وسيم أحمد الفلو
11-02-2009, 01:59 PM
نقلاً عن NowLebanon
المنقوشة ليست اختراعاً لبنانياً فقط، بل هي أيضاً من أول الطقوس الصباحية بالنسبة لجماهير غفيرة تطلبها لتبتدئ بها يومها الجديد... ولا عجب، فالمنقوشة هي الوريث الشرعي لـ"عروسة الزعتر وزيت" التي كانت الزاد المفضل لأجيال مضت من تلاميذ المدارس الذين كانوا على يقين من أنها، بصعترها وزيتها، تنشّط الذاكرة على الدروس.
فرن المناقيش الأكثر شهرة في لبنان اليوم هو "بربر". وهو افتتح محلاً لبيع المناقيش وحدها في 1981، في نزلة البيكاديللي بالحمرا. وما هي إلا سنتان حتى اكتشف أنّه، بإمكانات بشرية وتجهيزية كبيرة، بات ينافس الأفران الصغيرة في بيروت كلّها، ومقصداً لمن يريدون منقوشة لذيذة. فقرّر أن يوسّع أعماله.
وسرعان ما افتتح مطعماً إلى جانب الفرن، ليصير "مطعم بربر" ابتداء من العام 1983، يبيع اللحوم والدجاج المشوي. وتوسع بعدها الى "الفاهيتا" و"الفيلادلفيا"، وما شابهها من مأكولات غربية انتشرت في بيروت منتصف التسعينات. ثم افتتح ركناً للشاورما على غرار مطاعم كثيرة في بيروت، ثم ركناً آخر للفلافل. ومنذ ذلك التاريخ وهو العملاق الوحيد على ساحة مناقيش بيروت، حتى بدايات الألفية الثالثة.
وطوال المدة التي تقرب من عشرين عاماً، رسخ "بربر" نفسه "ملك المناقيش". وهي تسمية سرعان ما استعملها كثيرون في تسمية مطاعم جديدة، مثل "ملك الطاووق"، قبله "ملك البطاطا"، وغيرهم.
ولكن، في العام 2000، قرّر آل غلاييني أن يفتتحوا فرناً إلى جانب بربر من ناحية قريطم. واتخذ القرار بناء على أنّ نزلة البيكاديللي صارت مقصد محبي المناقيش. والزبائن جاهزون. وكانت خطة منافسة بربر، واستمالة زبائنه، هي تسعير منقوشة الصعتر بـ250 ليرة فقط، والجبنة بـ500 ليرة، أي أقلّ بخمسين في المئة من السعر الذي يبيعه "بربر".
وكان لغلاييني ما أراده. فكسب في سرعة كبيرة، نسبياً، شهرة واسعة وسريعة في المدينة، جرّاء بيعه المنقوشة بـ250 ليرة. وصحافيون كثر كتبوا وصوّروا لافتة الـ"250" المضيئة التي وضعها على باب الفرن.
واستجلب غلاييني زبائن جدداً إلى النزلة التي صار يمكن تسميتها بـ "نزلة المناقيش". وهذه شهدت منافسة حامية بين "بربر" و"غلاييني". ولكنّ "بربر" قرّر أن يظلّ على أسعاره.
ومعروف أنّ "نزلة بربر"، كما يقول أبناء الأجيال الجديدة، أو "نزلة البيكاديللي"، كما يعرفها أبناء أجيال سابقة، زادت رصيد شارع الحمرا. وكان إقفال مقاهيه المعروفة، "المودكا" و "الويمبي" واليوم "كافيه دو باري"، ينقص من هذا الرصيد. وحياة الليل "الحاناتي" (من حانة) انتقلت في السنوات الأخيرة إلى شارعي الجميزة ومونو.
وفي 1969، أي قبل "بربر" بأكثر من عشرة أعوام، افتتح شرق بيروت، فرن "wooden bakery"، ولكنّه ظلّ فرناً عادياً ومغموراً إلى ما بعد 1992، حيث أخذ يتوسّع مع طفرة المطاعم التي راحت بيروت تشهدها منتصف التسعينات.
