نور
05-06-2009, 01:18 PM
رياح القلق تذرو مشاعره كلّما تحرّكت هذه الكتلة الضخمة التي يطلق عليها " الباب " باتجاه الداخل مؤذنة باستدعاء ، وتتأرجح انفعالاته بين ارتياح عابرٍ لهواءٍ جديد ، ووجهٍ إنساني يراه حيالَه ، يرى فيه الإنسان :
هو طيبُ الأخلاقِ مثلُك يَا أبي *** لم يبدُ في ظمأٍ إلى العدوانِ
لكنّه إِن نامَ عنّي لحظةً *** ذاقَ العيالُ مرارةَ الحرمانِ
فلربما وَهو المروّع سحنةً *** لو كانَ مثلي شاعراً لرثاني
أو عَادَ –مَن يَدْري- إِلى أَوْلَادِه *** يَوماً تَذَكّر صُورَتِي فَبَكَانِي
إنسان يكرّس مفهوم الانتماء للحياة ولو في صورتها الذابلة ، سياق يؤرجحه في تخوفٍ مثقل بما بعد اللحظة .. ماذا عسى أن ينتظره هناك !
اعتاد أن يقطع ذلك الطريق الموحش من غرفته الصغيرة ، مروراً بعددٍ غير قليل من الأبواب الفولاذية المصمتة ، والأخرى ذات الأعمدة الحديدية المتراصّة ، وهذه وتلك تفتح آلياً ، وبصفة مركزية ، ليصل في نهاية الطريق القصير ، والطويل في ذات الوقت ، إلى درجات السلّم التي تَغَيَّر لونها الأبيض, وبدا باهتاً يعبّر عن الأقدام التي سحلته بمرورها عبر السنين ، ولم يبق منها إلا أثرها الواهي على ذلك الدَرَج ..
طريق طويل بذكرياته ، قصير بقامته ، يحمل رائحة التوجّس الإنساني والترقّب الفضولي للجار والصاحب بالجنب وابن السبيل, في محاولة لتكهّن الأحداث من خلال الصمت الصاخب !
يسير بخطواته المتثاقلة ، وكأنه يحمل عِبء السنين على ظهره؛ فيحسّ بالوهن والانكسار ، وتتحرك يده النحيلة بتلقائية لتتكئ على (الدرابزين) الحديدي في جانب السلّم ..
أهي حركة ديناميكية؛ تنبعث من الشعور الفطري بثقل التبعة ووطأتها ، أم تراها فعلاً روتينيّاً أَلِفَه ، فأصبح يلتحم تلقائياً مع هذا الكائن لكثرة ما يَمُرّ به صاعداً يتوقع المزيد من الأسئلة ، أو نازلاً يحسّ بأنه تخلص من بعض أحماله .
الذي يدريه أن مشهد ذلك الدَرَج ، وحركته عليه بدءاً وانتهاءً لم تكن شيئاً عفوياً عادياً يُنسى في لحظته ، كانت بوطأتها الشديدة ، وذكرياتها الحزينة محفورة في حنايا النفس, وأطواء الضمير .
تلك الغرفة الواسعة التي أصبح يتردد عليها بصفةٍ دائمة ، هي أشبه بغرفة اجتماعات ، تتوسطها طاولة ممتدة ، حولها عدد من الكراسي ، خُصصت فيما بدا له لجلسات طويلة من اللقاء ، ما بين استجواب ، وبين حديث ومؤانسة ، وبين استفتاءات وأسئلة شرعية ..
السؤال الملح عليه دوماً هو : متى يُلقي أثقالَه القسْرية ويَفْرَغُ منها ، ليحمل أثقاله الاختيارية, التي يؤمن بها وَيُخْلِص لها ؟
لم يكن محارباً ، بل محبّاً تدفعه قِيَمُه إلى مواقفه ، وتصقله التجربة ، ولو كانت مُرّة .. والتي أراد فيها أن يجرّب صوته ولو لمرّة .
صرير الأبواب هو الآخر كصوت المنشار في حركته ، وما أكثرَ ما يسمعه حين يُفتح أو يُغلق لدخول نزيل ، أو خروج آخر ، أو تغيير " وردية " ، أو إعاشة ، أو تنظيف ، وهو يوازن بين منطقه وحدسه؛ ليفكَّ شفرة الرعب التي تتسلل من وراء الجدران السميكة إلى أذنيه .
