أبو حسن
08-12-2008, 08:25 PM
مع مقالة جديدة من مقالات أخينا أبو عبدالمعز وفقه الله وزاده علما وفهما وفقها... وأنبه إلى أني أنقل هذه المقالة للمهتمين بهذا الباب... حتى لا أسمع اعتراضات من غير المهتمين !!!
الــتــأويــل "الــمــحــلــي" والــتــأويــل "الــمــنــهــجــي"
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين...
أما بعد:
فهدفنا من هذه الفقرات التفصيل في مسألة التأويل، ودفع شغب بعض المناوئين لمنهج السلف عندما يلحون على أن بعض أئمة السلف قد أولوا هذه الصفة أو تلك، مثل ما قيل عن تأويل ابن عباس للساق وتأويل أحمد للمعية وغيرهما...
بداية نقرر أمرا ذا بال: وهو أن صحة المذهب يجب أن تتقرر من خلال أصوله ومنطلقاته لا من خلال مذاهب المخالفين... أعني أن المنهج الصحيح لا يشيد على ردود الفعل وليس من الحصافة أن ننتظر ما سيقوله المخالف لنذهب بعدها إلى أن مذهب السلف هو عكس ما قيل من غير نظر أو تمحيص... كأن مجرد مخالفة الخصم دليل على صحة القول!!
من هذا القبيل مشكلة التأويل!
إن خصوم منهج السلف بكل أطيافهم -من الصوفي العرفاني إلى الفيلسوف البرهاني- يُعملون جميعا التأويل في نصوص الشرع، فهل يسوغ هذا الإجماع المضاد منعَ التأويل ورفع شعار: "أهل السنة لا يؤولون وأهل البدعة يؤولون"؟
إن السبيل الأسلم يقتضي تجاهل هؤلاء، والرجوع إلى الحقائق الثابتة وحدها، فإذا أسفر البحث الصحيح عن حقيقة تمسكنا بها وأدخلناها في مذهبنا، مطمئنين غير متذمرين، ولو قدر أن كانت هذه الحقيقة مما يقول به الخصوم...
من هذا المنطلق نعلن أن التأويل هو قدر اللغة الإنسانية... ولا يقبل من أي كان دعوى منع التأويل وعلى فرض أنه يدعيه نظريا فلا مناص من أن يتناقض عمليا...
نقول هذا لأن اللغة الإنسانية قائمة على أساس من "التعدد الدلالي" فلا تكاد توجد كلمة لها معنى وحيد -وحسبك أن تتصفح أي معجم لتواجه هذه الحقيقة الثابتة- وتتكاثر الدلالات الممكنة مع توالي الكلمات والتراكيب... ولما كانت الكلمة حمالة وجوه فقد انتصب التأويل شئنا أم أبينا... فقولك أريد بهذه الكلمة هذا المعنى وليس ذاك هو التأويل بعينه...
وتبقى المشكلة بعد ذلك تدور بين صواب تأويل أو خطئ تأويل... أما التأويل نفسه فقدر غير مدفوع!
إن بعض المفكرين وأهل الصناعات -قديما وحديثا- قد ضاقوا ذرعا من هذه الخاصية في اللغة، وما نشأ عنها من سوء فهم وتنازع فيه، فابتكروا لغات رمزية اصطناعية -مثل لغة الحاسوب ولغة المنطق الرمزي- يكون للرمز فيها دلالة وحيدة لا يفهم منها إلا هي... لكن هيهات أن تكون لغات البشر كذلك!!!
إن "التعدد الدلالي" يلزمه "وجوب التأويل" هذه حقيقة لا محيد عنها... شريطة فهم التأويل -هنا- بمعنى ترشيح أوترجيح معنى بعينه وتقدير غيره معان ممكنة لكنها مرجوحة أو غير مرادة...
فلا يقبل من أي شخص زعمه أن كلمة "يد" لا تعني -ولا يمكن أن تعني- إلا الجارحة في كل كلام العرب... فتستوي عنده دلالة التعابير الآتية:
1-أمسك عنان الحصان بيده
2-فتل الحبل بيده.
3-بيده الحل والعقد..
4-الأمر كله بيده.
إذا كانت اليد في 1 و2 تعني الجارحة ذات الأصابع فلا يمكن أن تكون بهذا المعنى في 3و4...
