تسجيل الدخول

مشاهدة النسخة كاملة : في سجن النقب.. عندما احتضن أبي حفيدته



روعة
14-06-2009, 02:44 PM
في سجن النقب.. عندما احتضن أبي حفيدته

لبابة ذوقان


http://www.islamonline.net/servlet/Satellite?blobcol=urldata&blobheader=image%2Fjpeg&blobkey=id&blobtable=MungoBlobs&blobwhere=1244955735889&ssbinary=true


الكل كان بانتظار سيما.. فهي الآن تحمل رائحة أبي عقارب الساعة تشير إلى منتصف الليل.. أحاول أن أسترق بعض ساعات النوم قبل أن يحين موعد الانطلاق.. فأمامنا في الغد يوم شاق.. أستغل بعض اللحظات قبل أن أغفو.. لأتخيل مشهد اللقاء بأبي.. فهذه المرة التي سأراه بها ستكون الثانية خلال عام ونصف وهو في أسره.. أما أمي فجلست ترتب ملابس أبي التي سنأخذها له.. وتضع لنا الطعام والماء في حقيبة السفر.. ولم تنس طبعا أن تضع بعض العطر على ملابس الحبيب الغائب.. علّ رائحة عطرها تؤنس وحدته قليلا.. وتخفف عنه آلام الشوق.

يا رب.. هل ستكون الزيارة كما نتمنى.. هل ستكون الطريق إلى سجن النقب الصحراوي بعيدة ومرهقة كما أتخيلها.. كيف سيكون شكل أبي بعد هذه المدة.. كيف سيكون لقاؤه الثاني بابنتي "سيما" التي جاءت إلى الدنيا وهو في الأسر.. هل سيسمح لنا بالمرور عن الحواجز والمعابر التي بانتظارنا.. وهل.. وهل.. وهل..؟؟ أسئلة تجولت في خاطري قبل لحظات النوم العميق الذي رحت فيه.


صحراء قاحلةوفي تمام الرابعة والنصف فجرا.. دقت ساعة المنبه.. استيقظت فورا.. صليت الفجر ودعوت الله أن ييسر لنا مشوارنا.. وأيقظت رفيقة دربي في الرحلة إلى سجن النقب.. أختي آلاء "21 عاما".. وطفلتي سيما "7 شهور".. وانطلقنا إلى مجمع الباصات التي ستقلنا في رحلتنا الطويلة.

الشمس ترسم خيوطها الأولى خلف الجبال.. ونسمات الهواء الباردة تلفح وجوهنا.. بينما تدس "سيما" رأسها في حضني.. علّها تستطيع النوم.. تجمع الأهالي.. والشوق لأبنائهم وأحبتهم في الأسر يغلب النعاس الذي كان يبدو على وجوههم.. انتظرنا الحافلة ساعة كاملة حتى جاءت.. وانطلقنا في تمام الساعة السادسة..

كل من في الحافلة غلبه النعاس.. والهدوء حولنا يتخلله صوت المذياع الذي يبث الآيات القرآنية.. وطبعا صوت "سيما" التي أخذت تلعب في حضن خالتها "آلاء" دون أن تعي أن هناك حولها كبارا نائمين..!

بعد أن بسطت الشمس أشعتها في السماء.. وأنارت نهارنا الجديد، وصلنا إلى معبر الطيبة.. وآه من معبر الطيبة، حواجز حديدية امتدت عشرات الأمتار.. يمر الناس من خلالها.. إلى أن يصلوا إلى نقطة التفتيش والتدقيق في التصاريح والبطاقات الشخصية.. ومن لم يكن الحظ حليفه.. فبكلمة واحدة من جندي لم يتجاوز العشرين عاما يُمنع من العبور.. ويعود أدراجه.

وهناك تم نصب آلة تفتيش إشعاعية.. يقف المرء داخلها ويضع قدميه متباعدتين على نقاط محددة ويرفع يديه، لتلتقط له الآلة صورة لكامل جسمه.. للتأكد من عدم حمله آلة حادة أو مواد متفجرة أو ما شابه.. وبعد ساعة من الزمن على معبر الطيبة.. انتقلنا إلى حافلة أخرى.. هي التي ستقلنا إلى النقب مباشرة.. في أقصى جنوب فلسطين.

قيل لنا من قبل إن الطريق صحراوية.. وإنها بعيدة.. لكني لم أتصور أنها ستكون متعبة إلى هذا الحد.. جلسنا في مقعدنا أنا وأختي وطفلتي الصغيرة التي غلبها النعاس وراحت في نوم عميق.

شارع طوييييييل..! كالذي نراه في ألعاب الكمبيوتر في سباق السيارات.. لا نهاية له، وحتى لا التواء لتغيير الاتجاه.. مستقيم بشكل ممل.. حتى أن أختي قالت لي ممازحة: "يمكن من سنة الـ48 أول الاحتلال واليهود يؤسسون ويعبدون هذا الشارع إلى الآن..!".

صحراء قاحلة.. لكن في كل مكان فيها وضع اليهود لهم بصمة.. فتمديدات الكهرباء والكوابل وبعض المستعمرات الإسرائيلية ترامت في الصحراء، وكأنهم يقولون لنا أنتم زائرون ونحن أصحاب الأرض.. حتى لو كانت صحراء قاحلة وأرضٌ يَباس.