والتوسّع بدأ شرق بيروت، حيث إنّ "wooden bakery" هو المعادل المسيحي لـ"بربر"، المسلم، غرب بيروت. والتوسّع لم يسع إلى منافسة "بربر" بل إلى استيراد موضة المناقيش إلى "الشرقية". فمزاج الطعام شبه واحد في بيروت كلها.
وفي سنوات قليلة بلغ عدد فروعه سبعة عشر. وأخيراً افتتح فرعه الأول غرب بيروت، على طرف ضاحية بيروت الجنوبية، الشيعية، والبعيدة نسبياً عن نفوذ "بربر"، السنّي البيروتي، على طريق المطار. وبحسب الإدارة، فإنّ فرعاً آخر سيفتتح في قلب الضاحية قريباً جداً. وهذا الفرن وسّع نشاطاته إلى السعودية، حيث افتتح فرعاً هناك قبل بضعة أعوام.
بعد "بربر" بأكثر من عقدين ونصف العقد، وبعد "WOODEN BAKERY" بنحو نصف قرن، شهدت الضاحية الجنوبية محاولة خجولة في بداية الألفية، قام بها "باش منقوش" في ساحة الغبيري.
وكان الفرن محاولة لاستيراد موضة الأفران الكبيرة إلى الضاحية. ويمكن القول إنّه محاولة لخلق معادل شيعي، أو ضاحوي، لـ "بربر" و"WOODEN BAKERY". وباءت المحاولة بالفشل، ربما لأنّ الغبيري ليست مركزاً من مراكز الحياة الجديدة في الضاحية.
والمحاولة تكررت في مكان آخر، على أوتوستراد السيد هادي نصر الله، مع فرن "الخبّاز". ونجحت هذه المرة. و صار "الخبّاز"، تحت الجسر من طريق المطار إلى الحازمية، المعادل الحقيقي لـ"بربر" في الضاحية.
واليوم، في أيّ ساعة من الليل يشعر العابر قرب "الخبّاز" أنّه في "نزلة البيكاديللي" الضاحوية: ازدحام شديد، بشري ومروري، سببه "الهجوم" الليلي على المناقيش هناك.
أسعار المناقيش في الجمهورية المنقوشية تختلف كثيراً من فرن إلى آخر. ففي حين بلغ سعر منقوشة الجبنة في "بربر" 2000 ليرة مع الارتفاع الحاد لأسعار المواد الغذائية في منتصف العام الفائت، حافظ على 1500 ليرة في "الخباز"، ولم يتعدّ 1250 ليرة عند "غلاييني"، فيما يبيعها "WOODEN BAKERY" بـ2750 ليرة، يضاف إليها 750 ليرة إذا رغب الزبون بالقليل من الخضار عليها، فتصير بـ 3500.
وأما الصعتر فلا يزال الأرخص عند غلاييني بـ500 ليرة، وبـ1000 ليرة عند "بربر"، و750 عند "الخباز"، و1500 عند "WOODEN BAKERY"، يضاف إليها 750 ليرة أيضاً لقليل من الخضار.
وعلى هذا، فإن الـ "WOODEN BAKERY" هو الأغلى، يليه بربر، ثم الخباز، ثم غلاييني. وتترجح أصناف الزبائن من مكان لآخر. فـ "WOODEN BAKERY" للميسورين الذين يعتبرون "بربر" و "غلاييني" و "الخباز" لمن هم أقلّ شأناً ومرتبة وقدرة شرائية. و "بربر" و "غلاييني" و "الخباز" يجتذبون أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى، والطلاب والعشاق المفلسين. وهؤلاء وأولئك جميعاً يندرجون طوعاً تحت "رعية المنقوشة".
ولكن مهلاً، منقوشة الـ "WOODEN BAKERY" ليست الأغلى ثمناً في لبنان، ثمة من يسبقها بأشواط طويلة ومتعبة!
