أبو حسن
01-10-2008, 10:54 AM
ثنتا عشْرة .. فيها ابن دقيق وكافكا وفتيات بسمارك
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
"..اللهم إنا نسألك ما نسأل؛ لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وحسن أفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة. نعم، وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار.. وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، فنسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك، فتشمت بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك.
اللهم يا مولج الليل والنهار: عُدْ علينا بصفحك عن زلاتنا، وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا.. وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا لأنك أولى بنا.." أبو حيان التوحيدي.
1- من لا يدرس التاريخ يسخر منه التاريخ..
وإن مما يحير فلاسفة هذا الساخر ممن لا يدرسه؛ ما ينشأ عن العلة التافهة من نتائج عظيمة. وإن كان هناك معنى يمكن أن يفهم منه "شيء" من الصلة بين تافه العلل وجسامة الأحداث؛ فأظن أنه يتمثل في: "ضعف اعتبار الواقع".
كانوا يقولون: إن النعامة إذا أحست بالخطر فإنها تدس رأسها في التراب، ولقد ظلت هذه المقولة زمناً مما يتمثل به كل من رأى ما يستدعي مقولة النعامة والتراب.
ثم جاء بعض الدارسين ورفع الظلم عن النعامة، وأبان أنها إنما تفعل ذلك لا لتتخفى، وإنما لتسمع وقع أقدام العدو فتحدد مسافة الخطر القادم.
من يستطيع أن يفسر لنا ما نحن فيه تفسيراً علمياً يدفع به عنا تهمة العجز والجهل؟
2- "أنا من حَجَر، بل أنا حَجَرٌ لقبر نفسي، لا منفذ فيه للشك أو للإيمان، للحب أو للنفور، للشجاعة أو للقلق، على وجه التخصيص أو وجه التعميم: كلا، بل ثم أمل واحد غامض يحيا، لكنه من نوع شواهد القبور".
كلما قرأت لفرانز كافكا (1883-1924) تولتني عاطفة حزينة لا أكاد أتبين مأتاها.
مات "هذا الألماني المسلول الشريد في دنيا اللامعقول" في مصح لا يكاد يعرفه فيه أحد عن إحدى وأربعين سنة، بعد أن رفض رئيسه في العمل أن يمدد إجازته وهو يحتضر.
وكان قد عاش عيشة عانى فيها من: تسلّط الأب، ومرارة الوَحدة، وظلام الفطرة، وخواء الروح، وويلات الأرق، وآلام العبث، وشقاء الأسئلة، وبؤس الإجابات، وقسوة الإلحاد، ويبس العدم، وحِدّة الاغتراب الوجودي ما عاناه.
ثم إن العالم تنبه له بسب صديق له سعى في نشر أدبه يدعي ماكس برود، فما كتب في القرن العشرين عن كاتب بعد ذلك ما كتب عنه: أزيد من ستة عشر ألفاً ما بين مقالة وبحث وكتاب في كثير من اللغات، منها ألفا رسالة دكتوراه! حتى إنه كتبت مقالات في تحليل فرقة شعر رأسه التي ظهر بها في بعض الصور.
ثم هنالك المهرجانات والمئويات والندوات وطوابع البريد...
وتقصٍّ لكل مكان عاش فيه أو مرَّ به أو ذكره في كتاب من كتبه، وتتبُّع لكل من عرفه أو حادث أو رآه .. وكتبت عنه امرأة كانت تلقاه في المصعد مصادفة عدة مقالات.
تنازعته ثلاث دول: ألمانيا والنمسا والتشيك.
وبيعت مخطوطة لكتاب من كتبه بخطه في مزاد عالمي بما يعدل سبعة ملايين ريال، ابتاعتها حكومة ألمانيا وكانت رصدت لها أضعاف هذا المبلغ.
ثم ماذا؟ كلما قرأت لك يا فرانز تولتني عاطفة حزينة لا أكاد أتبين مأتاها..
3- في "الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد" للأدفوي، ترجمة نفيسة للحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله جاء فيها:
"ولما عزل نفسه ثم طلب ليولّى، قام السلطان الملك المنصور لاجين له واقفا لما أقبل، فصار يمشي قليلاً، وهم يقولون له: السلطان واقف فيقول: "أديني أمشي!" وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، ثم نزل وغسل ما عليه واغتسل وقبّل السلطان يده، فقال: "تنتفع بهذا"!
