نور
15-09-2008, 11:31 AM
كسوة الكلام
http://www.ikhwanonline.com/ramadan/Photos/Pic161.jpg
بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم
"كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز".. هذه الجملة من حِكَم ابن عطاء، وإن لها لدلالات يجب أن يفطن لها الدعاة إلى الله الذين يُرشدون الخلق إلى خالقهم، ويعرفونهم على طريق الهدى، الذي جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليعلم هؤلاء الدعاة أنهم بقدر ما يتمكن الإيمان في قلوبهم بقدر ما يكون تأثير حديثهم في هداية الناس وإرشادهم، ولقد جاء في الحِكَم أيضًا: "تسبق أنوار الحكماء أقوالهم؛ فحيثما صار التنوير وصل التعبير".
وعلامة الكلام الذي يسبقه التنوير هو تأثيره في القلوب وتهييجه الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا سمعه الطائع زاد نشاطه، وعظم شوقه، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه الواصل تمكن من حاله؛ فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير فحدٌّ كلامه آذان المستمعين؛ فكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز؛ ولذلك قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "من تكلم عرفناه من ساعته، ومن لم يتكلم عرفناه من يومه"، وقيل: "الناس حوانيت مغلقة، فإذا تكلموا فقد فتحوا، وهناك يتبين البيطار من العطار".
وقالوا أيضًا: "الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدُّه الآذان، وإنهاض الحال أكثر من المقال، وإذا اجتمع الحال والمقال، فهو البحر الطام، والنجم الثاقب".
وقد يكون من الناس من هو عالم اللسان جاهل القلب، ومن مثل هذا الحذر؛ لأن قلبه ميت، ولا عبرة بلحن الكلام وإعرابه، ولا خطأ في رفعه ونصبه من صوابه، وإنما العبرة بالمعاني دون القوالب والأواني.
يُحكَى أن بعض النحويين دخل على مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه فوجده يلحن، فانصرف ذامًّا له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب له: "إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفضٍ ورفعٍ ونصبٍ وجزمٍ، فانقطعت عن المقصود، هلاَّ رفعت إلى الله جميع الحاجات، وخفضت كل النكرات، وجزمت عن الشهوات، ونصبت بين عينيك الممات؟! والله يا أخي ما يقال للعبد لِـمَ لَـمْ تكن معربًا، وإنما يقال له لِمَ كنت مذنبًا، ليس المراد فصاحة المقال، وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل في فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى؛ حيث يقول: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ (القصص: من الآية 34)".
ومما ينسب للخليل رحمه الله أو لسيبويه:
لسان فصيح معْرِبٌ في كلامه فيا ليته من وقفة العرض يسلم
ولا خير في عبد إذا لم يكن تُقى وما ضر ذا تقوى لسانٌ مُعْجِمُ
وقال آخر:
مُنْحَرِفٌ بالفِعَالِ وذو زَلَلٍ وإن تكلم في جِدَالِهِ وَزَنَهْ
قال وقد كتبت لفظته تِيهًا وعُجْبًا أخْطَأَ ما لَحَنَهْ
وإنما أخطأ من قام غدًا ولا يُرَى في كتابه حسنة
والحاصل أن من اجتمع فيه الحال وفصاحة المقال، فهو كمال الكمال؛ وذلك لأنه ينتفع بكلامه بعد موته، والحذر كل الحذر من المنافق عليم اللسان، ذي الفصاحة وصاحب البلاغة، وله شقاشق، لكنها مكسوفة الأنوار، مطموسة الأسرار، ليس فيها حلاوة، ولا عليها طلاوة، وفي هؤلاء نزل التحذير: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
وقال الله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)﴾ (البقرة).
http://www.ikhwanonline.com/ramadan/Photos/Pic161.jpg
بقلم: الشيخ حجازي إبراهيم
"كل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز".. هذه الجملة من حِكَم ابن عطاء، وإن لها لدلالات يجب أن يفطن لها الدعاة إلى الله الذين يُرشدون الخلق إلى خالقهم، ويعرفونهم على طريق الهدى، الذي جاءنا به الرسول صلى الله عليه وسلم، وليعلم هؤلاء الدعاة أنهم بقدر ما يتمكن الإيمان في قلوبهم بقدر ما يكون تأثير حديثهم في هداية الناس وإرشادهم، ولقد جاء في الحِكَم أيضًا: "تسبق أنوار الحكماء أقوالهم؛ فحيثما صار التنوير وصل التعبير".
