أبو محمد القلموني
10-05-2007, 01:55 PM
الحمد لله المتفرد بصفاته المتعالي بجبروته . الحمد لله الذي بعث رسوله بالهدى و البينات تشريفا لنا و عصمة من الزلات.الحمد لله الذي أنزل كلامه ليتدبر و ينظر في معانيه و يسبر. و أشهد أن لا إله إلا الله و حده لا شريك له و أشهد أن محمدا صلى الله عليه و سلم عبد الله و رسوله بعثه الله بتبليغ القرآن لفظا و معنى فما قبض بأبي هو و أمي حتى أسفرت معاني القرآن و انتشر علمها بين الصحب الكرام الذين أخذ عنهم من جاء بعدهم . و بعد :
فهذه رسالة صغيرة الحجم جمعت فيها من تفسير الإمام السيوطي المسمى بالدر المنثور ، دررا من أقوال الصحابة الكرام يتعين بها معنى الترتيل الذي اضطرب في فهمه خلق عظيم من المسلمين ، بسبب أنهم لم يمحصوا المعنى و لم يدققوا فيه. فاعتقدوا في آيات الترتيل معنى لا يصح و ألزموا الناس به ، فوقع بسبب ذلك خلط كبير أدى إلى هدم أصول ثابتة و قواعد مشيدة. و هذا في العادة أسلوب أهل البدع فإنهم يتوسطون بمعان باطلة لهدم أصول صحيحة .
ثم أتبعت هذه الآثار بأقوال مهمة جدا لأهل العلم تعد كالغريبة في هذه الأعصر العجيبة. و إنما حرصت على ذكرها و تزيين هذا المقال بها ليعلم القاصي و الداني أن ما فهمناه من النصوص و الآثار لا يخرج عن فهم هؤلاء الأعلام قيد أنملة . إذ أنه قد انتشرت بيننا اليوم بدعة خطيرة و رزية كبيرة و طامة عسيرة و أعني بدعة رد الأحاديث الصحيحة التي رواها الأئمة الكبار و استشهدوا بها ، بل و رد الآيات الصريحة إذا ما خالفت قول بعض أهل العلم أو لم تأتي مؤيدة لهم ! و البعض يتوقف حتى يعرض الحديث على قول شيخه فإن وافقه أخذ به و إن عارضه رده و العياذ بالله تعالى!!! فنسأل الله تعالى أن يعافينا و إخواننا من هذه البدعة العظيمة التي كثر في نصوص الوحيين التحذير منها و اشتد نكير الأئمة الأعلام على أهلها فشنعوا عليهم و صنفوا في الرد عليهم ما هو معلوم و مشهور.
و قبل البدء بإيراد الآثار المقصودة نقدم بين يديها بذكر آيات الترتيل التي وردت في كتاب الله تعالى :
( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) الفرقان:32
( يا أيها المزمل ، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلا ) المزمل:4
جاء في اللسان ( قال أَبو العباس: ما أَعلم الترتيل إِلاَّ التحقيق والتبيين والتمكين، أَراد في قراءة القرآن.
وقال مجاهد: الترتيل: الترسل، قال: ورَتَّلته ترتيلاً بعضه على أَثر بعض.
قال أَبو منصور: ذهب به إِلى قولهم: ثغر رَتَلٌ إِذا كان حسن التنضيد.
وقال ابن عباس في قوله: ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) ؛ قال: بَيِّنْه تبييناً.
وقال أَبو إسحق: والتبيين لا يتم بأَن يَعْجَل في القراءة، وإِنما يتم التبيين بأَن يُبَيِّن جميع الحروف ويُوفِّيها حقها من الإِشباع.
وقال الضحاك: انْبِذْه حرفاً حرفاً.
وفي صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم : كان يُرَتِّل آية آية .
ترتيلُ القراءة: التأَني فيها والتّمهُّلُ وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالثغر المُرَتَّلِ، وهو المُشَبَّه بنَوْر الأُقْحُوان، يقال: رَتَّلَ القراءة وتَرَتَّل فيها.
وقوله عز وجل: ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32]، أي: أَنزلناه على الترتيل، وهو ضد العجلة والتمكُّث فيه؛ هذا قول الزجاج.
