أبو حسن
22-02-2009, 12:24 PM
موضوع جديد من مواضيع أخينا الفاضل أبو عبدالمعز
فصل الخطاب في أن فهم الخلف دون فهم السلف للكتاب
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين..
أما بعد:
فهذه شذرات أحسبها ردا على المتطاولين على السلف ،وتاسيسا لمفاهيم هامة في التفسير أرجو أن أكون مصيبا في بعضها:
1-زعمنا أن فهم الخلف للقرآن هو دون فهم السلف ليس متفرعا عن رؤية إديولوجية ممجدة للماضي في ما اصطلح عليه "التيار السلفي" بل هو مؤسس على حقيقة علمية ثابتة تلزم الناس جميعهم سلفيهم وغير سلفيهم.. وهذا ما سنستدل عليه بعد تقرير مقدمات...
2-المناوؤون للدعوى يلزمهم القول بأن فهمهم للقرآن أفضل من فهم السلف وليس مساويا أو موازيا له...قد لا يصرحون بهذا المعنى ولكنهم يبطنونه...فإذا كانوا هم قد اطلعوا على تفاسير السلف وزادوا عليها بما عرفوه -وجهله السلف- من الحقائق العلمية والنظرات الفلسفية والخبرات الطبيعية فإن سيتحصل أمر لا مفر من القول به وهو أن تفسير الخلف أربى من تفسير السابقين .
3-عدم الإذعان للدعوى ينبيء عن هوى في النفس واعتلال في القلب... وهنا موضع ابتلاء حكيم:
فالنفس لا تقبل أن تكون تابعة فتسارع في البدعة.. ولا تقبل أن تكون في الرتبة الثانية فتصارع لتكون القائدة... وليس على النفس شيء أقسى من أن يقال لها "فهمك أدنى من فهمه" فتجد إبليس يهيج فيها المعاني القديمة من قبيل "أرأيتك هذا الذي فضلت علي.." أو "أنا خير منه"... وغير ذلك من النفخات الإبليسية المنبعثة من أتون الغرور وكير الكبرياء...
فليراقب المفسرون قلوبهم.. وليعلموا أن الله فضل قوما على أقوام وفضل قرونا على عصور.. فإذا تقرر أن الله تعالى فضل السلف على الخلف.. فإن مقتضى العبودية الإذعان.. وليس في شقشقة اللسان في هذا الموضع إلا إرهاص لتجليات الشيطان... وليس في قبول القرار إلا قمعا للنفس وهضما لحظها وهذا هو التوحيد والإيمان...
ولا يقال أن تفضيل السلف مجمل يستثنى فيه فهم القرآن..لأن هذه الأمة جمعاء ما فضلت عن غيرها إلا بالقرآن..فإن فضل صدر الأمة عن بقيتها فبه قبل كل شيء..
4-ينبغي التمييز بين الفهم والتفسير:
لا ريب أن الفهم أعم من التفسير.. فليس التفسير إلا الجزء المعبر عنه من الفهم.. وهذا الجزء هو المتناقل عبر الأجيال بالرواية والكتابة.. وهو الكاشف عن بعض فهم السلف لا الفهم كله... فلو جمعنا تفسير أبي بكر رضي الله عنه-مثلا- فلن نتجاوز مقدار كراسة فهل يقول الجاهل هذا كل ما فهمه الصديق من القرآن!
ألم يكن الصديق يتدبر" البقرة" و"النساء" و"الحج".... كما أمر؟
ماذا كان يخطر بباله عند كل آية يقرؤها؟
لا سبيل إلى معرفة ذلك.. باستثناء ما صرح به تفسيرا...
ولككننا نعتقد إجمالا أن فهمه الذي لم يعبر عنه هو أفضل فهم وأرقاه... كما سنبين بعد قليل.
هذا التمييز بين المستويين نافع جدا فكثير من المهتمين يوحدون بين الفهم والتفسير فتراهم يستقلون فهم السلف... ويحكمون على الفاهمة بالمنصوص ، وهذا خطأ واضح.
