تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : خواطر عبدالله الهدلق - خاطرةٌ فطريةٌ عن الإبداع



أبو حسن
01-10-2008, 11:05 AM
خاطرةٌ فطريةٌ عن الإبداع
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق

في البداية؛ لست ممن يحفل كثيراً بما يسمونه: "البرمجة اللغوية"(1) .. هم يريدون أن يجعلوا من جندي فاشل صلاحَ الدين في ثلاثة أيام، لكن بثلاثمائة ريال!

وأنا أريد أن أقول لهم: ما أرخص طبيعة النفس وإبداع العبقرية عندكم، بل ما أجهل كثيراً منكم بحقائق الحياة، ونواميس الكون، وعلل الأشياء ونشأتها والصيرورة.

هذه المقالة لم تكتب لبيان الأسباب التي تجعل كثيراً من تلك الدورات التي تُعنى بحفز القدرة وتفجير كوامن النفس؛ ضرباً من المتاجرة بهزائم الروح، ونوعاً من الارتزاق على وهن الإرادة.. مستغلة – خلف ستار علمي صفيق– قدرة حياة باتت تَحْطِم فينا معنى الحياة.

ولم تكتب لتحليل هذه الظواهر الفكرية التي تأخذ تتمشى في المجتمع بعدوى (اللاشعور)، ثم يخلفها أو تخلفه إلى غيرها – ككثير من الظواهر التي يصطنع فيها المجتمع الحكمة في ضرب من الحماقة!- دون أن يكون لها ذلك الأثر الذي ظن تحققه بها.

لأن هذه المقالة لم تكتب لبيان ذلك كله؛ فإني سقت هذا التصدير لإيضاح معنى وصف هذه الخاطرة – في خواطر غيرها كثير عسى أن أوفق لنشرها – بـ "الفطرية"، وأنها كذلك في مقابل تلك "الأفكار الصناعية" التي نجدها عند كثير ممن أصبح يتكلم عن الإبداع بلا إبداع، وعن شَظَف العيش ورَهَق الحياة بيدين رَخْصَتين.. ليس لأنها "ساذجة" كما يتداعى على الذهن -في الغالب- عند قراءة هذا الوصف.

فهي فطرية؛ لأني التقطتُها من ركام من القراءة بلا قصد، وأفدتُها من كثير مما منيتُ به من غير سعي مني لذلك؛ مع صفة "مدعاة" لكن لابد منها – كما قال بعض الفلاسفة- لكل من يحاول أن يخلع على أفكاره شيئاً من الروعة والعمق: "التأمل"!

احذر هاتين الرذيلتين :

ثمة رذيلتان نفسيتان تلقيان بذورهما في نفس الناشئ عند بداية إحساسه أن شيئاً ما بدأ يستوقف العين عنده أكثر من غيره:

- أولاهما: هذه النفس حين تحس منها ما تتميز به عن الآخرين؛ تذهب تطلب منهم معاملة خاصة تظنها من حقوق هذا التميز ولوازمه.

لكن الآخرين – وإن شعروا بمزايا هذا المختلف –لا يسلمون له بهذا الحق؛ لما طبعت عليه نفس الإنسان من طرائق اللؤم(2).. فتكون المنازعة ويكون التجاهل، فتستشرف نفس هذا المتميز بسبب ضعفها – وإن أكثر المبدعين من الطبقة الوسطى فما دونها – من يتبناها ليدفع عنها عادِيةَ هذا الصراع غير المنتظر، وتتسع مساحة الأحلام والأماني في البناء النفسي مع التقدم في العمر.

إن أوليّة الإنسان وبدايته لا تدلان بحالٍ على مآله وخاتمته.. وأظن أن أحد أهم أسباب إخفاق كثير ممن كنا نظن بهم النجاح؛ هو هذا العجز النفسي الذي قعد بالواحد منهم عن العمل، لهذا الشعور النامي بالحاجة إلى من يعتني به ويأخذ بيده، وهذا وإن تهيأ لبعض المبدعين في أحيان قليلة؛ إلا أنه ليس بالمطّرد(3)مع كل أحد.

إن سر النجاح ومكمن الظَّفَر في هذه الحياة يرجع إلى جملة أمور، من أهمها – في نظري-: أن يكون الإنسان ذا تفكير عملي يذود به عن ذاته غائلة العجز النفسي، يوازن بين طموحه وإمكاناته، ثم يعمل ما يستطيعه بما تهيأ له.

هذا يقال لكل إنسان، والمبدع أولى من غيره بهذا المعنى لا ريب: "استعن بالله ولا تعجز".

