين و لم يخرجاه.
والإستدلال لهذه الفكرة يطول لتوافر الأدلة وتضافرها في هذا الباب.
أبو محمد القلموني
28-06-2008, 02:52 PM
-8-
ومرت الأيام كما تمر السنونو من فوق سطوح المنازل ؛ سريعة في مجيئها ، سريعة في انقضائها ، و ما هي إلا خفقتا جناح حتى تصرمت أيام السنة و انقضت شهورها و لم يبق إلا القليل القليل من أيامها.
وفيما يهم الطلبة بالإستعداد لترك مقاعد الدراسة إلى مقاعد الكد و التحضير لامتحانات نهاية العام إذ وقع ما هز البلاد من أقصاها إلى أقصاها....... قصف جوي لا يكاد يهدأ ليوم واحد ومعارك هنا و هناك على جبهات مختلفة. إنه العدو يكشر عن أنيابه و ينفذ بعضا من وعيده و تهديده. وبنتيجة ذلك أقفلت جميع المدارس و الجامعات أبوابها و لزم الطلاب بيوتهم و تسمر الناس أمام الشاشات يتابعون و يترصدون الجديد من الأحداث و التعقيدات....... واستمر الحال على هذا لمدة شهرين تقريبا. عاد بعدها الطلاب إلى مدارسهم و خضعوا لامتحانات نهاية العام . ثم ما هي إلا أيام قليلة حتى يبتدئ علي و جعفر دراستهما في المرحلة الجامعية.
أسبوعان فقط يفصلان تلاميذ الجامعات عن بداية العام الجامعي. قضاهما كل من علي و جعفر في القراءة و المباحثات الفقهية و الكلامية و حضور حلق الشيخ محمد.
الشيخ محمد لم يجلس إلى علي منفردا منذ سنة تقريبا ، و كان كثيرا ما يلمح لجعفر عن رغبته في الإجتماع بعلي . لكن انشغال علي المستمر كان يحول دون حصول هذا اللقاء . نعم لقد كان علي يهاتف الشيخ كثيرا و يسأله و يحاوره في قضايا كثيرة . لكن الشيخ كان يريد لعلي شيئا آخر ! وهذا ما أحسه جعفر فصارح به الشيخ الذي اكتفى بصمت عميق أقلق جعفرا و جعله فريسة هواجس جمة!
فجعفر يفهم الشيخ محمد تماما كما يفهم المريد شيخه ، وعادة الشيخ في صمت كصمته هذا أن يكون وراءه ما وراءه مما لا يطمئن مطلقا.
وابتدأ العام الجامعي ودخل كل من علي و جعفر مرحلة جديدة تختلف عن سابقاتها اختلافا كليا. إنهما الآن في وسط متشعب و معقد تلتقي فيه على مقاعد الدراسة ، و في القاعات و الساحات تيارات مختلفة و أفكار متنوعة و متناقضة ... علي وجعفر لم يستسلما لهذا الواقع ولم يذوبا في أحضانه بل تعاطيا معه بعزة منيعة وعلو مستنير. كانا يشعران أنهما أصحاب رسالة أسمى و أعلى و أجل من كل تلك الطروحات الأرضية الملتصقة بالطين بل بالأوحال أحيانا! هكذا كانت نظرتهما لتلك التيارات على تنوعها و اختلافها و تناقضها !
لم يمض أسبوع حتى كان كل من علي و جعفر قد فرغا من تشخيص الوسط الجامعي و تحديد مختلف أنواع التيارات و الأفكار التي تتجاذبه. وفي حركة سريعة و قرار تلقائي منبعث من صميم تكوينهما الثقافي و التربوي تحدد سلوكهما و نشاطهما وطريقة تعاملهما مع هذا الوسط المضطرب.
علي اختار خط الإنفتاح الكامل . وأما جعفر فاختار العزلة الجزئية. كلاهما ينطلق من ثقته بنفسه و بما عنده من أصول فكرية و عقائدية. وهذا التباين لم يكن له في البدء كبير أثر على علاقتهما ، إذ أن جعفر يفهم تماما منطلقات التحدي العقلاني و العلمي التي تكتنف خطوة علي . وهو إذ لم يوافقه عليها ليس لأنه يرفض هذه المنطلقات ، و إنما قناعة منه و تقديرا أنه لا جدوى من التعامل بمثل هذه الطريقة مع وسط لا يتفاعل مع نفسه و محيطه بصدق و تجرد.
وعلي يفهم أيضا منطلقات الثقة و الطمأنينة الكاملة التي لا تشوبها شائبة ، ولا تحتاج إلى توسط الشك طريقا إلى اليقين ، في نفس كنفس جعفر ربيت منذ الصغر على العبادة و الطاعة في أجواء عائلية لا شغل لها يوميا سوى الوظائف الشرعية من الصلاة و الصيام و قراءة القرآن و تعلم العلم الشرعي ...
اختلفا ولكنهما لم يتفرقا و هكذا ظل شأنهما معا إلى أن وقع ما لم يكن بحسبانهما.....
علي في بداية العام الجامعي كان منشغلا بتحديد مستويات القوة و الضعف العلمي في المنطلقات العقائدية للتيارات و على مستوى نخبها الثقافية ، التي تمارس الوعظ الفكري و التحريض السياسي في وسط أنصارها و محازبيها من الطلاب و الطالبات.
وكخطوة تمهيدية تسبق الإحتكاك المباشر و تمهد له بدأ علي يجمع المعلومات عن تلك التيارات. ثم شرع بشراء الكتب الفكرية التي تعبر عن آرائها العقائدية و الفلسفية . ولما ضاقت مكتبته عن استيعاب أرتال الكتب و أفواجها المتنوعة فوجا يتلوه فوج ، بدأت غرفته تمتلئ في زواياها و أرجائها بتلك الأرتال ؛ حتى ليخيل للداخل إليها للوهلة الأولى أنه في مستودع للكتب لا في غرفة للنوم و الراحة!
لقيه والده ذات يوم ينقل مجموعة كبيرة من الكتب و المجلدات إلى غرفته فتبعه ليجد أن هذه المجموعة متخصصة في الفكر الشيوعي المادي. فتعجب طويلا وقال : من كتب التراث و العلوم إلى كتب الشيوعية و ماركس ! فرد عليه علي قائلا : لا بد من هضم أفكار هؤلاء ليتسنى لنا حوارهم و دعوتهم ببصيرة و برهان.
ضرب الحاج مصطفى كفا بكف و ترك ولده و هو يقول: لا أدري ... ولكن هل تعي حقا ما تريده يا بني! .......
أبو محمد القلموني
29-06-2008, 01:19 PM
-9-
ومر الفصل الأول من العام الجامعي و علي متفرغ بكليته للتحصيل الدراسي و للقراءات و المطالعات اليومية المكثفة.
وابتدأ الفصل الثاني الذي تم فيه تقسيم الطلاب إلى مجموعات عدة. علي و جعفر سجلا في نفس المجموعة ، فكان لهما ما أرادا من الصحبة المستمرة التي عملا على أن لا يعوقها أو يكدرها عائق أو مكدر.
في اليوم الأول من الفصل الثاني حصل ما لم يكن متوقعا . لاحظ علي وجود فتاة لم يكن قد انتبه لها سابقا في قاعات الفصل الأول الكبيرة المزدحمة .
شيء ما شده لهذه الفتاة ! شعور غريب لم يشعر بمثله قبل اليوم. هي ليست مرتدية للباس الشرعي و لكن جمالها المحتشم ميزها عن الكثيرات من حولها ، وجعلها تبدو بينهن كلؤلؤة تلمع في ظلمة ليل معتم بهيم. علي أعرض عن هذه المشاعر التي حاولت مرارا و تكرارا أن تزحف إلى مرابع قلبه بخفة و حذر ، فقابلها بصد حاسم و جفاء لم يتعوده مع مشاعره ؛ فهو قد دأب على احترامها و الإنطلاق معها بتخفف لا يقيده شيء....
ومرت الأيام وعلي يقفل الباب على مشاعره ويحاول أن يصم أذنيه حتى عن سماع طرقها ، الذي بدأ خفيفا ولكنه ما لبث أن قوي و اشتد و أوشك أن يكسر الباب ويدخل عنوة ودون استئذان!
ذات يوم وعلي يصارع مشاعره حدثت حادثة صغيرة ، و ربما يعدها الكثيرون تافهة ! لكنها في حس علي شيء في غاية الأهمية و مؤشر في منتهى الدقة!
أستاذ الحصة يسأل الطلاب أن يتقدموا بما طلب إليهم من تحضير منزلي مسبق. وصل الدور لخديجة . أخبرت الأستاذ على الفور بأنها لم تقم بتحضير ما طلب منها . ولما سألها الأستاذ عن السبب نفت تلبسها بأي عذر و أصرت ، في حركة عفوية تلقائية لا تكلف فيها ، على أنه محض تقصير منها .
هذا الموقف من خديجة أسر عليا و أخذ بمجامع قلبه ، وجعله يفتح الباب قليلا ليسمح لحزمة من المشاعر بالدخول إلى ساحة قلبه آملا أن تكون زيارة عابرة ! ولكن هيهات! فهذا الضيف ليس من شأنه الزيارات العابرة بل الإستيطان و الرتع و السكن...
وانطبق في علي قول الشاعر:
أتاني هواها قبل أن أعرف الهوى فصادف قلبا خاليا فتمكنا
شعر علي بصدق لهجة خديجة و عفويتها و ذكائها . وهذا كله تأكد من حوادث و مواقف كثيرة كان علي يرصدها بدقة متناهية بلا كلل و لا ملل.
وشيئا فشيئا وبعد كر و فر و ارتداد في خفر ، بدأت العيون تتلاقى في صمت و هدوء... ومع الأيام قالت عيناها الكثير الكثير ، و قالت عيناه الأكثر و الأكثر . و أفرغ كل منهما بالطرف ما يعتلج في الصدر! واشتد الأمر على علي حتى صار طيف خديجة لا يفارقه في صباح أو مساء... و اليوم الذي لا يراها فيه يوم مظلم قاتم شديد السواد ؛ تخرج فيه أنفاسه زفرات و آهات تتصدع معها الروح و ينقبض القلب في حزن عميق!
فإن رآها من اليوم التالي واطمأن عليها تهللت أساريره ، و انشرح صدره و شعر بقوة هائلة في داخله تمكنه من اقتحام العقبات و القفز فوق الأهوال و تحدي الصعاب!
بعد أن وصلت حالته إلى ما وصلت إليه فكر طويلا ، و أطرق و تأمل . فلمعت في ذهنه فكرة شرع بتنفيذها بجرأة و على الفور . تناول ورقة وكتب في وسطها بالخط العريض:
اليوم الذي لا تحضرين فيه أشعر بقلق بالغ و تتسارع دقات قلبي بصورة هائلة ما دمت موجودا في القاعة التي أراك فيها يوميا. فإن حضرت من الغد سكنت نفسي و اطمأنت و شعرت بقوة عظيمة تعتلج في داخلي. فهل هذا ما أنشد فيه المنشدون و نظم فيه الناظمون؟
وكتب في أسفل الورقة : أرجو أن تجيبي في الخلف على نفس هذه الورقة.
تحين الفرصة المناسبة ووضع الورقة على طاولتها حيث تجلس.
في الغد دخل علي ليجد على طاولته ورقة أخرى غير التي بعث بها إليها . فتحها فإذا فيها :
شعور متبادل . لا أدري و لكنه ليس مجرد إعجاب!
ثم في أسفل الصفحة كتبت : احتفظ بهذه الورقة!
وفهم علي الرسالة بوضوح وأحس بنبض خديجة في طيات حروف الرسالة و كلماتها.
و قرر لقاءها والتحدث إليها بشكل مباشر.
محمد أحمد الفلو
29-06-2008, 04:40 PM
-9-
و قرر لقاءها والتحدث إليها بشكل مباشر.
بلّش الأكشن :1 (54)::1 (54)::):).....
ما شاء الله, صياغة رائعه و أسلوب مميز...بانتظار التتمه...
أبو محمد القلموني
30-06-2008, 11:35 AM
تم تصحيح الخطأ في نقل الآيات .
جزاكم الله خيرا أخي محمد و أجزل لكم المثوبة و الأجر. وجعلك من أهل قضية القرآن .
أبو محمد القلموني
30-06-2008, 11:37 AM
-10-
خديجة البنت الصغرى المدللة في أسرة غنية كبيرة ، اهتمام والدها المفرط بالأدب الغربي وخصوصا الإنكليزي منه جعلها تقبل منذ صغرها على قراءة الروايات الإنكليزية. وشيئا فشيئا وصلت إهتماماتها إلى حد المتابعة المستمرة للجديد في هذا الميدان. إضافة إلى ولعها بقراءة مطولات النقد الأدبي التي تحصل عليها تباعا و بصورة مستمرة ودورية من مجلات أدبية متخصصة في هذا الشأن كالغرانتا و غيرها .... وكان لمكتبة والدها الضخمة العامرة بألوان الكتب الأدبية و أنواعها كبير أثر في دفع اهتماماتها باتجاه الأدب بجميع أنواعه ، حتى صارت صاحبة ذوق رفيع فيه. إلا أن هذا الإهتمام لم يجعلها تؤثره في الدراسة الأكاديمية بل فضلت دوما أن تتجه نحو العلوم مبقية على اهتماماتها الأدبية متقدة وملتهبة وماثلة بقوة في هواياتها العامة ، و كأحد أهم أركان شخصيتها و حضورها الثقافي و الإجتماعي.
ثقافتها الدينية متواضعة وبسيطة جدا بل لا تكاد تضبط فيها فكرة واحدة بصورة علمية دقيقة. وكنتيجة طبيعية لسعة اطلاعها الأدبي هي منفتحة جدا ، و لكن مع ذلك هي ميالة إلى الإحتشام أكثر من ميلها للتهتك . وشكل هذا الميل دوما ميزة ملحوظة من ميزات شخصيتها المتفتحة القوية.
علي في نظر خديجة شاب متدين مثقف معتدل؛ استمعت له أكثر من مرة يتحدث في احتفالات طلابية يقيمها التيار الإسلامي في مناسبات إسلامية متعددة. فوجدته واسع الثقافة مرهف الحس متمكنا مما يطرحه يهيم بثقافة الحوار و احترام الآخر ، ولا يمل من التحريض عليها و دعوة الطلاب إلى تبنيها والتزامها.
لبث علي أياما يفكر فيما يعتزم القيام به من كسر حاجز لم يسبق له كسره ، و فتح باب لم يجرؤ يوما على فتحه ، واقتحام منطقة كانت حتى الأمس القريب محظورة في سلوكه و أدبياته .
في مخزونه الفقهي ألف مستند و مستند يمكن أن يبرر به ، ولكن عمقه النفسي و نسيجه التربوي يرفضان هذه الأدلة مجتمعة و يصنفانها في خانة الحيل الفقهية الكاذبة!
ازدحمت المشاعر في داخله و تناقضت ؛ فمن جهة ينظر إلى الأمر من خلال حس مرهف و عاطفة صادقة متخففة من جميع الضغوط و القيود تريه مشاعره اتجاه خديجة في صورة إنسانية وإطار فطري طبيعي .... ومن جهة أخرى تلح عليه خلفيته الإسلامية المتأصلة في صميم شخصيته ، والمتمحورة حول ثابت قدسية النص والتزام دلالته وفق مراد المتكلم به و هو الشارع الحكيم الذي لا يقبل خطابه تأويلا و لا تعطيلا ، على رفض هذه المشاعر و طرحها جانبا.
حاول أن يتخفف من ضغط هذا التزاحم المتناقض فلم يفلح ، فلجأ إلى ما يلجأ إليه عادة من تعليق هذه القضية و ضمها إلى غيرها من الطلبات الذهنية العالقة التي تكدست في عقله الباطن تنتظر معالجة و حسما. ولأن شروط الحسم عنده دقيقة و يصعب استيفاؤها فغالبا ما تنتظر هذه الطلبات فترات طويلة قبل إنهائها و الوصول فيها إلى نتيجة مرضية. والنتائج مصنفة و مرتبة بصورة عامة على مرحلتين: مرحلة القناعة العقلية المجردة أو ما قد يسمى بمرحلة انتفاء المعارضات العقلية الواضحة . و المرحلة الثانية و هي الأصعب عنده وهي مرحلة القناعة القلبية أو ما قد يسمى بانتفاء معارضات الهوى و النفس ، و هي التي عليها يبنى السلوك و من خلالها ينطلق العمل.
إبقاء القضية معلقة بلا حسم كان في أغلب الأحيان متنفسا ينطلق فيه من سجن الملائكية و الكمال إلى فضاء الواقعية حيث الضعف الإنساني متلبسا بنورانية تقوى أحيانا و تخبت أخرى.
وهكذا قرر علي أن يلتقي بخديجة و يجلس إليها يحادثها و تحادثه. وليكن الطلب مباشرا و دون وسائط من رسائل أو أشخاص.
انتظر انتهاء محاضرات اليوم المعتادة و اقترب منها و هي توضب كراريسها و تجمع أقلامها تستعد لمغادرة القاعة. ألقى عليها السلام فردت عليه بابتسامة هزت جوانبه . سألها عن وقتها إن كان يسمح بجلسة قصيرة في استراحة الجامعة. فوافقت على الفور. طلب علي منها أن توافيه إلى المكان بعد دقائق متعللا بأنه يود أن يجري اتصالا هاتفيا. بينما هو في الحقيقة لا يريد أن يذهب إلى الإستراحة يمشي إلى جانبها ؛ على الأقل هذه المرة فهي الأولى و اللقاء وجها لوجه على طاولة من طاولات الإستراحة أخف وطأة على قلبه و مشاعره. كما أنه لم يتعود أن يمشي مع فتاة جنبا إلى جنب ولا يعرف كيف يتصرف حينها ولا في أي شيء يتكلم . فهو شخصية جادة إلى حد كبير و ما سيقوله لخديجة محدد و واضح ومختصر ولا ينفع إلا في جلسة جدية ولقاء مباشر.
