نور
24-02-2009, 04:10 PM
د. أيمن محمد الجندي
كان نائما حينما استيقظ على جلبة في الخارج وأصوات متوترة، كانت الخادمة العجوز تستغيث به - كونه طبيبا - لإسعاف السيدة التي تحتضر في الفيلا المقابلة، تسارعت نبضات قلبه لكنه مأخوذا سارع إلى ارتداء ملابسه وحمل حقيبته الطبية ثم مضى مع العجوز التي هرولت في خفة لا تناسب عمرها. صافحه نسيم الليل البارد فتوقف، كان الليل يهمس بأسراره الغامضة، لكنه لم يكن يملك ترف الإصغاء إليه عاكفا على فك رموزه.. وفاح عطر الياسمين.. هبة من الهواء المعبأ بالحنين فاستنشقه على عجل، ولاحت له الفيلا العتيقة مدججة بالأسرار.. مفعمة بالرهبة والغموض.. جاثمة في الظلام، وكأنها تنتظره.
وعند البوابة المفتوحة كثغرة إلى عالم آخر توقف...
عشرون عاما إلى الوراء
كانت أمام منزله فيلا عتيقة من دورين، لها حديقة ذات أسوار، وبرغم أنه قد اعتاد اللهو مع أترابه في الدرب الجانبي الهادئ، فإنه لم يدلف إلى تلك الفيلا قط، ومع ذلك فلم تفته ملاحة تلك الغادة التي تقطن فيها.
وسرعان ما وقع في حبها.
كانت في رقة وصفاء الياسمين.. لونه الأبيض يشع من جبينها الجميل.. ولحضورها ذلك العطر المسكر الحزين.
ويتبع الأميرة القادمة من كتب الحكايات حارس أمين، البستاني العجوز الذي يحمل حقيبتها في الذهاب والإياب، والويل كل الويل لمن تحدثه نفسه بالاقتراب.
والصب تفضحه عيونه..
يبدو أن هذا صحيح، وإلا فعلام بدأت تبادله النظرات، وكأنها أحست بالخافق الوهاج في صدره كلما تلاقت النظرات مصادفة أو اتفاقا.
وجاء اليوم الذي صمم فيه على الاتصال بغادته.. تنبه إلى ثغرة في سور الحديقة لم يفطن إليها من قبل، ثغرة تلوح منها منبت شجرة الياسمين، في الليلة ذاتها كتب رسالته الأولى إليها، واصطرعت داخله ملايين المشاعر التي طافت بأرواح البشر منذ أن عرف البشر معنى الغرام.
قضى الليل بأكمله يبحث عن كلمات مناسبة، وفي النهاية لم يكتب غير كلمة واحدة: أحبك.
ودس الخطاب في تلك الثغرة في سور الحديقة أمام عينيها على حين غفلة من حارسها الأمين، وأدرك أنها رأته حينما أطرقت ووجهها يضطرم من الخجل.
في المساء تحسس بيده الثغرة النافذة إلى الحديقة، فلامست يده خطابها الذي وضعته في ذات الموضع.
كتبت له:
لا أعرف ماذا أقول ردا على خطابك، ولكني أشكرك.
وعبر الشهور التالية كانت الثغرة نافذته إلى عالم سحري من السعادة والمؤانسة، عالم رقيق من الطهر والود الخالص تفتح أمامه على حين غفلة، وقتها بدت له الحياة أسعد.. توالت الرسائل بينهما.. رسائل مراهقة ساذجة مهمومة بالدراسة والهفوات الساذجة، ومشاعرها نحو أمها، عالم من الطهر والرقة والعذوبة تفتح أمامه فجأة ذات صباح مشرق.. كان يمد يده كل صباح في الكوة السحرية دافعا بالخطاب ثم يسترد يده في المساء بالرد الجميل.
وفجأة انقطعت عن الذهاب للمدرسة لثلاثة أيام، والأدهى أنها انقطعت كذلك عن كتابة الخطابات، فلم تعد يده تصطدم إلا بالأعشاب في كل مرة، كاد يجن وعزف عن الطعام وعرف الألم الذي يدفع المرء للجنون ويحرمه من النوم، وطاف بذهنه كل الظنون.. ربما سافرت إلى الأبد.. ربما كانت مريضة.. ربما انكشف السر الجميل ونالت التوبيخ.