الغموض يلفّ الموقف ، والخبرة معدومة بما يجري من حوله ، ويزيد الأمر رهبة أن العزلة محكمة ، والطرف الآخر مفتوح على المصادر والعلاقات والأوراق والهواتف والأشخاص والأحداث ... والقرارات .
لا يعصم من الانكسار إلا الإيمان بالله الواحد ، والإحساس المفعم برحمته وقربه ، وضراعة النفس إليه حين تحسّ بالاضطرار وتتفلّت يدها من كل قوى المادة .
ومن أروع هباته وعطاياه : العقل ، تلك القدرة الخارقة التي تسانده في ظروفه الصعبة؛ ليحظى بأنوار الحكمة ، ويُنشط حركة التأمل ، ويعيد قراءة التاريخ والأحداث ، فليس الأمر متعلقاً بزوال الضغوط ؛ بل بكيفية التعامل معها ، والتحكم فيها ، بدلاً من أن تتحكم فيه .
يتذكر الْمَلِك الذي اقتحم على سجين عزلته ، وقال له : إن أمامك طريقاً للخروج ، لكن عليك أن تبحث عنه حتى تجده .. ، لم يجد السجين طريقه ، لكنه عرف بعدُ أن الباب كان موارباً غير مغلق ..
الباب الذي يُفتح مرّة ، يمكن أن يُفتح مرات ، ويمكن أن يفتح إلى الأبد !
عندما تسيطر مثل هذه الأفكار تستشفى الروح ذاتياً ، ويشعر بأنه أصبح أكثر مرونة ، وأصبر على الشدائد !
ليس شرطاً أن تكون لديه استراتيجية مدونة ومدروسة للخروج من اليأس ، المهم أن يترجم ذلك في أفعالٍ تمنحه طاقةً ودافعية وانتماءً للحياة ، والمعرفة هي أول ما يحتاج إليه من شروط الحياة ، فالقراءة هي الأمر الأول الذي جاء باسم الخالق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2،1) .
ربط راسخ بين المعرفة والحياة .
الجزء الأول من كتاب (زاد المسير في علم التفسير) لابن الجوزي ، يدخل عالمه الصغير في احتفاليّة صامتة ، لكن أطياف الفرح الطفولي تملأ المكان .. ليس مهماً إن كان الاذن بالكتاب تقديراً ، أو تحفيزاً على مواصلة الحديث ، المهم أنه يمنحه رؤية طويلة المدى ، وإيماناً لا يشوبه تردد ، ويذكره بقول أرسطو : " التعليم زينة في الرخاء ، وملاذ عند المحن " .
حين بدأ يقرأ .. صار يحسّ بطعم الحروف في فمه؛ فهي مهمة كبيرة أن تمارس شغلاً علمياً في أقصى حالات التركيز العقلية ، وأشدها صفاءً من العلائق .. على أن ذلك بدا سلوةً في الخلوة .. وأنيساً في الجلوة .
السماء تمطر أحياناً كتباً ، والمجلدات تتوالى واحداً بعد آخر ، حتى تكتمل المجلدات التسعة بالتناوب .. يقرأ فيه :
الله يعلم أَنَّا فِي تلفُّتنا *** يوم الوداع إِلَى جيراننا صُوْرُ
وأنَّني حَيْثُمَا يلوي الهوى بَصري ***من حَيْثُمَا سلكوا أدنو فَأَنْظورُ
أبيات لا يعكر صفوها إلا هذا " الإشباع " في " أَنْظورُ (1)
الذي وافى على حين مجاعة ..! ليست في نظره من غُرر الشعر , ولكن حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ؛ فليس لك أن تبالغ في الانتقاء!
بلا وعي أصبح يتغنى بهذه الأبيات ..ويقف عند كلماتها .. الوداع.., التلفّت.., الجيران..,الهوى .. ويتذكر قول الشريف:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَت عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ
في مواقف كهذه؛ يعود الناس إلى طبيعتهم ، يفرحون كما الأطفال بالأشياء الصغيرة ، ويتعاملون معها باهتمام ، ويحزنون للأشياء الصغيرة أيضاً , ويتقاتلون عليها إن اقتضى الأمر !
هو يستمع إلى جاره يصيح, مطالباً بكوب آخر من الشاي حتى يعيى ، ولكن هيهات ، فكل شيء هنا بحسبان !.
وحين يجتمع العديد في مكانٍ واحد تبدو الأثرة أحياناً على أشياء لا تستحق ، لولا أنها الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تفصح عن ذاتها ، ولو من بعض الناس ، وفي بعض الوقت .. فالطفولة البشرية تكرّ على الكبار وتفضح ذواتهم .