جلس علي إلى خديجة بقلب ذليل منكسر ؛ يكسره العشق مرة و الشعور بالذنب مرة أخرى.
عشق طارئ مفاجئ لم يخطط له و لم يتهيأ لاستقباله و لم يخطر له على بال.
وشعور بالذنب لأنه سيقارف ما لا ينبغي له مقارفته بحسب تربيته وما درج عليه منذ الصغر ، مع أن في جعبة ثقافته الشرعية سهام تبرير لو رمى بها عن قوس عقله المتمرد لأصاب و ظهر بحجة قوية و منطق متين.
تكلم علي و أفصح عن مكنونه و تكلمت خديجة و أفصحت عن مكنونها.
خديجة بالنسبة إلى علي عارض قوي لا يمكن دفعه كزهر الربيع لا يستطاع مقاومة سحره و جماله و عطره الأخاذ ، بل أكثر من ذلك كرائحة الأرض الزاكية بعد لقاء حديث بمطر السماء لا تستطيع الأرض أن تحبس هذا العطر و تحول بينه و بين أن ينطلق و ينتشر في الفضاء يزكم الأنوف و يهيج الذكريات.
قلب متعطش ظمآن أمطرته شفاه خديجة بكلماتها الرقيقة وابلا من رذاذ مشبع بأنفاسها ، بروحها ، بهيامها ، فاختلط بركام مشاعر جياشة هائجة أنتج قلبا مثقلا مرهفا يلتقط أدنى إشارة و يترجم أعقد عبارة.
وعلي بالنسبة إلى خديجة قلب في منتهى الطيب و عقل في قمة النشاط و روح في غاية الشفافية. عقل و روح و خلق و ثقافة عناصر متكاملة في شخصية فذة ذات حضور طاغ مؤثر .
هذا اللقاء كان بمثابة تعارف شرح فيه كل منهما شيئا عن شخصيته و فكره و توجهاته في الحياة ، إضافة إلى حقيقة شعوره نحو الآخر ، و موقع هذا الشعور من منظومة شخصيته الفكرية و الإجتماعية.
علي كان في غاية الوضوح بحيث أذهل خديجة شدة صراحته ، التي لم تجدها في شاب ولا في فتاة ممن عرفت قبل اليوم!
فحبه لها حب فطري صادق لا يملك دفعه . وفي الوقت نفسه ليس مستعدا أن يذهب فيه خطوة واحدة بعيدا عن تعاليم الإسلام ، الدين الذي لا حدود لقناعته به لأدلة كثيرة متضافرة ظهرت له بعد شك جعله طريقا إلى اليقين. فليس ثمة شبهة يمكن أن تزعزع إيمانه بهذا الدين العظيم ، وليس ثمة شبهة يمكن أن يستسلم أمامها و لا يجد ما يدحضها به من عقل سليم و دليل متين. وهذا الجانب العقلي المتحدي في شخصيته انتبهت له خديجة مسبقا فيما تابعته من خطاباته في احتفالات المناسبات الدينية الطلابية.
لكن الجانب الجديد الذي أذهلها هو تركيزه على ضرورة فك الإرتباط بين ما يقوله و ما يفعله. فبحسب علي ما يقوله قد يكون قناعة منطقية يمكنه بها أن يدفع كل ما يعرض له من معارضات و شبهات عقلية ؛ ولكنه لا يعني بالضرورة كونه قناعة قلبية يمكنه أن يدفع بها معارضات الهوى و النفس.... باختصار و بوضوح شديد أخبرها علي أنه ليس ملاكا و أنه قد يقول شيئا و يعجز بضعفه الإنساني أن يتمثله ، لكنه لا يبرر هذا العجز و لا يعتذر له و لا يجرؤ على إلباسه لباس الصواب و الحق. وفي الوقت نفسه لا يعوقه هذا الضعف و لا يثبط من عزيمته بل يجعل منه دافعا متقدا ليستمر في بحثه عما يرقي نفسه و يشحذ همته...
كلمات في منتهى الصراحة و الوضوح لفتت قلب خديجة و أذهلت عقلها و زادت من تعلقها بشخصية علي.
علي في هذا اللقاء لم يكن يستعرض بل كان يكشف نفسه لخديجة من خلال عناوين واضحة و قوية و مباشرة . هو لا يريد لعلاقته بخديجة أن تكون بمعزل عن فكره و قناعته. و إذا كان ثمة ما يجعله يضعف على مستوى السلوك و الإلتزام فليس هذا الشأن أبدا على مستوى الفكر و المنهج. لأن عدم الخضوع للحق ليس كالضعف أمام الأمر و النهي. ذلك أن رفض الخضوع للحق هو كبر لا مبرر له ، بينما الإخفاق أمام الأمر و النهي قد يحدث بسبب غفلة ما وضعف جبلي لا ينفك ملازما صاحبه ما دامت الروح في البدن.
في ختام الجلسة وبعد أن أفرغ كل منهما ما في داخله من مشاعر و أفكار ، إذ هبت ريح خفيفة حملت في طياتها عطر زهر الياسمين الساحر . فدارت رأس علي و هاجت ذكريات جميلة ، صور هنا و هناك و أحداث عدة ... لكن مخيلته توقفت عند مشهد جلوسه مع جعفر في أيام خوال يتلوان كتاب الله وسط حديقة عبقة بعطر الياسمين.... هذا المشهد ثبت في ذهنه و لم يستطع له دفعا ! ....
أيمن غ القلموني
30-06-2008, 12:24 PM
شيء مذهل أخ أبو محمد ، بارك الله بكم.
لا تغب طويلا ، ناطرينك.
أبو محمد القلموني
01-07-2008, 01:40 PM
-11-
ومرت الأيام و علي يلتقي خديجة ، و يحادثها و تحادثه . يتحدثان في الدين و الفلسفة و التاريخ و الأدب. إذا جلس إليها ذهل عما حوله و كان عذوله الوحيد في المجلس هو الوقت و الزمن ...
جعفر الذي علم بالخبر لم يترك عليا من نصيحته فأقبل عليه مرات و مرات ينصحه بشفقة و حرص و ألم. علي في البداية كان يكتفي بالإنصات و الإطراق في صمت. لكنه بعد مدة و بعد أن أكثر عليه جعفر ناقشه في هدوء و أظهر له بعض ما عنده من ملاحظات على كلامه . ثم احتد النقاش بينهما ذات مرة و حمل جعفر بقوة على علاقة علي بخديجة. فناقشه علي بتمرد لافت و أظهر براعة في نقض حججه و دحض كلامه و ظهر عليه و أبطل ما أتى به . فانفض المجلس و جعفر يعتصر فؤاده ألما . إنها المرة الأولى التي يرى فيها بشاعة الجانب العقلي المتحدي في شخصية علي! هذا الجانب الذي كان من أرقى و أروع ما يميز عليا في نظر جعفر !....
بعد ذلك كف جعفر عن مناقشة علي ، و لم يعد يجهد نفسه في بذل النصيحة له. علي الآن يفهم تماما مآخذ جعفر عليه و هو يدرك جيدا موقع كلامه من الشريعة . و ليس يعجز عليا تبين الحق في هذه القضية . وهو قد بذل جهده و زيادة مع علي. فماله تكاد تذهب نفسه حسرات عليه فليتركه وما اختار ، فقد آن الأوان للإستراحة من عناء رحلة شاقة لم يجن منها إلا مضيعة للوقت فيما لا طائل تحته.!!!
نعم .....علي أخي و صديقي منذ الصغر......... و لكن ماذا أفعل له إن أحب أن يمشي في طريق الغواية مختارا طائعا يصم أذنيه عن كل نصيحة؟!
ليس له عندي بعد اليوم سوى الدعاء في ظهر الغيب!
وهكذا حسم جعفر أمر علاقته بعلي و اختزلها إلى مجرد دعاء له بالهداية و الرجوع إلى الصواب.
وفي أول لقاء له مع الشيخ محمد صارحه بما حدث لعلي ، و ما فعله معه. ثم ما انتهى إليه أخيرا من تجميد العلاقة به إلى حين يغير موقفه و يعود إلى رشده.
الشيخ محمد طلب من جعفر أن لا يجمد مشاعره اتجاه علي ، بل ليجعلها دائما متقدة ملتهبة إذ ليس من الخير تركه حين يكون بأمس الحاجة إلى العون و المساعدة. فما فائدة الأخوة إذا لم تكن تذكيرا في وقت الغفلة و إعانة في وقت الصحوة؟!
لكنه مع ذلك طلب من جعفر أن يخفف من علاقته الظاهرة بعلي وأن يظهر له ما يشعره بفتورها. فإن هذا في ظن الشيخ ربما كان وقعه مع الزمن شديدا على نفس علي مما قد يؤثر فيه ، و يضطره إلى مراجعة حاله و مآله.
وهكذا و في خطوات سريعة متلاحقة انتقل علي من حال إلى حال ، و غرق في مفاهيم الحداثة و الإنفتاح إلى شحمة أذنيه. وما هي إلا أيام قليلة حتى صار منافحا عن هذا الخط منظرا لهذا المنهج ومؤصلا له. وهو فيه لا يتبرأ من فكره الفلسفي السلفي بل ينطلق منه و يؤكده كما يعتقد. لأن سلفيته الفكرية هي فلسفة تتعمق في أصول الإسلام السلفية و تقرؤها على ضوء من التمرد العقلي المستنير. لذلك فهو لا يعد نفسه خارج الإطار الإسلامي من زاويتي الفكر و المنهج ؛ بل يظن نفسه في وسط الدائرة الإسلامية لم ينتقل عنها إلى غيرها قيد شعرة. فجل ما تغير فيه حسب ما يرى هو رؤية فقهية متجردة من هواجس و تهيؤات لا ينتجها النص ذاته ، و إنما ينتجها موروث اختلط بعادات و تقاليد لم تنطلق من الشريعة و لا يسندها الدليل.
التمرد كان شعاره ؛ التمرد في طرح أصول الإسلام الفكرية و العقائدية دونما ضوابط و لا قيود و لا مواربة ، يقول فيها ما يعتقده الحق و الصواب وإن خالف ما عليه العامة و ناقض ما ورثوه عن الآباء و الأجداد. وتمرد في اختياراته الفقهية جعلته لا يقبل من الموروثات الفقهية إلا ما كان الدليل يدل عليه بصورة واضحة لا غبش فيها. وأما الآراء التي تأتي في سياق سد الذريعة و فعل الأحوط و غيره فلا يلقي لها بالا و لا يعتد بها .....
و ظل جعفر ثابتا ، مرابطا ، متمسكا بما ربي عليه منذ الصغر لا يحيد عنه قيد أنملة. زاوية من زوايا المسجد يستمع فيها إلى علم من علوم الآخرة خير من كثير مما يسميه بعض الناس ثقافة و أدبا و فنونا و معاصرة.
علي كان يلاحظ بدقة إهمال جعفر له و تغير حاله معه. فمن صديقين لا يكادان يفترقان إلى مجرد زميلين لا تربطهما سوى الدراسة الأكاديمية . فيحدث أن يمر اليوم و اليومان وفي بعض الأحيان الأسبوع دون أي لقاء ولو عابر بينهما. وكان هذا يؤلم عليا بلا شك ، ولكنه ألم مع سكرة تغطيه و تقذف به بعيدا في غياهب التجاهل و التناسي في كل مرة يلامس أطراف مشاعره وأحاسيسه.
مع خديجة ينسى علي نفسه و يستغرقا معا في منظومة فكر متحرر ، و جمال محتشم ، وأدب متفجر . منظومة فريدة تجتمع فيها أطراف سعادة لا يجدها كثيرون إلا في أحلام لا تتحقق ؛ بينما يجدها كل من خديجة و علي واقعا يوميا معاشا.
يلتقيان فيتحدثان في كل شيء : في الدين و الأدب و الفلسفة . أطلعته خديجة ذات مرة على لائحة بأسماء كتاب اختارتهم مجلة غرانتا كأفضل كتاب لسنة من السنين. فجرى بينهما نقاش أدبي يحلل نتاج بعض هؤلاء الكتاب و يقارن بينها. وتوقف علي عند اختيار سلمان رشدي على تلك القائمة وسبب هذا الإهتمام المريب به.......
علاقته بخديجة لم تحل بينه و بين التواصل الدعوي في وسط خليط هائل من أفكار متناقضة ، و أهداف و تعقيدات متشابكة متنافرة. جعل علي يهتف في هذا الوسط بما يعتقد أنه صواب وحق ، فلم يمل من مناظرة تيارات الإلحاد و العلمنة . يناقشهم في لقاءات مباشرة أو على صفحات المجلات الطلابية. فيعلوهم في كل نقاش و يهزمهم في كل مبارزة.
جعفر كان يتابع بعض هذه المعارك و يتعجب من علي كيف يجمع بين ما هو غاية الدقة و المتانة و الأصالة في تبني أصول الإسلام الفكرية الصافية و الدعوة إليها بجرأة و قوة ، و بين غاية التساهل و التهلهل الفقهي في تبني أقوال تعد كالثورة على قيم اجتماعية متفق عليها لا يتكلم فيها غالبا إلا أهل الزيغ و الضلال ! هذا كان لغزا حاول جعفر حله مرارا و تكرارا فأعياه دون جدوى!
ومضت الأيام و علي يحلق بجناح واحد يحركه بقوة متجاوزا العقبات واحدة تلو الأخرى ؛ يرفض السقوط !
ولكنه كان يسقط المرة تلو المرة ولم ينفعه جناحه الذي طالما فرح به وانتشى بضخامته و اتساعه! فإنه مهما كان حجمه لن يكفي لوحده لتحقيق توازن مريح ! التوازن لا بد له من جناحين يخفقان و ليس مجرد جناح واحد !
كان يراقب جعفرا من بعيد فيجده كلما فتشه على ما هو عليه . خشوع و التزام و بساطة . السعادة في عينيه و الطمأنينة في قلبه و التوازن في سلوكه.
لذلك وبعد سقطات متتالية لم يستطع لها دفعا ، بدأت نفسه تتوق إلى طمأنينة كطمأنينة جعفر يستريح معها من سفر الجناح الواحد المضني!
لكن كيف يجد هذا الذي وجده جعفر؟ المشكلة أن عليا لا يريد أن يستبدل جناحا بجناح ، ويرفض أن يحلق بأجنحة متكسرة موقوصة لا تنسجم مع ما معه من عقل منطلق ومنطق منفتح . إنه يريد آخر في قوة نظيره ينبثق منه و يتوافق معه ليشكلا معا ثنائي الطمأنينية المنشودة.
بحث طويلا عن الجناح الآخر لكنه لم يجد بغيته !
فعاد يراقب جعفرا و يتأمل في حاله ؛ جعفر في نظر علي عصفور لا يحلق إلا في سماء الطهر ولا يغرد إلا في سرب الطاهرين. إذا أخذته سنة من شهوة بكى من ألم وخزها ، ولكنه لا يجاريها ولا يستسلم لها ولو أنفذت مخالبها في صميم قلبه. بل يظل يدافعها و يدافعها حتى تموت في جسد منهك متعب!
وهو طيب القلب سمح النفس يستحيل أن يقصده أحدهم بحاجة يملكها ويتوانى عن بذلها ولو كان لا يملك غيرها! و لكنه مع ذلك عزيز النفس أبي الروح لا يذل نفسه إلا لله بل لا يكاد يطلب من سواه شيئا إلا فيما ندر!
لهذه الصفات أحب علي جعفرا من أعماق فؤاده . وها هو اليوم يتأمل في هذه الهبات الربانية الجميلة فيزداد حبه لجعفر و يتألم لحال الجفاء بينهما.
فعلي يعشق كل ما هو جميل و يهيم بكل ما هو عذب رقراق كنفس جعفر و روحه الصافية النقية.
صحيح أن الصور والأجساد تستهويه و تصرعه من حين لآخر ، لكنها أبدا لا تبلغ ما يبلغه جمال الروح و سحر الحقيقة في حسه و وجدانه.
روحه في بحث دائم عن الجمال و عقله ناشط دوما يفتش عن الحقيقة . لأجل هذا هو بحاجة ماسة إلى جناحين يطير بهما إلى وسط تتناغم فيه الروح مع العقل و يتزاوج فيه الجمال مع الجلال ! وسط سيكون جنة علي و رياض أحلامه و رؤاه ، يعلق كطائر في ثمارها و خضارها اليانع البهي.....
الزاهر
01-07-2008, 03:55 PM
وبعدين؟؟ّ!!
أيمن غ القلموني
01-07-2008, 04:08 PM
مشوقة بالفعل .
أخ أبو محمد ، ألم تجمعها في كتيب ؟
أبو محمد القلموني
02-07-2008, 06:28 PM
أخي العزيز أيمن هي عندي في ملف ورد . بعد أن أفرغ من إضافة جميع حلقاتها هنا أرسل بها إليك و إلى من يحب من الإخوة إن شاء الله تعالى.
بارك الله بكم جميعا و رزقنا و إياكم السعادة و الأمان في الدارين
أبو محمد القلموني
02-07-2008, 06:31 PM
-12-
ذات مساء رن الهاتف في منزل علي وإذا بالمتصل جعفر . وبعد السؤال عن الأحوال ، أخبر جعفر عليا بدعوة الشيخ محمد لهما على العشاء هذه الليلة . وافق علي على الفور فقد مضى زمان لم ير فيه الشيخ ، كما أنها فرصة لإعادة المياه إلى مجاريها مع جعفر.
وجاء الوقت الموعود . توجه علي إلى منزل جعفر ثم ترافقا إلى منزل الشيخ .
استقبلهما الشيخ استقبالا حارا وعاتب عليا لطول غيابه و انقطاعه عنه. اعتذر علي بما اعتذر به من كثرة المشاغل و تزاحم الوظائف و الواجبات مما حال بينه و بين وصل أقرب الناس إليه و ألصقهم به ..... ثم حضر العشاء فشرع الثلاثة يأكلون و الشيخ يرسل دعاباته بين اللقمة و اللقمة ، مما أضفى على اللقاء بهجة كانت النفوس متعطشة إليها أشد التعطش.
