تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : شمس المعارف / د . سلمان العودة



نور
05-06-2009, 01:18 PM
رياح القلق تذرو مشاعره كلّما تحرّكت هذه الكتلة الضخمة التي يطلق عليها " الباب " باتجاه الداخل مؤذنة باستدعاء ، وتتأرجح انفعالاته بين ارتياح عابرٍ لهواءٍ جديد ، ووجهٍ إنساني يراه حيالَه ، يرى فيه الإنسان :


هو طيبُ الأخلاقِ مثلُك يَا أبي *** لم يبدُ في ظمأٍ إلى العدوانِ



لكنّه إِن نامَ عنّي لحظةً *** ذاقَ العيالُ مرارةَ الحرمانِ



فلربما وَهو المروّع سحنةً *** لو كانَ مثلي شاعراً لرثاني



أو عَادَ –مَن يَدْري- إِلى أَوْلَادِه *** يَوماً تَذَكّر صُورَتِي فَبَكَانِي

إنسان يكرّس مفهوم الانتماء للحياة ولو في صورتها الذابلة ، سياق يؤرجحه في تخوفٍ مثقل بما بعد اللحظة .. ماذا عسى أن ينتظره هناك !
اعتاد أن يقطع ذلك الطريق الموحش من غرفته الصغيرة ، مروراً بعددٍ غير قليل من الأبواب الفولاذية المصمتة ، والأخرى ذات الأعمدة الحديدية المتراصّة ، وهذه وتلك تفتح آلياً ، وبصفة مركزية ، ليصل في نهاية الطريق القصير ، والطويل في ذات الوقت ، إلى درجات السلّم التي تَغَيَّر لونها الأبيض, وبدا باهتاً يعبّر عن الأقدام التي سحلته بمرورها عبر السنين ، ولم يبق منها إلا أثرها الواهي على ذلك الدَرَج ..
طريق طويل بذكرياته ، قصير بقامته ، يحمل رائحة التوجّس الإنساني والترقّب الفضولي للجار والصاحب بالجنب وابن السبيل, في محاولة لتكهّن الأحداث من خلال الصمت الصاخب !
يسير بخطواته المتثاقلة ، وكأنه يحمل عِبء السنين على ظهره؛ فيحسّ بالوهن والانكسار ، وتتحرك يده النحيلة بتلقائية لتتكئ على (الدرابزين) الحديدي في جانب السلّم ..
أهي حركة ديناميكية؛ تنبعث من الشعور الفطري بثقل التبعة ووطأتها ، أم تراها فعلاً روتينيّاً أَلِفَه ، فأصبح يلتحم تلقائياً مع هذا الكائن لكثرة ما يَمُرّ به صاعداً يتوقع المزيد من الأسئلة ، أو نازلاً يحسّ بأنه تخلص من بعض أحماله .
الذي يدريه أن مشهد ذلك الدَرَج ، وحركته عليه بدءاً وانتهاءً لم تكن شيئاً عفوياً عادياً يُنسى في لحظته ، كانت بوطأتها الشديدة ، وذكرياتها الحزينة محفورة في حنايا النفس, وأطواء الضمير .
تلك الغرفة الواسعة التي أصبح يتردد عليها بصفةٍ دائمة ، هي أشبه بغرفة اجتماعات ، تتوسطها طاولة ممتدة ، حولها عدد من الكراسي ، خُصصت فيما بدا له لجلسات طويلة من اللقاء ، ما بين استجواب ، وبين حديث ومؤانسة ، وبين استفتاءات وأسئلة شرعية ..
السؤال الملح عليه دوماً هو : متى يُلقي أثقالَه القسْرية ويَفْرَغُ منها ، ليحمل أثقاله الاختيارية, التي يؤمن بها وَيُخْلِص لها ؟