في 3 إذا دل السياق على أنها ليست في معنى 2 وأن الحل والعقد فيها معنوي فلا بد للتأويل أن يبحث عن اتساق لدلالة العبارة فيقرر أن الحل والعقد المعنوي لا يناسبه إلا يد معنوية...
وفي المقابل فإن عبارة 2 في سياق كلام عن نساج حصائر لا يمكن لليد فيها إلا أن تكون الجارحة...
وهكذا فإن تنميط الدلالات وتسطيحها لا يمكن أن يصدر عن عارف باللغة... وأهل منع المجاز لا يقولون إن العبارات السابقة متساوية في دلالة اليد فيها -كما يقول عنهم من لم يخبر مذهبهم مع الأسف- وإنما يقولون إن اليد فيها تكتسب دلالتها من سياقها المخصوص... فلا مانع من أن تكون اليد معنوية إذا دل السياق على ذلك فالعرب لها توسع في كلامها... ولكنهم يمنعون القول إن هذه الكلمة وضعت لمعنى ونقلت إلى غيره وسندهم -غير القابل للدحض- أننا نعرف الاستعمال وتساوي مراتب الكلمات فيه ولا علم عندنا بالغيب فنقول وضعت هذه الكلمة لهذا المعنى أولا ..ثم نقلت إلى معنى لآخر فيما بعد تخرصا ورجما بالغيب!!
إذا تقرر هذا عدنا لنواجه السؤال المحتوم:
إذا كان التأويل ضرورة كما زعمتم فما الفرق بين أهل السنة وغيرهم من هذه الجهة ! وهل نضرب عرض الحائط بنكير أئمة السلف عبر تاريخهم على المؤولة!!
نقول:
إن التأويل لم ينظر إليه باعتباره آلية من آليات القراءة -لا مفر منها كما عرفت- ولكن نظر إلى خلفيته والباعث عليه... فكان الإنكار متجها في القصد الأول لمنهج الفلاسفة والمتكلمين... وجاء إنكار التأويل بالقصد الثاني... فقد اصطنع المتكلمون التأويل لا للضرورة اللغوية العامة بل ذريعة فرضتها منطلقاتهم وأصولهم... ومن ثم تجد التأويل عندهم منهجا مشتقا من مذهب التعطيل وهذا التعطيل نفسه فرع عن النظر العقلي الخالص...
وبعبارة أخرى لقد أصبح التأويل عنهم إديولوجيا لتمرير مذهب لا يمكن أن يتحقق بدون تأويل داخل دائرة الإسلام...
وآية ذلك أنك تجد عندهم التأويل كليا و مسبقا -أي قبل ملاحظة النصوص نفسها- فتراهم يقولون مثلا:
وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها
فهذه قاعدة قبلية عندهم تقضي على ملايين النصوص ما وجد منها وما سيوجد، وبذلك يفقد النص شخصيته ولو كان من قول رب العالمين!!
فلم يكن التأويل عندهم بسبب من النص ولكن بسبب من العقل... وهذا معنى كونهم يقدمون العقل على النص فالأول حاكم على الثاني بالشخص والنوع في الحضور والغياب في الحاضر وفي الاستقبال...
فلو قدر أن في اللوح المحفوظ كتابة مثل "لله يدان" لم يطلع عليها أحد ولم تنزل على أحد لقال المتكلم يجب إخضاعها للتأويل أو التفويض فحكم تعطيل الله من اليدين قائم إلى الأبد حتى لو قال الله نفسه ذلك لهؤلاء يوم يفصل بين المختلفين!!!
إن التأويل إذن قد يحصل لضرورة لغوية وقد يحصل لضرورة مذهبية... قد يكون محليا يفرضه سياق ومقتضيات بلاغية وأعراف تداولية، وقد يكون منهجيا يفرضه اقتناع عقلي وتمسك بأكسيومات معينة... من شأن التأويل المحلي أن يكون نابعا من طبيعة اللغة ،جزئيا دائما، متعلقا بمحل مخصوص لا يعممه على غيره أما التأويل منهجا أو مذهبا فيكون نابعا من خلفية عقدية دائما، ومن ثم يكون كليا وقبليا، يؤول المؤول حتى قبل أن يقرأ النص! فانظر إلى هذا المسخ الذي اعترى التأويل!