منذ عشرة أشهر فقط، افتتح في الأشرفية، في ساحة ساسين، مطعم "سمسم"، وهو مطعم يبيع معظم أصناف المأكولات في سندويشات، أو في "مناقيش"، تبدأ بالصعتر ولا تنتهي بالكفتة والجبنة.
سعر منقوشة الصعتر في "سمسم" 10 آلاف ليرة لبنانية فقط لا غير. هنا يمكن القول إن " WOODEN BAKER" هو للفقراء، أو للذين يريدون أن يأكلوا سريعاً، أو أن يحصلوا سريعاً على منقوشة. أما في عالم "سمسم"، فالمنقوشة تحتم على شاريها أن يختار ثلاثة أصناف من الصحون الجانبية الصغيرة، مثل اللبن أو اللبنة أو البطاطا الحرّة وما شابه.
وترتفع أسعار المناقيش في "سمسم" لتبلغ أكثر من 20 ألف ليرة للمنقوشة. ولا يمكن أن يجد السائل منقوشة أغلى منها في لبنان كلّه. هذا رغم أن المنقوشة بند رئيسي على قوائم الطعام في معظم المطاعم اللبنانية.
ولأنّ "الدّفيعة" كثر في بيروت، افتتح "سمسم" فرعاً جديداً له في "CITY MALL" في الدورة، قبل ثلاثة أشهر. والأرجح أنّه مقبل على افتتاح فروع أخرى في الآتي من الأيام، بحسب مصادر في الإدارة.
لكنّ "طعمة" المنقوشة لا تختلف كثيراً من فرن لآخر. الصعتر هو نفسه في الأفران كلّها. والجبنة هي نفسها، تقريباً. لكن وبحسب العامل اللبناني النفسي فكلّما كانت أغلى ثمناً، يظنّ الشاري أنّ نوعيتها أفضل.
ويكشف شاب عمل في أفران كثيرة أنّ نوعية الجبنة نفسها تستخدم في كلّ الأفران التي عمل فيها، وأنّ ما يتغيّر هو المنطقة، وأجور العمّال، والديكور. ويدخل في أجور العمّال نوعية الذين يشرفون على صناعة المنقوشة، وليس المنقوشة نفسها، أي الطريقة وليس النوعية.
ويتميّز كلّ فرن بمنقوشة معيّنة. فبربر يشتهر بـ "اللحم بعجين". وغلاييني يشتهر بمنقوشة الصعتر. فيما يشتهر الـ "WOODEN BAKER" بالجبنة المطبوخة مع "الجنبون". أما "الخبّاز" فـ "أطيب" منقوشة لديه هي الجبنة. وربما لذلك علاقة بـ "طبخة" العجين، وليس بما يوضع داخل المنقوشة من أصناف، ومدى ملاءمة العجين لهذا النوع أو ذاك.
بعد كلّ هذا بات يمكن الحديث عن "طفرة منقوش" تعيشها بيروت هذه الأيام، من 250 ليرة وصولاً إلى أكثر من عشرين ألف ليرة.
ولاستكمال "أسطورة" المنقوشة الآخذة في التوسع، كان لا بدّ من كتاب "يؤرّخ" للمنقوشة بحثياً. وقامت بهذا البحث باربرا مسعد، فأصدرت كتاباً فاخر الطباعة، ويباع في "VIRGIN" اسمه "منقوشة" (صدر باللغتين الفرنسية والإنكليزية عن "منشورات آلارم).
لا تحتاج باربرا الى كثير من التقديم والحجج لتقنعنا بحقها في إصدار كتاب بحثيّ موضوعه المنقوشة. هذا الاختراع اللبناني المغبون إذا ما قورن بالبيتزا الإيطالية والهامبرغر الأميركي والجبنة الفرنسية، على ما تقول.
وهي تبدأ بحثها برواية سيرة الكتاب نفسه، وسيرتها استطراداً، بدءاً من سفرها الى الولايات المتحدة مع أهلها، قبل ان تبلغ العاشرة من عمرها، ثم افتتاح والدها مطعماً لبنانياً هناك، وصولاً الى قراره العودة الى لبنان في 1988.