لم يكن محارباً ، بل محبّاً تدفعه قِيَمُه إلى مواقفه ، وتصقله التجربة ، ولو كانت مُرّة .. والتي أراد فيها أن يجرّب صوته ولو لمرّة .
صرير الأبواب هو الآخر كصوت المنشار في حركته ، وما أكثرَ ما يسمعه حين يُفتح أو يُغلق لدخول نزيل ، أو خروج آخر ، أو تغيير " وردية " ، أو إعاشة ، أو تنظيف ، وهو يوازن بين منطقه وحدسه؛ ليفكَّ شفرة الرعب التي تتسلل من وراء الجدران السميكة إلى أذنيه .
الغموض يلفّ الموقف ، والخبرة معدومة بما يجري من حوله ، ويزيد الأمر رهبة أن العزلة محكمة ، والطرف الآخر مفتوح على المصادر والعلاقات والأوراق والهواتف والأشخاص والأحداث ... والقرارات .
لا يعصم من الانكسار إلا الإيمان بالله الواحد ، والإحساس المفعم برحمته وقربه ، وضراعة النفس إليه حين تحسّ بالاضطرار وتتفلّت يدها من كل قوى المادة .
ومن أروع هباته وعطاياه : العقل ، تلك القدرة الخارقة التي تسانده في ظروفه الصعبة؛ ليحظى بأنوار الحكمة ، ويُنشط حركة التأمل ، ويعيد قراءة التاريخ والأحداث ، فليس الأمر متعلقاً بزوال الضغوط ؛ بل بكيفية التعامل معها ، والتحكم فيها ، بدلاً من أن تتحكم فيه .
يتذكر الْمَلِك الذي اقتحم على سجين عزلته ، وقال له : إن أمامك طريقاً للخروج ، لكن عليك أن تبحث عنه حتى تجده .. ، لم يجد السجين طريقه ، لكنه عرف بعدُ أن الباب كان موارباً غير مغلق ..
الباب الذي يُفتح مرّة ، يمكن أن يُفتح مرات ، ويمكن أن يفتح إلى الأبد !
عندما تسيطر مثل هذه الأفكار تستشفى الروح ذاتياً ، ويشعر بأنه أصبح أكثر مرونة ، وأصبر على الشدائد !
ليس شرطاً أن تكون لديه استراتيجية مدونة ومدروسة للخروج من اليأس ، المهم أن يترجم ذلك في أفعالٍ تمنحه طاقةً ودافعية وانتماءً للحياة ، والمعرفة هي أول ما يحتاج إليه من شروط الحياة ، فالقراءة هي الأمر الأول الذي جاء باسم الخالق (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) (العلق:2،1) .
ربط راسخ بين المعرفة والحياة .
الجزء الأول من كتاب (زاد المسير في علم التفسير) لابن الجوزي ، يدخل عالمه الصغير في احتفاليّة صامتة ، لكن أطياف الفرح الطفولي تملأ المكان .. ليس مهماً إن كان الاذن بالكتاب تقديراً ، أو تحفيزاً على مواصلة الحديث ، المهم أنه يمنحه رؤية طويلة المدى ، وإيماناً لا يشوبه تردد ، ويذكره بقول أرسطو : " التعليم زينة في الرخاء ، وملاذ عند المحن " .
حين بدأ يقرأ .. صار يحسّ بطعم الحروف في فمه؛ فهي مهمة كبيرة أن تمارس شغلاً علمياً في أقصى حالات التركيز العقلية ، وأشدها صفاءً من العلائق .. على أن ذلك بدا سلوةً في الخلوة .. وأنيساً في الجلوة .
السماء تمطر أحياناً كتباً ، والمجلدات تتوالى واحداً بعد آخر ، حتى تكتمل المجلدات التسعة بالتناوب .. يقرأ فيه :