4- يوم كنت أتأدب! قلت على معانيهم:
البيدر احترق
وقلبي الرغيف
وهذا جوع أحزاني..
وكان لي عدو من الأصدقاء كان مثلي يتأدب لكن على شيء من "اللؤم"، فهو لا يكاد يسلم لي بموهبة.
فتحينت منه غِرّةً يوماً فقلت له هكذا في أثناء الكلام:
ما أروع ما قال شكسبير: "أجمل ما في اللوحة؛ الإنسان الذي يتأملها.."
فأخذته الكلمة من نفسه ثم لم يعد..
فقلت له: ارفق بنفسك، فو الله ما عرفها شكسبير وإنما الكلمة لي.
فتغير وجهه، وانتفخت منه هذه التي تقول العرب إنها تنتفخ في مثل ما هنا؛ نعم أوداجه.. ثم قال: الحق أن الكلمة ليست بذاك!
5- قرأت أن أكثر ما أقسم الله به من المخلوقات في كتابه هو "الليل"..
جاء القسم به في سبع آيات: أولها: "والليل إذ أدبر".. إلى ما ورد في قوله تعالى: "والليل إذا سجى".
كم رجع عَوْدي على بدئي حين تذكرت بهذا قول يونج: "بالليل يعود الملحد نصف مؤمن بالله" سبحانه.. هذا يمهد لمقالة يشبه عنوانها أن يكون: "الملاحدة والليل".
6- بيعت قبل فترة في الرياض مكتبة أحمد نجيب الهلالي آخر رئيس لوزراء مصر قبل الثورة.
لا أزال أصرّ على أنه لا أثر للحملة الفرنسية على مصر فيما يسمونه: الصدمة الثقافية، وبداية التاريخ الحضاري المعاصر للعرب.. وإنما الأثر جاء بعدُ على يد محمد علي باشا فيما أرسله من بعثات علمية، وما أنشأه من مطبعة بولاق، وجريدة الوقائع..
لهذا فرحت لما ظفرت من هذه المكتبة بكتاب: "البعثات العلمية في عهد محمد علي" للأمير عمر طوسون، ولاسيما وأن على الكتاب خط الأمير نفسه يهديه إلى الهلالي سنة 1935م.
وبينما كنت أقلب الكتاب وقفتُ فيه على هذه اللطيفة: "يوسف أفندي الأرمني، أرسل إلى فرنسا لتلقي علم الفلاحة، وكان يتلقاها في بلدة (روفل)، وكان راتبه الشهري خمسمائة قرش، قام من فرنسا في أوائل سنة 1832م، وترقى فيما بعد إلى ناظر مدرسة الزراعة بنبروه، ثم ناظر بساتين محمد علي وأنجاله، وباسمه سميت الفاكهة المعروفة بيوسف أفندي لأنه هو الذي أوجدها بمصر"!
7- الإغراق المبالغ فيه في تتبع الأحداث ربما حمل الإنسان على اليأس، وشدّة تحسّس خطرات النفس خوفَ السقوط ربما أسرعت بالإنسان نحو الهاوية.. كالذي يتعلم قيادة الدراجة؛ إذا رأى حجراً من بعيد حمله لا شعوره – من فرط الخوف – على التوجه إليه.
ويظل العلم مسؤولية لا متعة، وفي صدق الالتجاء إلى الله سبحانه – ولاسيما أوقات السحر – منجاة من كثير من آلام الحياة التي باتت تَحطِم فينا معنى الحياة.
8- في "الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك" لمؤرخ مصر تقي الدين المقريزي: "السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد .. ومدة سلطنته في المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وحج فيها ثلاث مرات.. ثم حج في سنة تسع عشرة وسبعمائة.. واجتمع عند السلطان من العربان ما لم يجتمع لملك قبله.. وصاروا يعملون عليه إدلالاً زائداً، بحيث قام في بعض الأيام ابنٌ لموسى بن مهنا وقال للسلطان: يابا علي بحياة هذه [لا يجوز الحلف بغير الله] ومد يده إلى لحية السلطان ومسكها إلا أعطيتني الضيعة الفلانية؟ فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال: ارفع يدك، قطع الله يدك، ولك يا ولد الزنا، تمد يدك إلى السلطان! فتبسم السلطان وقال: يا قاضي، هذه عادة العرب إذا قصدوا كبيراً في شيء، يكون عظمته عندهم مسك ذقنه، يعني أنه قد استجار به فهو عندهم سنة، فقام الفخر مغضباً وهو يقول: والله إن هؤلاء مناحيس، وسنتهم أنحس منهم، لا بارك الله فيهم..".