وترتّل في الكلام: تَرَسَّل، وهو يترتل في كلامه ويترسل ). لسان العرب لابن المنظور الأفريقي.
وجاء في مختار الصحاح للرازي: (التَّرْتِيلُ في القراءة الترسل فيها والتبيين بغير بغي )
فالترتيل لغة يجمع أمورا منها : الترسل و التمهل و التبيين .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا ما أمر به.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي ( ورتلناه ترتيلا ) يقول: أنزل متفرقا.
وأخرج الفريابي وابن جرير ومحمد بن نصر والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه ، والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة. وفي لفظ: فصل القرآن من الذكر لأربعة وعشرين من رمضان، فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلا.
قال الحافظ ابن حجر في هذا الأثر : ( إسناده صحيح)الفتح.
وأخرج ابن الضريس عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في رمضان في ليلة القدر، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة جواب كلام الناس.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله ( كذلك لنثبت به فؤادك ) قال: كان الله ينزل عليه الآية فإذا علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت آية أخرى ليعلمه الكتاب عن ظهر قلبه ويثبت به فؤادك.
قلت : و هذا الذي تقدم فيه كيف يلقن أهل الذكر العامة ، فإن العلم قد يكون مجموعا عندهم ( كما كان مجموعا عند جبريل عليه السلام ) لكنهم لا يلقنونه للناس إلا بالتدرج و على حسب ما هو أولى و أهم ، وعلى حسب ما يحتاجونه وهكذا... و قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) متفق عليه . و في رواية أخرى صحيحة : (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ...)صحيح الجامع.
فهذه الآثار تدلك على أن الترتيل هو التمهل و الترسل.وهذا وصف لكيفية نزول القرآن و منه نفهم ، كما سيأتي الآن ، معنى الترتيل الذي أمر به المسلم.
أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: يقرأ آيتين ، ثلاثة ثم يقطع لا يهذرم.
و الهذرمة كما سيأتي هي القراءة السريعة التي لا فهم فيها و لا تدبر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: ترسل فيه ترسيلا.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: اقرأه قراءة بينة.
وأخرج العسكري في المواعظ عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: "بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
قلت: و هذا صريح في أن ما ورد من تبيين الحروف و التمهل في القراءة و الذي يسمى بتجويد القرآن إنما هو ترسل و ترتيل لتحقيق الفهم و جمع الفكر لا لمجرد تجويد اللفظ و تحسين الصوت ! قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن و تفهمه و الخشوع و الخضوع و الإنقياد و الطاعة ) فضائل القرآن.
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله ) السلسلة الصحيحة، صحيح الجامع.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مليكة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنكم لا تستطيعونها، فقيل لها: أخبرينا بها، فقرأت قراءة ترسلت فيها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يقرأ آية ويبكي ويرددها فقال: ألم تسمعوا إلى قول الله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) هذا الترتيل.
قلت : فهذا الترتيل الذي هو تبيين الحروف و التمهل في القراءة لأجل النظر و التفكر هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه و سلم و هو ما فهمه الصحابة من فعله و قوله صلى الله عليه و سلم . قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( عند أبي عبيد من طريق مجاهد أن رجلا سأله عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد وسجودهما واحد، فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل ثم تلا (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) و من طريق أبي حمزة " قلت لابن عباس إني سريع القراءة، وإني لأقرأ القرآن في ثلاث فقال: لأن أقرأ البقرة أرتلها فأتدبرها خير من أن أقرأ كما تقول " وعند ابن أبي داود من طريق أخرى عن أبي حمزة " قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ليلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي إن كنت لا بد فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويوعها قلبك"
و قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( و رتل القرآن ترتيلا ) : (وعن ابن مسعود أنه قال لا تنثروه نثر الرمل و لا تتهذوه هذ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة . رواه البغوي )
و ورد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قوله : (يا ابن آدم كيف يرق قلبك و إنما همتك في آخر السورة ؟!) مختصر قيام الليل للمروذي.