وفي اليوم الرابع فطن إلى ضجة غير عادية تنبعث من الفيلا، وعندما تساءل عن الخبر وقد تجمدت روحه من فرط الهول أخبروه أن الفاتنة الصغيرة قد ماتت بعد حمى قصيرة لم تمهلها إلا أياما معدودات.
الروح لا تبلى
والليلة يعود
بعد عشرين عاما يعود..
توقف عند البوابة متهيبا..
وهتفت به الخادمة تستحثه على الإسراع، فدلف يطأ العشب ويتفادى الغصون التي راحت تلثم وجهه، وعرفت شجرة الياسمين بمقدمه فتنهدت وحمل الهواء البارد البكر موجة دافئة من العطر الحزين، وتبسمت له الثغرة المسحورة التي كان يراها للمرة الأولى من الناحية الأخرى.
صعد الدرج المفضي إلى قدس الأقداس.
كانت أمها ترقد على فراشها ضامرة شاحبة كمن تحتضر، شعور غامض راوده أنها ليلتها الأخيرة.
قالت له وهي تبتسم في وهن
- ليتهم لم يزعجوك..
رد مجاملا لكن نظراته تعلقت بصورة قديمة معلقة فوق الفراش.. صورة يعرفها حق المعرفة.. شعر برجفة وكأنها تطل من عالمها الآخر، وتبتسم.. تتبعت الأم نظراته ثم قالت في ضعف:
- هي ابنتي.. جميلة، أليس كذلك؟
لم يرد ولكنه ارتجف، همست الأم وكأنها تكلم نفسها:
- ماتت منذ عشرين عاما، ربما ألتقيها الليلة بعد غياب..
ظل صامتا ولم ينبس.
- كانت عذبة كغدير لم يشرب منه بشر، وكانت أطهر من الفجر، ومثلما يذهب الفجر في النهاية ذهبت هي وتركت أمها.. كانت تلك هي خطيئتها الوحيدة.. هل تفهم ذلك الخجل الذي استشعرته وأنا أفكر أنني أحيا بعد موت طفلتي.
هو يعرف..بالقطع يعرف.. هذا هو بعض ما استشعره في الأيام الأليمة التي تلت موتها حتى كانت تلك الليلة التي كتب لها الخطاب ثم مضى - عالما أنه قد جن - ليدسه في "الثغرة إياها".. وفي المساء التالي مضى ليبحث عن الرد!!
أردفت الأم:
ولكن يد الرحمة مسحت على جروحي.. لم أزل أذكر تلك الليلة التي بلغ فيها عذابي منتهاه، وبت أخشى على نفسي من الجنون، في تلك الليلة التي لا أنساها قط رأيتها من النافذة.. هل كانت هي أم طيفها؟ لا أعرف ولا يهمني أن أعرف.. كانت تسري كالنسيم وترتدي ذات الثوب التي قضت فيه نحبها ثم توقفت على مقربة من شجرة الياسمين، لم أصدق عيني وتصورت أنني أحلم.. لكنها التفتت لي فجأة ثم ابتسمت تلك الابتسامة الحلوة، وما لبثت أن اختفت.
قال وقد بدأ يفهم:
- وهل رأيتها مرة أخرى؟
- حتما.. كانت هي ملاكي الطاهر، فلا عجب أن ترأف بأمها.. لكن لم يكن موعدا بعينه ولا مكانا ثابتا.. أحيانا كنت أراها في غرفتي وأحيانا أشعر أنها هناك في الردهة فأسرع إليها فأراها كالومضة الخاطفة، وأحيانا تتجلى بجوار شجرة الياسمين.
وشخصت ببصرها إلى بعيد ثم ابتسمت ولمعت عيناها الباهتتان، ففكر أنها ربما تراها الآن!!
- ما زلت أذكر الأيام التي سبقت موتها وكأنها الأمس القريب.. كانت سعيدة كما لم أرها من قبل، وكلما ولجت غرفتها ارتبكت وكأنها تطالع رسالة أو تخفي سرا، كانت طفلتي، وكنت أدرك بقلب الأم أنها تحب.. وانتظرت أن تصارحني؟ لكنها كانت تشعر بالحرج.. وربما أحبت أن يكون لها أسرارها الخاصة!
راحت تحملق في الفضاء، وكأنها تشاهد طيفا لا يراه ، ثم ابتسمت في رقة، وقالت:
- كانت سعيدة، وكان هذا هو ما يهمني.. لكني ندمت بعد ذلك لأنني لم أسألها، على الأقل كنت قد ذهبت إليه وبكيناها معا..