تعال يا ناظر الجيش؛ لا تكن ملكاً أكثر من الملك نفسه!
9- ذكر إميل لودفيج كاتب التراجم الذي كان يقول: "على المترجم أن ينشئ إنساناً لا أن يصوغ تمثالاً من النحاس"، ذكر في كتابه عن "بسمارك" صاحب الوحدة الألمانية .. أنه لما أراد بسمارك أن يقر دستوراً لألمانيا واجتمع بمرؤوسيه؛ اقترح عليه أحدهم أن يستعين بالدستور البلجيكي ، فالتفت إليه بسمارك وقال له :" إن الدستور البلجيكي عمره ثمانية عشر عاماً ، وهذا عمر يَجْمُل بالفتيات لا بالدساتير"!
والله إنه لجهلٌ من هذا العقل التراكمي القاصر أن يحكم نفسه ويترك شِرْعة ربه.. "ومن أحسن من الله حكماً".
10- لم أقرأ فيما قرأتُ :
أ- أعقل من هذه الكلمة لمحمد كرد علي :" حفظ مسائل العلم التي قالها أهل العقول؛ لا تجعل ممن استظهرها عاقلاً إن لم يكن ذا عقل".
ب- ولا أنفذ من هذه الكلمة لغوستاف لوبون : " آراؤنا – في الغالب – مقدمات لأفكار تتكون ولمّا تستقر بعد".
ج- ولا أشد إيلاماً من هذا البيت لمحمود أبو الوفا : أودّ أضحك للدنيا فيمنعني * أن عاقبتي على بعض ابتساماتي
11- دونك بعض ما نحن فيه من خطاب الخيبة :
أ- في مقدمة " تحرير المرآة " لقاسم أمين 1899م : "بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله".
ب- وفي بداية ترجمة طه السباعي باشا " لحرية " جون ستيورات مل، والكتاب يعد إنجيل الليبرالية 1922م: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وآله".
ج- وفي أول كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق 1925م: "بسم الله الرحمن الرحيم أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحداً سواه، له القوة والعزة، وما سواه ضعيف ذليل، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأشهد أن محمداً رسول الله، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وصلى الله وملائكته عليه وسلموا تسليماً كثيراً".
هذه الكتب هي من السوء إلى ما هي ورأيت بما افتتحت.. جلدونا – حسبهم الله – بسياط الخطاب المدني المعاصر؛ حتى بات بعض مثقفينا يستحيي أن يفتتح كتابه بذكر الله عزوجل.
وحين يلقي أحد الدعاة المعروفين محاضرة في "المسجد" عن عبدالوهاب المسيري، ثم أطالع كتب المسيري المتأخرة فلا أراه ابتدأ واحداً منها بذكر الله عزوجل؛ فإن ثنائية المسجد و"العلمانية الجزئية" تحتاج في تفكيكها إلى عملٍ عقلي مجهد.
12- "كيف أصبحتُ الشخصَ الذي أنا هو، هل أنا نفسي فعلاً، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخصَ الذي أنا هو؟".
يوم تقوى المعرفة على أن تنبّه فينا هذا السؤال؛ فإننا قد نكون قاربنا الوعي بذواتنا شيئاً ما..
مجلة الإسلام اليوم، العدد 47 – رمضان 1429هـ، ص48
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق
"..اللهم إنا نسألك ما نسأل؛ لا عن ثقة ببياض وجوهنا عندك، وحسن أفعالنا معك، وسوالف إحساننا قبلك، ولكن عن ثقة بكرمك الفائض، وطمعاً في رحمتك الواسعة. نعم، وعن توحيد لا يشوبه إشراك، ومعرفة لا يخالطها إنكار.. وإن كانت أعمارنا قاصرة عن غايات حقائق التوحيد والمعرفة، فنسألك أن لا ترد علينا هذه الثقة بك، فتشمت بنا من لم تكن له هذه الوسيلة إليك.