لا نقول إن هناك تفسيرات لم تصل إلينا فمثل هذا القول هدم للشريعة كلها.. ولكننا نقول أنه يتعذر التعبير عن الفهم كله.. فلو أحصينا آلاف الصحابة وآلاف الآيات وعشرات المعاني في كل آية لكانت الحصيلة كما من التفاسير لا يمكن نقله.. كما أنه يصعب على الصحابي أن يذكر للناس كل المعاني التي فهمها مما تدبره في الليلة المنصرمة... فيقتصر على ذكر ما اقتضى أنه من المستحسن أن يذكر للناس.
5-فهم القرآن يكون –حصرا- على نهجين:
النهج الأول هو الذي عبر عنه حبر الأمة بقوله "وجه تعرفه العرب من كلامها" في الأثر المشهور عنه في تربيع التفسير.
النهج الثاني هو المفهوم من قول أمير المؤمنين علي "فهم يعطى رجل في كتابه"
أ-فهم القرآن على النهج الأول مشروط بعلم مسبق بالعربية وطرق نظمها ودقائق تراكيبها وألطاف تآليفها.. ولا أحد يزعم أن يكون قوم أفقه في لغة العرب من أصحابها... والمتكلمون بالعربية اليوم يتكلمون بها بعد تعليم أما أجدادهم فيتكلمون بها حدسا وسليقة فلا يستوى المكتسب والفطري أبدا...
وهذا أمر لا يحتمل النزاع..
بل نقول إن المشركين من العرب أفهم للقرآن من المؤمنين المعاصرين لأن الأمر هنا ليس مناطا بالعقيدة وزكاة النفوس بل بفهم أسرار العربية وهي لغتهم التي تداولوها قبل أن تصل إلينا ففهمهم أولى من فهمنا قطعا.
وهنا أمر آخر له خطورته.. يتعلق بتطور دلالة الكلمة...
فالكلمة تتعرض عبر الزمان لنوع من" الشحن" و"الإفراغ"
نقصد بالشحن امتلاء الكلمة بمعاني جديدة عرضت لها بحسب الاستعمالات المتكررة في مجالات مخصوصة.. ونعني بالإفراغ اختفاء دلالات أصيلة فيها بحسب ظروف معينة كأن لا تكون هناك حاجة للاستعمال فيها فتضمحل تدريجيا..
من الواضح أننا لا نقصد من الدلالة المعنى المعجمي ف"العصفورة" عندنا حديثا هي "العصفورة" عندهم قديما ولكننا نقصد الكوكبة من المعاني الإيحائية المرافقة لذلك المعنى المعجمي.. وهذه الكوكبة هي الشاحنة لدلالة الكلمة والمثرية لها.. ولأن التمييز دقيق فضلنا أن نضرب أمثلة عامة ومثالا من تفسير القرآن ليستضيء القاريء بها:
"الغيث" و"المطر" يتحدان في المعنى المعجمي لكن في "الغيث" إيحاءات دلالية ليست موجودة في "المطر" بل فيها ما يضادها .. فيحصل عندنا زوج عجيب: مترادفان معجميا ومتضادان إيحائيا.. فالحدس العربي يستشف في كلمة الغيث معنى الرحمة والاستبشار والأمل ولا يستشف من كلمة المطر إلا النقمة وترقب العذاب -راجع موارد الكلمتين في القرآن الكريم لتقف على هذه الدقيقة الدلالية-
كلمة "زكاة" يستحيل ترجمتها إلى أي لغة أخرى.. لأن تلك اللغات لا يوجد فيها كلمة تعبر عن النقصان والزيادة في وقت واحد كما في العربية..فالزكاة أخذ من المال- كما هو واضح- لكن الكلمة في الوقت ذاته تفيد النمو والزيادة .. فلو ترجمت الكلمة بضريبة أو إتاوة أو جباية لما تحقق المقصود.. انظر مثلا إلى "ضريبة" كيف أوحت بالضرب والألم والقسوة والتنفير فأين هذه المعاني مما تختزنه كلمة زكاة من التلطيف وطيب الرائحة والطهر والنمو وغير ذلك في كوكبة إيحائية مريحة للنفس.