بعد العشاء طلب الشيخ من علي و جعفر أن يتبعاه إلى حديقة المنزل .
جلس الجميع على سرير من العشب الأخضر . يلمع فوقهم بدر يرسل أشعته الخافتة في أرجاء سماء صافية ممتدة. وعطر زهر ليلي يداعب الأنوف و يستنهض الذكريات ، و يرقق القلب لتنسل شجونه و أشواقه عبر ثقوب الزمن تعانق الماضي البعيد!
وفيما كان علي مستغرقا في عرس شاعري تتراقص فيه خواطره على أنغام ناي الشجن و الشوق ، إذ قطع عليه حفله صوت الشيخ ينطلق في صفاء و رقة يخاطب جعفرا و عليا و يسألهما أن ينصتا لدقائق يحدثهما فيها بأمر هام مفيد.
وابتدأ الشيخ حديثه ، و جعفر و علي ينصتان إليه بانتباه شديد:
أخواي الكريمان يحضرني في هذا المقام عبرة شريفة سالت على خد حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم مع فراغه من طعام شهي قدم له بعد جوع قاتل ! فقال صلى الله عليه و سلم وقد دمعت عيناه ، بأبي هو و أمي و روحي و كل ما أملك ، خبز و لحم و بسر و ماء .... والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة....
فإذا قارنا حالنا بحاله وجدنا عجبا إذ من منا يصدر عن المائدة فيبكي و يقول ما قاله صلى الله عليه و سلم؟!
هل تعرفون لماذا يفعل رسول الله صلى الله عليه و سلم هذا و نعجز عنه نحن ؟!
...........وكان صوت الشيخ يتهدج عشقا و شوقا كلما تلفظ باسم الرسول صلى الله عليه و سلم .......
يتابع الشيخ فيقول : لأن رسول الله صلى الله عليه و سلم استقر في قلبه ما لم يستقر في قلوبنا . لقد استقرت في قلبه معرفة الله تعالى فلذلك كان أكثر الناس استحضارا لربه و أكثر الناس حبا و عشقا له سبحانه و أعظم الناس خوفا منه و مراقبة له. وكان غرس هذه المعرفة في قلوب الصحابة الكرام أعظم همه و منتهى غايته. لأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يبعث بشيء سوى تعبيد الناس لرب الناس و إفراده بهذه العبادة. ولما كان الإنسان قلبا و جوارحا و كان القلب هو محل العقل و التوجه كان تعبيد الإنسان لربه لا يعني شيئا سوى تعبيد القلب له سبحانه. فصار التعريف بالله هو طريق تعبيد الإنسان لله عز وجل. ولأجل هذا قيل في أبي بكر أعظم الناس إيمانا بعد رسول الله صلى الله عليه و سلم : والله ما سبقكم بكثرة صلاة و لا صيام و لكن بشيء وقر في قلبه. ولهذا كانت الخوارج رغم كثرة صلاتها و صيامها كلاب النار لأنها تقرأ القرآن لا يجاوز التراقي إلى القلب.
ومن تأمل في سيرته و سنته صلى الله عليه و سلم وجد أن غاية همه كانت في تحقيق هذا المطلب . ولذلك كان لزاما على من يريد أن يغرس معرفة الله تعالى في قلبه أن يعود إلى الكتاب و السنة يقرؤهما كما كان الصحابة يقرؤون : معرفة للحركة و علم للعمل . و القرآن من أوله إلى آخره هو تعريف بالله و تعليق للقلب به. يقول تعالى : ( هذا بلاغ للناس و لينذروا به و ليعلموا أنما هو إله واحد و ليذكر أولوا الألباب ). ومن تأمل في سنته وجد الأذكار والمواعظ و عد النعم و كلها تعريف وتذكير بالله أنه المتفرد بالنعم جميعها المالك للذرة و المجرة و ما بينهما لا يشذ عن ملكه و إرادته شيء .....
وهذا لو غرس في قلب المرء صارت حاله غير الحال و طريقه غير الطريق و همه غير الهم. فإن الإنسان إذا علم و استقر في قلبه أن وجوده في هذا الكون هو محض فضل الله عليه ليس لأحد فيه سوى الله أي فضل و أن جميع هذه النعم التي يرفل بها إنما هي محض منة الله عليه ، و أنه لا يتحرك ولا يقوم و لا يقعد إلا بقوة الله و حوله و إرادته و لا يرف له جفن إلا بإذنه و لا يخفق له قلب إلا بأمره ....... إذا استقر هذا في قلبه صار مستحضرا لربه في كل حركة و كل سكنة ، وصار الله أحب إلى قلبه من كل أحد . وكلما قويت هذه المعرفة و كان استقرارها في القلب أمكن كلما قوي هذا الإستحضار و هذا الحب ، حتى يصير عشقا خالصا لا يعود يأنس معه القلب بأحد غير الله عز وجل . فتستوي عنده مذمة الناس و مدحهم وقربهم و بعدهم.
وهذا هو التوحيد الذي لأجله خلق الله الخلق و بسببه ابتعث الرسل . فإن الله ما خلق الخلق إلا للعبادة( وما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون) وهذه فسرها أحد السلف كما في جامع بيان العلم لابن عبد البر: إلا ليعرفون. وهذا من فقهه لأن القلب إن عبد صار صاحبه عابدا و إن غفل و تعلق بغير الله صار صاحبه في عداد الغافلين. والرسل لم تبعث بشيء سوى التوحيد كما أخبر ربنا سبحانه في آيات كثيرة لأن التوحيد و إفراد الله بالتوجه و التعلق هو الحق و الحقيقة ، فهو بالتالي ما يصلح الإنسان و يسعده. وتنكبه يعرض المرء للشقاء في الدنيا و الحساب في الآخرة. إذ بماذا نجيب ربنا يوم نخرج من هذه الدنيا فيسألنا عن نعمه التي نرفل بها ؟!............
الشيخ يشرح و يفصل و علي مطرق رأسه تقفز الدموع من عينيه ، تسيل على خديه ثم تسقط على الأرض تنساب بين الحشائش لتصل إلى التراب فتختلط به. و قلبه يخفق بقوة و هيجان و عقله ألغى جميع العمليات الذهنية العالقة و استبدلها بواحدة عنوانها التوحيد هو الحقيقة!
واستمر الشيخ يتحدث إلى أن بدأ علي ينحب وتصدر منه أصوات و آهات. فتوقف الشيخ عندها و سالت الدموع من عينيه فتحركت بها دموع جعفر. وصار الثلاثة ينحبون .
ثم قام الشيخ قائلا: خير ما نفعله في هذه اللحظة أن نقف بين يدي الله عز وجل. فقام الشيخ و كبر و صف خلفه علي و جعفر يصليان بخشوع و استحضار.
سجد الشيخ سجودا طويلا . و أحس علي كأنه يسجد للمرة الأولى فانطلق يناجي ربه و يكلمه و يأنس به .....
انفض اللقاء و عاد الجميع إلى منازلهم. وكانت ليلة لم ينم فيها علي فأحياها بالإستغفار و السجود و مناجاة الله ، و معاهدته على الطاعة و الخضوع و حمل رسالة التوحيد.
الزاهر
02-07-2008, 09:19 PM
متابعون بتلهف!!!..........:)
محمد أحمد الفلو
02-07-2008, 10:54 PM
فقال صلى الله عليه و سلم وقد دمعت عيناه ، بأبي هو و أمي و روحي و كل ما أملك ، خبز و لحم و بسر و ماء .... والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة....
يشهد الله يا أخ أحمد بأنني ما أكلت أكلة فرحت بها إلا تذكرت حديثك هذا لنا بعد غداء لنا في مدرسة المنار .... ( ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)
وبالمناسبه ... كان الغدا دجاج بالصينيه ... شويلنا ياهن الأخ الحلبوني عند عيشه
واصل ... بارك الله بك
أبو محمد القلموني
03-07-2008, 04:45 PM
بارك الله بالإخوة حميعا و كلي شكر و امتنان لتعليقاتم الجميلة الرائعة.
أبو محمد القلموني
03-07-2008, 04:52 PM
-13-
في اليوم التالي انطلق علي إلى الجامعة بوجه آخر و هم جديد. كل شيء كان مختلفا في ذلك الصباح حتى نسيمه الذي داعب صفحة وجهه . لقد صار كل شيء يذكره بالله و يحضره معه و يربطه به. أليس هذا ما كان يبحث عنه؟! نعم هو كان يبحث عن جناح يتوازن به ، فوجده أخيرا. و سابقا كان يقف في الطبيعة فيشعر أنها تكلمه و لا يفهم كلامها ! أما اليوم فقد أصبح يفهم كل ما تقوله ! حتى أدنى حركة شفاه صامتة تصدرها صارت كلاما واضحا و مفهوما!
في ذلك الصباح مر علي باستراحة الجامعة ، فلم يلتفت أدنى التفاتة إلى خديجة التي كانت تنتظره كما في كل صباح لتشرب معه الشاي قبل ابتداء المحاضرات. ذهلت خديجة ! و قوي ذهولها لما فعل علي نفس الشيء في استراحة الغداء ، حيث تجاهلها تماما و بقي في المصلى و لم يخرج منه إلى حين ابتداء المحاضرة التالية! ثم مع انتهاء الدوام فعل علي نفس الشيء! فهاجت نفسها و كادت تختنق بعبرتها! لماذا يفعل علي هذا؟! ما الذي فعلته له؟! ما الذي غيره ؟!
وازداد إلحاح هذه الأسئلة في نفسها مع الأيام . وأورثها هذا حزنا شديدا. وطفقت تسائل نفسها : أيعقل أن ينسى علي كل ما كان بيني و بينه؟! أيعقل أن يكون شعوره نحوي كذبة لم أكتشفها إلا الساعة؟ !
كلا ! و ألف كلا! علي لم يكن كاذبا لقد كانت مشاعره صادقة و حقيقية وهي أعلم الناس بهذا! فما السبب إذا؟!
اشتغلت بمراقبته فلاحظت عودته إلى جعفر و كثرة جلوسه معه . إذ لا يمر يوم إلا و تراهما من بعيد جالسين في المصلى يتهامسان حينا و يقرآن في كتاب الله حينا آخر.
أيكون جعفر هو السبب وهي لا تدري ؟! أيعقل أن يخضع علي المتمرد لجعفر و يسلم له ؟!
هي تعلم أن جعفرا يعترض على علاقتها بعلي ، و أنه حاول معه مرارا و تكرارا لكي يضع حدا لهذه العلاقة غير الشرعية كما يصفها. لكن ما تعلمه هو أن عليا حاور جعفرا و بين له وجة نظره المخالفة. وذات يوم جاءها مهموما مغموما فلما ألحت عليه شرح لها ما جرى بينه و بين جعفر و ما يشعر به من أن جعفرا ربما يهجره بسبب اختلاف في الرأي بينهما! وتبين لها في حينه ما يكنه علي لجعفر من حب و مودة .......
لكن هذه الفكرة لم تدخل رأسها فاستبعدتها نهائيا ، خصوصا و أن عليا كان حتى أيام قليلة لا يرى جعفرا إلا نادرا و لفترات موجزة و سريعة. ثم إن معرفتها بعلي تجعلها تستبعد هذا الإحتمال كليا.
وحارت خديجة في أمر علي . و مرت أيام و أيام و هي تعاني ألم الفراق و تتجرع مرارة الهجر ، بعد أنس شربت فيه من كأس العشق حتى ثملت و تنفست فيه من مسك الهيام حتى انتشت!
في المنزل كانت تتصرف بغرابة شديدة ؛ فبعد أن كانت كزهرة متفتحة لا تجلس مجلسا إلا عبق بأريج حيويتها وإنطلاقة روحها المقبلة على الحياة بقوة و اندفاع . صارت كثيرة الصمت قليلة الكلام لا تكاد تجلس إلا وحيدة منفردة تتأمل في المجهول و تحاكي الغيب و تقلب في صفحات الماضي!
وشعر بهذا والدها فتسلل إلى غرفتها ذات يوم خلسة ، و جلس إليها يداعبها و يلاطفها علها تبوح له بسرها الدفين. في البداية آثرت الصمت و الإخفاء . لكن بعد برهة وجيزة حرك ملل الوحدة و ألم الوحشة في نفسها دافع الكلام . فسألت والدها عن علاقة حميمة متينة يقرر أحد طرفيها أن يوقفها فجأة و دون سبب ظاهر واضح! فكيف للطرف الثاني أن يعلم بحقيقة ما حصل؟!
نظر الوالد إلى ابنته بعطف كان يشع بريقه في عينيه وقال: يا ابنتي من حقيقة الطرف الذي أوقف العلاقة يعلم السبب. فلا بد للشريك أن يعود إلى حقيقة شريكه و يراجع صفاته و أسس شخصيته الإجتماعية ليعثر على ما قد يدنيه من الجواب.
أعجبها جواب والدها فقررت إجراء هذه المراجعة لتحاول تبين السبب الكامن وراء خطوة علي.
شكرت والدها و قبلته. و انطلقت من المنزل بسيارتها تجوب الطرقات إلى أن استقرت في مكان كانت تختلف إليه كثيرا مع علي .
عندما نزلت من السيارة كانت نفسها تتطلع إلى لقاء علي في هذا المكان الذي طالما التقته فيه. لكن أملها خاب و نفسها كسرت لما وصلت ولم تجد عليا!
جلست خديجة حيث كانت تجلس مع علي سابقا ، فطلبت قدحا من الشاي ثم شرعت تتأمل في صفات علي و تستعرض أسس شخصيته كما أشار عليها والدها. لم تلبث قليلا حتى بدأت تعاليم علي تنشط في عقلها و تنساب من الذاكرة إلى الذهن .
التحليل المنطقي هو أساس من أسس التفكير المنهجي... إذا كنت في صدد تحليل مسألة ما فلا تغفلي مقدمة واحدة ..... المقدمات الصحيحة السليمة و التفكير المنهجي المنطقي يقود إلى النتيجة .... تحليل النتيجة و إعادة تفكيكها و دراستها مرحلة متقدمة من مراحل التفكير المنهجي السليم ..... النتيجة الصحيحة ليست بالضرورة أول فكرة تلمع في الذهن .... تمحيص الأفكار يكون بنقدها نقدا شديدا و إيراد جميع الإعتراضات عليها .... إذا وصلت إلى نتيجة معينة بعد طول بحث و تأمل فلا تجعلي منها بذاتها أصلا يرد إليه دون أسسها المنطقية التي أدت إليها ، وكوني حاضرة وجاهزة دائما إلى تغييرها و تبديلها إن ظهر لك ما يخالفها .......
وهكذا استغرقت خديجة وقتا في استحضار هذه الكلمات وما كان يعقبها من شروح مفصلة يسوقها علي بأسلوب جذاب يسهل ما فيها من تعقيد و صعوبة ، و يصيرها سهلة المنال قريبة من العقل و الذهن.
رشفت من قدح الشاي و عادت لتتأمل و تفكر على ضوء هذه القواعد:
حب علي كان حبا صادقا وحقيقيا . و استدلت لهذا بأحداث و أحداث و بسلوكياته العامة و بما كان يظهره أمامها....
علي لا يصدر إلا عن تلك القواعد و لا يختار إلا وفق منطقها الدقيق.....
علي يحب الحق و يعشقه و يبحث عنه كثيرا ....
علي رجاع إلى الحق و لا يحول بينه و بين الإعتراف به و الإذعان له أي حائل ....
علي كان واعيا و مدركا لحقيقة هذه العلاقة و موقعها من الشريعة أيما إدراك ، فكان يعرف صوابها من خطئها و دخنها من صفائها .... وهو في هذا يقول الحق و لو على نفسه ...
علي انقطع فجأة و لم يفصح عن السبب رغم شدة تعلقه بخديجة ....
وبعد برهة من التأمل واستعراض المقدمات وجدت خديجة أن عليا وصل إلى شيء استولى على قلبه وعقله ، فسهل وهون عليه أمر إيقاف هذه العلاقة .... لكن ما هو هذا الشيء؟! وما حقيقته ؟! و هل توصل إليه علي فجأة؟! أم جاء نتيجة مرحلة طويلة من التأمل و البحث؟!
أسئلة كثيرة جعلتها تحتار أكثر فأكثر.....
نهضت من مكانها و توجهت إلى سيارتها و خواطر شتى تدور في ذهنها وجرح عميق ينزف في داخلها . ارتخت يدها و هي تمسك بمقود السيارة فارتمت عليه بأسى ، وساءلت نفسها بزفرة عميقة خرجت تتصدع في أنحاء صدر منقبض : لماذا؟! .... وشعرت بالضعف و هجمت عليها أفكار يائسة ...
وهي تنظر إلى الأفق تراءت عليا في مشاهد قوة و إصرار واندفاع ساحر ، وكلمات مؤثرة تشحذ العزائم و تبلسم الجراح ؛ فبدأت يداها تشتدان شيئا فشيئا ... و إحساس راحة و أمل تشيعه تلك الكلمات في نفسها الهائجة فتبدأ بالهدوء و الإرتخاء قليلا قليلا ....
أدارت مفتاح السيارة. رفعت رأسها وانطلقت في الطريق ... هذه المحنة هي الأولى من نوعها في حياتها ، فلتقابلها بكل ما تملك من تصميم و تحدي ! وهكذا قررت خديجة أن تواجه الموقف بقوة و بإصرار لا يعرف اللين ...
في الطريق لم تكن تعرف إلى أين تتجه فالأفكار تتنازعها و عقلها بدأ ينشط لتحليل المشكلة بحثا عن الحل الأمثل .... لكن عجلات سيارتها كانت تذهب بها على غير شعور منها و بأمر من عقلها الباطن ، الذي لا يزال أسير الماضي ، إلى أطلال ذكريات الأمس القريب ....
حُسَينْ ... !