اللهم يا مولج الليل والنهار: عُدْ علينا بصفحك عن زلاتنا، وأنعشنا عند تتابع صرعاتنا.. وكن لنا وإن لم نكن لأنفسنا لأنك أولى بنا.." أبو حيان التوحيدي.
1- من لا يدرس التاريخ يسخر منه التاريخ..
وإن مما يحير فلاسفة هذا الساخر ممن لا يدرسه؛ ما ينشأ عن العلة التافهة من نتائج عظيمة. وإن كان هناك معنى يمكن أن يفهم منه "شيء" من الصلة بين تافه العلل وجسامة الأحداث؛ فأظن أنه يتمثل في: "ضعف اعتبار الواقع".
كانوا يقولون: إن النعامة إذا أحست بالخطر فإنها تدس رأسها في التراب، ولقد ظلت هذه المقولة زمناً مما يتمثل به كل من رأى ما يستدعي مقولة النعامة والتراب.
ثم جاء بعض الدارسين ورفع الظلم عن النعامة، وأبان أنها إنما تفعل ذلك لا لتتخفى، وإنما لتسمع وقع أقدام العدو فتحدد مسافة الخطر القادم.
من يستطيع أن يفسر لنا ما نحن فيه تفسيراً علمياً يدفع به عنا تهمة العجز والجهل؟
2- "أنا من حَجَر، بل أنا حَجَرٌ لقبر نفسي، لا منفذ فيه للشك أو للإيمان، للحب أو للنفور، للشجاعة أو للقلق، على وجه التخصيص أو وجه التعميم: كلا، بل ثم أمل واحد غامض يحيا، لكنه من نوع شواهد القبور".
كلما قرأت لفرانز كافكا (1883-1924) تولتني عاطفة حزينة لا أكاد أتبين مأتاها.
مات "هذا الألماني المسلول الشريد في دنيا اللامعقول" في مصح لا يكاد يعرفه فيه أحد عن إحدى وأربعين سنة، بعد أن رفض رئيسه في العمل أن يمدد إجازته وهو يحتضر.
وكان قد عاش عيشة عانى فيها من: تسلّط الأب، ومرارة الوَحدة، وظلام الفطرة، وخواء الروح، وويلات الأرق، وآلام العبث، وشقاء الأسئلة، وبؤس الإجابات، وقسوة الإلحاد، ويبس العدم، وحِدّة الاغتراب الوجودي ما عاناه.
ثم إن العالم تنبه له بسب صديق له سعى في نشر أدبه يدعي ماكس برود، فما كتب في القرن العشرين عن كاتب بعد ذلك ما كتب عنه: أزيد من ستة عشر ألفاً ما بين مقالة وبحث وكتاب في كثير من اللغات، منها ألفا رسالة دكتوراه! حتى إنه كتبت مقالات في تحليل فرقة شعر رأسه التي ظهر بها في بعض الصور.
ثم هنالك المهرجانات والمئويات والندوات وطوابع البريد...
وتقصٍّ لكل مكان عاش فيه أو مرَّ به أو ذكره في كتاب من كتبه، وتتبُّع لكل من عرفه أو حادث أو رآه .. وكتبت عنه امرأة كانت تلقاه في المصعد مصادفة عدة مقالات.
تنازعته ثلاث دول: ألمانيا والنمسا والتشيك.
وبيعت مخطوطة لكتاب من كتبه بخطه في مزاد عالمي بما يعدل سبعة ملايين ريال، ابتاعتها حكومة ألمانيا وكانت رصدت لها أضعاف هذا المبلغ.
ثم ماذا؟ كلما قرأت لك يا فرانز تولتني عاطفة حزينة لا أكاد أتبين مأتاها..
3- في "الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد" للأدفوي، ترجمة نفيسة للحافظ ابن دقيق العيد رحمه الله جاء فيها:
"ولما عزل نفسه ثم طلب ليولّى، قام السلطان الملك المنصور لاجين له واقفا لما أقبل، فصار يمشي قليلاً، وهم يقولون له: السلطان واقف فيقول: "أديني أمشي!" وجلس معه على الجوخ حتى لا يجلس دونه، ثم نزل وغسل ما عليه واغتسل وقبّل السلطان يده، فقال: "تنتفع بهذا"!