وحين تركت باربرا الولايات المتحدة ظنت أن حياتها "دمّرت". ولكن رائحة المنقوشة أعادت ذاكرتها الى "حفلات عيد الميلاد، والترويقة قبل الامتحانات في لبنان"، وجعلتها تتذكر ان هذه المنقوشة "هي القاسم المشترك بين العاشقين في الصباحات الرومنسية، الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار".
لاحقاً عرّفها قريب زوجها بمصور فوتوغرافي طلبت منه أن يكون مصورها الخاصّ في بحثها. وبدأت معه رحلة دامت سنتين، جالت في أثنائها لبنان شمالاً وجنوباً وساحلاً وجبلاً وبقاعاً، باحثة عن كلّ أنواع المناقيش، وحصلت على ما يقارب سبعين وصفة.
وفي ترحالها اليومي اكتشفت لبنان. اكتشفت انه "ليس ثقافة وصوراً ومشاهد طبيعية خلابة، بل هو روائح وأطعمة وكرم مع الغريب وعشق للرواية". وفاجأها اللبنانيون بفتح أبواب أفرانهم وبيوتهم وقلوبهم أمام غريبة مثلها. فاجأها عشقهم لحكاية القصص ورواية تجاربهم. وكانت كلما أكلت منقوشة ازدادت لبنانية، واعتقدت أكثر بدين العجين اللبناني.
راحت باربرا تبحث عن أخبار الفرّانين، وليس فقط عن وصفاتهم الكثيرة والمتنوعة بتنوع المناطق والأديان والخلفيات والانتماءات. شهدت قصة حب بين فران وزبونة. وأخبرها فران اسمه فارس كيف تنقل بين مهن كثيرة، بعدما طرد من عائلته العكارية الفقيرة، وكيف ادخر مالاً وافتتح فرناً يفتخر بعمله فيه.
وأخبرتها امرأة أرمنية كيف تركها زوجها مع ثلاثة أطفال، ما اضطرها الى العمل فرّانة لتعيلهم. وتعلّمت الوصفات التي جاؤوا بها من مناطقهم، من الصفيحة البعلبكية الى الصفيحة الطرابلسية، الى اللحم بعجين الأرمني، حتى البيض بالسجق.
وفي رحلتها الطويلة، لم يغب عن بالها اختلاف طرائق طلب المنقوشة. الرجل يطلب "منقوشة ع ذوقك" بطريقة "زكرتية". والمرأة تراقب وتواكب عمل الفران، وتشرف عليه لحظة بلحظة.
وكذلك اكتشفت خزّاناً ثقافياً خلفياً يسند المناقيش ويستند عليها، مثل الأمثال الشعبية: "اعط خبزك للخباز ولو أكل نصّو"، و "نسوان الفرن"، اللواتي يثرثرن في انتظار نضوج العجين في الفرن. وتعرفت على مجموعات من "نسوان الفرن"، صبحية الفرن لهنَّ "وسيلة يومية للتواصل ومناقشة مختلف المواضيع الاجتماعية وحتى السياسية".
في مقدمة كتابها، الذي يتحول شيئاً فشيئاً الى كتاب طبخ مع سيرة الطبخات ومنابتها، ترى انتاجها "بورتريه لبلد صغير ومميز في الشرق الأوسط".
"المنقوشة" كتاب لذيذ مثل المنقوشة "الطازة"، يرتقي بها من كونها عقاب الجائعين اليومي، ويعيد اليها الاعتبار، بإثبات محورية دورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في حياة اللبنانيين.
وهو يرتقي بكتب الطبخ الى منزلة أدب السيرة، وينزل بأدب السيرة الى مستوى جمهور الطبخ، ويعطي المنقوشة حقها على مستوى الكتابة، بعدما صارت "أيقونة" يومية في حياة اللبنانيين، ليس على مستوى الطعام والشبع فقط، بل على مستوى الترف، الذي أوصل سعرها إلى أكثر من عشرين ألف ليرة.