وهذا مثال لتوضيح الأسلوبين في التأويل:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هل نثبت لله يدا بمقتضى دلالة هذه الآية ؟
لا تردد أبدا على طريقة صاحب التأويل المنهجي، فالله تعالى ليس له يد ولا بد من تأويل الكلام تأويلا يعين معنى غير معنى اليد "الحقيقية"، فإن لم نتبين المعنى المراد أو أشكل علينا تعيينه فلا مفر من اللجوء إلى السكوت والتفويض...
هكذا يطوى بساط البحث سريعا... فلا بحث في القرائن والسياقات ولا اعتبار لعادات العرب في كلامهم ولا فهم فاهم منه!!
لكن صاحب التأويل المحلي له نظر مغاير... فليس منطلقه قاعدة فلسفية مسبقة سيعملها في الآية بطريقة آلية بل إن هذا النص -وإخوانه من النصوص- هو منطلقه الأول... ولما كان النص بلغة عربية فلابد من فهمه على ضوء قواعدهم وعاداتهم وحدوسهم البلاغية:
لم تقل الآية "لله الملك" بل "بيده الملك" فنلحظ أن التقييد الذي يأتي عادة لقبض المعنى وتضييقه جاء هنا لبسطه وتوسيعه!
"لله الملك" دلالة على ثبوت الملك فقط، أما عبارة "بيده الملك" فقد أثبتت التصرف في الملك والتمكن منه فضلا عن ثبوته: فهو ملك يمنح وينزع يوهب ويسترد يتصرف فيه مالكه كما يشاء... وما كان لهذه المعاني أن تخطر لو لم تذكر "اليد" لأن من لوازم اليد الأخذ والعطاء والقبض والإرسال... ثم نلحظ أيضا العدول عن حرف "في" إلى حرف "الباء" إشعارا بأن هذا الملك ليس مستقرا "في يده" فقط ولكنه يمنح ويسلب "بيده" أيضا...
فهل سيعتبر المؤول اليد -هنا- كناية عن التصرف؟
وهل سيفهم أن اليد الحقيقية غير مرادة وأن المراد بالضبط هو لوازمها وغاياتها من أخذ وعطاء؟
أقول لا مانع من هذا الفهم بل هو الراجح... وهو فهم يسير على سنن العرب وبلاغتها... فهم يقولون "بيده الأمر" أو "ليس بيده الأمر" ولا يخطر ببالهم لحم ولا عصب ولا أنامل ولا أظفار وإنما غاية مرادهم معنى التمكن والتصرف إثباتا ونفيا...
فهل أولت صفة "اليد"؟
نعم، لكن تأويل في هذا المحل فقط!
فلو قيل :
هل لله يد؟
سنقول:
أما في هذه الآية فثبوت اليد لله محتمل فقط...
وأما تعطيل صفة اليد نهائيا فهذه دندنة المعطلة المبتدعة...
وأما ثبوت اليدين لله من نصوص أخرى فذلك لا شك فيه ولا محيد عنه...
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ...
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...
فتثنية اليد قاطع بأن المراد اليد الحقيقية وليس شيئا معنويا فلم يعهد عن العرب التوسع في معنى اليد إلا وهي مفردة أو متعددة...
وفي الرد على اليهود لا يعقل أن ينسبوا إلى الله نقصا وباطلا -وهو اليد الحقيقية- ثم يرد عليهم مقرا بالباطل بل شاهدا على نفسه بمضاعفة النقص و الباطل فيقول "بل يداه"...
فتأويل هذه الآية هو إثبات يدين حقيقيتين لرب العالمين مع الإمساك عن التمثيل والتكييف...
بهذا التأصيل يرتفع التشغيب:
فلو قيل إن ابن عباس رضي الله عنهما قد أول الساق... أجبنا هذا خطأ فهو لم يؤول "الساق" بل أول كلمة ساق المنكرة في محل هو قوله تعالى :
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
ففهم من تعبير "يكشف عن ساق" معنى معروفا في العربية له شواهده وهو أوان الشدة والحسم... أما القول بأن ابن عباس ينكر الساق لله مطلقا فهذا خطأ وأما تعميم التأويل المحلي ليصبح منهجيا فيقال إن ابن عباس عندما أول الساق فهو يؤول أيضا الوجه واليد والمجيء والنزول والاستواء والكلام والضحك والتعجب فهذا زور وبهتان !!!