4- يوم كنت أتأدب! قلت على معانيهم:
البيدر احترق
وقلبي الرغيف
وهذا جوع أحزاني..
وكان لي عدو من الأصدقاء كان مثلي يتأدب لكن على شيء من "اللؤم"، فهو لا يكاد يسلم لي بموهبة.
فتحينت منه غِرّةً يوماً فقلت له هكذا في أثناء الكلام:
ما أروع ما قال شكسبير: "أجمل ما في اللوحة؛ الإنسان الذي يتأملها.."
فأخذته الكلمة من نفسه ثم لم يعد..
فقلت له: ارفق بنفسك، فو الله ما عرفها شكسبير وإنما الكلمة لي.
فتغير وجهه، وانتفخت منه هذه التي تقول العرب إنها تنتفخ في مثل ما هنا؛ نعم أوداجه.. ثم قال: الحق أن الكلمة ليست بذاك!
5- قرأت أن أكثر ما أقسم الله به من المخلوقات في كتابه هو "الليل"..
جاء القسم به في سبع آيات: أولها: "والليل إذ أدبر".. إلى ما ورد في قوله تعالى: "والليل إذا سجى".
كم رجع عَوْدي على بدئي حين تذكرت بهذا قول يونج: "بالليل يعود الملحد نصف مؤمن بالله" سبحانه.. هذا يمهد لمقالة يشبه عنوانها أن يكون: "الملاحدة والليل".
6- بيعت قبل فترة في الرياض مكتبة أحمد نجيب الهلالي آخر رئيس لوزراء مصر قبل الثورة.
لا أزال أصرّ على أنه لا أثر للحملة الفرنسية على مصر فيما يسمونه: الصدمة الثقافية، وبداية التاريخ الحضاري المعاصر للعرب.. وإنما الأثر جاء بعدُ على يد محمد علي باشا فيما أرسله من بعثات علمية، وما أنشأه من مطبعة بولاق، وجريدة الوقائع..
لهذا فرحت لما ظفرت من هذه المكتبة بكتاب: "البعثات العلمية في عهد محمد علي" للأمير عمر طوسون، ولاسيما وأن على الكتاب خط الأمير نفسه يهديه إلى الهلالي سنة 1935م.
وبينما كنت أقلب الكتاب وقفتُ فيه على هذه اللطيفة: "يوسف أفندي الأرمني، أرسل إلى فرنسا لتلقي علم الفلاحة، وكان يتلقاها في بلدة (روفل)، وكان راتبه الشهري خمسمائة قرش، قام من فرنسا في أوائل سنة 1832م، وترقى فيما بعد إلى ناظر مدرسة الزراعة بنبروه، ثم ناظر بساتين محمد علي وأنجاله، وباسمه سميت الفاكهة المعروفة بيوسف أفندي لأنه هو الذي أوجدها بمصر"!
7- الإغراق المبالغ فيه في تتبع الأحداث ربما حمل الإنسان على اليأس، وشدّة تحسّس خطرات النفس خوفَ السقوط ربما أسرعت بالإنسان نحو الهاوية.. كالذي يتعلم قيادة الدراجة؛ إذا رأى حجراً من بعيد حمله لا شعوره – من فرط الخوف – على التوجه إليه.
ويظل العلم مسؤولية لا متعة، وفي صدق الالتجاء إلى الله سبحانه – ولاسيما أوقات السحر – منجاة من كثير من آلام الحياة التي باتت تَحطِم فينا معنى الحياة.
8- في "الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك" لمؤرخ مصر تقي الدين المقريزي: "السلطان الملك الناصر ناصر الدين أبو المعالي محمد .. ومدة سلطنته في المدد الثلاث ثلاث وأربعون سنة وثمانية أشهر وتسعة أيام، وحج فيها ثلاث مرات.. ثم حج في سنة تسع عشرة وسبعمائة.. واجتمع عند السلطان من العربان ما لم يجتمع لملك قبله.. وصاروا يعملون عليه إدلالاً زائداً، بحيث قام في بعض الأيام ابنٌ لموسى بن مهنا وقال للسلطان: يابا علي بحياة هذه [لا يجوز الحلف بغير الله] ومد يده إلى لحية السلطان ومسكها إلا أعطيتني الضيعة الفلانية؟ فصرخ فيه الفخر ناظر الجيش وقال: ارفع يدك، قطع الله يدك، ولك يا ولد الزنا، تمد يدك إلى السلطان! فتبسم السلطان وقال: يا قاضي، هذه عادة العرب إذا قصدوا كبيراً في شيء، يكون عظمته عندهم مسك ذقنه، يعني أنه قد استجار به فهو عندهم سنة، فقام الفخر مغضباً وهو يقول: والله إن هؤلاء مناحيس، وسنتهم أنحس منهم، لا بارك الله فيهم..".