المنقوشة ليست اختراعاً لبنانياً فقط، بل هي أيضاً من أول الطقوس الصباحية بالنسبة لجماهير غفيرة تطلبها لتبتدئ بها يومها الجديد... ولا عجب، فالمنقوشة هي الوريث الشرعي لـ"عروسة الزعتر وزيت" التي كانت الزاد المفضل لأجيال مضت من تلاميذ المدارس الذين كانوا على يقين من أنها، بصعترها وزيتها، تنشّط الذاكرة على الدروس.
فرن المناقيش الأكثر شهرة في لبنان اليوم هو "بربر". وهو افتتح محلاً لبيع المناقيش وحدها في 1981، في نزلة البيكاديللي بالحمرا. وما هي إلا سنتان حتى اكتشف أنّه، بإمكانات بشرية وتجهيزية كبيرة، بات ينافس الأفران الصغيرة في بيروت كلّها، ومقصداً لمن يريدون منقوشة لذيذة. فقرّر أن يوسّع أعماله.
وسرعان ما افتتح مطعماً إلى جانب الفرن، ليصير "مطعم بربر" ابتداء من العام 1983، يبيع اللحوم والدجاج المشوي. وتوسع بعدها الى "الفاهيتا" و"الفيلادلفيا"، وما شابهها من مأكولات غربية انتشرت في بيروت منتصف التسعينات. ثم افتتح ركناً للشاورما على غرار مطاعم كثيرة في بيروت، ثم ركناً آخر للفلافل. ومنذ ذلك التاريخ وهو العملاق الوحيد على ساحة مناقيش بيروت، حتى بدايات الألفية الثالثة.
وطوال المدة التي تقرب من عشرين عاماً، رسخ "بربر" نفسه "ملك المناقيش". وهي تسمية سرعان ما استعملها كثيرون في تسمية مطاعم جديدة، مثل "ملك الطاووق"، قبله "ملك البطاطا"، وغيرهم.
ولكن، في العام 2000، قرّر آل غلاييني أن يفتتحوا فرناً إلى جانب بربر من ناحية قريطم. واتخذ القرار بناء على أنّ نزلة البيكاديللي صارت مقصد محبي المناقيش. والزبائن جاهزون. وكانت خطة منافسة بربر، واستمالة زبائنه، هي تسعير منقوشة الصعتر بـ250 ليرة فقط، والجبنة بـ500 ليرة، أي أقلّ بخمسين في المئة من السعر الذي يبيعه "بربر".
وكان لغلاييني ما أراده. فكسب في سرعة كبيرة، نسبياً، شهرة واسعة وسريعة في المدينة، جرّاء بيعه المنقوشة بـ250 ليرة. وصحافيون كثر كتبوا وصوّروا لافتة الـ"250" المضيئة التي وضعها على باب الفرن.
واستجلب غلاييني زبائن جدداً إلى النزلة التي صار يمكن تسميتها بـ "نزلة المناقيش". وهذه شهدت منافسة حامية بين "بربر" و"غلاييني". ولكنّ "بربر" قرّر أن يظلّ على أسعاره.
ومعروف أنّ "نزلة بربر"، كما يقول أبناء الأجيال الجديدة، أو "نزلة البيكاديللي"، كما يعرفها أبناء أجيال سابقة، زادت رصيد شارع الحمرا. وكان إقفال مقاهيه المعروفة، "المودكا" و "الويمبي" واليوم "كافيه دو باري"، ينقص من هذا الرصيد. وحياة الليل "الحاناتي" (من حانة) انتقلت في السنوات الأخيرة إلى شارعي الجميزة ومونو.
وفي 1969، أي قبل "بربر" بأكثر من عشرة أعوام، افتتح شرق بيروت، فرن "wooden bakery"، ولكنّه ظلّ فرناً عادياً ومغموراً إلى ما بعد 1992، حيث أخذ يتوسّع مع طفرة المطاعم التي راحت بيروت تشهدها منتصف التسعينات.
