تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : موعد في رابعة النهار / د. سلمان العودة



نور
14-05-2009, 02:04 PM
"افرح بما في يدك ولو كان صغيراً، فقد تنظر يوماً خلفك فتراه ضخماً هائلاً" ؛ كما يقول الحكيم.
لقد اشتاق إليها كثيراً، اشتاق إلى لمساتها الدافئة في برد الشتاء, واشتاق إلى حرارتها, عندما تلج في منعطفات جسده، أوقاتٌ دافئة, وأخرى حارة، سعادة بين يديه؛ لم يكن يراها.
اشتاق إلى رؤيتها عندما تضعف عند الرحيل, وتكتسي جمرة الفراق.
اشتاق لقوّة اندفاعها عند القدوم, بالرغم من أنه لم يقف يوماً يتأملها أثناء مقدمها, لقد كان مشغولاً عن حبها والسعادة بها, بينما كانت بالقرب منه هادئة أو صاخبة، روتينية أو مختلفة، لقد صاحبته زمناً طويلاً!
لا شك أنها تبحث عنه بين الوجوه, ولعلها تتسلل إليه عبر الثغرات في محاولة للوصول إليه والأنس بقربه؛ فلقد اشتاقت إليه هي أيضاً.
وأخيراً جاء اللقاء الأول, بعد طول غياب وفراق, ستون يوماً تفصلها عنه.
ولأن هذا اليوم لن يكون كأي يوم قبله أو بعده؛ أراد أن يستمتع بيومه ويتذوق رحيق اللقاء، نعم لن يستعير أي ألم ماضٍ، أو خوف قادم، لامست جسده بحرارة محببة، بعثت قشعريرة في داخله تفور نشوة، عجزت عيناه أن تنظر إليها مباشرة؛ إذ كيف يقابل الضياء من قبع حيناً في الظلماء.
دفؤها يملؤه بالامتنان؛ فيفتح عينيه شيئاً فشيئاً، حتى يتناغم معها, بلا تهور أو تدهور؛ إنها الرؤية الأولى بعد الحرمان الطويل.
تذكر قول "كونتا كنتي":
"الحياة لحظات متواليات, وأن تعيش كل لحظة منها يعني أنك ناجح".
حدّث نفسه أنه يجب أن يعيش هذا اللقاء الأول بكل جزئياته, ويرى دقيق تفصيلاته.
عاد لأحاسيسه مرة أخرى, وشعر بالمحبة تجاهها؛ فأيقن عندئذٍ أن الحنين لا يكون للأوطان فقط، وأن الشوق يتعدى الأبدان التي كانت تصاحبه إلى أشياء لم تكن يوماً تستوقفه، ناداها قلبُه بصمت، وأرسل لها شفرات ودية وإشارات ضمنيّة.
تذكر المثل القائل:
"عندما تشرق الشمس؛ قدم لها التحية"
تطلع إليها وقد توسطت كبد السماء الصافية, وامتدت خطوطها الذهبية تصافح كل من تحتها, لقد صار بمقدوره أن يخرج إليها يوماً في الأسبوع في وقت "التشميس" ..
وفي التشميس الأول كان يتفحص الأشياء الصغيرة؛ لأنه وجد نفسه حيالها في غربته، لاحظ العصافير الحرّة تحلّق في الجو، وتطير خارج السور العملاق، إنه قادر على أن يرى العالم في ريشة عصفور، فالسور يحيط بالجسد, أما العقل فهو كان وما زال حراً طليقاً.
كانت روحه تطير مع العصافير على دروب الخيال والأمنيات، ولم يكن السائح الوحيد في تلك الدروب.
لاحظ الحشرات الصغيرة وهي في احتفالية حقيقية بموسم تكاثرها، وهو يتأمل دقّة الصنع وإحاطته وحكمته، وشمول العلم الإلهي لحركاتها وحاجاتها وأحوالها.
ظل أشجار الصحراء القوية المناضلة, المنحازة للبقاء, المقاومة للجفاف والعطش...
انحناءات الضوء, وتفيؤ الظلال؛ كان محط تدقيق وانكسار أمام عظمة الخالق الجبار...
يتفاعل مع كل ذلك باغتباط ؛ فلقد كانت هبة ربانية لنُتَفٍ من السعادة.
كم قد مرّ على هذا المكان من أناس ,ثم تصرفت بهم سُبل الحياة من انتقال إلى خروج إلى موت.. إلى صعود أو نسيان, واللحظة الراهنة تلقي بثقلها عليه, وتشتد وطأتها, ويتثاقل الزمان حتى كأنه يتوقف.
أمام السور العملاق وأعمدته الحديدية؛ يُركز بصره, فيقرأ حروفاً لا يدري بأي مداد كتبت, ولكنها كتبت على عجل، تؤكد أنه شخصياً أصيب بالفشل الكلوي، ونُقل إلى المستشفى، وأن حالته المرضية الخطيرة لم تشفع له!
لم يكن يدري أن الشائعات حوله تسري كما النار في الهشيم، وتذكي لواعج الحزن لدى من يسمعونها تتردد، ولا يملكون لها نفياً ولا إثباتاً، لقد تجلى ذلك في أهله لما زاروه بعدُ , وحدثوه عن انتشار الشائعة, وأيديهم على قلوبهم..
(أحد الثقات) كان يقول إنه رآه في المستشفى, متنكراً ببدلة رياضة خضراء!
(ثقة آخر) يؤكد أنه خرج بسيارة عادية في شوارع مدينة الرياض، وحين سأله أحدهم من قال لك هذا؟
قال: قالته عيناي!
تذكّر المغص الكلوي الذي عصف به, وهو يصلي المغرب قبل عشر سنوات، ثم صار يعاوده بين الحين والآخر، على أنه إذ أوى إلى الكهف لم يجد لهذه المعاناة أثراً.
أحد جيرانه يصرخ به: هل صحيح أن لديه "كُلى"؟
فيجيب: نعم، وكبد, وقلب, أيضاً, والحمد لله!
هذه "الشمس" هي إحدى بركات الاستجابة للمساءلة.
بدأ يتردد بصفة دورية على تلك المساحة الجرداء، يشاهد تربتها الرملية الصلبة، ويشم هواءها المتجدد، ويستقبل أشعة شمسها الحارة حتى في وطأة الظهيرة, بتلذذ وارتياح.