قلت : و هذا الذي فهمناه من قول النبي صلى الله عليه و سلم و فعله و من قول أصحابه و فعلهم هو ما قرره علماؤنا الربانيون . و هذه طائفة من أقوالهم في هذا الباب :
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ( وقوله تعالى: ( ورتل القرآن ترتيلا ) أي اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره، وكذلك كان يقرأ صلوات اللّه وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها، وفي صحيح البخاري عن أنَس أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: كانت مداً . )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح : ( قوله: (باب الترتيل في القراءة) أي تبيين حروفها والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها ).
قلت: و هذا نص صريح من الحافظ ابن حجر في أن ما يسمى بالتجويد و الذي هو ضبط اللفظ و الأداء معا ، إنما هو من أجل المساعدة على الفهم و تحصيل المعنى ، و ليس لمجرد تجميل الصوت و تحسين الأداء.فالخطأ الذي وقع فيه عامة قراء هذا الزمان ، إلا من رحم الله منهم ، هو من جهة انفصال التجويد عندهم عن الفهم . و الأصل ، كما رأيت، أنه إنما يطلب ليساعد على الفهم و التدبر . و لقد لبثنا و نحن صغار برهة من الزمان نعلم التجويد و ليس في من يعلمنا من يتفطن لهذه الحقيقة بل ضرب بعضهم التجويد بالتدبر و زعم أنه إما تجويد و إما تدبر! . ومن هؤلاء من يقول : أن التجويد للعامة و التدبر للعلماء!!! فيا لله كم يجني الجهل على أهله من المفاسد و العظائم! نسأل الله تعالى أن يعافينا و أهلينا و إخواننا من الجهل و أن يرزقنا العلم و البصيرة و الإخلاص.
يتبع
فهذه رسالة صغيرة الحجم جمعت فيها من تفسير الإمام السيوطي المسمى بالدر المنثور ، دررا من أقوال الصحابة الكرام يتعين بها معنى الترتيل الذي اضطرب في فهمه خلق عظيم من المسلمين ، بسبب أنهم لم يمحصوا المعنى و لم يدققوا فيه. فاعتقدوا في آيات الترتيل معنى لا يصح و ألزموا الناس به ، فوقع بسبب ذلك خلط كبير أدى إلى هدم أصول ثابتة و قواعد مشيدة. و هذا في العادة أسلوب أهل البدع فإنهم يتوسطون بمعان باطلة لهدم أصول صحيحة .
ثم أتبعت هذه الآثار بأقوال مهمة جدا لأهل العلم تعد كالغريبة في هذه الأعصر العجيبة. و إنما حرصت على ذكرها و تزيين هذا المقال بها ليعلم القاصي و الداني أن ما فهمناه من النصوص و الآثار لا يخرج عن فهم هؤلاء الأعلام قيد أنملة . إذ أنه قد انتشرت بيننا اليوم بدعة خطيرة و رزية كبيرة و طامة عسيرة و أعني بدعة رد الأحاديث الصحيحة التي رواها الأئمة الكبار و استشهدوا بها ، بل و رد الآيات الصريحة إذا ما خالفت قول بعض أهل العلم أو لم تأتي مؤيدة لهم ! و البعض يتوقف حتى يعرض الحديث على قول شيخه فإن وافقه أخذ به و إن عارضه رده و العياذ بالله تعالى!!! فنسأل الله تعالى أن يعافينا و إخواننا من هذه البدعة العظيمة التي كثر في نصوص الوحيين التحذير منها و اشتد نكير الأئمة الأعلام على أهلها فشنعوا عليهم و صنفوا في الرد عليهم ما هو معلوم و مشهور.
و قبل البدء بإيراد الآثار المقصودة نقدم بين يديها بذكر آيات الترتيل التي وردت في كتاب الله تعالى :
( وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ) الفرقان:32
( يا أيها المزمل ، قم الليل إلا قليلا ، نصفه أو انقص منه قليلا ، أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلا ) المزمل:4
جاء في اللسان ( قال أَبو العباس: ما أَعلم الترتيل إِلاَّ التحقيق والتبيين والتمكين، أَراد في قراءة القرآن.
وقال مجاهد: الترتيل: الترسل، قال: ورَتَّلته ترتيلاً بعضه على أَثر بعض.
قال أَبو منصور: ذهب به إِلى قولهم: ثغر رَتَلٌ إِذا كان حسن التنضيد.
وقال ابن عباس في قوله: ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) ؛ قال: بَيِّنْه تبييناً.