والتوسّع بدأ شرق بيروت، حيث إنّ "wooden bakery" هو المعادل المسيحي لـ"بربر"، المسلم، غرب بيروت. والتوسّع لم يسع إلى منافسة "بربر" بل إلى استيراد موضة المناقيش إلى "الشرقية". فمزاج الطعام شبه واحد في بيروت كلها.
وفي سنوات قليلة بلغ عدد فروعه سبعة عشر. وأخيراً افتتح فرعه الأول غرب بيروت، على طرف ضاحية بيروت الجنوبية، الشيعية، والبعيدة نسبياً عن نفوذ "بربر"، السنّي البيروتي، على طريق المطار. وبحسب الإدارة، فإنّ فرعاً آخر سيفتتح في قلب الضاحية قريباً جداً. وهذا الفرن وسّع نشاطاته إلى السعودية، حيث افتتح فرعاً هناك قبل بضعة أعوام.
بعد "بربر" بأكثر من عقدين ونصف العقد، وبعد "WOODEN BAKERY" بنحو نصف قرن، شهدت الضاحية الجنوبية محاولة خجولة في بداية الألفية، قام بها "باش منقوش" في ساحة الغبيري.
وكان الفرن محاولة لاستيراد موضة الأفران الكبيرة إلى الضاحية. ويمكن القول إنّه محاولة لخلق معادل شيعي، أو ضاحوي، لـ "بربر" و"WOODEN BAKERY". وباءت المحاولة بالفشل، ربما لأنّ الغبيري ليست مركزاً من مراكز الحياة الجديدة في الضاحية.
والمحاولة تكررت في مكان آخر، على أوتوستراد السيد هادي نصر الله، مع فرن "الخبّاز". ونجحت هذه المرة. و صار "الخبّاز"، تحت الجسر من طريق المطار إلى الحازمية، المعادل الحقيقي لـ"بربر" في الضاحية.
واليوم، في أيّ ساعة من الليل يشعر العابر قرب "الخبّاز" أنّه في "نزلة البيكاديللي" الضاحوية: ازدحام شديد، بشري ومروري، سببه "الهجوم" الليلي على المناقيش هناك.
أسعار المناقيش في الجمهورية المنقوشية تختلف كثيراً من فرن إلى آخر. ففي حين بلغ سعر منقوشة الجبنة في "بربر" 2000 ليرة مع الارتفاع الحاد لأسعار المواد الغذائية في منتصف العام الفائت، حافظ على 1500 ليرة في "الخباز"، ولم يتعدّ 1250 ليرة عند "غلاييني"، فيما يبيعها "WOODEN BAKERY" بـ2750 ليرة، يضاف إليها 750 ليرة إذا رغب الزبون بالقليل من الخضار عليها، فتصير بـ 3500.
وأما الصعتر فلا يزال الأرخص عند غلاييني بـ500 ليرة، وبـ1000 ليرة عند "بربر"، و750 عند "الخباز"، و1500 عند "WOODEN BAKERY"، يضاف إليها 750 ليرة أيضاً لقليل من الخضار.
وعلى هذا، فإن الـ "WOODEN BAKERY" هو الأغلى، يليه بربر، ثم الخباز، ثم غلاييني. وتترجح أصناف الزبائن من مكان لآخر. فـ "WOODEN BAKERY" للميسورين الذين يعتبرون "بربر" و "غلاييني" و "الخباز" لمن هم أقلّ شأناً ومرتبة وقدرة شرائية. و "بربر" و "غلاييني" و "الخباز" يجتذبون أبناء الطبقات الفقيرة والوسطى، والطلاب والعشاق المفلسين. وهؤلاء وأولئك جميعاً يندرجون طوعاً تحت "رعية المنقوشة".
ولكن مهلاً، منقوشة الـ "WOODEN BAKERY" ليست الأغلى ثمناً في لبنان، ثمة من يسبقها بأشواط طويلة ومتعبة!