04-07-2008, 01:17 AM
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته
اخ ابو محمد بدنا نبلش بالطباعة :) ما شاء الله لا يمل من اعادة القراءة و التمعن في الافكار و اكيد قراءتهم على الورق اجمل بكثير من على الكمبيوتر:)
وفقك الله لما يحب و يرضى
جزاك الله كل خير
أبو محمد القلموني
04-07-2008, 08:21 PM
-14-
لم يستشعر والد خديجة أي تخوف مما حصل و لم يؤرقه أن تكون خديجة على علاقة عاطفية ... هذه السلبية آلمته و جعلته يقلق من نفسه ويسائلها عن السبب .... لكنه بعد التدقيق في الأمر اكتشف أن السبب يرجع إلى ثقته العمياء بخديجة ... أقلقته هذه النتيجة أكثر فهذا يعني أنه سيعاملها وفق هذه الثقة مستقبلا و دائما ... لم تعجبه الفكرة .... فحاول أن يقنع نفسه بضرورة التعاطي مع خديجة في هذا الظرف بحرص أكبر ومتابعة أوسع وبصورة مباشرة ودقيقة ... لكنه فشل ، لأن هذا الأسلوب يتناقض مع أبسط مبادئه وقناعاته الذاتية .... فحار في أمره و عاد يواسي نفسه و يبدد مخاوفه التي أنتجتها تلك الثقة بهذه الثقة عينها ! فراح يسترجع في شخصية خديجة ما يرفع هذا القلق و يزيله بالكلية ...
ليلا خرجت خديجة إلى شرفة المنزل . جلست على مقعد فاخر وثير تنظر إلى الأفق.
ظلام دامس يغطي طبيعة ساحرة ممتدة وبقع ضوء خافتة تنتشر هنا و هناك في الأنحاء . خديجة تبحر بعينيها في عباب هذا الظلام الكثيف وتغوص في أعماقه تبحث عن المجهول . ثم ترتد إلى واحدة من تلك البقع المضيئة تسترد أنفاسها وتستريح من عناء التحديق في الظلمة.
خواطرها وخيالاتها كانت كذلك تماما . مساحة من الظلام الممتد وبقع ضوء متناثرة . المشهد كان في حسها واحدا. لقد كانت متناغمة تماما مع ما تراه.
هبات نسيم باردة تداعب وجهها و أطرافها بلا انقطاع . لم تكن مرتدية ما يكفي لمقاومتها ، ومع هذا لم تشعر بوخز صقيعها . ظلت أطرافها دافئة تستمد حرارتها من قلب استحال جمرة شوق ملتهب!
أمواج خيالاتها تنطلق دائريا حول تلك البقع المضيئة ..... يزودها لهيب الشوق بطاقة تدفعها بقوة في الوسط المعتم ، لكنها ما تلبث أن تتكسر و تتحطم و تتبعثر على صخر الواقع المظلم!
أمضت الليل بطوله تتأمل في ثنائي الظلمة و النور. ثم اكتشفت أن النور مهما كانت خافتا يستمد قيمته من الظلام الذي يلف ما حوله. نتيجة أشاعت في نفسها طمأنينة ابتعثت في قلبها أملا جديدا....
علي كان في شأن آخر ... لازمه منذ استمع إلى تلك الكلمات الساحرة تخرج من فم الشيخ رقراقة عذبة تروي ما جدب من أنحاء قلبه و تسقيه بما هو خير ....
الليل عنده خلوة العاشقين يغلق عليه باب غرفته ، و في زاوية من زوايا الغرفة مغسلة قديمة تحكي تضاريسها قصة زمن غابر ولى بآلامه و أفراحه . كم جلس قبلا يراقبها ويتأمل تفاصيل تلك التضاريس ، ليعود مع كل تفصيل فيها إلى الزمن يستخرج منه الذكرى! أما اليوم فشأنه معها مختلف ؛ يقف عندها ليتوضأ والدموع تقفز من عينيه تسابق قطرات الماء المنهمر !
يفتتح ليله مع القرآن ؛ يقرأ الآيات بصوت متهدج ملؤه العشق . إنه كلام ربه و مولاه ، كلام من خلق الوجود و برأ الخلق ، كلام من هو أعلم به من حاله ، كلام من يعلم السر وراء كل حركة و سكنة و ناموس و قانون في جسد الإنسان و نفسه و في هذا الكون الساحر الجميل .... لذا كانت عنايته بالتدبر أعظم عناية لا يكاد يخلي حرفا إلا و يقف عنده ، يتأمل في المعنى و مقتضياته في الواقع . لقد كان كمن يقرأ رسالة من حبيب غائب طال انتظاره!
عقله نشط متوثب لإلتقاط المعاني و قلبه في تفاعل مستمر معها .....
بعد أن يفرغ من تدبر ما شرع بتدبره ، يقف علي و يستقبل القبلة و يكبر بخشوع ...
يا لله ما أجمل تلك اللحظات التي يحضر فيها علي بين يدي ربه يناجيه و يخاطبه بتذلل و انكسار ... يقبل عليه و هو ينشد من أعماق قلبه وبملئ فكره و قناعته ذلك النشيد الأبدي : اللهم منك و بك و إليك .... يا له من نشيد ما أروعه يعلن فيه المسلم أنه من الله و بالله و لله ..... حقيقة لو استقرت في القلب لعاش بها الإنسان في الجنة و هو لا يزال بين أظهر الناس ... الناس في شأن و هو في شأن آخر ... الناس في هم و هو في فرح و حبور ... الناس مع شهواتهم و الأغيار و هو مع الله ليس في قلبه أحد سواه ... أحد أحد أحد ... يرددها المسلم وهو يرزح تحت صخر الشهوات و تلهب سياط الهوى ظهره .... أحد أحد أحد ... باستمتاع يداني استمتاع بلال في الصدر الأول .....
ساعات ليله تمضي مسرعة بينما دقائق ليل خديجة لا تكاد تتحرك!
هنا مشهد وهناك مشهد و بينهما فروق و مفاوز تنقطع فيها أعناق الإبل ....
في الصباح استيقظت خديجة لتجد ألمها لا يزال ساهرا لم ينم ، شاخصا إليها يمننها بإغفاءة قصيرة صرعته فيها غريزة النوم. فتحت عينيها .... انقض عليها من جديد غارزا مخالبه و الأنياب!...
لم تستسلم له .... خرجت إلى الشرفة وجلست تشرب الشاي و تتأمل ..... لا بد من البحث عن حل ... استعرضت تاريخ علاقتها بعلي وتوقفت مع بدايات تلك العلاقة ... يوم تفاجأت صباحا برسالة من علي على مقعدها .... لمعت في ذهنها فكرة الكتابة ... على الفور توجهت إلى مكتبها وسحبت منه دفتر الرسائل و بدأت تكتب و تكتب .... مضت ساعتان و هي تكتب ، لم تشعر خلالهما بالوقت ... ختمت الرسالة وارتخت على مقعدها في راحة و هدوء لم تشعر بهما منذ زمن...
في اليوم التالي دخل علي قاعة المحاضرات ليجد على مقعده رسالة مختومة . فضها فوجدها من خديجة ! ...
أيمن غ القلموني
04-07-2008, 09:53 PM
وبعدين أخ أبو محمد ، لماذا توقفت عن الكتابة ؟
إذا بتريد هك وقفات بلاها بترفعلي ضغطي ، وإذا صابني شي بكون من القصة.
عم إمزح ، بوركتم وبوركت الأنامل التي تكتب ؛
بالإنتظار على أحر من الجمر.
الشامي
05-07-2008, 12:59 AM
السلام عليكم ... كيفكم يا جماعة ..:)
الله يبارك فيك خيي أبو محمد ... يعني شي بيأشفر شعر البدن... يالله لا تطول علينا...
أخوكم:rolleyes:
شكرا اخي ابو محمد على الفائده التي تقدمها .........
نحن بانتظارك ........
أبو محمد القلموني
05-07-2008, 05:37 PM
أشكركم جميعا من كل قلبي على ما تتفضلون به من تعليقات لطيفة رقيقة . و الآن إليكم الحلقة رقم :15
أبو محمد القلموني
05-07-2008, 05:39 PM
-15-
بكلمات في منتهى الرقة و الألم خاطبت خديجة عليا و سألته عن سبب إيقافه للعلاقة بصورة مفاجئة و دون أي تبرير ....
لكن ما استوقفه و شده و آلمه ، بل حطم فؤاده هو لومها إياه أن يستأثر لنفسه بالحق الذي ظهر له ! لقد فاجأها أن لا يجد علي الدافع إلى مجرد إعلامها بما استجد له من رأي في هذه العلاقة !
وكان عتابها له في هذه النقطة شديد الوقع عليه حيث قالت له : هل هذا منك حكم علي أنا الأمة الفقيرة بأنه لا نفع مني يرتجى؟! فليس ثمة ما يستدعي أن تكلف نفسك عناء الشرح و التوضيح!....
خرج علي من القاعة و لما تبدأ المحاضرات بعد ... توجه إلى المصلى وصلى ركعتي الضحى بخشوع و إقبال . ثم جلس يتأمل في كلام خديجة . كلام منطقي لا غبار عليه . ربما ذهل عنه بسبب حرارة اليقظة التي جاءت منة من الله على غير تخطيط أو ميعاد. فغطت على تلك العلاقة بكل تفاصيلها و حيثياتها .
لقد أخطأت في حقها تماما . وحان وقت إصلاح الخطأ. بهذه الكلمات تمتم علي و هو يهم بالخروج إلى قاعة المكتبة حيث استل ورقة بيضاء و شرع يكتب لها مستعينا بالله ومتوكلا عليه و سائلا إياه أن يجعل في كلامه لها فائدة و نفعا . بهدوء شديد خط لها كلمات صادقة ممتزجة بمشاعر إيمانية خلابة :
خديجة نظرت في رسالتك فوجدتك فيها على حق . ثم نظرت في ما بادلتك إياه مما أجدت شرحه فوجدته باطلا ليس يستقيم في ديننا . وأنا إذ أشكرك أن نبهتني ، أستأذنك في بيان ما استجد و شرح ما وجدت . وإنه لك لنافع إن خلص منك التجرد ومنع الهوى لديك من التفرد....
اعلمي يا خديجة أن الله تعالى خلق الإنسان مميزا بأمرين : أدوات علم من سمع و بصر و فؤاد ومجموع طاقات حيوية . فبأدوات العلم يرصد و يحلل ، و بطاقاته الحيوية يتوجه و يتعلق و يحب و يكره و يخاف ... يقول تعالى : ( والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون ). فأما أدوات العلم فظاهرة في الآية ، و أما ذكر الطاقة فهو في قوله تعالى : ( لعلكم تشكرون) إذ فيها إثبات الطاقة الحيوية له و إرشاده إلى وضعها في مكانها الصحيح.
فالإنسان راصد منفعل أو كما أخبر حبيبنا محمد صلى الله عليه و سلم : حارث و همام.
لذلك كان من عطل أدوات علمه منتقصا لإنسانيته و من صرف طاقته في غير مكانها خاسر مغبون....
والله أرسل لنا محمدا صلى الله عليه و سلم بالقرآن ليكون هاديا لنا مضيئا لسبلنا يبصرنا بحقيقة نفوسنا و حقيقة هذا الكون و حقيقة هذا الوجود. ثم يشرح لنا كيف نكيف حياتنا وفق هذه الحقائق لكي تصرف طاقاتنا الحيوية في مكانها الصحيح بما يحقق توازنا و سعادة و أمنا.....
القرآن جاء من أجل تنشيط أدوات العلم و فك الأغلال عنها كي تغدو حرة طليقة من قيد الهوى و التقليد . فتصير مستعدة لرؤية حقائق هذا الوجود الطارئ. وإلا فإن الغبش يغطيها و يجعلها بلا فائدة و لا نفع يذكر. من هنا أهمية هذا الكتاب العظيم الذي حولناه إلى مادة لنعي الأموات أو لافتتاح الجلسات و المهرجانات. ونسينا أنه كلام ربنا رب الأرض و السماوات. هو كلامه حقيقة وواقعا ومع ذلك نعرض عن تأمل آياته و تدبر معانيه ، فيا لسفاهة عقولنا و يا لتفاهة منطقنا....
القرآن جاء إذا لفتح أدوات العلم و سرد المقدمات العقلية الكونية التي تؤدي استنادا إلى المقدمات الفطرية المعروفة إلى رؤية التوحيد حقيقة كبرى لهذا الوجود الرائع....
ومضى علي يحدثها عن القرآن حديث العاشق الولهان ، و يشرح لها قضية التوحيد قضية القرآن الكبرى شرح المتعطش الظمآن الذي ارتوى بعد فترة من الزمان قاسى فيه ما قاسى من العذاب و الغفلة ألوانا و ألوانا. وكان في حديثه عن التوحيد يحلق في براعة من الوصف و سلاسة من البيان و قوة في التجييش و التأثير ...
حين وصلت الرسالة إلى خديجة أمسكتها في فرح قلق و حبور مضطرب ، وتوجهت إلى قاعة المكتبة .
جلست في زاوية بعيدة و بدأت تقرأ و تقرأ. و تعيد القراءة المرة بعد المرة. كلمات في منتهى القوة و في الصميم الأعمق من المشاعر الإنسانية و التساؤلات الفطرية.
لقد أدركت الآن ما الذي غير عليا نحوها فجأة ..... إن من يقرأ هذه الكلمات يستطيع أن يتبين تماما خلفية صاحبها الفكرية المتألقة الغنية المحيطة الجامعة. علي اليوم إنسان آخر يحمل رسالة متميزة وساحرة سيطرت على قلبه و عقله و أخذت بمجامع نفسه. فليس عجبا و الحالة هذه أن يفعل ما فعله مع خديجة.
إن هذه العاصفة العاطفية المتوازنة و المؤسسة على دسامة و كثافة من الطرح الفكري المؤصل ، يستحيل أن تؤثر فيها علاقة إنسانية عادية مهما بلغت من درجات الهيجان و الرومانسية.
داخلها شعور بالراحة بعد قراءة الرسالة ... علي لم يتبدل لسبب يتعلق بها ... ولم يتبدل تعلقا بغيرها .. بل لربما لا يزال وجده بها على ما كان عليه ... جل ما تغير فيه جرعة تدين دسمة سحبته من محيطه إلى محيط الصالحين الورعين الغرباء من أمثال جعفر ... وفي هذه الحالة لا خوف على علي ممن قد تنافسها عليه ...
ركبت سيارتها و توجهت إلى حيث كانت تلتقي عليا بعد انتهاء الدوام. جلست تنظر إلى الأفق حيث الكون في حمرة حزينة يشيع قرص الشمس بنظرة منكسرة . والشمس تبادله شفقة في شفقها ، تستأذنه بالغروب و تنفث في روعه مطمئنة : بعد المغيب فجر قريب ...
الآن بعد أن استعادت شيئا من طمأنينتها ، تفتح الرسالة وتعيد قراءتها من جديد . هذه المرة تقرؤها لتتأمل في فحواها ولتتلمس أسباب تغير علي . القراءة الثانية أوقفتها عند حقيقة في منتهى الخطورة . علي يربط بين التصور و العمل ربطا وثيقا فيؤكد على أن العمل ينبثق من التصور و الفكر و أن التصور هو الذي يولد العمل. فبحسب علي السلوك ما هو إلا عاكس للفكر في الواقع... وأي تغيير في الفكر لا يكون تغييرا حقيقيا حتى ينعكس أثره في السلوك انعكاسا تلقائيا .....
و تنشيط السلوك إنما يكون بتنشيط الفكر ... وقفت عند هذه الفكرة مطولا وساءلت نفسها : هل سأتغير كما علي إن رسخ في ذهني ما رسخ في ذهنه؟! سؤال أشاع في نفسها فرحا ممتزجا بتخوف و توجس .
ثم ساءلت نفسها : هل سلوكي هو حقا ليس إلا انعكاسا لتصوراتي الحقيقية الداخلية ؟ وهل تختلف تصوراتي الحقيقية الداخلية عن قناعاتي العقلية المجردة أو ما يسميه علي بالأفكار التي لا يرفضها العقل من الناحية المنطقية الإستدلالية ؟!
وسرحت في تأمل و استغراق ... فوجدت أن تقسيمات علي في أبواب التصور ودرجاته منطقية و واقعية.
والنتيجة إذا أن تغيير السلوك يكون بتغيير التصورات الداخلية التي تشكل سلسلة الدوافع و المحفزات الحقيقية للسلوك الإنساني .
عاشت مع هذه الفكرة يومين كاملين . فمن ثم رسخت في ذهنها و صار إنكارها هو المستغرب و ليس العكس!
عادت لتقرأ في الرسالة مجددا ولكن هذه المرة بنهم و تعطش...
استغرقت مع علي و هو يحدثها عن الله ونعمه و تجلياته في الكون . وعن قربه و رحمته العجيبة المذهلة . ومقتضيات هذا كله في الواقع و السلوك ... كلمات بسيطة معروفة لكن كأنما تقرؤها لأول مرة . يسوقها علي كمبرمج محترف يخترق بها العقل و القلب ليحيي ما اندرس من مكونات الفطرة الإنسانية القويمة ، و ليؤسس لنظام جديد ساحر تعيش من خلاله النفس إنسانيتها الحقيقية كما أرادها الله البارئ المصور ! ....
أحييت الليل و هي تتأمل في نعم الله عليها وفي قربه منها وفي غفلتها عنه ....
أيمن غ القلموني
05-07-2008, 08:00 PM
أخي أبو محمد ، أسلوب لا يعلى عليه .
بس لو كنت آري هالقصة قبل ما إطلع على الجامعة !!!
لكم الشكر الجزيل.
أبو محمد القلموني
07-07-2008, 01:34 AM
-16-
في الصباح كانت قد عزمت على أمر ما بصورة قاطعة و تمسك لا ضعف فيه . توجهت إلى الكلية وتابعت المحاضرات اليومية .
في طريق العودة توقفت عند سوق تجاري. ترجلت من السيارة و اندفعت إلى داخل السوق بقدم ثابتة و قلب راسخ ... ثم ما هي إلا دقائق حتى خرجت خديجة تلف رأسها بحجاب يغطي كامل شعرها ! ...