تعال يا ناظر الجيش؛ لا تكن ملكاً أكثر من الملك نفسه!
9- ذكر إميل لودفيج كاتب التراجم الذي كان يقول: "على المترجم أن ينشئ إنساناً لا أن يصوغ تمثالاً من النحاس"، ذكر في كتابه عن "بسمارك" صاحب الوحدة الألمانية .. أنه لما أراد بسمارك أن يقر دستوراً لألمانيا واجتمع بمرؤوسيه؛ اقترح عليه أحدهم أن يستعين بالدستور البلجيكي ، فالتفت إليه بسمارك وقال له :" إن الدستور البلجيكي عمره ثمانية عشر عاماً ، وهذا عمر يَجْمُل بالفتيات لا بالدساتير"!
والله إنه لجهلٌ من هذا العقل التراكمي القاصر أن يحكم نفسه ويترك شِرْعة ربه.. "ومن أحسن من الله حكماً".
10- لم أقرأ فيما قرأتُ :
أ- أعقل من هذه الكلمة لمحمد كرد علي :" حفظ مسائل العلم التي قالها أهل العقول؛ لا تجعل ممن استظهرها عاقلاً إن لم يكن ذا عقل".
ب- ولا أنفذ من هذه الكلمة لغوستاف لوبون : " آراؤنا – في الغالب – مقدمات لأفكار تتكون ولمّا تستقر بعد".
ج- ولا أشد إيلاماً من هذا البيت لمحمود أبو الوفا : أودّ أضحك للدنيا فيمنعني * أن عاقبتي على بعض ابتساماتي
11- دونك بعض ما نحن فيه من خطاب الخيبة :
أ- في مقدمة " تحرير المرآة " لقاسم أمين 1899م : "بسم الله الرحمن الرحيم ، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله".
ب- وفي بداية ترجمة طه السباعي باشا " لحرية " جون ستيورات مل، والكتاب يعد إنجيل الليبرالية 1922م: "بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسوله وصحبه وآله".
ج- وفي أول كتاب "الإسلام وأصول الحكم" لعلي عبدالرازق 1925م: "بسم الله الرحمن الرحيم أشهد أن لا إله إلا الله، ولا أعبد إلا إياه، ولا أخشى أحداً سواه، له القوة والعزة، وما سواه ضعيف ذليل، وله الحمد في الأولى والآخرة، وهو حسبي ونعم الوكيل. وأشهد أن محمداً رسول الله، أرسله شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وصلى الله وملائكته عليه وسلموا تسليماً كثيراً".
هذه الكتب هي من السوء إلى ما هي ورأيت بما افتتحت.. جلدونا – حسبهم الله – بسياط الخطاب المدني المعاصر؛ حتى بات بعض مثقفينا يستحيي أن يفتتح كتابه بذكر الله عزوجل.
وحين يلقي أحد الدعاة المعروفين محاضرة في "المسجد" عن عبدالوهاب المسيري، ثم أطالع كتب المسيري المتأخرة فلا أراه ابتدأ واحداً منها بذكر الله عزوجل؛ فإن ثنائية المسجد و"العلمانية الجزئية" تحتاج في تفكيكها إلى عملٍ عقلي مجهد.
12- "كيف أصبحتُ الشخصَ الذي أنا هو، هل أنا نفسي فعلاً، أم صنع مني الآخرون بالأحرى الشخصَ الذي أنا هو؟".
يوم تقوى المعرفة على أن تنبّه فينا هذا السؤال؛ فإننا قد نكون قاربنا الوعي بذواتنا شيئاً ما..
مجلة الإسلام اليوم، العدد 47 – رمضان 1429هـ، ص48