نور
05-06-2009, 10:32 AM
د. ديمة طارق طهبوب
يا رفيقةَ الدربِ إني أذكرُ الفضلَ و أثني **** إنها لحظةُ شكرٍ و امتنانٍ لك مني
كم حملْتِ الهمَّ عني عندما كلّت يميني **** و لكم آثرتِني في أمرِ دنياي و ديني
لطالما استوقفتني صفحة من سيرة المصطفى -صلى الله عليه و سلم -فبعد أن وطّد الأركان، و شيّد المسجد ليكون مركز التلقي للتنفيذ و الاجتماع، و الرحيل، و محراب الصلاة، و منطلق الحياة، و مركز السياسة و الكياسة- سارع عليه الصلاة و السلام -و المسلمون ما زالوا مثخنين بجراحهم الظاهرة و الباطنة من فراق الأهل و المال و الولد و مكة البلد- إلى تطييب النفوس و تضميد الجراح؛ لتستقبل الحياة الجديدة بأواصر أخوية و أحلاف ربانية بين من خرجوا يبتغون فضلاً من الله و رضواناً، و بين المفلحين الذين يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة.
و هالنا على مر العصور المشهد الأخوي، و المسلم ينزل لأخيه عن أنفس ماله، و أرغد عيشه نصفاً بنصف، و يداً بيد و الدرس المصطفوي أن البناء عقدان: عقد مع البشر لأجل رب البشر إحياء لدنيا البشر على سنة رسول البشر.
و زادت أخوة الإسلام قدراً على الصحبة و الخلة، فذكرنا القرآن أن ما من خلة إلاّ بالتقوى، و اتخذ الرسول -صلى الله عليه و سلم- أبا بكر أخاً في الله لا خليلاً، و ما فرّق الله سبحانه و تعالى بين الأخوين سالم و حذيفة حتى في أول منازل الآخرة؛ فدُفنا شهيدين في نفس القبر يطلاّن على نفس الروضة، حيث منابرهم من نور تنتظر.
و لكم أنعم الله عليّ سبحانه بأخت أذاقتني حلاوة أن يحب المرء لله، و توفيق أن يؤاخي من يذكره حاله بالله، و استجابة دعاء الغيب، و شدة تعنيف المعصية، و الهجران ثلاثاً لا لعرض أو غرض دنيوي أو حظ نفس، و لكن عند الزلل في جنب الله، و زيادة المحبة على البعد، و تعالي أختاه نؤمن ساعة، و الرفد و العضد و مودة الفعل قبل القول، و ما بين أول هذا و آخره سلسل عذب من أخواتي في الله.
تلك كانت إيناس، وصفها صدقاً من يعرفني و يعرفها بأنها توأم روحي، و مستودع سري و نصفي الآخر، و لكنهم لم يدروا أن أخوتنا كانت دائماً غير متساوية الأطراف؛ فإيناس هي الأكبر قلباً و عقلاً، و الأوسع صدراً لتحمل زلاتي و مشاكلي و ما أكثرها!! و هي الأصدق نصحاً بلا مجاملة أو تزييف، و زدْ ما شئت من صفات التفضيل و المبالغة؛ فهي عليها قليلة، و مهما أطلت فيها قصيرة، و لا أقول هذا دفق مشاعر أو محبة فقط، و لكن أحتج، و التزكية لله وحده، على القول بالبرهان و الادّعاء بما خبرت من السيرة التي دفع لكتابتها و هيج الفكر و القلم قرب بعدها المكاني بالسفر، و أحبائي دوماً مسافرون، و تغير حياتها بالزواج، و كأنما كلماتي هذه وصية الأعرابية لابنتها ليلة الزفاف، و لكني عندما عجزت أن أكون الناصحة لمن نصحتني دوماً استبدلت ذلك بذكريات عن صفحة مشرقة في حياتي، أرجو الله أن تضيء لنا المنابر، و تظللنا بالظلال، و تجلسنا على سرر متقابلين.