كلمة رزق هي أيضا مما يستحيل ترجمته.. فقد تشربت هذه الكلمة في العربية معاني روحية سماوية لا يمكن أن تكون في كلمات مثل تموين أو إنفاق أو ميزانية أو غيرها..
نعود مرة أخرى لكلمة المطر لنرى التضاد والترادف مجتمعين في مكان واحد.. فلو ترجمنا المطر -أو الغيث– إلى الفرنسية لقيل pluie فتشترك الكلمة العربية والكلمة الإفرنجية في الدلالة المعجمية على الماء النازل من السماء... ولكن شتان بين إيحاء الكلمتين فترى العربي يستبشر بالكلمة خيرا وتنزل عليه بردا وسلاما بسبب مناخه الصحراوي الجاف أما الفرنسي فهو يضيق بالكلمة فسماعها تعنى عنده فساد العطلة الأسبوعية وإجهاض النزهة الغابوية.. ولو تتبعت في الأدبين العربي والفرنسي استعمال الكلمتين لظهر الفرق جليا فالكلمة في الشعر العربي مرتبطة بالرحمة "سقيا القبر" "شآبيب الرحمة "
"إرواء الصدى" أما الشعر الفرنسي فلا تكاد تذكر pluie إلا في سياقات الموت والغم.
ونحن نضرب لكم الآن مثلا من تفسير القرآن:
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
إن جل الناس اليوم يفهمون من "الفراش" الدلالة على تلك الحشرات الطائرة ذات الألوان الزاهية- الفراشات: ،papillons- "butterfly ولو صح هذا لنتج فساد كبير في فهم بلاغة التشبيه في الآية ..
فصورة "الفراش المبثوث" بفهمنا المعاصر صورة بهيجة مريحة للنفس والعين... ونحن نتذكر عندما كنا اطفالا كيف كنا نشتهي القبض على الفراشات وكيف كنا نطاردها في أمل وفرح... والفراش المبثوث صورة من شأنها أن تعيد هذه الإيحاءات النفسية.. فهل هذا هو القصد البلاغي لتشبيه القرآن؟ هل يريد القرآن أن يعرض علينا حشر الناس منظرا للفرجة بهيجا كما يشعر به المشبه به فراشات راقصة ملونة لطيفة!!!!
التشبيه في الآية بفهمنا المعاصر يحقق تحسين المشبه.. والمقصود عكسه... فهل أخل القرآن بالبلاغة فلم يطابق بين القول والمقام!!!
لن تدرك بلاغة التشبيه القرآني حتى تفهم كلمة الفراش قبل الشحن والتفريغ.. استمع إلى ما يقوله القرطبي عن الكلمة:
قال قتادة : الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج . الواحدة فراشة ، وقاله أبو عبيدة . وقال الفراء : إنه الهَمَج الطائر ، من بَعوض وغيره؛ ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة . وقال :
طُوَيِّشٌ منْ نفرٍ أطْياشِ ... أطيشُ من طائرة الفَراشِ
وقال آخر :
وقدْ كانَ أقوامٌ رددتَ قُلُوبَهُمْ ... إليهم وكانوا كالفراشِ من الجَهْلِ..
لاحظ كيف استعملت الكلمة في سياق الذم والتقبيح والتنفير... فينتزع منها العربي معاني التهافت على الموت والطيش في السلوك وانعدام التعقل والتمييز في السير...
ولن تفهم وجه الشبه في الآية حتى تعي هذه المعاني الإيحائية كلها...