وهي تدخل إلى المنزل رآها أخوها فأسرع وراءها يسائلها عن حقيقة ما تضع على رأسها.
وكم ذهل و هو يسمعها تقول بكلمات موجزة وسريعة : حجاب شرعي ألم تسمع به قبل اليوم؟! ثم دلفت إلى غرفتها وأهل المنزل لا يكادون يصدقون ما قالته خديجة!....
لما حان وقت العشاء سألت الخادمة عن المتواجدين في الصالة . فلما علمت بأن بين الحضور غرباء وضعت الحجاب على رأسها و توجهت برأس مرفوع ممتلئ فخرا و اعتزازا . و شعور لذيذ يخالجها ! إنها أول مرة تغير في حياتها الإجتماعية تغييرا جذريا مؤسسا على قناعة عقلية ذاتية. ما أتفه الإنسان حين لا يحرر عقله للنظر و التأمل ، و ما أشد خسارته يوم لا يختار بعقله الحر أسلوب الحياة الأمثل!! هكذا كانت خديجة تحدث نفسها وهي تدخل إلى الصالة و تلقي تحية الإسلام ، وتجلس بقرب والدها بتحد لافت .
بعد انتهاء العشاء دخلت خديجة غرفتها فتبعها أخوها يصرخ في وجهها مسائلا إياها مرة أخرى عن سبب وضعها للحجاب.
أجابته بهدوء شديد: هل تريد معرفة السبب أم نزعه بالقوة؟! فصرخ قائلا: بل سأنزعه بالقوة!
في هذه اللحظات دخل الوالد ليسمع ابنته تقول لأخيها بهدوء ولكن بكلمات عاصفة قوية : الحجاب هذا الذي تراه ، موجود الآن في قلبي وليس فقط على رأسي. وأنا الأمة الفقيرة الضعيفة لن تسمح لك بنزعه عن الرأس فكيف بالقلب الذي لا سلطان لك عليه؟!
بدت علامات الذهول على محيا الوالد بعد أن سمع هذه الكلمات من خديجة. خيل إليه أنه لا يعرف ابنته أو أن هذه ليست ابنته بل فتاة أخرى لم يرها قبل اليوم. لقد كانت متألقة ساحرة كساها الحجاب حلة وكلماتها القوية زينة ، فبدت كعروس فاتنة تغني ليلة العرس!
طلب الوالد من ابنه أن يخرج من الغرفة و أن يدعه و خديجة لوحدهما.
أقبل الوالد على ابنته يسلم عليها و يسألها عن أحوال الدراسة و الإختبارات. ثم ترافقا إلى الشرفة.
طلب قدحين من الشاي . وجلس يتأمل مع ابنته في الطبيعة و يحدثها عن موسم اللوز الذي بكر هذا العام ...
خديجة ابنة زينب ، المرأة المتحررة والمتحدرة من عائلة متدينة محافظة. درست في بريطانيا مدة خمس سنوات كانت كفيلة بإعادة تشكيل عقلها ، و صياغته بما يتوافق مع العقلية الغربية في نظرتها للإنسان و قضايا الحرية و المرأة و الدين ...
التقت حسام زوجها في لندن أثناء زيارته لأحد معاهدها في بعثة علمية اختير عضوا فيها. وهناك بدأت معه علاقة عاطفية استمرت ثلاث سنوات انتهت بزواجهما . وقد باركت عائلتها هذا الزواج إلا أنها أبدت تحفظا شديدا على طريقة تفكير حسام و زينب ، و انتقدت تعديهما للضوابط الدينية والتقاليد الإجتماعية ...
اليوم خديجة بدت كمن يحيي ما اندرس في العائلة ، وكمن يهدم ما عملت أمها المتوفية منذ سنوات على تأصيله و تجذيره! وهذه كانت المفاجأة التي صدمت حسام!
صحيح أن حسام ليس خط هجوم أول على التمسك الديني كما كانت زوجته. لكنه سمح لها بتأسيس العائلة على النمط الغربي الخالص. وبالتالي فإن وجود من يعارض هذه الأسس قد يهدد استقرار العائلة بصورة جدية! وهذه النقطة تحديدا هي ما يقلق حسام!
كاد يفرغ من قدح الشاي ولم يفتتح الموضوع مع خديجة! يحس برهبة غير معتادة ... التفكير الديني بالنسبة له منطقة خطرة جدا يصعب عليه اقتحامها ... هو لا يريد أن ينزع الحجاب عن رأس ابنته كما يرغب ولده فادي ... لكنه يريد أن يتأكد من حقيقة اختيار خديجة له ، هل هو بمحض إرادتها ؟! وما الذي جعلها تختاره و تتمسك به فجأة على هذا النحو؟! هل هو مجرد تمسك ديني بحت أم له تعلق بتيار الإسلام السياسي الذي ينجح كما في كل جيل باقتحام الجامعات و المعاهد و تجنيد أعداد هائلة من الطلاب يعدهم ليحملوا فكره و طروحاته!
بحركة عفوية ملؤها الحب أمسك حسام بيد ابنته و حدق في عينيها قائلا :
ابنتي الحبيبة هل تصارحيني بحقيقة الأمر؟
نظرت خديجة إلى والدها بنظرة ملؤها الثقة والقوة. أجابته بنبرة حانية و بسمة ناعسة فيها من دلال الابنة: أبتي هل تثق بي؟
أتاها الجواب سريعا : لطالما فعلت و أنت تعلمين هذا جيدا.
اعتدلت في جلستها . حدقت في الأفق قليلا ثم أقبلت على والدها تشرح له كيف أنها فجاة استفاقت من كابوس الغفلة لتجد غمر النعم يحيط بها ، و لتفتش قلبها فإذا به سادر في غيه متماد في نكرانه و جحوده. الله أعطاني الصحة و الجمال و الإتزان و هو سبحانه من يرزق جميع من في هذا الكون وهو عليم بما فيه لا يشذ عنه فيه حبة خردل. فلماذا لا أتبع منهجه و لماذا أتنكب الطريق التي رسمها لنا في كتابه؟ ما الذي أجنيه من مخالفة تعاليمه ؟ أليس هو مالك كل شيء وواهب كل شيء و من بيده كل شيء؟!..............
كان حسام يتابع كلام خديجة بدقة و ذهول ... لا يكاد يصدق ما يسمعه ...... إن خديجة تتحدث كما لو كانت تعيش حقا كل كلمة تتفوهها ... هي متأثرة فعلا بما تقول ... الأمر إذا ليس مجرد عارض ويزول عن قريب .....
ناقشها في حقيقة النكران و الجحود وأنه ليس كل من لم ترتد الحجاب جاحدة ناكرة . فهناك تفاسير متعددة للقرآن ولكل اجتهاده و رأيه الخاص. لكن خديجة لم تقتنع بهذا الكلام و سألت والدها أن يأتي بتفسير آخر لآية الحجاب على أن يكون تفسيرا منطقيا ينسجم مع النص.
واكتشف حسام أن خديجة متعمقة إلى حد كبير في اتجاهها الجديد ! فتعجب من هذا كثيرا ! و أرجع الأمر إلى كثرة قراءاتها ، ازدياد ساعات المطالعة اليومية عندها منذ مدة ، و اقتنائها للكتب المتنوعة التي ربما وسعت آفاقها و جعلتها تفتح عقلها على الدين و تعاليمه بصورة أكثر منهجية ........
في ختام الجلسة و بعد أن أفرغ حسام ما في جعبته من شبه كان يقذفها ذات اليمين و ذات الشمال ، بعضها لم تستسغه خديجة و بعضها استمهلت والدها للنظر فيه . خاطبها والدها قائلا : تعلمين جيدا يا خديجة أنني لست ممن يجبرك على ما لا ترين ولكنني أرجو منك أن تتفكري أكثر في هذا الطريق الذي يبدو لي أنك تعتزمين السير فيه ، دققي فيه أكثر !. وفي النهاية أيا يكن اختيارك سأحترمه ، وأتمنى أن لا تكفي عن احترام من يخالفك الرأي كما لمست و أعجبني من كلامك الآنف .....
خديجة كانت تدرك مسبقا أن والدها ليس ممن يجبرها على شيء . علمها منذ الصغر فكرة احترام الرأي الآخر و عدم مصادرة حق الآخرين في اختيار ما يرون . وهي من النقاط الأساسية التي جعلتها تميل إلى علي منذ البدء ؛ حين كانت تسمعه في المجالس الطلابية يؤصل لهذا الأدب من نصوص القرآن و السنة.
لكنها كانت تطمع أن تغير في أبيها وتكون سببا إلى هدايته و استقامته...
أبو محمد القلموني
08-07-2008, 04:35 PM
-17-
في اليوم التالي توجهت خديجة إلى الجامعة يكسوها حجابها الجديد حلة من البهاء الإيماني الساحر. وقعت عين علي عليها فسر سرورا عظيما . وشكر الله أن جعله سببا إلى التزامها طريق الطاعة .
كان المشهد مؤثرا جدا بالنسبة لعلي ، إلى درجة أن أعاد استنهاض مشاعر كادت تندرس من معالم قلبه و صفحة ذكرياته! لكنه استنهاض في بوتقة مشاعر إيمانية مختلفة ؛ لذا لم يعارضها كبير معارضة ... إذ هو قادر الآن أن يتحكم بها أكثر من ذي قبل ...
في اليوم التالي وصلته رسالة من خديجة ذكرت فيها تعطشها للعلم الشرعي ، وأنها تحتاجه مساعدا و مرشدا لها في الطلب. كما سردت له شبه والدها و طلبت منه ردا وافيا عليها .
فكتب لها رسالة طويلة فند فيها تلك الشبه . وتابع معها ما كان بدأه من تأصيل في رسالته الأولى.
أفادت خديجة من هذه الرسالة جدا و جلست مع والدها تناقشه في تلك الشبهات. وتطمع في هدايته إلى طريق الإتباع... لكنه استمر في إعراضه لا يعنيه شيء أكثر من ضبط خديجة لأجل أن لا تتمادى و تشكل عنصر قلق و اضطراب في العائلة. كان هذا جل همه ..... !
في الليل فتحت خديجة كتاب الله وجلست تبحث عما تقرأه. اختارت سورة إبراهيم . هزها مطلع السورة و آياتها الأولى. الآية الأولى (كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور) من الآيات التي يستشهد بها علي كثيرا . لكنها الآن تجد لها طعما آخر وهي تقرؤها في هدوء وتأن و تأمل . الله يتكلم و يقول للكون كله أن من يعيش بعيدا عن هذا الكتاب هو في ظلمات و ليس في ظلمة واحدة ، لا يخفف منها شيئا زيف بريق الشهوات و الأهواء . الناس جميعا غنيهم و فقيرهم من يعيش في القصور العالية و من يعيش في الكهوف النائية ، في ظلمات بعضها فوق بعض . ولا خروج لهم منها إلا بكتاب الله تعالى النور الساطع المبين.
( الله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض و ويل للكافرين من عذاب شديد)
فكيف يكفر بمن له ما في السماوات و الأرض ؟! كيف يجحد ؟! كيف يستساغ رد أمره ؟! كيف يهنأ من يرد تعاليمه؟! كيف يفكر و ينظر من يتنكب منهجه؟!
تابعت خديجة القراءة في استغراق و تأمل فوجدت الجواب سريعا : ( الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ويصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا اولئك في ضلال بعيد ...) !
وهنا دمعت عينا خديجة وتذكرت الآية العظيمة التي يستشهد بها علي كثيرا ( سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ...) قرأتها بصوت خاشع متهدج ملؤه الخوف و التوجه إلى الله عز وجل .نعم إنها تعيش في بيت يهتف للعوج و يطلبه و يهواه ؛ العوج في كل شيء في التصرفات و الفكر و السلوك. وبالتالي فهي تفهم جيدا كيف يؤثر هذا الهوس بالعوج على النفس ، و كيف يحجبها عن رؤية الآيات و البراهين المبثوثة في الكون و النفس! .........
وضعت المصحف جانبا و سجدت لله تعالى تناجيه و تحمده و تتذلل بين يديه ، وتسأله أن يحفظها أمة له و أن يصون قلبها عن نزغ يريها الضلال نقي الثياب.
ما أروع القرآن و ما أشهى معانيه ! خديجة أضحت تشعر بلذة تدبر كلام الله تعالى . ولن يحول بينها و بينه بعد اليوم حائل !
وعاشت خديجة مع القرآن تتدبر وتسجد لله لما تجد من المعاني المؤثرة و لسان حالها ، و منطقها ، يتمثلان دلالة الخطاب في قوله تعالى : ( و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون) .
ومضت في طريقها الجديد تقرأ في كتاب الله تعالى و تبحث في التفاسير وكتب السنة ، و تتأمل في المعاني و تتعمق في هذا الإتجاه ، فتفيد منه حبا و عشقا لمولاها وقوة في دينها و تقواها و غنى في علمها و اطلاعها .
وما هي إلا أيام قليلة حتى حسن حجابها و اتزنت صلاتها ، وأضحت وأكبر همها الدعوة إلى التوحيد و متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في صغير الأمور و كبيرها.
ولم يبخل علي على خديجة في هذا المضمار أبدا فاستمرت الرسائل بينهما بلا انقطاع. هي تسأله و هو يجيب. وكان يلاحظ أنها تتقدم بسرعة غير اعتيادية.
وطلب منها علي أن تكتب في مجلة التيار الإسلامي فلم تلبث قليلا حتى أصبحت صاحبة قلم دعوي متفنن مبدع يحرك الدمع و يهز النفس و يترك المعاني في القلب حية نابضة ، حتى لكأن صفحاته التي يجول فيها هي صفحات قلوب الطلاب لا صفحات ورق مجلتهم!
ومع الأيام ازداد علي إعجابا بخديجة و كان يفتش قلبه باستمرار نحوها فيرصد من مشاعر الحب المتزن ما جعله يزمع على محاولة الإقتران بها في أقرب فرصة سانحة.
كانت علاقته بها في الإطار الشرعي ؛ لا يلتقي بها إلا في لقاءات عامة و حوارات مشتركة تعقد من أجل ترشيد العمل الدعوي و متابعة بعض تفاصيله. لكن لما كثرت هذه اللقاءات وجد علي في نفسه ما يخدش توجهه و يعكر صفو توحيده!.... ففكر في الأمر طويلا إلى أن وجد أن محاربة الهوى و الشيطان لا تكون بمغالبة سنن الفطرة...... فقرر متوكلا على الله أن يتقدم لخطبتها. و آثر سؤالها أولا لعلمه بالفوارق الإجتماعية و المادية التي تفصل بينهما ، و لأنه يعلم أيضا بعد عائلتها الشديد عن التدين مما قد يشكل عقبة حقيقية في وجه هذا الإرتباط الذي يسعى إليه.
صلى صلاة الإستخارة و كتب لخديجة رسالة يشرح فيها رغبته و ما أزمع عليه. وذكر في الرسالة هواجسه التي قد تحول بينه و بين الإرتباط بها من الفوارق المادية و الفكرية...
أيمن غ القلموني
08-07-2008, 06:52 PM
للحقيقة ، هالشب إللي إسمو علي عجبني .
جزاكم الله خيرا أخ أبو محمد القلموني .
الزاهر
08-07-2008, 10:52 PM
لاه لاه لاه!!!
الله يسامحكم!!!.........:)...........لك حدا يتصل فينا يألنا صاير كل هالتطورات بالأصة!!!..........:)
أبو محمد القلموني
09-07-2008, 03:13 PM
-18-
خديجة لم تفرح بشيء بعد تدينها كفرحها برسالة علي ، التي كتب إليها يستأذن في خطبتها......... فأرسلت إليه و على الفور جوابها باختصار و بكلمات مقتضبة و سريعة ، تشعر بمدى فرحتها و استعجالها لإتمام الإرتباط:
علي حدد اليوم الذي ترغب فيه بلقاء والدي وأعلمني به.
جاءها جواب علي سريعا بأنه لا يمانع أن يلتقي والدها في أي يوم تحدده هي ، ما دامت تجد أنه من الممكن إتمام الأمر رغم وجود تلك العقبات.
في المساء توجهت خديجة إلى والدها و سألته أن يرافقها إلى غرفتها لتحدثه بأمر هام جدا.
بمقدمة لطيفة لا تخلو من وعظ مبطن أعلنت خديجة لوالدها خبر الشاب الذي يريد التقدم لخطبتها ، و كونه من خير الشبان و أعقلهم .......
داخل الوالد حسام سرور وهو يستمع إلى ابنته تتحدث في موضوع عاطفي بحت باتزان وحكمة . وأعجبه حسن انتقائها الألفاظ للتعبير عن المعاني بالدقيق المحبب منها .
أجابها بأنه لا يعرف شيئا عن الشاب المذكور و يتعين عليه السؤال عنه أولا. وافقت خديجة مع لفت نظر والدها إلى أن الشاب يدرس معها في الجامعة ، و أنها لهذا من أكثر الناس معرفة به. ابتسم حسام معلنا التقاطه لإشارة خديجة و إدراكه جيدا لأبعادها. وفهمت خديجة هذه الإبتسامة ، على وجهها ، فعلتها حمرة الخجل ...
وانفض اللقاء و خديجة منشغلة الذهن بالذي سيكون رسول والدها للسؤال عن علي.
في اليوم التالي نادى حسام ابنه فادي و فاتحه بالموضوع و طلب إليه أن يسأل عن علي.
فادي يعرف عليا بصورة جيدة من أحد أصدقائه المقربين والذي هو في التيار العلماني في الجامعة . ولذلك ما أن سمع باسمه حتى ارتعدت فرائصه و استشاط غضبا كتمه عن والده.
مساءا توجه فادي إلى غرفة خديجة مغضبا والشرر يتطاير في عينيه . ودخل مع خديجة في نقاش حاد سبب صياحا و ارتفاعا في الأصوات.
تناهى الصوت إلى حسام فأسرع إلى غرفة خديجة ليجدها وقد احمر وجهها واتسعت عيناها ، فبدت كوردة حمراء تسحر الألباب. وأما دفاعها المستميت عن علي فأظهرها كلبوة تدفع عن عرينها !
