المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الحركة الإسلاميّة في تركيا.. من النورسي إلى أربكان وأردوغان



وسيم أحمد الفلو
01-03-2009, 05:18 PM
الامان الدعوي - بقلم: د. راغب السرجاني


http://www.al-aman.com/photos/issue_846/Turkey_5.jpg
http://www.al-aman.com/photos/issue_846/Turkey_2.jpg
http://www.al-aman.com/photos/issue_846/Turkey_3.jpg

لعل من أكثر الأمور عجباً أن نشهد صحوة إسلامية حقيقية في بلد شديد العلمانية مثل تركيا، فالعلمانية في تركيا غير العلمانية في أوربا ذاتها, لأن الأوروبيين في علمانيتهم أرادوا فقط فصل الدين عن السياسة، بينما العلمانيون في تركيا لم يكتفوا بذلك، بل بنوا علمانيتهم على محاربة الدين في أصوله وفروعه، وفي جوهره ومظهره، وهذا من أيام أتاتورك إلى زماننا الآن، ويتولى كبر هذا الأمر الجيش التركي.

كان سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م مروِّعاً وكارثيّاً، ولم يعد هناك صوت مسموع إلا أصوات القوميين والعلمانيين، ليس في تركيا فقط، ولكن في كل بلاد العالم الإسلامي بدون استثناء.

الشيخ سعيد بيران

ومع هذا فلم يكن هذا السقوط بلا مقاومة، فقد ظهرت في تركيا رموز إسلامية رائعة حرصت على حمل اللواء في أشد عصور الظلام والقهر.

لقد قامت حركة الشيخ سعيد بيران للمناداة بعودة الخلافة الإسلامية، ومناهضة القوانين العلمانية التي شرعها أتاتورك وحزبه، ولكن للأسف الشديد فإن الطاغية أتاتورك جابه هذه الحركة بأقسى درجات العنف، وأعدم الشيخ سعيد بيران وعدداً كبيراً من أتباعه، ونفى آخرين إلى خارج البلاد, ليحافظ على علمانية الدولة منذ أيامها الأولى.

كان الشيخ سعيد بيران رحمه الله صوفياً من أتباع الطريقة النقشبندية، وكان يفهم واقعه، ويعرف أمور السياسة وكيف يجابه الطغاة الظالمين، ويقول كلمة الحق، ويقود تمرداً مسلحاً، ويُقبِل على الإعدام بشجاعة، ولا يُظهِر اعتزالاً أو بُعداً عن قضايا أمته.. وليس عجيباً أن نعرف أن كبار سلاطين الخلافة العثمانية مثل محمد الفاتح ومراد الثاني وبايزيد الصاعقة وسليم الأول وغيرهم كانوا من أتباع الطرق الصوفية، والواضح أن الصوفية في تركيا هي مرادف لكلمة الإسلام، وليس مقصوداً منها البدع والمنكرات، تعني تزكية النفس وتطهيرها من الآثام، والاتّباع الكامل لرسول الله |.

بديع الزمان النورسي

ولم تَمُتِ الحركة الإسلامية بإعدام الشيخ سعيد بيران، بل ازدادت قوة بظهور نجم صوفي جديد من أتباع الشيخ سعيد بيران، هو العلاّمة المجدِّد بديع الزمان سعيد النورسي، الذي أعلن رفضه لمبادئ العلمانية التي أتى بها أتاتورك، فنُفِي إلى مدينة أورفة، وظل في المنفى طيلة حياته حتى مماته، وذلك من سنة 1925م إلى سنة 1960م، ومع ذلك فرسائله إلى أتباعه داخل تركيا لم تنقطع، ومؤلفاته لم تتوقف، وكانت كلماته تنفذُ إلى القلب والعقل، فتثبِّتُ المسلمين في تركيا على الرغم من القهر الشديد لأتاتورك وأتباعه..