- الثانية: النفس الإنسانية هي من التعقيد البالغ بحيث إن حصر الدافع السلوكي لها في معنى بعينه يعد قصوراً في الدرس والاستقصاء(4). لكن ما من شك في أن السعي لكسب الاحترام الاجتماعي هو واحد من أهم حوافز السلوك في النفس الإنسانية وأخطرها وأشدها أثراً عليها، وإذا شئت أن تتبين مدى تمكن هذا الحافز من نفسك؛ فانظر كيف يبلغ منها من يتجاوزك في أحد المجالس بفنجانٍ من القهوة؟ فهذا المثل هنا من أضعف ما يستثار به هذا الحافز!

تريد الحق بلا توريب(5)؟ إني حين أتأمل هذا السعي الناصب الذي يسعاه أكثر هذا الإنسان في حياتنا الدنيا؛ أجد أن جُلَّه إنما هو لتحقيق القيمة التي تحتفي بها الجماعة.

هذا المتأنق الذي يتهادى في كلية الآداب لأرقى جامعاتنا اليوم؛ يشبه عندي ذلك المتوحش الذي كان يَخْتِل بحربته بين الأحراش ليجمع رؤوس أعداء القبيلة. إن هذا السعي الناصب لهو برهان وثيق على أثر تحصيل الاحترام الاجتماعي على السلوك الإنساني؛ شهادة آداب أو جمجمة عدو: لا فرق؛ فالطبيعة الإنسانية واحدة، وإن كان ثم شيء من الاختلاف؛ فهو اختلاف يسير لا يستحق أن يؤبه له!

إن المبدع في الأطوار الأولى من تكوينه النفسي لينزع به هذا السعي لكسب الاحترام الاجتماعي أكثر مما عند غيره، فيحتفي بصورته لدى الآخرين احتفاءً زائداً عن حاجة الفطرة، فائضاً عن حدوده الطبيعية؛ فإن هو استمر به صيّره أسيراً لنظرة الجماعة يتكفّفها المنزلةَ والرفعةَ والتجاوبَ الشعوري، وهذا هو السر في شذوذ تصرفات كثير من المبدعين؛ ذرائع يصطنعونها للفت الانتباه، ثم لا تلبث أن تستحيل إلى أمراض نفسية تنتهي ببعضهم – في غياب الإيمان – إلى الجنون أو الانتحار.

إن استطاع المبدع أن يجتث بذور هاتين الرذيلتين قبل أن تتمكنا من نفسه وتمدا جذورهما في أعماقه فقد هُدي إلى خير كثير، تكون معه هذه الميزة التي اختصه الله –سبحانه- بها نعمة يتفيأ ظلالها، لا نقمة يشقى بها؛ فيغدو يذم الناس، ويروح يسخط الحياة بسببها.

ثم إياك –أيها المبدع- أن تنخدع بقولهم: إن الصعوبة إنما هي في البدايات فقط.. كل مراحل الحياة صعبة: [لقد خلقنا الإنسان في كبد] [البلد]، والشأن إنما هو في أن نتعامل مع الحياة على ما هي عليه، لا على ما نريدها أن تكون عليه؛ فإنها على ما نريدها أن تكون عليه عَصِيّة.


مجلة البيان، العدد 253 – رمضان 1429هـ ص82.

ــــــــــــ
(1) بالرغم من احتفاء بعض الإخوة الصالحين بهذه البدعة الفكرية – أعني: (البرمجة اللغوية العصبية) إن صح ذلك فهي محل مقت ورفض الكثير من الدعاة والمفكرين والباحثين ممن درسوها وناقشوها وأثبتوا ضلالها وانحرافها، انظر على سبيل المثال لا الحصر كتاب (خدعة البرمجة العصبية) لمؤلفه (الأستاذ أحمد الزهراني)، وكتاب (الخدعة الكبرى) لمؤلفته (د. نجاح الظهار). نسأل الله أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه. [البيان]
(2) قال ابن المقفع: الإنسان طبع على طرائق لؤم، وإنما تفاضل الناس في مغالبة طباع السوء.
(3) المطرد، هكذا تكتب.. ورسمها عند بعض الكتاب "المضطرد" وهم نشأ من شبهها بـ "المضطرب"، وليس في اللسان مادة "اضطرد" وإنما "اطرد".
(4) ففرويد وأدلر ويونج وغيرهم من علماء النفس الماديين وغيرهم كثير من دارسي النفس الإنسانية؛ يفشلون فشلاً ذريعاً في حصر الدافع.
(5) التوريب: أن توري عن الشيء بالمعارضات المباحات، كذا في القاموس. وكان مارون عبود يقول: الألفاظ لا تؤخذ من القاموس لكن يستشار القاموس بشأنها.