كان المنظر رائعا جدا . لقد ذكرته بوالدتها الراحلة بما كانت تملك من إصرار و تحد. حتى حركاتها وانفعالاتها التي بدت في يديها و عينيها ، وتلون وجهها ، و قعودها و وقوفها أثناء الكلام ... كان كل ذلك يذكره بزينب الأم ..... لكن يا لله! كيف يتفق أن يتكرر المشهد ذاته ؟! بالأمس كانت زينب تحارب أخاها من أجل حسام المتفلت؟! و اليوم الإبنة خديجة تحارب أخاها من أجل علي المتدين؟!
مشهدان إذا نظر إليهما المرء من زاوية وجدهما متناقضين متنافرين . وإن نظر إليهما من أخرى وجدهما متفقين متآلفين: ابنة تكرر فعل أمها و إن اختلفت التفاصيل و الحيثيات. زينب دافعت عن حقها في الإختيار و خديجة اليوم تدافع عن ذات الحق! ارتاحت نفسه لهذه النتيجة وهنا تدخل ليوقف الحوار و يطلب إليهما سماع ما سيقوله .....
كان النصر لخديجة دون ريب ، فحسام مهما كان موقفه من التدين فهو لا يفرضه على ابنته لا في اختيارها السلوكي و لا في اختيارها العاطفي. في رأي حسام أي شيء يشعره برغبة التسلط و فرض الرأي هو رزية يجب التنزه عنها. وهو لا يلتفت إلى الآثار مهما كانت ما دام أنها اختيارات إنسانية بحتة تصدر عن آراء حرة ، لا يجوز كتمها مهما كانت درجة اختلافه معها .....
وحصلت خديجة على الموافقة فطارت بها فرحا. وهاتفت عليا في منزله مبشرة ، وسائلة إياه أن يدخل على والدها من الغد.
وتم ارتباط علي بخديجة . واشترطت عائلتاهما أن يكون الزواج بعد إكمالهما الدراسة. وعاشا أياما جميلة ملؤها الحب و السعادة في ظل أجواء إيمانية دعوية. لقد أثمر ارتباطهما زخما دعويا في الوسط الطلابي و في محيط العائلتين.
كان التوحيد هو شغلهما الشاغل ومنبع عواطفهما و مصب أحلامهما و أهدافهما. لا يجلسان مجلسا إلا ويتحدثان فيه عن التوحيد حقيقة صارخة ، و نعمة باهرة ، و حاجة ماسة قاهرة ، وتحررا حقيقيا كاملا .....
وما هي إلا أيام حتى بدأ فسطاط علي و خديجة يتسع و يتسع في عائلة حسام معلنا دخول السنة الأزلية إلى بيته : سنة الصراع بين الحق و الباطل ، بين التوحيد و الشرك ؛ بين إتباع الهوى و الشهوات ، و إتباع تعاليم رب الأرض و السماوات ؛ بين تصورات الجاهلية حول الوجود و الحياة و الإنسان ، و تصورات الإسلام حولها......
أبو محمد القلموني
10-07-2008, 07:11 PM
-19-
ومرت سنة و علي و خديجة ينضجان بالدعوة إلى التوحيد ، و تمثل خط الأنبياء و متابعة النبي صلى الله عليه و سلم في أفعاله و أقواله و دعوته.
في الوسط الطلابي كانا الأنشط و الأكثر تأثيرا واندفاعا دون منازع. وقد حرصا على إغراق الطلاب في قضية التوحيد عملا و دعوة.
وأطلت السنة التالية ورجع الطلاب إلى الكلية . وعاد علي و خديجة ليمارسا دورهما بلذة كبيرة و شغف متعاظم .
بعد أيام ستبدأ انتخابات مجلس الطلبة لهذا العام. فشرع كل تيار يلتقي محازبيه و يستعد ليوم الإقتراع الطلابي.
في لقاء التيار الإسلامي فاجأ علي الإخوة بتحليل جديد و عناوين أخرى لم يطرحها في السنوات الماضية . هذا التحليل يقول فيه علي لإخوانه نحن أتباع المصطفى صلى الله عليه و سلم قبل أن نكون أي شيء آخر ؛ لذا يجب علينا تمثل هديه و تلمس خطاه . و الرسول صلى الله عليه و سلم كان يضحي بأي شيء من أجل أن تبلغ دعوة التوحيد القلوب و العقول .... جاءه ملك الجبال يعرض عليه أن يأخذ له بحقه ممن آذوه ... فأعلنها صريحة خفاقة مدوية في العالمين : أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله..... فيتعين علينا نحن إذا كنا صادقين في محبته أن نسلك سبيله و ننهج نهجه . فلا نفضل على دعوة التوحيد شيئا ، و لا نقدم بين يديها ما يغبشها و يراكمها من الأقوال و الأفعال و التصرفات .....
وعليه فأرى أن لا نشارك في هذه الإنتخابات كممثلين بل نشارك كمنتخبين فقط ؛ وذلك للأسباب التالية :
أولا هذه الإنتخابات حقيقتها هي تشكيل مجلس طلابي يتابع شؤون الطلبة ومصالحهم و مطالبهم من الناحية الأكاديمية البحتة. فليس من اختصاصه الدخول في تفاصيل الإختلاف الفكري وتغليب تيار على تيار...
ثانيا عملنا الأساس هو الدعوة في هذا الوسط لا نبتغي أجرا و لا مغنما و لا انتصارا لتيار على آخر ... نريد لصوت التوحيد أن يرنم الآذان و يحرك القلوب و يشكل التصرفات و التعاملات و السلوك...
فبناء على ما تقدم فإنه إما أن نشابه القوم في تفاعلهم مع هذا الحدث وإما أن نظهر لهم حقيقة دعوتنا وماهية مطلبنا . والفرصة الآن سانحة فلنستغلها لنعلن لهم ما يميزنا عنهم حقيقة وواقعا ...
نحن لسنا دعاة ظهور و بهرج و لا نتحرك تحت عناوين جوفاء فارغة ... لكننا أصحاب رسالة تخاطب العقل في كينونته الإنسانية و محيطه الفطري ، لتأخذ بيده على ضوء قوانين المنطق و قواعد الإرتكاز الفطرية إلى الحقيقة التي تكتنف سر هذا الوجود كله ؛ ليكيف حياته وفقها و تنبثق سلوكياته من تصوراتها الدقيقة الرائعة...
أما خوض المنافسة معهم فسيحجبهم عنا و يحجبنا عنهم ، و تصير دعوتنا بمعزل عن أن تطرق منهم القلوب و العقول ! ...
الطلبة اختلفوا بين مؤيد لعلي و مخالف له. ثم احتدم النقاش إلى أن أعلن بعض الإخوة ما يشبه الحل الوسط بين الرأيين ، وهو أن يشارك التيار الإسلامي بممثلين عنه من خارجه ينتقونهم وفق قواعد النزاهة و الحيادية و التفاني المتفق عليها بين الطلاب. وبهذه الطريقة يتجنبون قدر المستطاع سلبيات المنافسة مع تيارات الإلحاد و العلمنة من الزاوية التي طرحها علي. و في نفس الوقت يعطون برهانا عمليا على صدق نواياهم و صفاء سريرتهم من حيث أنهم تيار دعوي حقيقة و واقعا ، و لا يهمه من يصل ليشكل نواة المجلس الطلابي بقدر ما يهمه أن ينشر دعوته خالصة من كل شائبة نفع زائل و مغنم زائف...
توافق الجميع على هذا الحل و كان لهم ما أرادوا وخططوا. وبعد نجاحهم الباهر عقدوا لقاء موسعا للتقييم ، فكانت النتيجة أن نجاحهم كان بفضل الله أولا و بتشاورهم و تعاونهم و تمسكهم بدعوة التوحيد ثانيا . فأطلقوا شعارهم الجديد للمرحلة المقبلة :
التوحيد دراسة و عملا و دعوة ، الشورى ، التعاون على البر و التقوى . وأسموه شعار العصر تيمنا بالسورة الكريمة التي جمعت هذه العناصر الثلاثة وجعلت منها دعائم الربح و النجاح .....
ومرت السنة سريعا و الجميع يد واحدة حانية على القريب و ممدودة للبعيد . يحاولون إصلاح ما فسد من تلك القلوب بربطها بعلام الغيوب . الخطاب كان يتهادى حكمة و يتغلغل تأثيرا و يثمر يانعا في قلوب الطلاب البعيد منهم قبل القريب ..... أوقات جميلة لا تنتسى رغم قصر مدتها و سرعة انقضائها ....
......
أيام قليلة و يترك الطلاب مقاعد الدراسة استعدادا لامتحانات نهاية العام .
رافق ذلك حدث آخر تداعت له تيارات العمل الطلابي و أزمعت أن تقول فيه كلمتها قبل مغادرة الطلبة للكلية . هذا الحدث هو بدء الإستعدادات في شرق البلاد و غربها و في عرضها و طولها لخوض معركة الإنتخاب البرلماني .
أدلت كل التيارات بآرائها و انتشرت بياناتها و منشوراتها تحلل و تشرح للطلبة رؤيتها و منظورها للحدث و تفاصيله ...
في لقاء التيار الإسلامي فجر علي قنبلة لم تكن متوقعة من الكثيرين .
في رأي علي الترشح للبرلمان ضرب لدعوة التوحيد عرض الحائط و تشويه لها و سير في طريق يناقض أبسط مقتضياتها .
اختلف الطلاب و كان الإختلاف هذه المرة شديدا جدا ... وحصلت مناقشات كثيرة بين علي و قلة من مؤيديه من جهة و بين مخالفيه من جهة أخرى . وجرت محاورات حرص فيها الجميع أن لا تخرج عن نطاق الأخوة و التخاطب الإيماني المتزن .
ما فاجأ عليا هو أن أقرب الناس إليه ، كخديجة مثلا ، لم يفهموا مراده في البداية ... وما أزعجه أن من كان يعدهم في الطليعة لم تأت عندهم الفكرة إلا بعد لأي و طول شرح ! ...
مما جعله يفتح مراجعة دقيقة لمضمون الخطاب المعتمد و حقيقة الأفكار التي تشربها هؤلاء منه و ممن يطرح طرحه . في رأي علي مضمون الفكرة يقتضي تلقائية في الحكم على مثل تلك المستجدات . فما السبب الذي عطل هذه التلقائية في عقول من يفترض أنهم تشربوا الفكرة و عاشت في قلوبهم و عقولهم ؟!
أليس الكفر بالطاغوت هو المقتضى الأول لكلمة التوحيد ؟! المشكلة التي واجهها علي في هؤلاء هي أنه لم يعلق بأذهانهم مجرد تعلق للتوحيد بهذه القضية . فالجهة عندهم منفكة تماما في هذه القضية !
فكر طويلا إلى أن وجد ما أخافه و أربكه: التوحيد المطروح و المتقبل من أغلب الطلاب بدأ ينحو منحى صوفيا بحتا يحصر عمله بالقلب و القلب فقط !!! ... هالته هذه النتيجة ...
في بداية اللقاء الثاني الذي أعقب تلك العاصفة من الإختلافات ، طلب علي الكلام فجاء في كلامه :
إخوتي الطلاب أنا الآن لا أتكلم لأفرض عليكم رأيا في القضية المختلف حولها ... و صدقوني ليست المشكلة عندي الآن تعيين المصيب من المخطئ فيما اجتمعنا لأجله ... لكن يعنيني ويهمني جدا أن ألفت النظر إلى ما هو أعظم من تحقيق المناط في هذه القضية الفرعية .
التوحيد ليس هو مجرد علاقة قلبية تتوجه بها إلى الله بمعزل عن تأثيرها السلوكي و الفكري و الإجتماعي في مجتمعك ، و بعيدا عن رصد مقتضياتها الكبرى في الواقع ....
في عودة سريعة إلى التاريخ نجد أن التوحيد لم يقف عند حدود مكة و لا المدينة و لا الجزيرة العربية و لكنه انطلق إلى العالمين جميعا . وهذه الإنطلاقة كانت منذ البداية ، منذ أن أعلنها محمد بن عبد الله صلى الله عليه و سلم إعلانا عاما لتحرير الناس كل الناس من العبودية و التبعية و الخضوع لغير الله في كل صورها و أشكالها و لتحرير الأرض كل الأرض من الطواغيت التي تنازع الله في ألوهيته و ربوبيته ..... وهذا هو الذي فهمه العربي من معنى كلمة التوحيد : الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة و من جور الأديان إلى عدل الإسلام ..... كلمات خالدة لا تزال ترن في سمع الزمان و تتناقل أصداءها صفحات التاريخ على مر العصور و الدهور .... الإسلام هو دين التوحيد الذي بعث به موسى عليه السلام إلى فرعون ليقول له :
(هل لك إلى أن تزكى و أهديك إلى ربك فتخشى) .... ( ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ... ( وتلك منة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ) .... إنه دين الحرية الحقيقية التي لا تتحقق بغير عقد التوحيد .....
واليوم كيف يعقل كلمة التوحيد من لا يرى أن لها كلمة في شأن مؤسسات قامت على إدعاء حق التشريع الذي ليس إلا لله وحده؟! ...
قد يختلف بعض الإخوة معي في حيثيات الموقف الشرعي من هذه المؤسسات ؛ فيقول بعضهم ندخل لنسمعهم هذه الكلمة و يقول البعض ندخل ضرورة .و جميعنا متفق على أن لكلمة التوحيد تعلقا مباشرا بهذه الأوضاع و تلك المؤسسات ، و أن تصنيفها في ميزان التوحيد الدقيق هو : أوضاع غير شرعية و مؤسسات جاهلية .....
والبعض يقول : هي كذلك بلا شك لكننا ندخل من أجل أن نصوت ضد كل تشريع مخالف . و نرد عليهم بأن المشكلة لا تزال قائمة و لو صوتتم ضد كل تشريع يصدر ، لأن الذي تتعلق به كلمة التوحيد هنا و تحكم عليه بعدم الشرعية هو مجرد مزاولة عمل التشريع بمعزل عن اتفاقه أو اختلافه مع ما يشرعه الله تعالى .
فنلفتهم إلى هذا لنرجعهم إلى إحدى الخيارين : الضرورة أو إسماعهم هذا الكلام من داخل المؤسسة . ولنا مع هذين القولين كلام و تفصيل نرد فيه ما ذكروا . لكننا في النهاية نتفق جميعا على الأصل الذي هو تصور تلك المؤسسات تصورا صحيحا نابعا من قضية التوحيد ، و إن اختلفنا في حيثيات التعامل معها كما تقدم .......
بعد طول نقاش قرر المجتمعون بصورة جماعية أن لا يصدر عن التيار الإسلامي الطلابي أية توصيات في هذا الشأن . وإنما يترك لكل عرض رأيه ، و من ثم متابعته في محيطه الخاص .....
الزاهر
10-07-2008, 07:31 PM
كلام جميل .... بانتظار التتمة!!!
أبو محمد القلموني
11-07-2008, 06:50 PM
-20-
ما أجمل الربيع !... الكون يستيقظ صباحا يداعب صفحات سهوله و جباله و وديانه نسيم صباحي بارد ، لا يترك زهرة إلا ويعانقها ممتصا من طيبها ، ولا يترك عشا فيه أم حاضنة إلا حضنه ومضى ... وهكذا حتى يغادر مشبعا بالحنان و بأنواع من الطيب المختلط ..... فيتابع طريقه منسلا بين البيوت و الزقازيق ، طارقا الأبواب و النوافذ موقظا الأحبة و المتخاصمين ، يشرح الصدور و يعطر الأجواء و النفوس ...
ثم مضى الربيع بذكرياته المنعشة و أعقبه سريعا صيف حار ...
عائلة حسام تستعد للإنتقال إلى البيت الصيفي كما في كل عام. علي و خديجة كانا منذ الصباح معا في رحلة على الشاطئ يتأملان سحر الوجود و يسبحان الخالق العظيم الذي برأه .
بعد عودتهما طلب منهما حسام الإستعداد .... اعتذر علي و تعلل بأعمال و أشغال ... اعتذرت خديجة إثره ، فهي لن تترك عليا لوحده و تذهب لتستمتع بهواء الجبل النقي بعيدا عن عريسها ... ظهرت علامات الألم والخذلان على محيا حسام . طلب منهما الجلوس. ثم بعد أن شربا الشاي أخبرهما بغصة حارقة ظاهرة أنه لن يذهب أيضا إن لم يذهبا .
شعر علي بتألم حسام فكلمه مصارحا على الفور : أنا أتمنى مرافقتكم لكنني لا أحب أن أكون حيث يكره وجودي... جاءه الجواب من حسام سريعا : لا تقل هذا يا بني فأنت أصبحت واحدا منا و يؤلمني أن لا تتفهم وضع من تقصد ... كما أنني لم أعهدك قصير النفس في هذه القضايا فلا تجعلني أغير رأيي فيك يا بني ...
شعر كل من علي و خديجة برغبة حسام الجارفة أن يشاركا العائلة المنزل الصيفي و لو لبعض الوقت ... فوافقا و ذهبا يستعدان للرحلة . وأخبرها علي أنه سيستغلها فرصة لمعاودة الحديث مع والدها لعل الله يشرح صدره و يهديه ... سرت خديجة بالفكرة جدا و عزمت أن تعاون عليا ما استطاعت ...
في البيت الصيفي يختلف برنامج عائلة حسام عنه في البيت الشتوي ، فالعائلة لا تجتمع إلا وقت الغداء. وأما بقية الأوقات فيمضيها كل فرد حسب ما يحلو له ...
حسام تعود أن يستيقظ كل صباح قبيل الشروق يعد سلة طعام و يصطحب معه كتابا أو رواية و ينطلق إلى البراري . تصحبه خديجة تماما كما كانت زينب الأم من قبل ...