هذا الذي حصل لكلمة فراش يحصل لكلمات أخرى كثيرة.. فلا يؤمن إذن على الخلف أن يقعوا ضحية الشحن والإفراغ، وهذا دليل قاطع على أن فهم السلف هو الفهم الصحيح السليم..
ب-أما الفهم الثاني المعبر عنه بـ "فهم يعطى رجل في كتابه" فنعني به الفهم الذي هو منحة إلهية وهو غير مشروط بالخبرة اللغوية العميقة بقدر ما هو مشروط بزكاة النفس وقوة الإيمان ورقة القلب.. ولتوضيح ذلك نقارن بين فهم الصديق وفهم أبي جهل: فقد يستويان في الفهم بالنظر إلى الوجه الذي تعرفه العرب من كلامها، ولكننا متيقنون من أن أبا بكر قد أعطاه ربه فهما إيضافيا حرم منه أبو جهل بسبب النفس الطيبة عند الأول والنفس الخبيثة عند الثاني..
وهذا أمر ملحوظ مشاهد في الناس فترى الرجل الأمي يخفق قلبه وتذرف عيناه لسماع آية، وبجواره أستاذ البلاغة لا تحرك فيه ساكنا!!!
ونحب أن ننهي هذا المقال بسؤالين:
- هل نحن اليوم أعلم بالعربية من السلف ؟
- هل نحن اليوم أتقى وأصفى قلوبا منهم؟
فإن كان الجواب نفيا فهو الدليل على أن فهمهم لا يضاهي ولا ينافس.. كيفما أدرت معنى الفهم.. فالجواب بالنفي على السؤال الأول يجعل فهمك في مرتبة أدنى مثل مرتبة الكسبي من الغريزي...
والجواب بالنفي عن السؤال الثاني يجعل فهمك مرة أخرى في مرتبة دنيا... فالله حكيم وكتابه عزيز فالمنتظر منه-عز وجل-أن يمنح للأتقى أكثر مما يمنح لغيره..
وليس للمرء إلا أن يذعن لهذه الحقيقة رغم كبرياء النفس:
"فهمهم أفضل من فهمنا"
فصل الخطاب في أن فهم الخلف دون فهم السلف للكتاب
الحمد لله رب العالمين،والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للناس أجمعين..
أما بعد:
فهذه شذرات أحسبها ردا على المتطاولين على السلف ،وتاسيسا لمفاهيم هامة في التفسير أرجو أن أكون مصيبا في بعضها:
1-زعمنا أن فهم الخلف للقرآن هو دون فهم السلف ليس متفرعا عن رؤية إديولوجية ممجدة للماضي في ما اصطلح عليه "التيار السلفي" بل هو مؤسس على حقيقة علمية ثابتة تلزم الناس جميعهم سلفيهم وغير سلفيهم.. وهذا ما سنستدل عليه بعد تقرير مقدمات...
2-المناوؤون للدعوى يلزمهم القول بأن فهمهم للقرآن أفضل من فهم السلف وليس مساويا أو موازيا له...قد لا يصرحون بهذا المعنى ولكنهم يبطنونه...فإذا كانوا هم قد اطلعوا على تفاسير السلف وزادوا عليها بما عرفوه -وجهله السلف- من الحقائق العلمية والنظرات الفلسفية والخبرات الطبيعية فإن سيتحصل أمر لا مفر من القول به وهو أن تفسير الخلف أربى من تفسير السابقين .
3-عدم الإذعان للدعوى ينبيء عن هوى في النفس واعتلال في القلب... وهنا موضع ابتلاء حكيم:
فالنفس لا تقبل أن تكون تابعة فتسارع في البدعة.. ولا تقبل أن تكون في الرتبة الثانية فتصارع لتكون القائدة... وليس على النفس شيء أقسى من أن يقال لها "فهمك أدنى من فهمه" فتجد إبليس يهيج فيها المعاني القديمة من قبيل "أرأيتك هذا الذي فضلت علي.." أو "أنا خير منه"... وغير ذلك من النفخات الإبليسية المنبعثة من أتون الغرور وكير الكبرياء...