الــتــأويــل "الــمــحــلــي" والــتــأويــل "الــمــنــهــجــي"
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين...
أما بعد:
فهدفنا من هذه الفقرات التفصيل في مسألة التأويل، ودفع شغب بعض المناوئين لمنهج السلف عندما يلحون على أن بعض أئمة السلف قد أولوا هذه الصفة أو تلك، مثل ما قيل عن تأويل ابن عباس للساق وتأويل أحمد للمعية وغيرهما...
بداية نقرر أمرا ذا بال: وهو أن صحة المذهب يجب أن تتقرر من خلال أصوله ومنطلقاته لا من خلال مذاهب المخالفين... أعني أن المنهج الصحيح لا يشيد على ردود الفعل وليس من الحصافة أن ننتظر ما سيقوله المخالف لنذهب بعدها إلى أن مذهب السلف هو عكس ما قيل من غير نظر أو تمحيص... كأن مجرد مخالفة الخصم دليل على صحة القول!!
من هذا القبيل مشكلة التأويل!
إن خصوم منهج السلف بكل أطيافهم -من الصوفي العرفاني إلى الفيلسوف البرهاني- يُعملون جميعا التأويل في نصوص الشرع، فهل يسوغ هذا الإجماع المضاد منعَ التأويل ورفع شعار: "أهل السنة لا يؤولون وأهل البدعة يؤولون"؟
إن السبيل الأسلم يقتضي تجاهل هؤلاء، والرجوع إلى الحقائق الثابتة وحدها، فإذا أسفر البحث الصحيح عن حقيقة تمسكنا بها وأدخلناها في مذهبنا، مطمئنين غير متذمرين، ولو قدر أن كانت هذه الحقيقة مما يقول به الخصوم...
من هذا المنطلق نعلن أن التأويل هو قدر اللغة الإنسانية... ولا يقبل من أي كان دعوى منع التأويل وعلى فرض أنه يدعيه نظريا فلا مناص من أن يتناقض عمليا...
نقول هذا لأن اللغة الإنسانية قائمة على أساس من "التعدد الدلالي" فلا تكاد توجد كلمة لها معنى وحيد -وحسبك أن تتصفح أي معجم لتواجه هذه الحقيقة الثابتة- وتتكاثر الدلالات الممكنة مع توالي الكلمات والتراكيب... ولما كانت الكلمة حمالة وجوه فقد انتصب التأويل شئنا أم أبينا... فقولك أريد بهذه الكلمة هذا المعنى وليس ذاك هو التأويل بعينه...
وتبقى المشكلة بعد ذلك تدور بين صواب تأويل أو خطئ تأويل... أما التأويل نفسه فقدر غير مدفوع!
إن بعض المفكرين وأهل الصناعات -قديما وحديثا- قد ضاقوا ذرعا من هذه الخاصية في اللغة، وما نشأ عنها من سوء فهم وتنازع فيه، فابتكروا لغات رمزية اصطناعية -مثل لغة الحاسوب ولغة المنطق الرمزي- يكون للرمز فيها دلالة وحيدة لا يفهم منها إلا هي... لكن هيهات أن تكون لغات البشر كذلك!!!
إن "التعدد الدلالي" يلزمه "وجوب التأويل" هذه حقيقة لا محيد عنها... شريطة فهم التأويل -هنا- بمعنى ترشيح أوترجيح معنى بعينه وتقدير غيره معان ممكنة لكنها مرجوحة أو غير مرادة...
فلا يقبل من أي شخص زعمه أن كلمة "يد" لا تعني -ولا يمكن أن تعني- إلا الجارحة في كل كلام العرب... فتستوي عنده دلالة التعابير الآتية:
1-أمسك عنان الحصان بيده
2-فتل الحبل بيده.
3-بيده الحل والعقد..
4-الأمر كله بيده.
إذا كانت اليد في 1 و2 تعني الجارحة ذات الأصابع فلا يمكن أن تكون بهذا المعنى في 3و4...
في 3 إذا دل السياق على أنها ليست في معنى 2 وأن الحل والعقد فيها معنوي فلا بد للتأويل أن يبحث عن اتساق لدلالة العبارة فيقرر أن الحل والعقد المعنوي لا يناسبه إلا يد معنوية...