استيقظ حسام باكرا كالعادة و فيما هو يتهيأ و يعد عدة الرحلة ، وعقله منشغل بخديجة التي يتوق أن ترافقه من تلقاء نفسها؛ فهو لن يطلب منها ذلك وهي بصحبة عريسها هذا العام ! ... إذ جاءه صوت بعيد خافت من غرفة خديجة . اقترب ،فإذا بصوت علي يقرأ القرآن . وجد الباب مفتوحا فدخل ليجد خديجة تصف خلف علي يصليان الصبح .
ذهب إلى الصالة ينتظرهما . بعد دقائق جاء علي تصحبه خديجة. قبلت والدها قبلة الصباح ثم جلسا يشربان الشاي مع حسام و يتحدثان معه عن جمال الطبيعة في هذه المنطقة . وحسام يعدهما أن يريهما اليوم ما لم تره عيناهما من قبل .
بسرور غامر انطلق الثلاثة في رحلة بين البراري و الأشجار ، يداعب النسيم وجوههم و أشعة الشمس البكر الصباحية تسارع إليهم من بين الأغصان تدغدغ منهم العيون و تدفئ القلوب و تملأ النفس بهجة وحبورا ...
وصلا إلى مكان في غاية الروعة . شجر جوز كثيف و ماء عذب رقراق ينبع من الأرض ليسلك في أخاديد صغيرة ، منطلقا يسقي الزروع و الأشجار في الأنحاء ... وفي زاوية من الزوايا مكان مطل من علو يري الناظر مساحات واسعة من سهول و براري و بيوت متباعدة ...
طوال الطريق لم يفتر علي و خديجة عن التسبيح و تمجيد الخالق كلما وقعت عيناهما على ساحر من المناظر و المشاهد... وكان تسبيحهما شعورا حقيقيا و اتصالا مباشرا بالخالق سبحانه ، فلم يكن مجرد كلمات تنطلق تعبيرا عن الدهشة و الإعجاب ... هكذا كان حسام يحس و يرصد في صمت ومتابعة ...
جلس الثلاثة يتناولون شيئا من الطعام وحديث علي و خديجة هو هو عن سحر الطبيعة و عظمة الخالق سبحانه ...
بعد الإنتهاء من الطعام استلقى حسام و علي على الأرض يتحدثان في أمور تتعلق بالسياسة ...
وقفت خديجة على بعد خطوات منهما . استقبلت القبلة و أدارت السواك في فمها قليلا ثم كبرت تصلي ...
وحسام يرقبها وهو يتحدث إلى علي ... سأل حسام عليا مستغربا ما تفعله خديجة و الوقت ليس وقت صلاة . فأجابه علي بأنها تصلي صلاة الضحى التي هي من السنن المعروفة ...
عاد حسام يراقب ابنته من طرف خفي ... خشوع و سكينة و حركات متقنة متكررة لم يسمع بها من قبل تدل على فقه وتوسع في الدقائق و التفاصيل ...
توجه ببصره إلى السماء و أغمض عينيه يقارن بين الأمس و اليوم ، بين الماضي و الحاضر ، بين الأم و الإبنة ... أية مفارقات قدر له أن يشهدها و يعيشها . أم تهدم قيم والديها و عائلتها و تجهد طويلا لأجل أن تؤسس لقيم أخرى مناقضة تعيش بها مع زوجها و أولادها ... و اليوم تهدم الإبنة تعب أمها و تؤسس لما يخالفها و يجتزها من جذورها!!...
مر أسبوع كامل و الرحلة الصباحية لم تنقطع أبدا . وحسام لا ينفك مراقبا متأملا يحدث نفسه ويسترجع الذكريات و يفكر في مستقبل العائلة ...
في اليوم الثامن بعد حديث سياسي شيق توجه علي إلى حسام بسؤال أراده مفتتح كلامه معه :
-علي : هل تعتقد أن صراعنا مع الغرب صراع حضاري فكري أم صراع مادي بحت بدافع السيطرة و الإستغلال؟
-حسام : في تقديري الشخصي أنه يتضمن الأمرين معا . ثم إنه بعد التحقيق لا ينفك الصراع الفكري عن الصراع المادي فهو أداة من أدواته .
-علي :أخالفك في هذا يا عماه إذا جعلته مضطردا في جميع أنواع الفكر . ففي تاريخنا الإسلامي لم يكن الفكر ستارا لتحقيق مطامع مادية أبدا .
-حسام : إذا بماذا تفسر حقيقة الفتوحات التي تمت حينها؟ وما الذي يبررها ما دام أنها فكر يمكن بثه بالطرق العلمية المعروفة التي لا يخلو منها زمان أبدا؟ ...
-علي : حقيقة الفتوحات لا تعلم إلا إذا علمت حقيقة الدين الإسلامي . فهل تأذن لي ببيان سريع موجز لحقائق يؤدي ابتعادها عن الذهن إلى تشوش في الميزان و اضطراب في تفسير الأحداث .
-حسام : تفضل ...
-علي : ماهية دين الإسلام هو تفسير من البارئ لحقيقة وجود طارئ . هذا التفسير يتضمن حقيقة و منهجا ينبثق منها . و الوجود الذي يتعلق به التفسير هو وجود الحياة و وجود الإنسان . ببساطة شديدة الحياة هي خلق الله لذا يجب أن تحكم بشريعة الله لا بشرائع أخرى وهذا هو الحق و الخير و الجمال الذي لا يمكن إنكاره . و الإنسان الذي يعرفه لنا الإسلام بأنه راصد منفعل بما معه من أدوات علم و طاقات فطرية حية متحركة ، هو خلق الله . فلذا يجب أن يتحرر من جميع أشكال العبودية لأخيه الإنسان إلى عبودية و تعلق و عشق و فناء مع تعاليم الخالق البارئ العليم بما يصلحه و يسعده ... وهذا كله يوضح بصورة جلية أن الفتوحات الإسلامية لم تكن إلا من أجل تحرير الإنسان! وتحطيم جميع القيود و الأغلال التي تحول بينه و بين أن ينطلق حرا يعيش إنسانيته الحقيقية بعيدا عن جميع أشكال التبعية و الإستغلال و التسلط ...! هل تعلم مجتمعا غير المجتمع الإسلامي عبر التاريخ يقول فيه العامة وعلى الملأ للسلطان الأكبر و الحاكم الأعلى : لو رأينا فيك اعوجاجا لقومناه بحد سيوفنا ؟!...
هذه هي الحرية الحقيقية للمجتمعات حيث يكون فيها الحاكم شخصا عاديا جدا يكلف بمتابعة مصالح الناس و تطبيق شريعة الخالق بينهم لا شرائع البشر ... وهذا هو الحق و الخير و الجمال ... فأما أنه حق فلأنه إسناد الشيء إلى أهله و وضع للأمور في مكانها . وأما أنه خير فلأنه يحقق المصالح الحقيقية . و أما أنه الجمال فلأنه حق و خير و حرية حقيقية ...
صمت حسام برهة ثم سأل عليا :
-حسام : كلامك يا علي من الناحية المنطقية قوي لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا : ما الذي يدفع الإنسان العادي البسيط في الأساس إلى البحث عن تفسير لهذا الوجود و لحياته فيه ؟! يوجد فيشتغل بتحقيق متطلبات حياته و كفى ! ... ما الذي سيدفعه إلى تجاوز المعرفة الحسية إلى المعرفة العقلية للبحث عما ذكرت...
-علي : الدوافع كثيرة لكنك سألت عما ينقله من حال تكون فيها حياته متمحضة لمتطلبات العيش المادية إلى حال يفكر و يسأل فيها عن حقيقة وجوده . ففي هذه الحالة أهم ما يجب أن يدفعه أمران :الموت و العقل . أو ما قد يسميه الفلاسفة بوعي الموت و إدخال العقل في العالم.....
-حسام : فما الذي يجعله يعي الموت و يدخل عقله في العالم كما ذكرت ؟!
-علي : لأنه إنسان واع و عاقل و ليس حيوانا يقاد بالغريزة ... وإلا فما الفرق بيني و بين الحيوان إذا كنت سألغي و أشطب فوارق العقل و الوعي بيني و بينه ؟!!......
صمت حسام طويلا ثم لم ينبس ببنت شفة ... فتركه علي إلى تأملاته و خيالاته ...
ومضت الإجازة الصيفية ، وحسام و علي يتناقشان و يتحاوران بحضور خديجة و في غيابها ... وكان علي يزوده بما يطلب من كتب باستمرار ... وحسام يزداد إعجابه بعلي أكثر فأكثر ويدهشه في كل مرة سعة اطلاعه و دقة منطقه و قوة تحليله... يدخل إلى الغرفة حيث ينام فيجد كتب الفلسفة و كتب الدين و كتب العلوم الكونية ..... لكنه في النهاية وفي المحصلة لا يسمع عليا يتحدث إلا و هدفه التوحيد ، إظهاره و كشفه و تقريره ....
أبو محمد القلموني
14-07-2008, 01:58 AM
-21-
أسبوع واحد و تنقضي الإجازة الصيفية و يعود الطلاب إلى قاعات المحاضرات و فصول التدريس ... وفيما الجميع يستعد للسنة الدراسية الجديدة ... إذ حصل ما لم يكن بالحسبان ... تطورت المعارك على الجبهات مع العدو ... تسارعت الأحداث ... قصف جوي يطال العمق ... ردود فعل عنيفة ... جنون ... اضطراب ... وأخيرا بدء اجتياحات موسعة ستطاول البلد بأثره ...
بنتيجة ذلك حصلت حركة نزوح واسعة ، خصوصا من أهالي المناطق التي وصلها الإجتياح ...
أنباء تتردد عن احتمال وصول العدو بعد أيام إلى القرية ... تداعى الكبار و الوجهاء ليضعوا خططا تحمي الأهالي و تؤمن الأماكن الأكثر أمنا لهم ...
ضباط من الجيش يزورون المناطق ومعهم خطط لتجنيد متطوعين ، يدربهم و يزودهم بما يلزم من أجل إطلاق حركات مقاومة في جميع القرى و المدن ...
مساء و الشيخ محمد مجتمع مع بعض الشباب و التلاميذ في المسجد ، إذ جاءته رسالة من أحد الوجهاء يطلبه على عجل.
توجه الشيخ إلى المكان برفقة بعض الإخوة. وهناك كان اجتماع وشيك لرجالات القرية مع أحد ضباط الجيش . بعد حضور الشيخ عقد الإجتماع و جرت التداولات بين معارض و مؤيد زج الشباب في هذه المعركة .... والشيخ صامت لا يتكلم .... حتى طلب إليه الكلام فاستفسر من الضابط عن الخطة و أهدافها الحقيقية ... فأسمعه أنها باختصار حركة مقاومة مستقلة تنسق مع قيادة الجيش في الأمور الميدانية الحربية ، و تتلقى الدعم الكامل اللازم لتحركها ....
وافق الشيخ على الخطة و تسلم من الضابط التفاصيل ، و مضى ليشرع بالتحضيرات اللازمة ...
بعد الفجر عقد اجتماع موسع في منزل الشيخ محمد للشباب الملتزم . وطرحت القضية فاختلف الحضور بين مؤيد و معارض .
فأما المؤيدون فيرون الأمر ضرورة لا محيص عنها و جهاد دفع لا بد منه . وأما المعارضون فيرون أن يستقلوا بجهادهم و أن يجعلوه تحت راية أخرى ، فلا تنسيق و لا تعاون حتى تكون الراية متميزة مستقلة. ثم إذا ناقشهم المؤيدون بما يجعل الأمر مستحيل التطبيق قالوا: إذا نهاجر! ...
علي كان حاضرا يستمع فلما طلب إليه الكلام اعتذر و طلب تأجيل تعليقه إلى اللقاء المقبل ....
طلب الشيخ من الجميع أن يراجع القضية بتجرد و بمسؤولية على أن يكون اللقاء بعد صلاة العصر ، فالمسألة عاجلة و لا تحتمل التأخير ...
انطلق علي برفقة جعفر من منزل الشيخ محمد ، وتوجها بطلب من علي إلى البرية ...
كان علي يتنقل بهدوء و صمت بين الأماكن ، و يقف متأملا يسترجع الذكريات و يستنهض المشاعر الكامنة ...
هنا مشهد ذكر و هناك مشهد سجود و هنالك مشهد قرآن يتلى ... مشاهد تخرج من الذاكرة تباعا كلما وقعت عيناه على مسارحها الغابرة ...
وصلا إلى مكان عال مرتفع تظهر منه القرية كاملة و البحر ممتد يزاحم الأفق و يسده ... تنفس علي بملئ رئتيه و جلس ينظر إلى الأفق تارة و إلى القرية تارة أخرى ...
هنا نشأ علي و ترعرع في هذه الأرض الطيبة ... هنا مهد الذكريات و سرير الأحلام و محط الطمأنينة ... هنا تعلم علي التوحيد ... علمته الطبيعة الساحرة ... تعلم بين أشجارها و طيورها ... هنا مقاعد الدراسة منتشرة في بقع ساحرة غناء تسقي الناظر كؤوس الهوى تباعا حتى الثمالة ...
أفلا يحب هذه الأرض المعطاءة ؟! وعليها تربى و في سحرها و رياضها تعلم التوحيد ؟!
أوليست هذه أرض الأجداد ؟! موطئ أقدام الصحابة الكرام أتباع المصطفى صلى الله عليه و سلم ؟!
فهل يصح أن تترك هذه الأرض الطاهرة لتطأها أقدام الطغاة الجبابرة ؟! ....
وانطلق علي مع مشاعره و أحاسيسه المرهفة ..... فاكتشف أخيرا كيف يحب الموحد وطنه ، و لأجل أي شيء يتعلق به و يعشقه ؟! ...
مضى الوقت سريعا و حان موعد اللقاء ، فاستأذن علي من الشيخ أن يبتدئ الكلام ...
بعد مقدمة مختصرة ذكر علي رأيه المؤيد للشيخ محمد داعما إياه بما يرى من أدلة . ثم حصلت اختلافات و حوارات جانبية كثيرة إلى أن اقترح علي أن يتحاور من ينتدبه المؤيدون مع من ينتدبه المعارضون. واختير علي عن المؤيدين و اختير زيد عن المعارضين.
-علي : المسألة عندي واضحة و هي مقررة بحسب ما ذكرت و تدخل في المسمى الفقهي تحت عنوان جهاد الدفع .
-زيد : نعم لكن الجهاد لا يجوز تحت راية جاهلية.
-علي : أين هي الراية الجاهلية التي تراها ولا نراها يا أخي؟!
-زيد : ألست في حربك هذه تدفع عن نظام جاهلي بل و تنسق معه ميدانيا ؟!
-علي : جهاد الدفع هو للدفاع عن الأرض و العرض و هذا متحقق في الصورة المعروضة. وأما كونه يدفع بطريق مباشر عن ما ذكرت ، فلا نسلم لك به. و الجواب عليه من وجوه :
أولا الدفع عن الأرض و العرض متحقق فلا يلتفت إلى ما قد يؤدي إليه بصورة غير مباشرة ؛ خصوصا أنه ليس فيه إنشاء لجديد في الواقع. فالنظام موجود قبل جهاد الدفع و يبقى بعده .
ثانيا النظام الجاهلي هو صفة صحيحة لكنه لا يقتضي ما قد يفهمه البعض ، ويتضخم في أذهانهم من ضرورة الإبتعاد عنه و توجس الخيفة منه في أدنى تعامل ..... فالنظام الجاهلي لا يعني شيئا سوى رفض الخضوع لله و تعاليمه و استبدالها بتعاليم أخرى يشرع فيها البشر للبشر . فهذا يستلزم دعوة حكيمة و نصحا مشفقا لا اعتزالا فيه من البغض و الكراهية ما يعزلنا عنهم و يعزلهم عنا ...
وأيضا نحن لا مشكلة بيننا و بين النظام الحاكم إلا ما ذكرنا فلا يمنع أن نتعاون معه في غيره و نجعل من تعاوننا هذا تقوية لأواصر و علاقات ربما كانت منفذا حقيقيا إلى قلوبهم و عقولهم ... ففي الجملة يعامل النظام بما يعامل به الأفراد . أفرأيت إن كان والدك على كفر و ضلال فكيف تعامله إن أردت اتباع المصطفى صلى الله عليه و سلم و السير على طريق دعوته ؟!.......
ثم طلب الشيخ محمد الكلام فأسهب في ذكر الأدلة الكثيرة المتضافرة و كر على الشبهات واحدة واحدة ... فلم ينته اللقاء إلا و الجميع متوافق على ضرورة الدفع ... تلى ذلك موعظة مؤثرة مبكية للشيخ و دعاء خاشع محفز ... ثم انفض الجميع استعدادا للحاق بمعسكرات التدريب ...
قام الشيخ محمد بما يلزم مع الجهات المختصة ، فاتفق معهم على الخطة و التفاصيل و كيفية التنسيق . وحصل منهم على التجهيزات اللازمة ...
وأنشئ معسكر التدريب في منطقة نائية ، معدة لتكون مكان انطلاق العمليات ...
ودع علي خديجة وداعا حارا و أوصاها بالدعاء ... قبل يد أبيه و رأس أمه ، و طلب إليهما أن لا يكفا عن الدعاء له و الترضي عنه .... عانق عائشة و حسينا عناقا طويلا ... و انطلق بعزم و ثبات ...
محمد أحمد الفلو
14-07-2008, 02:05 AM
رجعنا للتشويق من جديد ... :1 (11)::1 (32):
أشعر بها خليطاً بين ما كنا نقرأه من روايات نجيب الكيلاني الرائعة وبين ما قرأته لمحمد قطب من فكر .
أبو محمد القلموني
15-07-2008, 01:52 AM
-22-
(الحلقة ما قبل الأخيرة)
بدأ العمل الشاق و التدريب القاسي ... الكل كان مندفعا حتى الشيخ محمد الذي بلغ من العمر ما بلغ لم يعذر نفسه و لم يتخلف ليوم واحد عن التدريب ... وكان بعزيمته القوية و اندفاعه المستميت يتفوق على كثير من الشباب ... وفي المساء كان يعطي الدروس و المواعظ التي تحرك القلوب ...