الله يعلم أَنَّا فِي تلفُّتنا *** يوم الوداع إِلَى جيراننا صُوْرُ



وأنَّني حَيْثُمَا يلوي الهوى بَصري ***من حَيْثُمَا سلكوا أدنو فَأَنْظورُ

أبيات لا يعكر صفوها إلا هذا " الإشباع " في " أَنْظورُ (1)
الذي وافى على حين مجاعة ..! ليست في نظره من غُرر الشعر , ولكن حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ؛ فليس لك أن تبالغ في الانتقاء!
بلا وعي أصبح يتغنى بهذه الأبيات ..ويقف عند كلماتها .. الوداع.., التلفّت.., الجيران..,الهوى .. ويتذكر قول الشريف:


وَتَلَفَّتَت عَيني فَمُذ خَفِيَت عَنها الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ

في مواقف كهذه؛ يعود الناس إلى طبيعتهم ، يفرحون كما الأطفال بالأشياء الصغيرة ، ويتعاملون معها باهتمام ، ويحزنون للأشياء الصغيرة أيضاً , ويتقاتلون عليها إن اقتضى الأمر !
هو يستمع إلى جاره يصيح, مطالباً بكوب آخر من الشاي حتى يعيى ، ولكن هيهات ، فكل شيء هنا بحسبان !.
وحين يجتمع العديد في مكانٍ واحد تبدو الأثرة أحياناً على أشياء لا تستحق ، لولا أنها الطبيعة البشرية تأبى إلا أن تفصح عن ذاتها ، ولو من بعض الناس ، وفي بعض الوقت .. فالطفولة البشرية تكرّ على الكبار وتفضح ذواتهم .
عليك أن تتذكر أن من سبب لك مشكلة؛ فقد يكون ثمت شخص آخر سبب له مشكلة أيضا..
" نَفْح الطِّيب من غُصن الأندلس الرَّطِيب, وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب " للمقّري ؛ من عيون المؤلفات الأندلسية وهو قسمان: الأول في وصف الأندلس وأعلامها والخلافة الأموية فيها, والثاني خصصه لابن الخطيب الوزير وحياته"
هو الأنيس الثاني له ، وكأن " المقّري " الأندلسي أصبح محشوراً معه في معتكفه .
نسخة مهلهلة ، كأنها تقول لصاحبها دعني ، أكل الدهر (وربما السجين) عليها ، وشرب .. ونام !
يقرأ منسجماً مع رواية منحها كل اهتمامه؛ فيجد ارتباكاً في السّياق ، ليكتشف أن نزيلاً ما ، مَزّق أوراقاً هنا ، وأوراقاً هناك ، أتراه كان محتسباً لم تتحمل ذمتُه في عزلته أن يطلع غيره على مقاطع بذيئةٍ ، أو استطرادات غزلية فاضحة ، خاصة في ظل الحرمان والعزلة والبعد عن الأنيس ، أم هو احتاج إلى الورق يكتب عليه رسالة تتسلل إلى صديق أو زائر .. حين يكون النزيل أسير لحظته باحثاً عن ورقة ليكتب في أسفلها قصيدة متسربة أو بقايا إهداء عاجل .
هذا ليس مهماً ؛ فهو كالبحار لا يشتكي الريح أبداً ، بل يرفع أشرعته بما يتناسب معها .. ، يكفي ما بقي من الكتاب للمتعة والفائدة .
ها هو يعيد قراءة الكتاب ، ويقف عند مواعظه في مصارع الغابرين ، فتدمع عينه ، ويتحفظ أشعاره في المدائح النبوية المتضمنة لأسماء السور القرآنية :
في كل " فاتحة " للقول معتبرهْ حق الثناء على المبعوث بـ " البقرْة "
في " آل عمران " قِدْماً شاع مبعثه رجالهم و" النساء " استوضحوا خَبَرَهْ
من مدّ للناس من نعماه " مائدةً " عمت؛ فليست على " الأنعام " مقتصرهْ٠٠٠
حين لا يكون لديك الكثير من الأشياء ، فليس عليك أن تبالغ في الانتقاء!
هكذا يردد مرة أخرى, في وجه وسوسةٍ نقدية, تستهدف تلك القصائد ، وما تنطوي عليه من تكلّف .
على أن هذا التوظيف وافى قلباً متعطشاً لحب محمد -صلى الله عليه وسلم- ، ونفساً مستشعرة رحمته ورأفته ، ودعاءً يتلمس مواطن الإجابة ، ويتوسل بالأسماء الحسنى ، ودعوات الضرورات ، وبالكلمات التي دعا بها عليه السلام في مواقفه كلها ، ويحيل على سؤاله يوم العرض حين يحمد ربه بمحامد لم يكن يعلمها من قبل ، فيقال له : ارفع رأسك ، وقل يُسمع ، وسل تُعطه ، واشفع تُشفع .
حين تكون طليقاً تمر بأشياء مهمة دون توقف ، وحين يعتقلك المرض أو القيد؛ تبدأ في تذوق قيمة تلك الأشياء من حولك, والغوص في معانيها .. ، تذكر هذا وهو يقارن ذلك المجلد في غرفته لا يزيد ، بمكتبته الحافلة التي أصبحت تعاني ما يعاني !
تلك المجلدات .. في الرفوف العليا من المكتبة الحافلة , كانت تغازلك بكل دلال ، كانت تقرأك قبل أن تقرأها ، وتمد يدها إليك قبل أن تفعل أنت ، ومع أن الكتاب واحد إلا أن إنسان الحرية يعرف من نفسه السعة والفسحة ، وإنسان القيد يعرف الحرمان والضيق .
إنسان الحرية .. ينشغل عن مكتبته ، وقد يتوسد الأحافير التي يجريها ليبحث عن كتاب فيما تقع عليه يده , غير أن إنسان القيد يتوسد مجلده ، ويتلمس كعب ذلك المجلد ويقلّبه تقليب الخبير .
هما حالان : امتداد أفقي يسمح بالتعاطي مع الأشياء بكميتها ، بكل سعة في المكان ، غير أنه يضيق في الزمان , وآخر رأسي يحيل على الكيف ..ويتدرب كيف يستمتع بالأشياء الممنوحة ولو قلت.
والإنسان في كل حالتيه هو هو .. غير أن الزمان والمكان يصنعانه شيئاً .. مختلف اللون والطعم والرائحة!