فليراقب المفسرون قلوبهم.. وليعلموا أن الله فضل قوما على أقوام وفضل قرونا على عصور.. فإذا تقرر أن الله تعالى فضل السلف على الخلف.. فإن مقتضى العبودية الإذعان.. وليس في شقشقة اللسان في هذا الموضع إلا إرهاص لتجليات الشيطان... وليس في قبول القرار إلا قمعا للنفس وهضما لحظها وهذا هو التوحيد والإيمان...
ولا يقال أن تفضيل السلف مجمل يستثنى فيه فهم القرآن..لأن هذه الأمة جمعاء ما فضلت عن غيرها إلا بالقرآن..فإن فضل صدر الأمة عن بقيتها فبه قبل كل شيء..
4-ينبغي التمييز بين الفهم والتفسير:
لا ريب أن الفهم أعم من التفسير.. فليس التفسير إلا الجزء المعبر عنه من الفهم.. وهذا الجزء هو المتناقل عبر الأجيال بالرواية والكتابة.. وهو الكاشف عن بعض فهم السلف لا الفهم كله... فلو جمعنا تفسير أبي بكر رضي الله عنه-مثلا- فلن نتجاوز مقدار كراسة فهل يقول الجاهل هذا كل ما فهمه الصديق من القرآن!
ألم يكن الصديق يتدبر" البقرة" و"النساء" و"الحج".... كما أمر؟
ماذا كان يخطر بباله عند كل آية يقرؤها؟
لا سبيل إلى معرفة ذلك.. باستثناء ما صرح به تفسيرا...
ولككننا نعتقد إجمالا أن فهمه الذي لم يعبر عنه هو أفضل فهم وأرقاه... كما سنبين بعد قليل.
هذا التمييز بين المستويين نافع جدا فكثير من المهتمين يوحدون بين الفهم والتفسير فتراهم يستقلون فهم السلف... ويحكمون على الفاهمة بالمنصوص ، وهذا خطأ واضح.
لا نقول إن هناك تفسيرات لم تصل إلينا فمثل هذا القول هدم للشريعة كلها.. ولكننا نقول أنه يتعذر التعبير عن الفهم كله.. فلو أحصينا آلاف الصحابة وآلاف الآيات وعشرات المعاني في كل آية لكانت الحصيلة كما من التفاسير لا يمكن نقله.. كما أنه يصعب على الصحابي أن يذكر للناس كل المعاني التي فهمها مما تدبره في الليلة المنصرمة... فيقتصر على ذكر ما اقتضى أنه من المستحسن أن يذكر للناس.
5-فهم القرآن يكون –حصرا- على نهجين:
النهج الأول هو الذي عبر عنه حبر الأمة بقوله "وجه تعرفه العرب من كلامها" في الأثر المشهور عنه في تربيع التفسير.
النهج الثاني هو المفهوم من قول أمير المؤمنين علي "فهم يعطى رجل في كتابه"
أ-فهم القرآن على النهج الأول مشروط بعلم مسبق بالعربية وطرق نظمها ودقائق تراكيبها وألطاف تآليفها.. ولا أحد يزعم أن يكون قوم أفقه في لغة العرب من أصحابها... والمتكلمون بالعربية اليوم يتكلمون بها بعد تعليم أما أجدادهم فيتكلمون بها حدسا وسليقة فلا يستوى المكتسب والفطري أبدا...
وهذا أمر لا يحتمل النزاع..
بل نقول إن المشركين من العرب أفهم للقرآن من المؤمنين المعاصرين لأن الأمر هنا ليس مناطا بالعقيدة وزكاة النفوس بل بفهم أسرار العربية وهي لغتهم التي تداولوها قبل أن تصل إلينا ففهمهم أولى من فهمنا قطعا.
وهنا أمر آخر له خطورته.. يتعلق بتطور دلالة الكلمة...