وفي خطوة لترسيخ العلمانية بشكل أكبر قامت الحكومة الأتاتوركية سنة 1930م (بعد سقوط الخلافة العثمانية بست سنوات) بإغلاق مدارس الأئمة والحفّاظ التي كانت منتشرة أيام الخلافة الإسلامية، وكانت تقوم بتخريج الطلبة المتخصصين في العلوم الشرعية، لكن بعد وفاة مصطفى كمال أتاتورك سنة 1938م عادت المطالبة من جديد بفتح هذه المدارس، خاصة في القرى التي ما زالت تحتفظ بشيء من تراثها الإسلامي الأصيل، وتم ذلك بالفعل سنة 1947م، وفي نفس السنة أنشئت بعض الجمعيات الإسلامية على استحياء لتنادي ببعض المظاهر الإسلامية البسيطة، وذلك مثل جمعية الإسلام، وجمعية التطهير.

في سنة 1950م حدث تغيرٌ مُهِمٌّ في الحكومة التركية صعد على إثره عدنان مندريس إلى رئاسة الحكومة في تركيا، وظل في منصبه إلى سنة 1960م، ولم يكن عدنان مندريس إسلاميّاً ولكنه كان وطنيّاً يُظهِر إمكانية التعامل مع كافة القوى من أجل مصلحة تركيا. وفي هذه الظروف نشط الاتجاه الإسلامي نسبيّاً، وبدأت المطالبة بحريات أكثر، وزادت أعداد مدارس الأئمة والخطباء، وبرز دور علماء الدين بشكل أوضح.

لم تكن هذه التغيرات خافية عن الجيش التركي الذي يقوم بدور حامي العلمانية والأتاتوركية، فقام الجيش بانقلاب دموي رهيب سنة 1960م، ونفذ حكم الإعدام في عدنان مندريس، وأبعد رئيس الجمهورية جلال بايار وجرى التصدي بمنتهى العنف للتيارات الإسلامية المتنامية، وكانت هذه صدمة كبيرة للحركة الإسلامية في تركيا، خاصةً أنها تزامنت مع وفاة بديع الزمان النورسي في منفاه بمدينة أورفة. ولكي ندرك مدى الحقد الذي كان في قلوب العسكريين ضد النورسي، يكفي أن نعلم أنهم هجموا على قبره، وأخذوا جثته حيث دفنوها في مكان غير معلوم، ولا يعرفه أحدٌ من الأتراك حتى يومنا هذا!

قيادة نجم الدين اربكان

ظل الوضع على هذه الصورة القاتمة إلى أن ظهرت شخصية البروفسور نجم الدين أربكان، الذي قام بتأسيس حزب السلامة سنة 1972م، وكان ينادي بإقامة «النظام العادل»، ويبرز آفات العلمانية التركية المتشددة، وكان حزبه الأول «السلامة» ووطنياً واصلاحياً لكي لا يُقتل في مهده.

لم تكن هذه التحركات بعيدة عن أعين النظام التركي العلماني، فقام بحل حزب السلامة سنة 1980م، لكن أربكان أنشأ حزباً آخر سنة 1983م سمّاه حزب الرفاه، وكانت توجهاته إسلامية بشكل واضح..

في هذا الحزب الجديد لمع نجم طيّب رجب أردوغان بسرعة، وصار أردوجان رئيساً لفرع الحزب في إسطنبول سنة 1985م (وكان عمره آنذاك 31 سنة فقط).

انتشرت فروع حزب الرفاه بسرعة في تركيا، وبدأت صحوة إسلامية حقيقية في ربوع هذا البلد الإسلامي العريق، وأصبحت السيطرة الكاملة لهذا الحزب الإسلامي في أهم مدينتين في تركيا: إسطنبول وأنقرة.

وفي سنة 1994م حقق الحزب مفاجأة كبيرة بفوزه في انتخابات البلدية، والأعظم من ذلك هو فوز أردوغان بمركز رئيس بلدية اسطنبول!

وحقق أردوغان في منصبه الجديد إنجازات هائلة, ففي خلال أربع سنوات (من سنة 1994م إلى سنة 1998م) استطاع أن ينتشل المدينة من الانهيار، وأن يحلَّ مشكلات كثيرة مثل انقطاع الكهرباء والمياه، واستطاع أن يحوِّل المدينة من مدينة تتفشى فيها القذارة والإهمال إلى واحة خضراء متميزة، وعندما سألوه عن السرّ وراء هذا النجاح قال: «لدينا سلاح أنتم لا تعرفونه، إنه الإيمان، ولدينا الأخلاق الإسلامية، وأسوة رسول الإنسانية عليه الصلاة والسلام».