كان أول ما جمعني بإيناس- أو هكذا أظن، و ما علمي بعالم الأرواح المجندة- معرفة خير و حلم شباب بالاجتهاد في امتحانات الثانوية لدخول الجامعة الأردنية، تشدّ عزيمتي، و أرفع همتها حتى بلّغنا الله المراد و التفوّق. و في الجامعة -كما في حياتي- رعتني برعاية الله، و احتضنتني أخوة و أمومة قلب، و علمتني في درب القرآن، و ظلت تقرع على أذني و تلاحقني يوماً بيوم، و ساعة بساعة، بالحسنى و غيرها، و ليس أجمل من تقريع الأخوة
عندما يصدر عن المحب الحريص المشفق، و لما أكرمها الله بالاتمام دعت لي مطولاً. أرادت أن تأخذني بالقيام فلعبت على مسرحية فهمت فصولها متأخرة، فتظاهرت بأنها يغلبها النوم فلا تستيقظ للقيام، و طلبت مني أن أوقظها؛ إذ غالباً ما أتأخر في النوم بحكم الدراسة، و لكني لم يبلغني قصد الأستاذة فكنت أستيقظ أحياناً لأوقظها ثم أنام. هذه إيناس التي لم تترك بيت أهلها إلاّ لتكون بجانبي عند مصابي؛ تمسح دموعي، تستمع لي، تذكرني، تطعمني و تسقيني بيدها، و تصرخ بي دون هوادة عند أبسط تساؤل أو لمحة اعتراض، نمت في حجرها، و ما وجدت غير القرآن لتسكتني، كلما زادت دموعي ارتفع صوتها بالتلاوة حتى غفوت من الإرهاق، و هي تواصل اليقظة يومين متتاليين، و نمت على كلام الرحمن، في كنف أخوة القرآن.
لقد أذاقتني إيناس أيضاً ما يصفه الناس بالبكاء من شدة الفرح، و هو ما كنت أظنه من مبالغات العرب العاطفية بخبر زواجها و سفرها، ففرحت كما تفرح أم العروس بالأول، و بكيت كما تبكي للثاني، أسعدتني بزواجها، و قصمت ظهري بغربتها لفراق من وصفها الرسول -صلى الله عليه و سلم- و نساء المسلمات بالمؤنسات الغاليات، و لكم ينطبق الاسم على المسمّى، فأصبح حالي كما يصف الشاعر:
يبكي و يضحكُ من حزنٍ و من فرحٍ **** كعاشقٍ خطّ سطراً في الهوى و محا
و لكني تعلمت أيضاً في مدرسة الأخوة أن ما بُني على أساس رباني لا يُهدّ، و لا يُنتقض من أركانه شيء، لا يزيده بُعد الأجساد إلاّ اقتراباً في الأرواح، و ينتظر بعد ألم الفراق دائماً شوق اللقاء.
يا رفيقةَ الدربِ إني أذكرُ الفضلَ و أثني **** إنها لحظةُ شكرٍ و امتنانٍ لك مني
كم حملْتِ الهمَّ عني عندما كلّت يميني **** و لكم آثرتِني في أمرِ دنياي و ديني
لطالما استوقفتني صفحة من سيرة المصطفى -صلى الله عليه و سلم -فبعد أن وطّد الأركان، و شيّد المسجد ليكون مركز التلقي للتنفيذ و الاجتماع، و الرحيل، و محراب الصلاة، و منطلق الحياة، و مركز السياسة و الكياسة- سارع عليه الصلاة و السلام -و المسلمون ما زالوا مثخنين بجراحهم الظاهرة و الباطنة من فراق الأهل و المال و الولد و مكة البلد- إلى تطييب النفوس و تضميد الجراح؛ لتستقبل الحياة الجديدة بأواصر أخوية و أحلاف ربانية بين من خرجوا يبتغون فضلاً من الله و رضواناً، و بين المفلحين الذين يؤثرون على أنفسهم و لو كان بهم خصاصة.
و هالنا على مر العصور المشهد الأخوي، و المسلم ينزل لأخيه عن أنفس ماله، و أرغد عيشه نصفاً بنصف، و يداً بيد و الدرس المصطفوي أن البناء عقدان: عقد مع البشر لأجل رب البشر إحياء لدنيا البشر على سنة رسول البشر.
و زادت أخوة الإسلام قدراً على الصحبة و الخلة، فذكرنا القرآن أن ما من خلة إلاّ بالتقوى، و اتخذ الرسول -صلى الله عليه و سلم- أبا بكر أخاً في الله لا خليلاً، و ما فرّق الله سبحانه و تعالى بين الأخوين سالم و حذيفة حتى في أول منازل الآخرة؛ فدُفنا شهيدين في نفس القبر يطلاّن على نفس الروضة، حيث منابرهم من نور تنتظر.