فالكلمة تتعرض عبر الزمان لنوع من" الشحن" و"الإفراغ"
نقصد بالشحن امتلاء الكلمة بمعاني جديدة عرضت لها بحسب الاستعمالات المتكررة في مجالات مخصوصة.. ونعني بالإفراغ اختفاء دلالات أصيلة فيها بحسب ظروف معينة كأن لا تكون هناك حاجة للاستعمال فيها فتضمحل تدريجيا..
من الواضح أننا لا نقصد من الدلالة المعنى المعجمي ف"العصفورة" عندنا حديثا هي "العصفورة" عندهم قديما ولكننا نقصد الكوكبة من المعاني الإيحائية المرافقة لذلك المعنى المعجمي.. وهذه الكوكبة هي الشاحنة لدلالة الكلمة والمثرية لها.. ولأن التمييز دقيق فضلنا أن نضرب أمثلة عامة ومثالا من تفسير القرآن ليستضيء القاريء بها:
"الغيث" و"المطر" يتحدان في المعنى المعجمي لكن في "الغيث" إيحاءات دلالية ليست موجودة في "المطر" بل فيها ما يضادها .. فيحصل عندنا زوج عجيب: مترادفان معجميا ومتضادان إيحائيا.. فالحدس العربي يستشف في كلمة الغيث معنى الرحمة والاستبشار والأمل ولا يستشف من كلمة المطر إلا النقمة وترقب العذاب -راجع موارد الكلمتين في القرآن الكريم لتقف على هذه الدقيقة الدلالية-
كلمة "زكاة" يستحيل ترجمتها إلى أي لغة أخرى.. لأن تلك اللغات لا يوجد فيها كلمة تعبر عن النقصان والزيادة في وقت واحد كما في العربية..فالزكاة أخذ من المال- كما هو واضح- لكن الكلمة في الوقت ذاته تفيد النمو والزيادة .. فلو ترجمت الكلمة بضريبة أو إتاوة أو جباية لما تحقق المقصود.. انظر مثلا إلى "ضريبة" كيف أوحت بالضرب والألم والقسوة والتنفير فأين هذه المعاني مما تختزنه كلمة زكاة من التلطيف وطيب الرائحة والطهر والنمو وغير ذلك في كوكبة إيحائية مريحة للنفس.
كلمة رزق هي أيضا مما يستحيل ترجمته.. فقد تشربت هذه الكلمة في العربية معاني روحية سماوية لا يمكن أن تكون في كلمات مثل تموين أو إنفاق أو ميزانية أو غيرها..
نعود مرة أخرى لكلمة المطر لنرى التضاد والترادف مجتمعين في مكان واحد.. فلو ترجمنا المطر -أو الغيث– إلى الفرنسية لقيل pluie فتشترك الكلمة العربية والكلمة الإفرنجية في الدلالة المعجمية على الماء النازل من السماء... ولكن شتان بين إيحاء الكلمتين فترى العربي يستبشر بالكلمة خيرا وتنزل عليه بردا وسلاما بسبب مناخه الصحراوي الجاف أما الفرنسي فهو يضيق بالكلمة فسماعها تعنى عنده فساد العطلة الأسبوعية وإجهاض النزهة الغابوية.. ولو تتبعت في الأدبين العربي والفرنسي استعمال الكلمتين لظهر الفرق جليا فالكلمة في الشعر العربي مرتبطة بالرحمة "سقيا القبر" "شآبيب الرحمة "
"إرواء الصدى" أما الشعر الفرنسي فلا تكاد تذكر pluie إلا في سياقات الموت والغم.
ونحن نضرب لكم الآن مثلا من تفسير القرآن:
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
إن جل الناس اليوم يفهمون من "الفراش" الدلالة على تلك الحشرات الطائرة ذات الألوان الزاهية- الفراشات: ،papillons- "butterfly ولو صح هذا لنتج فساد كبير في فهم بلاغة التشبيه في الآية ..