عليك أن تتذكر أن من سبب لك مشكلة؛ فقد يكون ثمت شخص آخر سبب له مشكلة أيضا..
" نَفْح الطِّيب من غُصن الأندلس الرَّطِيب, وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب " للمقّري ؛ من عيون المؤلفات الأندلسية وهو قسمان: الأول في وصف الأندلس وأعلامها والخلافة الأموية فيها, والثاني خصصه لابن الخطيب الوزير وحياته"
هو الأنيس الثاني له ، وكأن " المقّري " الأندلسي أصبح محشوراً معه في معتكفه .
نسخة مهلهلة ، كأنها تقول لصاحبها دعني ، أكل الدهر (وربما السجين) عليها ، وشرب .. ونام !
يقرأ منسجماً مع رواية منحها كل اهتمامه؛ فيجد ارتباكاً في السّياق ، ليكتشف أن نزيلاً ما ، مَزّق أوراقاً هنا ، وأوراقاً هناك ، أتراه كان محتسباً لم تتحمل ذمتُه في عزلته أن يطلع غيره على مقاطع بذيئةٍ ، أو استطرادات غزلية فاضحة ، خاصة في ظل الحرمان والعزلة والبعد عن الأنيس ، أم هو احتاج إلى الورق يكتب عليه رسالة تتسلل إلى صديق أو زائر .. حين يكون النزيل أسير لحظته باحثاً عن ورقة ليكتب في أسفلها قصيدة متسربة أو بقايا إهداء عاجل .
هذا ليس مهماً ؛ فهو كالبحار لا يشتكي الريح أبداً ، بل يرفع أشرعته بما يتناسب معها .. ، يكفي ما بقي من الكتاب للمتعة والفائدة .
ها هو يعيد قراءة الكتاب ، ويقف عند مواعظه في مصارع الغابرين ، فتدمع عينه ، ويتحفظ أشعاره في المدائح النبوية المتضمنة لأسماء السور القرآنية :
في كل " فاتحة " للقول معتبرهْ حق الثناء على المبعوث بـ " البقرْة "
في " آل عمران " قِدْماً شاع مبعثه رجالهم و" النساء " استوضحوا خَبَرَهْ
من مدّ للناس من نعماه " مائدةً " عمت؛ فليست على " الأنعام " مقتصرهْ٠٠٠
حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ، فليس عليك أن تبالغ في الانتقاء!
هكذا يردد مرة أخرى, في وجه وسوسةٍ نقدية, تستهدف تلك القصائد ، وما تنطوي عليه من تكلّف .
على أن هذا التوظيف وافى قلباً متعطشاً لحب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ونفساً مستشعرة رحمته ورأفته ، ودعاءً يتلمس مواطن الإجابة ، ويتوسل بالأسماء الحسنى ، ودعوات الضرورات ، وبالكلمات التي دعا بها عليه السلام في مواقفه كلها ، ويحيل على سؤاله يوم العرض حين يحمد ربه بمحامد لم يكن يعلمها من قبل ، فيقال له : ارفع رأسك ، وقل يُسمع ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع .
حين تكون طليقاً تمر بأشياء مهمة دون توقف ، وحين يعتقلك المرض أو القيد؛ تبدأ في تذوق قيمة تلك الأشياء من حولك, والغوص في معانيها .. ، تذكر هذا وهو يقارن ذلك المجلد في غرفته لا يزيد ، بمكتبته الحافلة التي أصبحت تعاني ما يعاني !
تلك المجلدات .. في الرفوف العليا من المكتبة الحافلة , كانت تغازلك بكل دلال ، كانت تقرأك قبل أن تقرأها ، وتمد يدها إليك قبل أن تفعل أنت ، ومع أن الكتاب واحد إلا أن إنسان الحرية يعرف من نفسه السعة والفسحة ، وإنسان القيد يعرف الحرمان والضيق .
إنسان الحرية .. ينشغل عن مكتبته ، وقد يتوسد الأحافير التي يجريها ليبحث عن كتاب فيما تقع عليه يده , غير أن إنسان القيد يتوسد مجلده ، ويتلمس كعب ذلك المجلد ويقلّبه تقليب الخبير .
هما حالان : امتداد أفقي يسمح بالتعاطي مع الأشياء بكميتها ، بكل سعة في المكان ، غير أنه يضيق في الزمان , وآخر رأسي يحيل على الكيف ..ويتدرب كيف يستمتع بالأشياء الممنوحة ولو قلت.