وقال أَبو إسحق: والتبيين لا يتم بأَن يَعْجَل في القراءة، وإِنما يتم التبيين بأَن يُبَيِّن جميع الحروف ويُوفِّيها حقها من الإِشباع.
وقال الضحاك: انْبِذْه حرفاً حرفاً.
وفي صفة قراءة النبي -صلى الله عليه وسلم : كان يُرَتِّل آية آية .
ترتيلُ القراءة: التأَني فيها والتّمهُّلُ وتبيين الحروف والحركات تشبيهاً بالثغر المُرَتَّلِ، وهو المُشَبَّه بنَوْر الأُقْحُوان، يقال: رَتَّلَ القراءة وتَرَتَّل فيها.
وقوله عز وجل: ( وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ) [الفرقان: 32]، أي: أَنزلناه على الترتيل، وهو ضد العجلة والتمكُّث فيه؛ هذا قول الزجاج.
وترتّل في الكلام: تَرَسَّل، وهو يترتل في كلامه ويترسل ). لسان العرب لابن المنظور الأفريقي.
وجاء في مختار الصحاح للرازي: (التَّرْتِيلُ في القراءة الترسل فيها والتبيين بغير بغي )
فالترتيل لغة يجمع أمورا منها : الترسل و التمهل و التبيين .
أخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا ما أمر به.
أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي ( ورتلناه ترتيلا ) يقول: أنزل متفرقا.
وأخرج الفريابي وابن جرير ومحمد بن نصر والطبراني وابن مردويه والحاكم وصححه ، والبيهقي والضياء في المختارة عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة. وفي لفظ: فصل القرآن من الذكر لأربعة وعشرين من رمضان، فوضع في بيت العزة في السماء الدنيا، فجعل جبريل ينزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتله ترتيلا.
قال الحافظ ابن حجر في هذا الأثر : ( إسناده صحيح)الفتح.
وأخرج ابن الضريس عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدة في رمضان في ليلة القدر، فجعل في بيت العزة، ثم أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة جواب كلام الناس.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس في قوله ( كذلك لنثبت به فؤادك ) قال: كان الله ينزل عليه الآية فإذا علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت آية أخرى ليعلمه الكتاب عن ظهر قلبه ويثبت به فؤادك.
قلت : و هذا الذي تقدم فيه كيف يلقن أهل الذكر العامة ، فإن العلم قد يكون مجموعا عندهم ( كما كان مجموعا عند جبريل عليه السلام ) لكنهم لا يلقنونه للناس إلا بالتدرج و على حسب ما هو أولى و أهم ، وعلى حسب ما يحتاجونه وهكذا... و قد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم لما بعث معاذا إلى اليمن قال له : (إنك تأتي قوما من أهل الكتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة فإن أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله قد افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم ) متفق عليه . و في رواية أخرى صحيحة : (إنك تقدم على قوم أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله فإذا عرفوا الله فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم ...)صحيح الجامع.
فهذه الآثار تدلك على أن الترتيل هو التمهل و الترسل.وهذا وصف لكيفية نزول القرآن و منه نفهم ، كما سيأتي الآن ، معنى الترتيل الذي أمر به المسلم.
أخرج الفريابي عن ابن عباس في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: يقرأ آيتين ، ثلاثة ثم يقطع لا يهذرم.
و الهذرمة كما سيأتي هي القراءة السريعة التي لا فهم فيها و لا تدبر.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن مجاهد في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: ترسل فيه ترسيلا.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن في قوله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: اقرأه قراءة بينة.
وأخرج العسكري في المواعظ عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) قال: "بينه تبيينا ولا تنثره نثر الدقل ولا تهذه هذا الشعر، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة".
قلت: و هذا صريح في أن ما ورد من تبيين الحروف و التمهل في القراءة و الذي يسمى بتجويد القرآن إنما هو ترسل و ترتيل لتحقيق الفهم و جمع الفكر لا لمجرد تجويد اللفظ و تحسين الصوت ! قال ابن كثير رحمه الله تعالى : ( المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن و تفهمه و الخشوع و الخضوع و الإنقياد و الطاعة ) فضائل القرآن.
و عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال النبي صلى الله عليه و سلم : ( أحسن الناس قراءة الذي إذا قرأ رأيت أنه يخشى الله ) السلسلة الصحيحة، صحيح الجامع.
وأخرج ابن أبي شيبة عن أبي مليكة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنها سئلت عن قراءة النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إنكم لا تستطيعونها، فقيل لها: أخبرينا بها، فقرأت قراءة ترسلت فيها.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن قال: مر رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على رجل يقرأ آية ويبكي ويرددها فقال: ألم تسمعوا إلى قول الله: ( ورتل القرآن ترتيلا ) هذا الترتيل.
قلت : فهذا الترتيل الذي هو تبيين الحروف و التمهل في القراءة لأجل النظر و التفكر هو ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه و سلم و هو ما فهمه الصحابة من فعله و قوله صلى الله عليه و سلم . قال الحافظ ابن حجر في الفتح : ( عند أبي عبيد من طريق مجاهد أن رجلا سأله عن رجل قرأ البقرة وآل عمران ورجل قرأ البقرة فقط قيامهما واحد ركوعهما واحد وسجودهما واحد، فقال: الذي قرأ البقرة فقط أفضل ثم تلا (وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث) و من طريق أبي حمزة " قلت لابن عباس إني سريع القراءة، وإني لأقرأ القرآن في ثلاث فقال: لأن أقرأ البقرة أرتلها فأتدبرها خير من أن أقرأ كما تقول " وعند ابن أبي داود من طريق أخرى عن أبي حمزة " قلت لابن عباس: إني رجل سريع القراءة، إني أقرأ القرآن في ليلة. فقال ابن عباس: لأن أقرأ سورة أحب إلي إن كنت لا بد فاعلا فاقرأ قراءة تسمعها أذنيك ويوعها قلبك"
و قال الحافظ ابن كثير في تفسير قوله تعالى ( و رتل القرآن ترتيلا ) : (وعن ابن مسعود أنه قال لا تنثروه نثر الرمل و لا تتهذوه هذ الشعر قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ولا يكن هم أحدكم آخر السورة . رواه البغوي )
و ورد عن الحسن البصري رحمه الله تعالى قوله : (يا ابن آدم كيف يرق قلبك و إنما همتك في آخر السورة ؟!) مختصر قيام الليل للمروذي.
قلت : و هذا الذي فهمناه من قول النبي صلى الله عليه و سلم و فعله و من قول أصحابه و فعلهم هو ما قرره علماؤنا الربانيون . و هذه طائفة من أقوالهم في هذا الباب :
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى : ( وقوله تعالى: ( ورتل القرآن ترتيلا ) أي اقرأه على تمهل، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره، وكذلك كان يقرأ صلوات اللّه وسلامه عليه، قالت عائشة: كان يقرأ السورة فيرتلها، حتى تكون أطول من أطول منها، وفي صحيح البخاري عن أنَس أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال: كانت مداً . )
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في الفتح : ( قوله: (باب الترتيل في القراءة) أي تبيين حروفها والتأني في أدائها ليكون أدعى إلى فهم معانيها ).
قلت: و هذا نص صريح من الحافظ ابن حجر في أن ما يسمى بالتجويد و الذي هو ضبط اللفظ و الأداء معا ، إنما هو من أجل المساعدة على الفهم و تحصيل المعنى ، و ليس لمجرد تجميل الصوت و تحسين الأداء.فالخطأ الذي وقع فيه عامة قراء هذا الزمان ، إلا من رحم الله منهم ، هو من جهة انفصال التجويد عندهم عن الفهم . و الأصل ، كما رأيت، أنه إنما يطلب ليساعد على الفهم و التدبر . و لقد لبثنا و نحن صغار برهة من الزمان نعلم التجويد و ليس في من يعلمنا من يتفطن لهذه الحقيقة بل ضرب بعضهم التجويد بالتدبر و زعم أنه إما تجويد و إما تدبر! . ومن هؤلاء من يقول : أن التجويد للعامة و التدبر للعلماء!!! فيا لله كم يجني الجهل على أهله من المفاسد و العظائم! نسأل الله تعالى أن يعافينا و أهلينا و إخواننا من الجهل و أن يرزقنا العلم و البصيرة و الإخلاص.
يتبع