فصورة "الفراش المبثوث" بفهمنا المعاصر صورة بهيجة مريحة للنفس والعين... ونحن نتذكر عندما كنا اطفالا كيف كنا نشتهي القبض على الفراشات وكيف كنا نطاردها في أمل وفرح... والفراش المبثوث صورة من شأنها أن تعيد هذه الإيحاءات النفسية.. فهل هذا هو القصد البلاغي لتشبيه القرآن؟ هل يريد القرآن أن يعرض علينا حشر الناس منظرا للفرجة بهيجا كما يشعر به المشبه به فراشات راقصة ملونة لطيفة!!!!
التشبيه في الآية بفهمنا المعاصر يحقق تحسين المشبه.. والمقصود عكسه... فهل أخل القرآن بالبلاغة فلم يطابق بين القول والمقام!!!
لن تدرك بلاغة التشبيه القرآني حتى تفهم كلمة الفراش قبل الشحن والتفريغ.. استمع إلى ما يقوله القرطبي عن الكلمة:
قال قتادة : الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج . الواحدة فراشة ، وقاله أبو عبيدة . وقال الفراء : إنه الهَمَج الطائر ، من بَعوض وغيره؛ ومنه الجراد . ويقال : هو أطيش من فراشة . وقال :
طُوَيِّشٌ منْ نفرٍ أطْياشِ ... أطيشُ من طائرة الفَراشِ
وقال آخر :
وقدْ كانَ أقوامٌ رددتَ قُلُوبَهُمْ ... إليهم وكانوا كالفراشِ من الجَهْلِ..
لاحظ كيف استعملت الكلمة في سياق الذم والتقبيح والتنفير... فينتزع منها العربي معاني التهافت على الموت والطيش في السلوك وانعدام التعقل والتمييز في السير...
ولن تفهم وجه الشبه في الآية حتى تعي هذه المعاني الإيحائية كلها...
هذا الذي حصل لكلمة فراش يحصل لكلمات أخرى كثيرة.. فلا يؤمن إذن على الخلف أن يقعوا ضحية الشحن والإفراغ، وهذا دليل قاطع على أن فهم السلف هو الفهم الصحيح السليم..
ب-أما الفهم الثاني المعبر عنه بـ "فهم يعطى رجل في كتابه" فنعني به الفهم الذي هو منحة إلهية وهو غير مشروط بالخبرة اللغوية العميقة بقدر ما هو مشروط بزكاة النفس وقوة الإيمان ورقة القلب.. ولتوضيح ذلك نقارن بين فهم الصديق وفهم أبي جهل: فقد يستويان في الفهم بالنظر إلى الوجه الذي تعرفه العرب من كلامها، ولكننا متيقنون من أن أبا بكر قد أعطاه ربه فهما إيضافيا حرم منه أبو جهل بسبب النفس الطيبة عند الأول والنفس الخبيثة عند الثاني..
وهذا أمر ملحوظ مشاهد في الناس فترى الرجل الأمي يخفق قلبه وتذرف عيناه لسماع آية، وبجواره أستاذ البلاغة لا تحرك فيه ساكنا!!!
ونحب أن ننهي هذا المقال بسؤالين:
- هل نحن اليوم أعلم بالعربية من السلف ؟
- هل نحن اليوم أتقى وأصفى قلوبا منهم؟
فإن كان الجواب نفيا فهو الدليل على أن فهمهم لا يضاهي ولا ينافس.. كيفما أدرت معنى الفهم.. فالجواب بالنفي على السؤال الأول يجعل فهمك في مرتبة أدنى مثل مرتبة الكسبي من الغريزي...
والجواب بالنفي عن السؤال الثاني يجعل فهمك مرة أخرى في مرتبة دنيا... فالله حكيم وكتابه عزيز فالمنتظر منه-عز وجل-أن يمنح للأتقى أكثر مما يمنح لغيره..
وليس للمرء إلا أن يذعن لهذه الحقيقة رغم كبرياء النفس:
"فهمهم أفضل من فهمنا"