والإنسان في كل حالتيه هو هو .. غير أن الزمان والمكان يصنعانه شيئاً .. مختلف اللون والطعم والرائحة!
هو طيبُ الأخلاقِ مثلُك يَا أبي *** لم يبدُ في ظمأٍ إلى العدوانِ
لكنّه إِن نامَ عنّي لحظةً *** ذاقَ العيالُ مرارةَ الحرمانِ
فلربما وَهو المروّع سحنةً *** لو كانَ مثلي شاعراً لرثاني
أو عَادَ –مَن يَدْري- إِلى أَوْلَادِه *** يَوماً تَذَكّر صُورَتِي فَبَكَانِي
إنسان يكرّس مفهوم الانتماء للحياة ولو في صورتها الذابلة ، سياق يؤرجحه في تخوفٍ مثقل بما بعد اللحظة .. ماذا عسى أن ينتظره هناك !
اعتاد أن يقطع ذلك الطريق الموحش من غرفته الصغيرة ، مروراً بعددٍ غير قليل من الأبواب الفولاذية المصمتة ، والأخرى ذات الأعمدة الحديدية المتراصّة ، وهذه وتلك تفتح آلياً ، وبصفة مركزية ، ليصل في نهاية الطريق القصير ، والطويل في ذات الوقت ، إلى درجات السلّم التي تَغَيَّر لونها الأبيض, وبدا باهتاً يعبّر عن الأقدام التي سحلته بمرورها عبر السنين ، ولم يبق منها إلا أثرها الواهي على ذلك الدَرَج ..
طريق طويل بذكرياته ، قصير بقامته ، يحمل رائحة التوجّس الإنساني والترقّب الفضولي للجار والصاحب بالجنب وابن السبيل, في محاولة لتكهّن الأحداث من خلال الصمت الصاخب !
يسير بخطواته المتثاقلة ، وكأنه يحمل عِبء السنين على ظهره؛ فيحسّ بالوهن والانكسار ، وتتحرك يده النحيلة بتلقائية لتتكئ على (الدرابزين) الحديدي في جانب السلّم ..
أهي حركة ديناميكية؛ تنبعث من الشعور الفطري بثقل التبعة ووطأتها ، أم تراها فعلاً روتينيّاً أَلِفَه ، فأصبح يلتحم تلقائياً مع هذا الكائن لكثرة ما يَمُرّ به صاعداً يتوقع المزيد من الأسئلة ، أو نازلاً يحسّ بأنه تخلص من بعض أحماله .
الذي يدريه أن مشهد ذلك الدَرَج ، وحركته عليه بدءاً وانتهاءً لم تكن شيئاً عفوياً عادياً يُنسى في لحظته ، كانت بوطأتها الشديدة ، وذكرياتها الحزينة محفورة في حنايا النفس, وأطواء الضمير .
تلك الغرفة الواسعة التي أصبح يتردد عليها بصفةٍ دائمة ، هي أشبه بغرفة اجتماعات ، تتوسطها طاولة ممتدة ، حولها عدد من الكراسي ، خُصصت فيما بدا له لجلسات طويلة من اللقاء ، ما بين استجواب ، وبين حديث ومؤانسة ، وبين استفتاءات وأسئلة شرعية ..
السؤال الملح عليه دوماً هو : متى يُلقي أثقالَه القسْرية ويَفْرَغُ منها ، ليحمل أثقاله الاختيارية, التي يؤمن بها وَيُخْلِص لها ؟
لم يكن محارباً ، بل محبّاً تدفعه قِيَمُه إلى مواقفه ، وتصقله التجربة ، ولو كانت مُرّة .. والتي أراد فيها أن يجرّب صوته ولو لمرّة .
صرير الأبواب هو الآخر كصوت المنشار في حركته ، وما أكثرَ ما يسمعه حين يُفتح أو يُغلق لدخول نزيل ، أو خروج آخر ، أو تغيير " وردية " ، أو إعاشة ، أو تنظيف ، وهو يوازن بين منطقه وحدسه؛ ليفكَّ شفرة الرعب التي تتسلل من وراء الجدران السميكة إلى أذنيه .
الغموض يلفّ الموقف ، والخبرة معدومة بما يجري من حوله ، ويزيد الأمر رهبة أن العزلة محكمة ، والطرف الآخر مفتوح على المصادر والعلاقات والأوراق والهواتف والأشخاص والأحداث ... والقرارات .
