أبو حسن
12-07-2008, 09:07 PM
http://www.elaph.com/elaphweb/Resources/images/ElaphGuys/2008/2/thumbnails/T_279d57c4-5f25-489f-9c4d-15a9661ec1f5.JPG
وصل جيروم الى المحطة في لحظةٍ كان قطار الأنفاق ينطلق. جلس يرتاح على المقعد البلاستيكي الأصفر ريثما يصل المترو الباريسي التالي. حدّق الى اللوح الرقمي: ثمة زحام وتأخير، ولن يصل القطار الثاني قبل 12 دقيقة. تفحص المكان حوله: وجوه انتظار شاحبة ومتأففة، ترطّبها حماسة بعض السياح وأصواتهم العالية. نظر قربه: كتابٌ متروك على المقعد المجاور. لفته العنوان. نظر الشاب حوله من جديد. لا أحد يبدو مهتما بالكتاب أو معنيا به. تناوله عن المقعد. فتح الكتاب الضخم بفضول وقلّب الـ 529 صفحة. فكر جيروم ان مالك الكتاب لا بد نسيه على المقعد، ورأى أن لا ضير من أخذه. عندما وصل المترو أخيرا، أكمل الشاب والكتاب المشوار معا.
ما لم يكن جيروم يعرفه آنذاك، واكتشفه في ما بعد عندما انتبه الى الكلمات المكتوبة على الصفحة الأخيرة من الكتاب، ان مالك الكتاب لم “ينس” كتابه، بل تركه. تركه هناك على ذاك المقعد البلاستيكي الأصفر عن سابق تصوّر وتصميم. لا بقصد التخلص منه، بل لكي “يتبناه” قارىء آخر، ويكون والدا موقتا له، مثلما يُترك طفل على باب ملجأ للأيتام.
(انطلقت رحلة هذا الكتاب مع ديمي تشستر في 15 تشرين الأول 2003 في شيكاغو. يرجى ممن يجده أن يقرأه اذا كان مهتما، ثم ان يتركه بدوره في مكان عام عندما ينتهي منه).
لقد قطع الكتاب إذاً محيطا كاملا خلال سنة ونصف سنة من الترحال، ومن يعلم كم عدد الايدي والبلدان والعيون والقراء المختلفين الذين تنقّل بينهم، نساء ورجالا وشبابا ومسنين واقوياء وضعفاء وغاضبين ومرحين وعاشقين ويائسين الخ.
هذه، في اختصار، قصة من مجموعة قصص تشكل ظاهرة تشهد رواجا كبيرا في الغرب اليوم، تحمل اسم Book crossing، وقد “تورّطت” فيها حتى الآن 120 دولة من العالم. الظاهرة بدأت في الولايات المتحدة منذ بضعة اعوام، ومؤسسها اسمه رون هورنبايكر، يقيم في ميسوري، ويشبّه الكتب بالفيروسات: فيروسات جميلة تنتقل عدواها من انسان الى آخر ومن بلد الى بلد، والهدف: تحويل العالم مكتبة ضخمة ، وتسهيل القراءة المجانية.
“اذا كنتَ تحب كتابا اطلق سراحه”، يقول هواة الـBook crossing. تفيد الاحصاءات ان 25 في المئة من الكتب فقط يتم العثور عليها، وان البقية تضيع. لكن الأمكنة صالحة كلها لنثر الكتب: سينما، مقهى، سوبرماركت، حديقة عامة، حافة شرفة، مقعد في محطة او داخل قطار، الخ. انها كتب “بريّة” تنتظر من يصطادها، وزّعها قراءٌ أحبوها، فرغبوا أن يشاركهم آخرون لذة قراءتها.
عشقتُ الفكرة على الفور. لكني حاولت مرارا، مذ اطلعتُ عليها، أن أتخيل رحلة كتاب يُترك على مقعد في لبنان او في احد البلدان العربية، لأجد أننا في مأزق: فنحن منحازون بالفطرة، أولا، الى الارتياب من كل ما “يُترك”، والى الاعتقاد بأنه مفخخ، من فرط ما تُركت – وتُترك - لنا حقائب وصناديق وعلب حاملة للموت. ومن المحتمل ان يعتقد المارة، في هذه الأزمنة المرّة المرعبة، ان المتروك قنبلة على شكل كتاب.