عند هذا الحد لم يملك نفسه، وأفلتت منه آهة، لم تدر كيف أصابه سهمها هذه المرة، لطالما فكر في نفس الشيء، يطرق الباب ويبكياها معا!! لكنه لم يجرؤ، منعه الخجل!!
وتطلعت الأم إليه وقد فاجأتها دموعه، ثم اتسعت عيناها كمن فهم، ثم قالت هامسة:
- يا إلهي، إنه أنت.. صح؟
فهز رأسه في تسليم
تحاملت على نفسها لتنهض من السرير وراحت تتأمله
- أنت!! لماذا لم أفكر أنه سيكون أحد الجيران، أنت تسكن في البيت المقابل، أليس كذلك؟
رسمت شفتاه كلمة نعم، فأردفت:
- ليتك جئت وقتها، كنت سأحكي لك كل شيء.. عن ولادتها، عن الطفلة الجميلة التي كانتها، عن..
ثم لاح الرعب في عينيها فصمتت قليلا ثم قالت كالخائفة:
- ولكن.. إياك أن تكون قد نسيتها..
ثم بكت مستعبرة، وقالت:
- لقد كانت تحبك حقا.
هز رأسه وكأنه يدفع عن نفسه جريمة مخزية
- كلا، لم أنسها قط.. ولا أحببت سواها.
- أحقا!! إن الأم لا تبرؤ من الأنانية قط.. أسعدك الله يا ابني.
- وهل أخبرتك أنني تعس؟ ولماذا أحزن وروحها الطاهرة دوما معي؟
- أحقا ما تقول؟
قال كالمخاطب نفسه
- علام نخال الموت خاتمة المطاف؟ ربما كان فناء للجسد، لكن الروح تسمو عن هذا كله.. إنها أعظم جوهرا، ولذلك هي مناط التكريم في الإنسان.. تلك النفخة من روح الله.. لا تبلى قط.. لا تموت قط، هذه الروح خالدة ولذلك لم أفقد الكثير حين مات الجسد الذي كان سيموت على كل حال.
- يا للوفاء! عندما ألحق بها سأخبرها بذلك.
- إنها تعلم كل شيء.. ثقي في ذلك.. ستجديها تعلم كل شيء قبل أن تخبريها.
وصمت لبرهة ثم قال متوسلا:
- هل تأذنين لي بمشاهدة غرفتها قبل أن أذهب؟
آخر الأسرار
تحاملت العجوز.. وأخرجت من ثيابها مفتاحا قديما يعلوه الصدأ، وقالت له:
- لم أجرؤ على فتحها طيلة العشرين عاما.. ولكني أتوق الآن إلى أن أفعل.
وتقدمته إلى الردهة الطويلة وهو يتبعها شاحبا.. إنها تناديه إلى خدرها الذي لم يكن ليدخله رجل غير زوجها.. فهل تتخذه زوجا هذه الليلة بالذات قبل أن تموت أمها؟
وفتحت الباب في صعوبة، وفاحت رائحة عشرين عاما لم يفتح خلالها مرة واحدة، ووقف متهيبا ثم دلف إليه.
ولثمت عيناه كل جدار في غرفتها.. والسرير الذي كانت تنام عليه.. والدرج الصغير الذي كانت تخفي فيه خطاباته.. وثيابها التي لم تزل هناك.
وقف مرهوبا يرقب ذلك كله، ثم ألقى السلام ومضى بعد أن لثم يد العجوز مودعا.
وبلغ سمعه وهو يغادر الفيلا تساؤل الخادمة التي أدهشها أن الطبيب لم يتفحصها ولم يكتب لها الدواء.
كان الياسمين يبوح بآخر أسراره..
إن لديه عملا أخيرا ينبغي القيام به قبل أن يعود إلى داره.. تسلل جوار الثغرة القديمة، وتحسس بيده العشب حتى ظفر بمراده: الخطاب المرتقب ردا على خطاب الأمس.. دسه في جيبه ثم مضى.. "وفكر" أن السر الوحيد الذي كتمه عن العجوز هو أن الخطابات بينهما لم تنقطع طيلة الأعوام العشرين، منذ تلك الليلة التي دس فيها الخطاب في الثغرة "إياها".. ولم يكن يعلم وقتها أنها مفضية إليها في عالمها الآخر مثلما أفضت إليها من قبل في العالم الأرضي..
فكر أن يعود إليها ليخبرها ثم ما لبث أن قال لنفسه إن الأمر لم يعد ذا بال لها الآن، فهي توشك على اللحاق بها على كل حال.