لا يعصم من الانكسار إلا الإيمان بالله الواحد ، والإحساس المفعم برحمته وقربه ، وضراعة النفس إليه حين تحسّ بالاضطرار وتتفلّت يدها من كل قوى المادة .
ومن أروع هباته وعطاياه : العقل ، تلك القدرة الخارقة التي تسانده في ظروفه الصعبة؛ ليحظى بأنوار الحكمة ، ويُنشط حركة التأمل ، ويعيد قراءة التاريخ والأحداث ، فليس الأمر متعلقاً بزوال الضغوط ؛ بل بكيفية التعامل معها ، والتحكم فيها ، بدلاً من أن تتحكم فيه .
يتذكر الْمَلِك الذي اقتحم على سجين عزلته ، وقال له : إن أمامك طريقاً للخروج ، لكن عليك أن تبحث عنه حتى تجده .. ، لم يجد السجين طريقه ، لكنه عرف بعدُ أن الباب كان موارباً غير مغلق ..
الباب الذي يُفتح مرّة ، يمكن أن يُفتح مرات ، ويمكن أن يفتح إلى الأبد !
عندما تسيطر مثل هذه الأفكار تستشفى الروح ذاتياً ، ويشعر بأنه أصبح أكثر مرونة ، وأصبر على الشدائد !
ليس شرطاً أن تكون لديه استراتيجية مدونة ومدروسة للخروج من اليأس ، المهم أن يترجم ذلك في أفعالٍ تمنحه طاقةً ودافعية وانتماءً للحياة ، والمعرفة هي أول ما يحتاج إليه من شروط الحياة ، فالقراءة هي الأمر الأول الذي جاء باسم الخالق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2،1) .
ربط راسخ بين المعرفة والحياة .
الجزء الأول من كتاب (زاد المسير في علم التفسير) لابن الجوزي ، يدخل عالمه الصغير في احتفاليّة صامتة ، لكن أطياف الفرح الطفولي تملأ المكان .. ليس مهماً إن كان الاذن بالكتاب تقديراً ، أو تحفيزاً على مواصلة الحديث ، المهم أنه يمنحه رؤية طويلة المدى ، وإيماناً لا يشوبه تردد ، ويذكره بقول أرسطو : " التعليم زينة في الرخاء ، وملاذ عند المحن " .
حين بدأ يقرأ .. صار يحسّ بطعم الحروف في فمه؛ فهي مهمة كبيرة أن تمارس شغلاً علمياً في أقصى حالات التركيز العقلية ، وأشدها صفاءً من العلائق .. على أن ذلك بدا سلوةً في الخلوة .. وأنيساً في الجلوة .
السماء تمطر أحياناً كتباً ، والمجلدات تتوالى واحداً بعد آخر ، حتى تكتمل المجلدات التسعة بالتناوب .. يقرأ فيه :
الله يعلم أَنَّا فِي تلفُّتنا *** يوم الوداع إِلَى جيراننا صُوْرُ
وأنَّني حَيْثُمَا يلوي الهوى بَصري ***من حَيْثُمَا سلكوا أدنو فَأَنْظورُ
أبيات لا يعكر صفوها إلا هذا " الإشباع " في " أَنْظورُ (1)
الذي وافى على حين مجاعة ..! ليست في نظره من غُرر الشعر , ولكن حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ؛ فليس لك أن تبالغ في الانتقاء!
بلا وعي أصبح يتغنى بهذه الأبيات ..ويقف عند كلماتها .. الوداع.., التلفّت.., الجيران..,الهوى .. ويتذكر قول الشريف:
وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَت عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ
في مواقف كهذه؛ يعود الناس إلى طبيعتهم ، يفرحون كما الأطفال بالأشياء الصغيرة ، ويتعاملون معها باهتمام ، ويحزنون للأشياء الصغيرة أيضاً , ويتقاتلون عليها إن اقتضى الأمر !
هو يستمع إلى جاره يصيح, مطالباً بكوب آخر من الشاي حتى يعيى ، ولكن هيهات ، فكل شيء هنا بحسبان !.
وحين يجتمع العديد في مكانٍ واحد تبدو الأثرة أحياناً على أشياء لا تستحق ، لولا أنها الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تفصح عن ذاتها ، ولو من بعض الناس ، وفي بعض الوقت .. فالطفولة البشرية تكرّ على الكبار وتفضح ذواتهم .
عليك أن تتذكر أن من سبب لك مشكلة؛ فقد يكون ثمت شخص آخر سبب له مشكلة أيضا..