وفي المقابل فإن عبارة 2 في سياق كلام عن نساج حصائر لا يمكن لليد فيها إلا أن تكون الجارحة...
وهكذا فإن تنميط الدلالات وتسطيحها لا يمكن أن يصدر عن عارف باللغة... وأهل منع المجاز لا يقولون إن العبارات السابقة متساوية في دلالة اليد فيها -كما يقول عنهم من لم يخبر مذهبهم مع الأسف- وإنما يقولون إن اليد فيها تكتسب دلالتها من سياقها المخصوص... فلا مانع من أن تكون اليد معنوية إذا دل السياق على ذلك فالعرب لها توسع في كلامها... ولكنهم يمنعون القول إن هذه الكلمة وضعت لمعنى ونقلت إلى غيره وسندهم -غير القابل للدحض- أننا نعرف الاستعمال وتساوي مراتب الكلمات فيه ولا علم عندنا بالغيب فنقول وضعت هذه الكلمة لهذا المعنى أولا ..ثم نقلت إلى معنى لآخر فيما بعد تخرصا ورجما بالغيب!!
إذا تقرر هذا عدنا لنواجه السؤال المحتوم:
إذا كان التأويل ضرورة كما زعمتم فما الفرق بين أهل السنة وغيرهم من هذه الجهة ! وهل نضرب عرض الحائط بنكير أئمة السلف عبر تاريخهم على المؤولة!!
نقول:
إن التأويل لم ينظر إليه باعتباره آلية من آليات القراءة -لا مفر منها كما عرفت- ولكن نظر إلى خلفيته والباعث عليه... فكان الإنكار متجها في القصد الأول لمنهج الفلاسفة والمتكلمين... وجاء إنكار التأويل بالقصد الثاني... فقد اصطنع المتكلمون التأويل لا للضرورة اللغوية العامة بل ذريعة فرضتها منطلقاتهم وأصولهم... ومن ثم تجد التأويل عندهم منهجا مشتقا من مذهب التعطيل وهذا التعطيل نفسه فرع عن النظر العقلي الخالص...
وبعبارة أخرى لقد أصبح التأويل عنهم إديولوجيا لتمرير مذهب لا يمكن أن يتحقق بدون تأويل داخل دائرة الإسلام...
وآية ذلك أنك تجد عندهم التأويل كليا و مسبقا -أي قبل ملاحظة النصوص نفسها- فتراهم يقولون مثلا:
وكل نص أوهم التشبيها * أوله أو فوض ورم تنزيها
فهذه قاعدة قبلية عندهم تقضي على ملايين النصوص ما وجد منها وما سيوجد، وبذلك يفقد النص شخصيته ولو كان من قول رب العالمين!!
فلم يكن التأويل عندهم بسبب من النص ولكن بسبب من العقل... وهذا معنى كونهم يقدمون العقل على النص فالأول حاكم على الثاني بالشخص والنوع في الحضور والغياب في الحاضر وفي الاستقبال...
فلو قدر أن في اللوح المحفوظ كتابة مثل "لله يدان" لم يطلع عليها أحد ولم تنزل على أحد لقال المتكلم يجب إخضاعها للتأويل أو التفويض فحكم تعطيل الله من اليدين قائم إلى الأبد حتى لو قال الله نفسه ذلك لهؤلاء يوم يفصل بين المختلفين!!!
إن التأويل إذن قد يحصل لضرورة لغوية وقد يحصل لضرورة مذهبية... قد يكون محليا يفرضه سياق ومقتضيات بلاغية وأعراف تداولية، وقد يكون منهجيا يفرضه اقتناع عقلي وتمسك بأكسيومات معينة... من شأن التأويل المحلي أن يكون نابعا من طبيعة اللغة ،جزئيا دائما، متعلقا بمحل مخصوص لا يعممه على غيره أما التأويل منهجا أو مذهبا فيكون نابعا من خلفية عقدية دائما، ومن ثم يكون كليا وقبليا، يؤول المؤول حتى قبل أن يقرأ النص! فانظر إلى هذا المسخ الذي اعترى التأويل!