ونحن منحازون بالفطرة، ثانيا، الى الاعتقاد بأن الكتاب المهجور كتاب سيىء لا محالة: “لو فيه خير لما تخلّى صاحبه عنه”. وهذا ما حصل فعلا مع بعض الكتّاب الأجانب الذين حاولوا استغلال ظاهرة الـBook crossing لترويج أعمالهم، فوزّعوا منها نسخا كثيرة هنا وهناك، لكن النتيجة انهم انكشفوا، وان كثرة النسخ جعلت معظم الناس يظنون ان الكتاب فاشل، وان رداءة مستواه هو ما دفع القراء الى التخلي عنه. إذاً، نزدري الكتاب المتروك سلفا ومن المرجّح ألا نعيره اي اهمية. او ربما سيتلقفه صاحب سناك ويحوّل صفحاته ورقاً يلفّ به السندويشات، اذا كانت من النوع والحجم المناسبين.
ونحن منحازون بالفطرة، ثالثا، الى التمسّك بمقتنياتنا خوفاً من صروف الدهر. أصلاً، محبّ الكتب غالبا ما يكون على علاقة تملّك بها. أعرف أصدقاء كثيرين يرفضون إعارة كتبهم، وإذا أعاروها لا يهدأ لهم بال إلا بعد أن ترجع سالمة الى حضن أمّها، أي مكتبتهم.
فكّرت: بين البارانويا العربية “العضوية”، والأنانية المتلازمة مع أمومة الكتب، كيف يمكن أن نطلق ظاهرة - شئت أن اسمّيها “الكتاب المسافر” - من لبنان؟ توجهتُ الى مكتبتي الخاصة. قررت أن اختار ثلاثة كتب وان افتح باب القفص امامها. اردتُ طبعا أن ابدأ بالأجمل، فلا فضل في الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه، ثم اي هدية يكون؟ أمسكتُ كتابا عزيزا، ثم ثانيا فثالثا، وشعرتُ بقلبي ينفطر. لكل كتاب روح، بل كل كتاب روحٌ تسكننا، فكيف يمكن التخلي عنه بهذه الطريقة؟ انهم اطفال ربّيناهم وربّونا على مر السنين. أحسّ كأني أزوّج ابنتي “خطيفة” الى مجهول. هل يقدّرها ويحسن معاملتها، أم يحتقرها؟ افتح كتاب “النبي” لجبران، “اولادكم ليسوا لكم”، يقول. اتراها إشارة؟ “كتبكم ليست لكم”، أجيبه.
هذا الصباح تمكّنتُ أخيرا من اختيار ثلاثة كتب بالعربية لثلاثة كتّاب لبنانيين، كتبتُ عليها اسمي وتاريخ اليوم، وأطلقتُ سراحها في بيروت (واحد في جنينة الصنائع، آخر على طاولة مقهى في وسط المدينة، ثالث في دكان صغير في شارع الحمراء)، آملةً ان تنتقل الى زحلة وراشيا ومرجعيون، وان يسافر احدها الى مصر او الكويت او حتى فلسطين بعد أشهر. بل ربما “ستصل مواصيله” الى ايطاليا بين ايدي مستشرق فضولي. من يعرف؟
هذا الصباح، لا تخافوا اذا وجدتم كتابا متروكا في الأمكنة التي ذكرت. الكتب التي نثرتُها مفخخة حتما، لكنها لن تحيلكم رمادا بل ستزيدكم جمالا. رجائي الوحيد ممن يجدها وتعجبه أن يتابع السلسلة، فيقرأها ثم يدوّن اسمه والتاريخ عليها، ويتركها بدوره.
ثلاثة كتب مسافرة. ثلاثة أحلام. ثلاثة من أولادي، مصيرها منذ اليوم بين ايديكم. اعتنوا بها.