" نَفْح الطِّيب من غُصن الأندلس الرَّطِيب, وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب " للمقّري ؛ من عيون المؤلفات الأندلسية وهو قسمان: الأول في وصف الأندلس وأعلامها والخلافة الأموية فيها, والثاني خصصه لابن الخطيب الوزير وحياته"
هو الأنيس الثاني له ، وكأن " المقّري " الأندلسي أصبح محشوراً معه في معتكفه .
نسخة مهلهلة ، كأنها تقول لصاحبها دعني ، أكل الدهر (وربما السجين) عليها ، وشرب .. ونام !
يقرأ منسجماً مع رواية منحها كل اهتمامه؛ فيجد ارتباكاً في السّياق ، ليكتشف أن نزيلاً ما ، مَزّق أوراقاً هنا ، وأوراقاً هناك ، أتراه كان محتسباً لم تتحمل ذمتُه في عزلته أن يطلع غيره على مقاطع بذيئةٍ ، أو استطرادات غزلية فاضحة ، خاصة في ظل الحرمان والعزلة والبعد عن الأنيس ، أم هو احتاج إلى الورق يكتب عليه رسالة تتسلل إلى صديق أو زائر .. حين يكون النزيل أسير لحظته باحثاً عن ورقة ليكتب في أسفلها قصيدة متسربة أو بقايا إهداء عاجل .
هذا ليس مهماً ؛ فهو كالبحار لا يشتكي الريح أبداً ، بل يرفع أشرعته بما يتناسب معها .. ، يكفي ما بقي من الكتاب للمتعة والفائدة .
ها هو يعيد قراءة الكتاب ، ويقف عند مواعظه في مصارع الغابرين ، فتدمع عينه ، ويتحفظ أشعاره في المدائح النبوية المتضمنة لأسماء السور القرآنية :
في كل " فاتحة " للقول معتبرهْ حق الثناء على المبعوث بـ " البقرْة "
في " آل عمران " قِدْماً شاع مبعثه رجالهم و" النساء " استوضحوا خَبَرَهْ
من مدّ للناس من نعماه " مائدةً " عمت؛ فليست على " الأنعام " مقتصرهْ٠٠٠
حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ، فليس عليك أن تبالغ في الانتقاء!
هكذا يردد مرة أخرى, في وجه وسوسةٍ نقدية, تستهدف تلك القصائد ، وما تنطوي عليه من تكلّف .
على أن هذا التوظيف وافى قلباً متعطشاً لحب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ونفساً مستشعرة رحمته ورأفته ، ودعاءً يتلمس مواطن الإجابة ، ويتوسل بالأسماء الحسنى ، ودعوات الضرورات ، وبالكلمات التي دعا بها عليه السلام في مواقفه كلها ، ويحيل على سؤاله يوم العرض حين يحمد ربه بمحامد لم يكن يعلمها من قبل ، فيقال له : ارفع رأسك ، وقل يُسمع ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع .
حين تكون طليقاً تمر بأشياء مهمة دون توقف ، وحين يعتقلك المرض أو القيد؛ تبدأ في تذوق قيمة تلك الأشياء من حولك, والغوص في معانيها .. ، تذكر هذا وهو يقارن ذلك المجلد في غرفته لا يزيد ، بمكتبته الحافلة التي أصبحت تعاني ما يعاني !
تلك المجلدات .. في الرفوف العليا من المكتبة الحافلة , كانت تغازلك بكل دلال ، كانت تقرأك قبل أن تقرأها ، وتمد يدها إليك قبل أن تفعل أنت ، ومع أن الكتاب واحد إلا أن إنسان الحرية يعرف من نفسه السعة والفسحة ، وإنسان القيد يعرف الحرمان والضيق .
إنسان الحرية .. ينشغل عن مكتبته ، وقد يتوسد الأحافير التي يجريها ليبحث عن كتاب فيما تقع عليه يده , غير أن إنسان القيد يتوسد مجلده ، ويتلمس كعب ذلك المجلد ويقلّبه تقليب الخبير .
هما حالان : امتداد أفقي يسمح بالتعاطي مع الأشياء بكميتها ، بكل سعة في المكان ، غير أنه يضيق في الزمان , وآخر رأسي يحيل على الكيف ..ويتدرب كيف يستمتع بالأشياء الممنوحة ولو قلت.
والإنسان في كل حالتيه هو هو .. غير أن الزمان والمكان يصنعانه شيئاً .. مختلف اللون والطعم والرائحة!