وعلامة الكلام الذي يسبقه التنوير هو تأثيره في القلوب وتهييجه الأرواح، وتشويقه الأسرار، فإذا سمعه الغافل تنبه، وإذا سمعه العاصي انزجر، وإذا سمعه الطائع زاد نشاطه، وعظم شوقه، وإذا سمعه السائر طوى عنه تعب سيره، وإذا سمعه الواصل تمكن من حاله؛ فالكلام صفة المتكلم، فإذا كان المتكلم ذا تنوير وقع في قلوب السامعين، وإذا كان ذا تكدير فحدٌّ كلامه آذان المستمعين؛ فكل كلام يبرز وعليه كسوة القلب الذي منه برز؛ ولذلك قال سيدنا علي كرم الله وجهه: "من تكلم عرفناه من ساعته، ومن لم يتكلم عرفناه من يومه"، وقيل: "الناس حوانيت مغلقة، فإذا تكلموا فقد فتحوا، وهناك يتبين البيطار من العطار".
وقالوا أيضًا: "الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، وإذا خرج من اللسان حدُّه الآذان، وإنهاض الحال أكثر من المقال، وإذا اجتمع الحال والمقال، فهو البحر الطام، والنجم الثاقب".
وقد يكون من الناس من هو عالم اللسان جاهل القلب، ومن مثل هذا الحذر؛ لأن قلبه ميت، ولا عبرة بلحن الكلام وإعرابه، ولا خطأ في رفعه ونصبه من صوابه، وإنما العبرة بالمعاني دون القوالب والأواني.
يُحكَى أن بعض النحويين دخل على مجلس الحسن بن سمعون ليسمع كلامه فوجده يلحن، فانصرف ذامًّا له، فبلغ ذلك الحسن، فكتب له: "إنك من كثرة الإعجاب رضيت بالوقوف دون الباب، فاعتمدت على ضبط أقوالك مع لحن أفعالك، وإنك قد تهت بين خفضٍ ورفعٍ ونصبٍ وجزمٍ، فانقطعت عن المقصود، هلاَّ رفعت إلى الله جميع الحاجات، وخفضت كل النكرات، وجزمت عن الشهوات، ونصبت بين عينيك الممات؟! والله يا أخي ما يقال للعبد لِـمَ لَـمْ تكن معربًا، وإنما يقال له لِمَ كنت مذنبًا، ليس المراد فصاحة المقال، وإنما المراد فصاحة الفعال، ولو كان الفضل في فصاحة اللسان لكان سيدنا هارون أولى بالرسالة من سيدنا موسى؛ حيث يقول: ﴿وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا﴾ (القصص: من الآية 34)".
ومما ينسب للخليل رحمه الله أو لسيبويه:
لسان فصيح معْرِبٌ في كلامه فيا ليته من وقفة العرض يسلم
ولا خير في عبد إذا لم يكن تُقى وما ضر ذا تقوى لسانٌ مُعْجِمُ
وقال آخر:
مُنْحَرِفٌ بالفِعَالِ وذو زَلَلٍ وإن تكلم في جِدَالِهِ وَزَنَهْ
قال وقد كتبت لفظته تِيهًا وعُجْبًا أخْطَأَ ما لَحَنَهْ
وإنما أخطأ من قام غدًا ولا يُرَى في كتابه حسنة
والحاصل أن من اجتمع فيه الحال وفصاحة المقال، فهو كمال الكمال؛ وذلك لأنه ينتفع بكلامه بعد موته، والحذر كل الحذر من المنافق عليم اللسان، ذي الفصاحة وصاحب البلاغة، وله شقاشق، لكنها مكسوفة الأنوار، مطموسة الأسرار، ليس فيها حلاوة، ولا عليها طلاوة، وفي هؤلاء نزل التحذير: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمْ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ﴾ (المنافقون: 4).
وقال الله تعالى: ﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)﴾ (البقرة).