منقول عن الشبكة بتصرف بسيط
وصل جيروم الى المحطة في لحظةٍ كان قطار الأنفاق ينطلق. جلس يرتاح على المقعد البلاستيكي الأصفر ريثما يصل المترو الباريسي التالي. حدّق الى اللوح الرقمي: ثمة زحام وتأخير، ولن يصل القطار الثاني قبل 12 دقيقة. تفحص المكان حوله: وجوه انتظار شاحبة ومتأففة، ترطّبها حماسة بعض السياح وأصواتهم العالية. نظر قربه: كتابٌ متروك على المقعد المجاور. لفته العنوان. نظر الشاب حوله من جديد. لا أحد يبدو مهتما بالكتاب أو معنيا به. تناوله عن المقعد. فتح الكتاب الضخم بفضول وقلّب الـ 529 صفحة. فكر جيروم ان مالك الكتاب لا بد نسيه على المقعد، ورأى أن لا ضير من أخذه. عندما وصل المترو أخيرا، أكمل الشاب والكتاب المشوار معا.
ما لم يكن جيروم يعرفه آنذاك، واكتشفه في ما بعد عندما انتبه الى الكلمات المكتوبة على الصفحة الأخيرة من الكتاب، ان مالك الكتاب لم “ينس” كتابه، بل تركه. تركه هناك على ذاك المقعد البلاستيكي الأصفر عن سابق تصوّر وتصميم. لا بقصد التخلص منه، بل لكي “يتبناه” قارىء آخر، ويكون والدا موقتا له، مثلما يُترك طفل على باب ملجأ للأيتام.
(انطلقت رحلة هذا الكتاب مع ديمي تشستر في 15 تشرين الأول 2003 في شيكاغو. يرجى ممن يجده أن يقرأه اذا كان مهتما، ثم ان يتركه بدوره في مكان عام عندما ينتهي منه).
لقد قطع الكتاب إذاً محيطا كاملا خلال سنة ونصف سنة من الترحال، ومن يعلم كم عدد الايدي والبلدان والعيون والقراء المختلفين الذين تنقّل بينهم، نساء ورجالا وشبابا ومسنين واقوياء وضعفاء وغاضبين ومرحين وعاشقين ويائسين الخ.
هذه، في اختصار، قصة من مجموعة قصص تشكل ظاهرة تشهد رواجا كبيرا في الغرب اليوم، تحمل اسم Book crossing، وقد “تورّطت” فيها حتى الآن 120 دولة من العالم. الظاهرة بدأت في الولايات المتحدة منذ بضعة اعوام، ومؤسسها اسمه رون هورنبايكر، يقيم في ميسوري، ويشبّه الكتب بالفيروسات: فيروسات جميلة تنتقل عدواها من انسان الى آخر ومن بلد الى بلد، والهدف: تحويل العالم مكتبة ضخمة ، وتسهيل القراءة المجانية.
“اذا كنتَ تحب كتابا اطلق سراحه”، يقول هواة الـBook crossing. تفيد الاحصاءات ان 25 في المئة من الكتب فقط يتم العثور عليها، وان البقية تضيع. لكن الأمكنة صالحة كلها لنثر الكتب: سينما، مقهى، سوبرماركت، حديقة عامة، حافة شرفة، مقعد في محطة او داخل قطار، الخ. انها كتب “بريّة” تنتظر من يصطادها، وزّعها قراءٌ أحبوها، فرغبوا أن يشاركهم آخرون لذة قراءتها.
عشقتُ الفكرة على الفور. لكني حاولت مرارا، مذ اطلعتُ عليها، أن أتخيل رحلة كتاب يُترك على مقعد في لبنان او في احد البلدان العربية، لأجد أننا في مأزق: فنحن منحازون بالفطرة، أولا، الى الارتياب من كل ما “يُترك”، والى الاعتقاد بأنه مفخخ، من فرط ما تُركت – وتُترك - لنا حقائب وصناديق وعلب حاملة للموت. ومن المحتمل ان يعتقد المارة، في هذه الأزمنة المرّة المرعبة، ان المتروك قنبلة على شكل كتاب.