بعد أيام من التدريب جاء الخبر باقتراب العدو ... فحان موعد اللقاء ...كانت الخطة تقضي بتوجيه ضربات موجعة و سريعة تضطره لإيقاف زحفه ...
وانتدب للمهمة عدد من الشباب كان من بينهم علي و جعفر ... شرحت الخطة لهم جيدا و زودوا بما يلزم ... وتم الإتفاق أن يكون التحرك بعد الفجر ....
لم ينم علي يومها ، أحيا الليل بقراءة القرآن و الصلاة ...
كم يعشق علي السجود ؟! و كيف لا و هو يكون فيه أقرب ما يكون إلى ربه و مولاه ، فينطلق يناجيه و يكلمه و يتذلل إليه و يبكي بين يديه بكاء الضعيف المسكين ... يكلمه مباشرة و دون واسطة ، فهو أقرب إليه من حبل الوريد و هو أسمع له من نفسه ...
يا رب أنت خلقتني و صورتني و ربيتني ... سبحانك أنت من أوجدني في هذه الحياة ، فبك أحيا و بك أموت وإليك أرجع ... يا رب أنت رزقتني حسن الصورة و أغدقت علي من نعمك ... فلا أصبح و لا أمسي إلا وأنا مغمور ببحر جودك و عطائك ... يا رب لا تعذبني بالنار فتحرمني لذة النظر إلى وجهك ، وأنت تعلم أن كل ذرة مني تشتاق للنظر إليك يا ربي يا كريم ... اللهم شهدت لك بالوحدانية و لنبيك المصطفى صلى الله عليه و سلم بالرسالة ... يا رب لقد بذلت وسعي لاتباعه و عشق فؤادي اسمه ... اللهم يا رب يا حليم يا كريم لا تمنعني رؤيته ... و لا تحرمني أن أرد حوضه و أشرب من يديه الشريفتين ... اللهم إنه أحب إلي من كل أحد و أنت تعلم أني أفديه بنفسي و ما ملكت ... اللهم اشتاقت نفسي لرؤيتك و رؤيته ، فارزقني شهادة أطهر بها من ذنوبي و أقدم عليك تكلمني فأسمع كلامك الأقدس و تنظر عيناي إلى بهائك الأسنى...
علي كان في تلك الليلة يشعر بالشوق كما لم يشعر به قبل اليوم ... أنساه الله ذكر خديجة و ذكر الأهل و ذكر الأحبة ... وعاش ساعات من الحضور و الفناء لم يشهدهما قلبه من قبل ...
لم يكن في قلبه أحد إلا الله و لا في عقله شيء سوى السعي في ما يحبه و يرضيه عنه ... إرضاء الله همه الأوحد و مطلبه المتفرد ...
بعد الفجر ودع الشباب إخوانهم و مضوا في طريقهم يسبحون و يهللون و يهتفون للشهادة ...
النهار طويل و الخطة على مراحل . وكان الشباب ينفذونها حسب التعليمات بدقة و إتقان و شجاعة ...
في المساء قبيل الغروب فاجأ بعض عناصر العدو المجموعة بهجوم مباغت ... واشتعلت المعركة ..... العدو يتقدم من جهتين مفوتا على الشباب أي فرصة للإنسحاب ...
لمح علي مخرجا يمكنه من جعل العدو مرمى لرصاصه ، فقرر أن يسلكه سريعا بعد أن ودع جعفرا ... وتفرق الشباب بعد أن تواعدوا على مكان اللقاء ...
علي كان يصعد و يصعد ليصل إلى المكان المناسب لتوجيه نيرانه إلى العدو ... كان يعدو بجرأة و شجاعة عظيمة وكل همه أن يحمي إخوانه و يؤمن لهم طريقة تفك الحصار عنهم ...
وصل إلى المكان و بدأ يوجه نيرانه و هو يذكر الله و يدعوه ... فاجأه أحد عناصر العدو يخرج إليه من تلة مقابلة ، فوجه علي إليه رصاصة أردته. ثم عاد يصب نيرانه لفك الحصار عن إخوانه ...
و بينما هو كذلك إذ خرج إليه آخر مختبئا يطلق النار عليه ... لم تداخله الرهبة أبدا ... انتقل بقدم ثابتة و قلب يملؤه العشق و لسان لا يفتر عن الذكر ، يريد أن يقترب من الهدف ليصوب إليه نيرانه ... وفيما هو كذلك إذ أصابه عدوه برصاصة استقرت في بطنه سقط من جرائها ، و ظل يهوي و يهوي إلى أن أمسكته شجرة ليمون صغيرة حمته من السقوط في الوادي السحيق ...
بعد ساعات كان الجميع في المكان المتفق عليه إلا عليا ! ... انتظره الجميع طويلا ولكن دون جدوى ...
فقرروا الرجوع إلى المعسكر إلا جعفر الذي طلب إذنا خاصا من أمير المجموعة ليذهب للبحث عنه ، فلعله يجده جريحا يحتاج إلى مساعدة ..
أمضى جعفر الليل بطوله يبحث عن علي و لا يجده ... صلى الفجر و تابع بحثه ... أعياه التعب و أرهقه المسير بعد يوم طويل لم يرتح فيه للحظة واحدة ... سقط من الإعياء و ذهب في إغفاءة قصيرة ...
أيقظته أشعة الشمس المحرقة فتحول إلى جنبه لتقع عينه على مشهد خلع فؤاده ، و أجرى الدموع تنطلق من عينيه في صمت صارخ و هدوء متفجر ... ذهب بسرعة ليعاين المشهد عن قرب ...
وما أن وصل وتأكد من حقيقة ما رأته عيناه حتى انطلق لسانه بالتكبير و التهليل . وأكب على علي يقبل رأسه و وجنتيه و الدموع تجري أنهارا من عينيه تختلط بدماء علي الزكية الطاهرة ، لتسقي شجرة الليمون من ترياق الحب والوفاء ...
حفظت هذه الأرض الطيبة جسد علي فأرسلت له أصغر أشجارها لتحميه من السقوط و لتحتضن جسده و تشرب من دمائه الزكية ... فظلت هذه الدماء الطاهرة التي عجنت بالتوحيد و أشبعت بعشق خالص و شوق ملتهب تتدفق طيلة الليل تروي تراب الشام ، موطئ أقدام الأحبة تلاميذ المصطفى صلى الله عليه و سلم ...
و ظلت و ستظل الشام تشرب و تتغذى بدم التوحيد و تتشبع برائحته الساحرة لترسله بعد ذلك في أزهارها و ورودها طيبا خلابا ، يعطر الأجواء بعطر إيماني أخاذ و لتثمر هنا و هناك من أمثال علي من يشرب من مائها و يتنفس في هوائها و يتعلم منها التوحيد ... حتى يشتد العبق و تطهر سماؤها كما طهرت أرضها ، فتقلب للطغاة رأس المجن و تعود رايات التوحيد تحلق في أجوائها معيدة لها سيرتها الأولى ...
الله أكبر...وصف و مشهد يرتعش منه القلب من حب لقاء الله و الحب في الله.. و بعدين؟؟؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ناطرين الحلقة الأخيرة على احر من الجمر ما تطول علينا.
أبو محمد القلموني
16-07-2008, 02:28 AM
-23-
الحلقة الأخيرة
حمل جعفر جسد علي الطاهر و انطلق به بين البراري و السهول يقطع المفاوز ... تودعه الطيور و الأغصان و الورود ... الجميع يشيعه بنظرات عز و فخار و بهجة .... قريبا جسد موحد آخر ستضمه هذه الأرض الطيبة تباهي به الدنيا ...
كان جميع من في المعسكر قلقا لتأخر جعفر و علي ... و قنت الشيخ محمد يدعو لهما خاصة ...
في المساء شوهد شخص يمشي بخطوات متثاقلة وعلى كتفيه جسد آخر ... تداعى الجميع فإذا جعفر يحمل عليا ...
تقدم جعفر حاني الرأس و الألم يعصف في قلبه وبين جوانحه . وضع عليا التلميذ بين يدي الشيخ المعلم . نظر إليه ... وغبش الدموع في عينيه ، تنهمر بلا انقطاع . قال للشيخ محمد : لقد استشهد علي ...
وعلت أصوات التكبير و التهليل تنطلق من الحناجر ، و أكب الشيخ على علي يقبله و نشيج البكاء يقطع صوته . ثم استقبل القبلة و كبر ساجدا يدعو الله لعلي أن يتقبله من الشهداء و يسأله أن يلحقه به عن قريب ...
ومع الفجر كان الخبر قد انتشر ، و ذاع صيت استشهاد علي ... ودخل الحزن عائلتي الحاج مصطفى وحسام ... وتوافد الجميع لحضور الدفن ... فيما ظلت خديجة مع أهل علي تسليهم و تواسيهم و الحزن في قلبها أعظم من الجبال . ومع هذا تصبر نفسها و تحبسها أن لا يخرج منها غير ذكر الله و الدعاء ... فكانت تعطي القوم درسا رائعا من دروس التوحيد العملي ...
وفي داخلها قرار حاسم و جازم لا عودة عنه أبدا ... لقد قررت أنها لن ترتبط بأحد بعد علي طمعا أن تكون زوجه في الجنة ...
في المساء دخل الحاج مصطفى غرفة علي . أضاء المصباح و نظر في زوايا الغرفة متجنبا قدر المستطاع أن تقع عينه على سرير علي ... ثم حانت منه التفاتة إلى السرير فبكى بكاء شديدا ... اليوم لن ينام علي على هذا السرير و لكن الأمل بالله كبير أن يكون الآن في روضة من رياض الجنة يستريح من عناء الدنيا ...
توجه إلى المغسلة التي كان يتوضأ منها علي ، فحضر نفسه للصلاة ثم كبر حيث كان علي يكبر وافتتح صلاته يقرأ و يبكي...
بعد دقائق توجهت عائشة إلى غرفة علي بخطوات وئيدة ، وهي في الطريق كانت تتذكر تلك الأيام الجميلة حين كانت تتسلل إلى غرفته ليلا لتجده يصلي أو يقرأ ، فتنتظر فراغه مما هو فيه لتحادثه و تمازحه و تتعلم منه ...
دخلت عائشة الغرفة فوجدت أباها يصلي فصفت خلفه ... وما هي إلا دقائق حتى دخل حسين فصف بقرب عائشة ... قدمته عائشة ليقف بقرب والدها و بقيت هي في الخلف ... سجد الوالد و سجد الجميع خلفه يبكون و يسألون الله لعلي المغفرة و الدرجات العالية في الجنة ...
حسين قرر في سجوده أن يتوب إلى الله تعالى و يسير في طريق التوحيد الذي طالما دعاه إليه علي ، فكان يصده و يتهرب منه ... لقد جاء استشهاده ليؤكد كل كلمة و كل حرف سمعه من أخيه ... لقد علمه علي اليوم المعنى الحقيقي للتوحيد وكيف يكون الله حقيقة أكبر من كل شيء في حياته!....
رجعت خديجة إلى المنزل بصحبة والدها و إخوتها ... والدموع تنهمر بلا توقف من مقلتيها ... دخلت غرفتها ووقفت بين يدي الله تصلي و تناجيه ، و تسأله بافتقار و إلحاح أن يثبتها و يلحقها بعلي و يجعلها زوجه في الجنة ...
جلس حسام يفكر في الأحداث السريعة التي تتلاحق فصولها في منزله ... حجاب خديجة .... ارتباطها بعلي ... مشاكل هذا الإرتباط في عائلته ... و اليوم اسشهاد علي ...
وهو يراجع حواراته مع علي تذكر يوم قال له في البرية أن وعي الموت و تحريك العقل هما الدافع للإنسان كي يبحث عن الحقيقة ... ولكن أية حقيقة يبحث عنها حسام ؟! ... هل هناك أوضح من هذه الحقيقة التي شهدها مرارا و تكرارا؟!
وطفق يفكر بالموت فوجده مصيرا محتوما لأي إنسان ... حاول أن يهرب ... شعر برهبة ... تذكر طمأنينة علي و ثبات خديجة اليوم ... عاد يفكر في كلام علي ...
في الصباح قبيل الفجر ذهب حسام إلى غرفة خديجة ليتفقدها فوجدها نائمة في مصلاها ... أيقظها فقامت على عجل لتتوضأ وتحضر نفسها لصلاة الفجر ... جاءها والدها بعد برهة وهو يمسح عن وجهه و يديه الماء ... أقام الصلاة و كبر! فصفت خديجة خلفه في ذهول ...
بعد الصلاة نهضت خديجة فعانقت والدها عناقا حارا و هي تبكي وقد اختلطت في عينيها دموع الفرح و الحزن معا ...
تمت الرواية بعون الله
وكتبها راجي عفو ربه و الفقير إلى فضله ومنته
أبو محمد القلموني
<H4 align=center>بسم الله الرحمن الرحيم
( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلا)...
صدق الله العظيم...الاية/23/ الاحزاب
</H4>
محمد أحمد الفلو
16-07-2008, 01:00 PM
قال النبي صلي الله عليه وسلم: (( من سأل الله تعالى الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء ، وإن مات على فراشه ))
لماذا دائماً ينتظر حسام إستشهاد علي حتى يعود إلى الله ؟
...
...
...
يا هلا بالمعلم ابو محمد......
الله يجزيك الخير ع هل الؤصة الحلوة و المعبرة .......
انا شخصياً اثرت فيني كتير هل الؤصة و يمكن في كم مفهوم كانت بحاجة لهن لأيتن ..........
يعطيك العافية .......هلأ اذا ما عندك مانع تفيدنا اكتر و اكتر بإنك تشاركنا بحورا حول الافكار لموجودا بهل الؤصة ......بالموضوع خطوات في طريق التوحيد (حوار)... (http://www.qalamoun.com/Forum/showthread.php?t=6336)لي فتحتو انا بعد ما شوفت اديش فينا نستفاد بحياتنا اليومية و اديش فيا هل الؤصة من عبر و افكار مهمة ......يعني حسب ما بعتأد انو منك مألفا ليحكوا العالم بين بعضون مألفا اكيد ع خلفية فكرة عميءة و لازم تكون موجودة عند كل الشباب........
يعطيكن العافية .....
اخوكم دوكر المعوكر.........
lina k
17-07-2008, 02:08 AM
سلام,في الحقيقة قصة رائعة ومؤثرة,تحيطها أجواء الفرح والحزن والفخر في آن معا.ولا يمكن لمن يقرؤها سوى قول"سبحان الله"......
شكرا لكم لأنكم ومن خلال هذه القصة علّمتموني درسا هاما كنت على وشك نسيانه....
بارك الله بكم.....
أبو محمد القلموني
17-07-2008, 03:22 AM
في الحقيقة حسام كان يفكر مليا في كلام علي قبل أن يأتي استشهاده لينقله تلك النقلة البعيدة.
استشعار الوجود الطارئ و كثرة التفكير فيه و تلمسه المرة بعد المرة يحرك في النفس الشوق إلى الإعتقاد . ثم يأتي حدث كاستشهاد الفتى الذي طرأ على وعي حسام مرتين في بدايته و في نهايته ، ليأخذ بيده و يدفعه للولوج.
أختي الكريمة حسام بتفكيره المنفتح و بترفعه عن التسلط و هيامه بالحوار يختزن دلالة معينة.
و علي بما يمتلك من صفات متناغمة مع حسام يمثل بالنسبة له رسول الحجة الأمثل الذي ينتظره في عقله الباطن على أحر من الجمر.
لقد نجح علي بتحرير حسام من أوهامه قبل أن يستشهد. ثم جاء استشهاده الساخن بكل مدلولاته في تلك اللحظة ليعطيه الطاقة اللازمة للتحرك... فتحرك . و قد كان يمكن ألا يتحرك أيضا!
لماذا دائماً ينتظر حسام إستشهاد علي حتى يعود إلى الله ؟
...
...
...
في الحقيقة حسام كان يفكر مليا في كلام علي قبل أن يأتي استشهاده لينقله تلك النقلة البعيدة.
استشعار الوجود الطارئ و كثرة التفكير فيه و تلمسه المرة بعد المرة يحرك في النفس الشوق إلى الإعتقاد . ثم يأتي حدث كاستشهاد الفتى الذي طرأ على وعي حسام مرتين في بدايته و في نهايته ، ليأخذ بيده و يدفعه للولوج.
أختي الكريمة حسام بتفكيره المنفتح و بترفعه عن التسلط و هيامه بالحوار يختزن دلالة معينة.
و علي بما يمتلك من صفات متناغمة مع حسام يمثل بالنسبة له رسول الحجة الأمثل الذي ينتظره في عقله الباطن على أحر من الجمر.
لقد نجح علي بتحرير حسام من أوهامه قبل أن يستشهد. ثم جاء استشهاده الساخن بكل مدلولاته في تلك اللحظة ليعطيه الطاقة اللازمة للتحرك... فتحرك . و قد كان يمكن ألا يتحرك أيضا!
كتبتها رسالة لحسام لكنه لن يقرأها
...
...
أيمن غ القلموني
18-07-2008, 05:25 PM
بارك الله بكم أخي أبو محمد ، قصة ذات أبعاد ودلالات مهمة وسياق الأحداث تعليمي وممتع وهادف.
الزاهر
26-01-2009, 02:14 AM
نصيحة لجميع من لم يمر بعد على هذا الموضوع : إقرأه بروية كل يوم جزء ... وستجد فيه الفوائد والعبر إن شاء الله!
الزاهر
06-12-2009, 09:00 AM
أذكر إنو الحج أبو محمد وعدنا بشي محل بقصة تانية ... إذا حدا واصلو يشفلنا الوضع !!!
أسامة طوط
20-04-2011, 07:23 PM
في صفحات بهالمنتدى بتسوى ................. " شغلات عجيبة "
بالفعل قصة رائعة وما فيها من أدبيات ساحرة ووو...!!
يعني الزاهر لو كان مستلم هالشغلة من قبل كان قال : + 1 للأخ أبو محمد الشقره
Powered by vBulletin® Version 4.1.11 Copyright © 2025 vBulletin Solutions, Inc. All rights reserved, TranZ by Almuhajir