وفي سنة 1995م حدثت مفاجأة كبرى بفوز حزب الرفاه بأعلى المقاعد في الانتخابات البرلمانية في تركيا (158 مقعداً من أصل 550)، ولكن الرئيس سليمان ديميريل عهد إلى الأحزاب العلمانية بتكوين ائتلاف ضد حزب الرفاه، ومع ذلك شاء الله عز وجل أن ينهار هذا الائتلاف ليصعد نجم الدين أربكان إلى منصب رئيس الوزراء سنة 1996م، ويصبح أول رئيس وزراء إسلامي في تركيا منذ سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924م.

حدثت أزمة كبرى في داخل الجيش التركي، وفي داخل المؤسسة العلمانية، وكان من رأي بعض قادة الجيش أن يتركوا أربكان في منصبه حيث كانوا يتوقعون فشله، وعدم نجاح مشروعه الإسلامي، وبذلك تصل رسالة سلبية إلى الرأي العام في تركيا، لكن حدث ما لم يتوقعوه، ونجح أربكان في خلال عام واحد من خفض ديون تركيا من 38 مليار دولار إلى 15 مليون دولار، واقترب من حل المشكلة الكردية العويصة، ونجح في إقامة علاقات دبلوماسية قوية على الساحة العالمية، وتقدم الاقتصاد التركي خطوات واسعة، وبات واضحاً تماماً أن السر في هذا النجاح هو الإسلام!

شعر الجيش التركي بالخطر فبدأ الضغط على حكومة أربكان، ونزلت الدبابات إلى شوارع أنقرة وإسطنبول، وأجبر أربكان على الاستقالة، كما تم حل حزب الرفاه، وقُدِّم أربكان إلى المحاكمة العسكرية بتهمٍ أهمها انتهاك علمانية الدولة، وصدر القرار بمنعه من مزاولة النشاط السياسي لمدة خمسة سنوات، وفي نفس الوقت قُدِّم أردوغان رئيس بلدية إسطنبول إلى المحاكمة بتهمة إثارة الفتنة، وكان من أدلة الحكم ضده أنه أعاد بعض الأبيات الشعرية في إحدى خُطَبِهِ وفيها «المساجد ثكناتنا، والقباب خوذاتنا، والمآذن حِرابنا، والمؤمنون جنودنا». وصدر القرار بسجنه عشرة أشهر، كما تم منعه من مزاولة النشاط السياسي خمس سنوات.

أسس أربكان حزباً جديداً أسماه حزب الفضيلة سنة 2000م، وجاء على رأسه رجائي قوطان، وانضم إلى هذا الحزب أردوغان وعبد الله غول (الرئيس التركي الحالي).

أردوغان وحزب العدالة والتنمية

لكن أردوغان وغول أسسا حزباً جديداً سنة 2001م، هو حزب العدالة والتنمية، ونفّذا فيه مشروعهما الإصلاحي، ووجد هذا الحزب قبولاً واسعاً في الأوساط التركية الشعبية, مما أدى إلى مفاجأة كبيرة سنة 2002م حيث فاز حزب العدالة والتنمية بأغلبية مطلقة في الانتخابات البرلمانية، حيث حصل على 368 مقعداً من أصل 550 مقعداً، وأوكل إليه تشكيل الوزارة برئاسة عبد الله غول, لأن رئيس الحزب أردوغان كان في فترة المنع من مزاولة النشاط السياسي، وبعد قليلٍ وصل رئيس الحزب أردوغان إلى منصب رئيس الوزراء في تركيا عام 2002م.

وفي سنة 2003م زال الحظر عن أربكان، فأسس حزباً جديداً هو السعادة، لكن العلمانيين كانوا له بالمرصاد، حيث اعتقلوه بتهمة اختلاس أموال حزب الرفاهّ، وصدر الحكم عليه بالسجن لمدة سنتين، مع أنه كان قد تجاوز السابعة والسبعين من عمره!

وفي سنة 2006م أكد أردوغان شعبيته بالفوز مرة أخرى في الانتخابات النيابية، بحصوله على 331 مقعداً من أصل 550 مقعداً, مما يثبت أن الشعب التركي أصبح طالباً للإسلام، ساعياً إلى إعادته ليحكم المجتمع.