ونحن منحازون بالفطرة، ثانيا، الى الاعتقاد بأن الكتاب المهجور كتاب سيىء لا محالة: “لو فيه خير لما تخلّى صاحبه عنه”. وهذا ما حصل فعلا مع بعض الكتّاب الأجانب الذين حاولوا استغلال ظاهرة الـBook crossing لترويج أعمالهم، فوزّعوا منها نسخا كثيرة هنا وهناك، لكن النتيجة انهم انكشفوا، وان كثرة النسخ جعلت معظم الناس يظنون ان الكتاب فاشل، وان رداءة مستواه هو ما دفع القراء الى التخلي عنه. إذاً، نزدري الكتاب المتروك سلفا ومن المرجّح ألا نعيره اي اهمية. او ربما سيتلقفه صاحب سناك ويحوّل صفحاته ورقاً يلفّ به السندويشات، اذا كانت من النوع والحجم المناسبين.
ونحن منحازون بالفطرة، ثالثا، الى التمسّك بمقتنياتنا خوفاً من صروف الدهر. أصلاً، محبّ الكتب غالبا ما يكون على علاقة تملّك بها. أعرف أصدقاء كثيرين يرفضون إعارة كتبهم، وإذا أعاروها لا يهدأ لهم بال إلا بعد أن ترجع سالمة الى حضن أمّها، أي مكتبتهم.
فكّرت: بين البارانويا العربية “العضوية”، والأنانية المتلازمة مع أمومة الكتب، كيف يمكن أن نطلق ظاهرة - شئت أن اسمّيها “الكتاب المسافر” - من لبنان؟ توجهتُ الى مكتبتي الخاصة. قررت أن اختار ثلاثة كتب وان افتح باب القفص امامها. اردتُ طبعا أن ابدأ بالأجمل، فلا فضل في الاستغناء عما يمكن الاستغناء عنه، ثم اي هدية يكون؟ أمسكتُ كتابا عزيزا، ثم ثانيا فثالثا، وشعرتُ بقلبي ينفطر. لكل كتاب روح، بل كل كتاب روحٌ تسكننا، فكيف يمكن التخلي عنه بهذه الطريقة؟ انهم اطفال ربّيناهم وربّونا على مر السنين. أحسّ كأني أزوّج ابنتي “خطيفة” الى مجهول. هل يقدّرها ويحسن معاملتها، أم يحتقرها؟ افتح كتاب “النبي” لجبران، “اولادكم ليسوا لكم”، يقول. اتراها إشارة؟ “كتبكم ليست لكم”، أجيبه.
هذا الصباح تمكّنتُ أخيرا من اختيار ثلاثة كتب بالعربية لثلاثة كتّاب لبنانيين، كتبتُ عليها اسمي وتاريخ اليوم، وأطلقتُ سراحها في بيروت (واحد في جنينة الصنائع، آخر على طاولة مقهى في وسط المدينة، ثالث في دكان صغير في شارع الحمراء)، آملةً ان تنتقل الى زحلة وراشيا ومرجعيون، وان يسافر احدها الى مصر او الكويت او حتى فلسطين بعد أشهر. بل ربما “ستصل مواصيله” الى ايطاليا بين ايدي مستشرق فضولي. من يعرف؟
هذا الصباح، لا تخافوا اذا وجدتم كتابا متروكا في الأمكنة التي ذكرت. الكتب التي نثرتُها مفخخة حتما، لكنها لن تحيلكم رمادا بل ستزيدكم جمالا. رجائي الوحيد ممن يجدها وتعجبه أن يتابع السلسلة، فيقرأها ثم يدوّن اسمه والتاريخ عليها، ويتركها بدوره.
ثلاثة كتب مسافرة. ثلاثة أحلام. ثلاثة من أولادي، مصيرها منذ اليوم بين ايديكم. اعتنوا بها.
منقول عن الشبكة بتصرف بسيط