و لكم أنعم الله عليّ سبحانه بأخت أذاقتني حلاوة أن يحب المرء لله، و توفيق أن يؤاخي من يذكره حاله بالله، و استجابة دعاء الغيب، و شدة تعنيف المعصية، و الهجران ثلاثاً لا لعرض أو غرض دنيوي أو حظ نفس، و لكن عند الزلل في جنب الله، و زيادة المحبة على البعد، و تعالي أختاه نؤمن ساعة، و الرفد و العضد و مودة الفعل قبل القول، و ما بين أول هذا و آخره سلسل عذب من أخواتي في الله.
تلك كانت إيناس، وصفها صدقاً من يعرفني و يعرفها بأنها توأم روحي، و مستودع سري و نصفي الآخر، و لكنهم لم يدروا أن أخوتنا كانت دائماً غير متساوية الأطراف؛ فإيناس هي الأكبر قلباً و عقلاً، و الأوسع صدراً لتحمل زلاتي و مشاكلي و ما أكثرها!! و هي الأصدق نصحاً بلا مجاملة أو تزييف، و زدْ ما شئت من صفات التفضيل و المبالغة؛ فهي عليها قليلة، و مهما أطلت فيها قصيرة، و لا أقول هذا دفق مشاعر أو محبة فقط، و لكن أحتج، و التزكية لله وحده، على القول بالبرهان و الادّعاء بما خبرت من السيرة التي دفع لكتابتها و هيج الفكر و القلم قرب بعدها المكاني بالسفر، و أحبائي دوماً مسافرون، و تغير حياتها بالزواج، و كأنما كلماتي هذه وصية الأعرابية لابنتها ليلة الزفاف، و لكني عندما عجزت أن أكون الناصحة لمن نصحتني دوماً استبدلت ذلك بذكريات عن صفحة مشرقة في حياتي، أرجو الله أن تضيء لنا المنابر، و تظللنا بالظلال، و تجلسنا على سرر متقابلين.
كان أول ما جمعني بإيناس- أو هكذا أظن، و ما علمي بعالم الأرواح المجندة- معرفة خير و حلم شباب بالاجتهاد في امتحانات الثانوية لدخول الجامعة الأردنية، تشدّ عزيمتي، و أرفع همتها حتى بلّغنا الله المراد و التفوّق. و في الجامعة -كما في حياتي- رعتني برعاية الله، و احتضنتني أخوة و أمومة قلب، و علمتني في درب القرآن، و ظلت تقرع على أذني و تلاحقني يوماً بيوم، و ساعة بساعة، بالحسنى و غيرها، و ليس أجمل من تقريع الأخوة
عندما يصدر عن المحب الحريص المشفق، و لما أكرمها الله بالاتمام دعت لي مطولاً. أرادت أن تأخذني بالقيام فلعبت على مسرحية فهمت فصولها متأخرة، فتظاهرت بأنها يغلبها النوم فلا تستيقظ للقيام، و طلبت مني أن أوقظها؛ إذ غالباً ما أتأخر في النوم بحكم الدراسة، و لكني لم يبلغني قصد الأستاذة فكنت أستيقظ أحياناً لأوقظها ثم أنام. هذه إيناس التي لم تترك بيت أهلها إلاّ لتكون بجانبي عند مصابي؛ تمسح دموعي، تستمع لي، تذكرني، تطعمني و تسقيني بيدها، و تصرخ بي دون هوادة عند أبسط تساؤل أو لمحة اعتراض، نمت في حجرها، و ما وجدت غير القرآن لتسكتني، كلما زادت دموعي ارتفع صوتها بالتلاوة حتى غفوت من الإرهاق، و هي تواصل اليقظة يومين متتاليين، و نمت على كلام الرحمن، في كنف أخوة القرآن.
لقد أذاقتني إيناس أيضاً ما يصفه الناس بالبكاء من شدة الفرح، و هو ما كنت أظنه من مبالغات العرب العاطفية بخبر زواجها و سفرها، ففرحت كما تفرح أم العروس بالأول، و بكيت كما تبكي للثاني، أسعدتني بزواجها، و قصمت ظهري بغربتها لفراق من وصفها الرسول -صلى الله عليه و سلم- و نساء المسلمات بالمؤنسات الغاليات، و لكم ينطبق الاسم على المسمّى، فأصبح حالي كما يصف الشاعر:
يبكي و يضحكُ من حزنٍ و من فرحٍ **** كعاشقٍ خطّ سطراً في الهوى و محا
و لكني تعلمت أيضاً في مدرسة الأخوة أن ما بُني على أساس رباني لا يُهدّ، و لا يُنتقض من أركانه شيء، لا يزيده بُعد الأجساد إلاّ اقتراباً في الأرواح، و ينتظر بعد ألم الفراق دائماً شوق اللقاء.