كان نائما حينما استيقظ على جلبة في الخارج وأصوات متوترة، كانت الخادمة العجوز تستغيث به - كونه طبيبا - لإسعاف السيدة التي تحتضر في الفيلا المقابلة، تسارعت نبضات قلبه لكنه مأخوذا سارع إلى ارتداء ملابسه وحمل حقيبته الطبية ثم مضى مع العجوز التي هرولت في خفة لا تناسب عمرها. صافحه نسيم الليل البارد فتوقف، كان الليل يهمس بأسراره الغامضة، لكنه لم يكن يملك ترف الإصغاء إليه عاكفا على فك رموزه.. وفاح عطر الياسمين.. هبة من الهواء المعبأ بالحنين فاستنشقه على عجل، ولاحت له الفيلا العتيقة مدججة بالأسرار.. مفعمة بالرهبة والغموض.. جاثمة في الظلام، وكأنها تنتظره.
وعند البوابة المفتوحة كثغرة إلى عالم آخر توقف...
عشرون عاما إلى الوراء
كانت أمام منزله فيلا عتيقة من دورين، لها حديقة ذات أسوار، وبرغم أنه قد اعتاد اللهو مع أترابه في الدرب الجانبي الهادئ، فإنه لم يدلف إلى تلك الفيلا قط، ومع ذلك فلم تفته ملاحة تلك الغادة التي تقطن فيها.
وسرعان ما وقع في حبها.
كانت في رقة وصفاء الياسمين.. لونه الأبيض يشع من جبينها الجميل.. ولحضورها ذلك العطر المسكر الحزين.
ويتبع الأميرة القادمة من كتب الحكايات حارس أمين، البستاني العجوز الذي يحمل حقيبتها في الذهاب والإياب، والويل كل الويل لمن تحدثه نفسه بالاقتراب.
والصب تفضحه عيونه..
يبدو أن هذا صحيح، وإلا فعلام بدأت تبادله النظرات، وكأنها أحست بالخافق الوهاج في صدره كلما تلاقت النظرات مصادفة أو اتفاقا.
وجاء اليوم الذي صمم فيه على الاتصال بغادته.. تنبه إلى ثغرة في سور الحديقة لم يفطن إليها من قبل، ثغرة تلوح منها منبت شجرة الياسمين، في الليلة ذاتها كتب رسالته الأولى إليها، واصطرعت داخله ملايين المشاعر التي طافت بأرواح البشر منذ أن عرف البشر معنى الغرام.
قضى الليل بأكمله يبحث عن كلمات مناسبة، وفي النهاية لم يكتب غير كلمة واحدة: أحبك.
ودس الخطاب في تلك الثغرة في سور الحديقة أمام عينيها على حين غفلة من حارسها الأمين، وأدرك أنها رأته حينما أطرقت ووجهها يضطرم من الخجل.
في المساء تحسس بيده الثغرة النافذة إلى الحديقة، فلامست يده خطابها الذي وضعته في ذات الموضع.
كتبت له:
لا أعرف ماذا أقول ردا على خطابك، ولكني أشكرك.
وعبر الشهور التالية كانت الثغرة نافذته إلى عالم سحري من السعادة والمؤانسة، عالم رقيق من الطهر والود الخالص تفتح أمامه على حين غفلة، وقتها بدت له الحياة أسعد.. توالت الرسائل بينهما.. رسائل مراهقة ساذجة مهمومة بالدراسة والهفوات الساذجة، ومشاعرها نحو أمها، عالم من الطهر والرقة والعذوبة تفتح أمامه فجأة ذات صباح مشرق.. كان يمد يده كل صباح في الكوة السحرية دافعا بالخطاب ثم يسترد يده في المساء بالرد الجميل.
وفجأة انقطعت عن الذهاب للمدرسة لثلاثة أيام، والأدهى أنها انقطعت كذلك عن كتابة الخطابات، فلم تعد يده تصطدم إلا بالأعشاب في كل مرة، كاد يجن وعزف عن الطعام وعرف الألم الذي يدفع المرء للجنون ويحرمه من النوم، وطاف بذهنه كل الظنون.. ربما سافرت إلى الأبد.. ربما كانت مريضة.. ربما انكشف السر الجميل ونالت التوبيخ.
وفي اليوم الرابع فطن إلى ضجة غير عادية تنبعث من الفيلا، وعندما تساءل عن الخبر وقد تجمدت روحه من فرط الهول أخبروه أن الفاتنة الصغيرة قد ماتت بعد حمى قصيرة لم تمهلها إلا أياما معدودات.