منذ عشرة أشهر فقط، افتتح في الأشرفية، في ساحة ساسين، مطعم "سمسم"، وهو مطعم يبيع معظم أصناف المأكولات في سندويشات، أو في "مناقيش"، تبدأ بالصعتر ولا تنتهي بالكفتة والجبنة.
سعر منقوشة الصعتر في "سمسم" 10 آلاف ليرة لبنانية فقط لا غير. هنا يمكن القول إن " WOODEN BAKER" هو للفقراء، أو للذين يريدون أن يأكلوا سريعاً، أو أن يحصلوا سريعاً على منقوشة. أما في عالم "سمسم"، فالمنقوشة تحتم على شاريها أن يختار ثلاثة أصناف من الصحون الجانبية الصغيرة، مثل اللبن أو اللبنة أو البطاطا الحرّة وما شابه.
وترتفع أسعار المناقيش في "سمسم" لتبلغ أكثر من 20 ألف ليرة للمنقوشة. ولا يمكن أن يجد السائل منقوشة أغلى منها في لبنان كلّه. هذا رغم أن المنقوشة بند رئيسي على قوائم الطعام في معظم المطاعم اللبنانية.
ولأنّ "الدّفيعة" كثر في بيروت، افتتح "سمسم" فرعاً جديداً له في "CITY MALL" في الدورة، قبل ثلاثة أشهر. والأرجح أنّه مقبل على افتتاح فروع أخرى في الآتي من الأيام، بحسب مصادر في الإدارة.
لكنّ "طعمة" المنقوشة لا تختلف كثيراً من فرن لآخر. الصعتر هو نفسه في الأفران كلّها. والجبنة هي نفسها، تقريباً. لكن وبحسب العامل اللبناني النفسي فكلّما كانت أغلى ثمناً، يظنّ الشاري أنّ نوعيتها أفضل.
ويكشف شاب عمل في أفران كثيرة أنّ نوعية الجبنة نفسها تستخدم في كلّ الأفران التي عمل فيها، وأنّ ما يتغيّر هو المنطقة، وأجور العمّال، والديكور. ويدخل في أجور العمّال نوعية الذين يشرفون على صناعة المنقوشة، وليس المنقوشة نفسها، أي الطريقة وليس النوعية.
ويتميّز كلّ فرن بمنقوشة معيّنة. فبربر يشتهر بـ "اللحم بعجين". وغلاييني يشتهر بمنقوشة الصعتر. فيما يشتهر الـ "WOODEN BAKER" بالجبنة المطبوخة مع "الجنبون". أما "الخبّاز" فـ "أطيب" منقوشة لديه هي الجبنة. وربما لذلك علاقة بـ "طبخة" العجين، وليس بما يوضع داخل المنقوشة من أصناف، ومدى ملاءمة العجين لهذا النوع أو ذاك.
بعد كلّ هذا بات يمكن الحديث عن "طفرة منقوش" تعيشها بيروت هذه الأيام، من 250 ليرة وصولاً إلى أكثر من عشرين ألف ليرة.
ولاستكمال "أسطورة" المنقوشة الآخذة في التوسع، كان لا بدّ من كتاب "يؤرّخ" للمنقوشة بحثياً. وقامت بهذا البحث باربرا مسعد، فأصدرت كتاباً فاخر الطباعة، ويباع في "VIRGIN" اسمه "منقوشة" (صدر باللغتين الفرنسية والإنكليزية عن "منشورات آلارم).
لا تحتاج باربرا الى كثير من التقديم والحجج لتقنعنا بحقها في إصدار كتاب بحثيّ موضوعه المنقوشة. هذا الاختراع اللبناني المغبون إذا ما قورن بالبيتزا الإيطالية والهامبرغر الأميركي والجبنة الفرنسية، على ما تقول.
وهي تبدأ بحثها برواية سيرة الكتاب نفسه، وسيرتها استطراداً، بدءاً من سفرها الى الولايات المتحدة مع أهلها، قبل ان تبلغ العاشرة من عمرها، ثم افتتاح والدها مطعماً لبنانياً هناك، وصولاً الى قراره العودة الى لبنان في 1988.