وهذا مثال لتوضيح الأسلوبين في التأويل:
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
هل نثبت لله يدا بمقتضى دلالة هذه الآية ؟
لا تردد أبدا على طريقة صاحب التأويل المنهجي، فالله تعالى ليس له يد ولا بد من تأويل الكلام تأويلا يعين معنى غير معنى اليد "الحقيقية"، فإن لم نتبين المعنى المراد أو أشكل علينا تعيينه فلا مفر من اللجوء إلى السكوت والتفويض...
هكذا يطوى بساط البحث سريعا... فلا بحث في القرائن والسياقات ولا اعتبار لعادات العرب في كلامهم ولا فهم فاهم منه!!
لكن صاحب التأويل المحلي له نظر مغاير... فليس منطلقه قاعدة فلسفية مسبقة سيعملها في الآية بطريقة آلية بل إن هذا النص -وإخوانه من النصوص- هو منطلقه الأول... ولما كان النص بلغة عربية فلابد من فهمه على ضوء قواعدهم وعاداتهم وحدوسهم البلاغية:
لم تقل الآية "لله الملك" بل "بيده الملك" فنلحظ أن التقييد الذي يأتي عادة لقبض المعنى وتضييقه جاء هنا لبسطه وتوسيعه!
"لله الملك" دلالة على ثبوت الملك فقط، أما عبارة "بيده الملك" فقد أثبتت التصرف في الملك والتمكن منه فضلا عن ثبوته: فهو ملك يمنح وينزع يوهب ويسترد يتصرف فيه مالكه كما يشاء... وما كان لهذه المعاني أن تخطر لو لم تذكر "اليد" لأن من لوازم اليد الأخذ والعطاء والقبض والإرسال... ثم نلحظ أيضا العدول عن حرف "في" إلى حرف "الباء" إشعارا بأن هذا الملك ليس مستقرا "في يده" فقط ولكنه يمنح ويسلب "بيده" أيضا...
فهل سيعتبر المؤول اليد -هنا- كناية عن التصرف؟
وهل سيفهم أن اليد الحقيقية غير مرادة وأن المراد بالضبط هو لوازمها وغاياتها من أخذ وعطاء؟
أقول لا مانع من هذا الفهم بل هو الراجح... وهو فهم يسير على سنن العرب وبلاغتها... فهم يقولون "بيده الأمر" أو "ليس بيده الأمر" ولا يخطر ببالهم لحم ولا عصب ولا أنامل ولا أظفار وإنما غاية مرادهم معنى التمكن والتصرف إثباتا ونفيا...
فهل أولت صفة "اليد"؟
نعم، لكن تأويل في هذا المحل فقط!
فلو قيل :
هل لله يد؟
سنقول:
أما في هذه الآية فثبوت اليد لله محتمل فقط...
وأما تعطيل صفة اليد نهائيا فهذه دندنة المعطلة المبتدعة...
وأما ثبوت اليدين لله من نصوص أخرى فذلك لا شك فيه ولا محيد عنه...
قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ...
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ...
فتثنية اليد قاطع بأن المراد اليد الحقيقية وليس شيئا معنويا فلم يعهد عن العرب التوسع في معنى اليد إلا وهي مفردة أو متعددة...
وفي الرد على اليهود لا يعقل أن ينسبوا إلى الله نقصا وباطلا -وهو اليد الحقيقية- ثم يرد عليهم مقرا بالباطل بل شاهدا على نفسه بمضاعفة النقص و الباطل فيقول "بل يداه"...
فتأويل هذه الآية هو إثبات يدين حقيقيتين لرب العالمين مع الإمساك عن التمثيل والتكييف...
بهذا التأصيل يرتفع التشغيب:
فلو قيل إن ابن عباس رضي الله عنهما قد أول الساق... أجبنا هذا خطأ فهو لم يؤول "الساق" بل أول كلمة ساق المنكرة في محل هو قوله تعالى :
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ
ففهم من تعبير "يكشف عن ساق" معنى معروفا في العربية له شواهده وهو أوان الشدة والحسم... أما القول بأن ابن عباس ينكر الساق لله مطلقا فهذا خطأ وأما تعميم التأويل المحلي ليصبح منهجيا فيقال إن ابن عباس عندما أول الساق فهو يؤول أيضا الوجه واليد والمجيء والنزول والاستواء والكلام والضحك والتعجب فهذا زور وبهتان !!!