الروح لا تبلى
والليلة يعود
بعد عشرين عاما يعود..
توقف عند البوابة متهيبا..
وهتفت به الخادمة تستحثه على الإسراع، فدلف يطأ العشب ويتفادى الغصون التي راحت تلثم وجهه، وعرفت شجرة الياسمين بمقدمه فتنهدت وحمل الهواء البارد البكر موجة دافئة من العطر الحزين، وتبسمت له الثغرة المسحورة التي كان يراها للمرة الأولى من الناحية الأخرى.
صعد الدرج المفضي إلى قدس الأقداس.
كانت أمها ترقد على فراشها ضامرة شاحبة كمن تحتضر، شعور غامض راوده أنها ليلتها الأخيرة.
قالت له وهي تبتسم في وهن
- ليتهم لم يزعجوك..
رد مجاملا لكن نظراته تعلقت بصورة قديمة معلقة فوق الفراش.. صورة يعرفها حق المعرفة.. شعر برجفة وكأنها تطل من عالمها الآخر، وتبتسم.. تتبعت الأم نظراته ثم قالت في ضعف:
- هي ابنتي.. جميلة، أليس كذلك؟
لم يرد ولكنه ارتجف، همست الأم وكأنها تكلم نفسها:
- ماتت منذ عشرين عاما، ربما ألتقيها الليلة بعد غياب..
ظل صامتا ولم ينبس.
- كانت عذبة كغدير لم يشرب منه بشر، وكانت أطهر من الفجر، ومثلما يذهب الفجر في النهاية ذهبت هي وتركت أمها.. كانت تلك هي خطيئتها الوحيدة.. هل تفهم ذلك الخجل الذي استشعرته وأنا أفكر أنني أحيا بعد موت طفلتي.
هو يعرف..بالقطع يعرف.. هذا هو بعض ما استشعره في الأيام الأليمة التي تلت موتها حتى كانت تلك الليلة التي كتب لها الخطاب ثم مضى - عالما أنه قد جن - ليدسه في "الثغرة إياها".. وفي المساء التالي مضى ليبحث عن الرد!!
أردفت الأم:
ولكن يد الرحمة مسحت على جروحي.. لم أزل أذكر تلك الليلة التي بلغ فيها عذابي منتهاه، وبت أخشى على نفسي من الجنون، في تلك الليلة التي لا أنساها قط رأيتها من النافذة.. هل كانت هي أم طيفها؟ لا أعرف ولا يهمني أن أعرف.. كانت تسري كالنسيم وترتدي ذات الثوب التي قضت فيه نحبها ثم توقفت على مقربة من شجرة الياسمين، لم أصدق عيني وتصورت أنني أحلم.. لكنها التفتت لي فجأة ثم ابتسمت تلك الابتسامة الحلوة، وما لبثت أن اختفت.
قال وقد بدأ يفهم:
- وهل رأيتها مرة أخرى؟
- حتما.. كانت هي ملاكي الطاهر، فلا عجب أن ترأف بأمها.. لكن لم يكن موعدا بعينه ولا مكانا ثابتا.. أحيانا كنت أراها في غرفتي وأحيانا أشعر أنها هناك في الردهة فأسرع إليها فأراها كالومضة الخاطفة، وأحيانا تتجلى بجوار شجرة الياسمين.
وشخصت ببصرها إلى بعيد ثم ابتسمت ولمعت عيناها الباهتتان، ففكر أنها ربما تراها الآن!!
- ما زلت أذكر الأيام التي سبقت موتها وكأنها الأمس القريب.. كانت سعيدة كما لم أرها من قبل، وكلما ولجت غرفتها ارتبكت وكأنها تطالع رسالة أو تخفي سرا، كانت طفلتي، وكنت أدرك بقلب الأم أنها تحب.. وانتظرت أن تصارحني؟ لكنها كانت تشعر بالحرج.. وربما أحبت أن يكون لها أسرارها الخاصة!
راحت تحملق في الفضاء، وكأنها تشاهد طيفا لا يراه ، ثم ابتسمت في رقة، وقالت:
- كانت سعيدة، وكان هذا هو ما يهمني.. لكني ندمت بعد ذلك لأنني لم أسألها، على الأقل كنت قد ذهبت إليه وبكيناها معا..