وحين تركت باربرا الولايات المتحدة ظنت أن حياتها "دمّرت". ولكن رائحة المنقوشة أعادت ذاكرتها الى "حفلات عيد الميلاد، والترويقة قبل الامتحانات في لبنان"، وجعلتها تتذكر ان هذه المنقوشة "هي القاسم المشترك بين العاشقين في الصباحات الرومنسية، الأغنياء والفقراء، الصغار والكبار".
لاحقاً عرّفها قريب زوجها بمصور فوتوغرافي طلبت منه أن يكون مصورها الخاصّ في بحثها. وبدأت معه رحلة دامت سنتين، جالت في أثنائها لبنان شمالاً وجنوباً وساحلاً وجبلاً وبقاعاً، باحثة عن كلّ أنواع المناقيش، وحصلت على ما يقارب سبعين وصفة.
وفي ترحالها اليومي اكتشفت لبنان. اكتشفت انه "ليس ثقافة وصوراً ومشاهد طبيعية خلابة، بل هو روائح وأطعمة وكرم مع الغريب وعشق للرواية". وفاجأها اللبنانيون بفتح أبواب أفرانهم وبيوتهم وقلوبهم أمام غريبة مثلها. فاجأها عشقهم لحكاية القصص ورواية تجاربهم. وكانت كلما أكلت منقوشة ازدادت لبنانية، واعتقدت أكثر بدين العجين اللبناني.
راحت باربرا تبحث عن أخبار الفرّانين، وليس فقط عن وصفاتهم الكثيرة والمتنوعة بتنوع المناطق والأديان والخلفيات والانتماءات. شهدت قصة حب بين فران وزبونة. وأخبرها فران اسمه فارس كيف تنقل بين مهن كثيرة، بعدما طرد من عائلته العكارية الفقيرة، وكيف ادخر مالاً وافتتح فرناً يفتخر بعمله فيه.
وأخبرتها امرأة أرمنية كيف تركها زوجها مع ثلاثة أطفال، ما اضطرها الى العمل فرّانة لتعيلهم. وتعلّمت الوصفات التي جاؤوا بها من مناطقهم، من الصفيحة البعلبكية الى الصفيحة الطرابلسية، الى اللحم بعجين الأرمني، حتى البيض بالسجق.
وفي رحلتها الطويلة، لم يغب عن بالها اختلاف طرائق طلب المنقوشة. الرجل يطلب "منقوشة ع ذوقك" بطريقة "زكرتية". والمرأة تراقب وتواكب عمل الفران، وتشرف عليه لحظة بلحظة.
وكذلك اكتشفت خزّاناً ثقافياً خلفياً يسند المناقيش ويستند عليها، مثل الأمثال الشعبية: "اعط خبزك للخباز ولو أكل نصّو"، و "نسوان الفرن"، اللواتي يثرثرن في انتظار نضوج العجين في الفرن. وتعرفت على مجموعات من "نسوان الفرن"، صبحية الفرن لهنَّ "وسيلة يومية للتواصل ومناقشة مختلف المواضيع الاجتماعية وحتى السياسية".
في مقدمة كتابها، الذي يتحول شيئاً فشيئاً الى كتاب طبخ مع سيرة الطبخات ومنابتها، ترى انتاجها "بورتريه لبلد صغير ومميز في الشرق الأوسط".
"المنقوشة" كتاب لذيذ مثل المنقوشة "الطازة"، يرتقي بها من كونها عقاب الجائعين اليومي، ويعيد اليها الاعتبار، بإثبات محورية دورها الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في حياة اللبنانيين.
وهو يرتقي بكتب الطبخ الى منزلة أدب السيرة، وينزل بأدب السيرة الى مستوى جمهور الطبخ، ويعطي المنقوشة حقها على مستوى الكتابة، بعدما صارت "أيقونة" يومية في حياة اللبنانيين، ليس على مستوى الطعام والشبع فقط، بل على مستوى الترف، الذي أوصل سعرها إلى أكثر من عشرين ألف ليرة.