عند هذا الحد لم يملك نفسه، وأفلتت منه آهة، لم تدر كيف أصابه سهمها هذه المرة، لطالما فكر في نفس الشيء، يطرق الباب ويبكياها معا!! لكنه لم يجرؤ، منعه الخجل!!
وتطلعت الأم إليه وقد فاجأتها دموعه، ثم اتسعت عيناها كمن فهم، ثم قالت هامسة:
- يا إلهي، إنه أنت.. صح؟
فهز رأسه في تسليم
تحاملت على نفسها لتنهض من السرير وراحت تتأمله
- أنت!! لماذا لم أفكر أنه سيكون أحد الجيران، أنت تسكن في البيت المقابل، أليس كذلك؟
رسمت شفتاه كلمة نعم، فأردفت:
- ليتك جئت وقتها، كنت سأحكي لك كل شيء.. عن ولادتها، عن الطفلة الجميلة التي كانتها، عن..
ثم لاح الرعب في عينيها فصمتت قليلا ثم قالت كالخائفة:
- ولكن.. إياك أن تكون قد نسيتها..
ثم بكت مستعبرة، وقالت:
- لقد كانت تحبك حقا.
هز رأسه وكأنه يدفع عن نفسه جريمة مخزية
- كلا، لم أنسها قط.. ولا أحببت سواها.
- أحقا!! إن الأم لا تبرؤ من الأنانية قط.. أسعدك الله يا ابني.
- وهل أخبرتك أنني تعس؟ ولماذا أحزن وروحها الطاهرة دوما معي؟
- أحقا ما تقول؟
قال كالمخاطب نفسه
- علام نخال الموت خاتمة المطاف؟ ربما كان فناء للجسد، لكن الروح تسمو عن هذا كله.. إنها أعظم جوهرا، ولذلك هي مناط التكريم في الإنسان.. تلك النفخة من روح الله.. لا تبلى قط.. لا تموت قط، هذه الروح خالدة ولذلك لم أفقد الكثير حين مات الجسد الذي كان سيموت على كل حال.
- يا للوفاء! عندما ألحق بها سأخبرها بذلك.
- إنها تعلم كل شيء.. ثقي في ذلك.. ستجديها تعلم كل شيء قبل أن تخبريها.
وصمت لبرهة ثم قال متوسلا:
- هل تأذنين لي بمشاهدة غرفتها قبل أن أذهب؟
آخر الأسرار
تحاملت العجوز.. وأخرجت من ثيابها مفتاحا قديما يعلوه الصدأ، وقالت له:
- لم أجرؤ على فتحها طيلة العشرين عاما.. ولكني أتوق الآن إلى أن أفعل.
وتقدمته إلى الردهة الطويلة وهو يتبعها شاحبا.. إنها تناديه إلى خدرها الذي لم يكن ليدخله رجل غير زوجها.. فهل تتخذه زوجا هذه الليلة بالذات قبل أن تموت أمها؟
وفتحت الباب في صعوبة، وفاحت رائحة عشرين عاما لم يفتح خلالها مرة واحدة، ووقف متهيبا ثم دلف إليه.
ولثمت عيناه كل جدار في غرفتها.. والسرير الذي كانت تنام عليه.. والدرج الصغير الذي كانت تخفي فيه خطاباته.. وثيابها التي لم تزل هناك.
وقف مرهوبا يرقب ذلك كله، ثم ألقى السلام ومضى بعد أن لثم يد العجوز مودعا.
وبلغ سمعه وهو يغادر الفيلا تساؤل الخادمة التي أدهشها أن الطبيب لم يتفحصها ولم يكتب لها الدواء.
كان الياسمين يبوح بآخر أسراره..
إن لديه عملا أخيرا ينبغي القيام به قبل أن يعود إلى داره.. تسلل جوار الثغرة القديمة، وتحسس بيده العشب حتى ظفر بمراده: الخطاب المرتقب ردا على خطاب الأمس.. دسه في جيبه ثم مضى.. "وفكر" أن السر الوحيد الذي كتمه عن العجوز هو أن الخطابات بينهما لم تنقطع طيلة الأعوام العشرين، منذ تلك الليلة التي دس فيها الخطاب في الثغرة "إياها".. ولم يكن يعلم وقتها أنها مفضية إليها في عالمها الآخر مثلما أفضت إليها من قبل في العالم الأرضي..
فكر أن يعود إليها ليخبرها ثم ما لبث أن قال لنفسه إن الأمر لم يعد ذا بال لها الآن، فهي توشك على اللحاق بها على كل حال.