الوصول..
مساحة واسعة جدا في عمق الصحراء.. لا شيء حولها.. خيام المعتقلين وغرفهم التي لم نرها تحيط بها أسوار رمادية وأسلاك شائكة وأبراج مراقبة.. لا شيء أخضر يدل على الحياة.. مشهد يجمع الرمال والأسلاك والخيام وأسوار السجن الرمادية التي تبعث اليأس في النفوس.. هي اللوحة التي تعبر عن شكل سجن النقب الذي وصلنا إليه بعد خمس ساعات في الطريق.

لا أدري.. هل أبكي لحال أبي والأسرى الذين يمضون سنوات عمرهم في خيم وفي صحراء قاحلة تحت سطوة الجنود.. أم أفرح لأننا وصلنا بعد ساعات السفر الطويلة لرؤية أبي الحبيب..؟

بعد أكثر من نصف ساعة سُمح لنا بالنزول من الحافلات إلى السجن.. وما إن خطت أقدامنا ساحة الانتظار.. حتى ترامى الناس على المقاعد يستريحون من عبء السفر.. حتى سيما.. وباقي الأطفال الذين جاءوا لزيارة آبائهم.. غادرتهم الفرحة وبدا التعب عليهم.. وبعد ساعتين أخريين من الانتظار.. بدأ السماح للفوج الأول بالدخول إلى الزيارة.. أما نحن فكان نصيبنا في الفوج الثالث والأخير للزيارة.

وأثناء فترة الانتظار.. تمكنت آلاء من إدخال الملابس التي طلبها والدي إضافة إلى لحاف صيفي "غطاء" نحاول إدخاله له منذ اعتقاله، إلا أنه في كل مرة نمنع من إدخاله، لكن هذه المرة سمح لنا بإدخال كل شيء، باستثناء بعض الكتب.

"بدك تزوري سيدو"بعد مئات الكيلومترات قطعناها من مدينة نابلس في شمال الضفة الغربية، إلى النقب في أقصى جنوب فلسطين، جاء دورنا لتسليم التصاريح.. وهنا كانت الصدمة.. لقد منعوا طفلتي سيما من الدخول لزيارة جدها.. لم أستوعب الأمر في البداية، كان القرار صادما ومفاجئًا.. فما الخطر الذي تشكله ابنة الـ7 شهور إذا ما دخلت لزيارة جدها..؟!

جلست على المقعد أحاول أن أستجمع قوتي وألملم أفكاري.. ماذا أفعل.. لن أسمح لهم بمنع طفلتي من الدخول.. قرار اتخذته في قرارة نفسي.. اتصلت بأمي.. وبزوجي.. لأحاول أن أجد حلا.. فقامت أمي بالاتصال بالصليب الأحمر.. فهو المشرف على الزيارة.. وهو من أعطانا التصاريح.. لكنهم قالوا لها: "لا نستطيع فعل شيء الآن.. خللي البنت الصغيرة في ساحة الانتظار مع أي أحد من الزائرين وتدخل أمها لتزور"..

لم أستوعب الأمر.. لن أسمح لهم بمنع سيما من الزيارة.. فأبي ينتظر دخول حفيدته عنده ليلاعبها بين يديه.. فكيف سأدخل عنده وسيما ليست معي.. لا لن أسمح بذلك.. ولن أفكر بهذه الطريقة.

أطرافي ترتجف.. عيناي امتلأتا بالدموع التي أرفض أن تسيل أمام عدوي.. جلست أنا وآلاء ندعو الله.. نستغفر.. وأردد: "اللهم اكفناهم بما شئت وكيف شئت".. "اللهم يسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي".. "وجعلنا بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون"...

وفجأة.. تذكرنا أن الضابط نسي أن يستلم تصريحي عند التسجيل.. واستلم هويتي فقط.. وتصريحي مثبت أصلا مع تصريح ابنتي سيما.. فذهبت أنا وآلاء إلى النافذة التي يستلمون منها التصاريح.. وبكل هدوء مصطنع مني، قلت للضابط لقد نسيت أن تأخذ تصريحي وأخذت الهوية فقط.. وسلمته تصريحي وتصريح سيما مع بعض فأخذهما ووضعهما مع باقي التصاريح المسموح لها بالزيارة بكل بساطة..ّ!

حينها شعرنا بأننا سنطير من الفرح.. أخذنا نردد: الحمد لله الحمد لله.. أحسست حينها بمعية الله حقاً.. وأخذت بتقبيل حبيبتي سيما وأقول لها: "بدك تزوري سيدو.. بدك تزوري سيدو".. طبعا هي لم تفهم ماذا أقول..!!.

الحفيد ممنوع من الزيارة!جاءت ساعة الصفر.. ونُودِيَ على اسمي واسم آلاء طرنا إلى غرفة التفتيش.. وهناك تم منع سيما مرة أخرى من الزيارة.. بدعوى أن الحفيد ممنوع من زيارة جده.. فقط الأبناء والإخوة.. فكانت هذه صدمة أخرى لنا..

تذكرت كلام أمي وزوجي عندما قالوا لنا "خذوهم بالكلام الحلو" أي أن نتكلم معهم بلطف وبدون عناد.. وهذا شيء صعب جدا عليّ شخصيا.. فأنا أتوتر سريعا في هذه المواقف.. وأكون عصبية ويعلو صوتي وأتشاجر فورا مع من أمامي.. لكن لا حلّ أمامنا..

بدأت آلاء بالحديث بلطف مع الضابط، وتقول له بهدوء: "انظر لنا من ناحية إنسانية.. هذه بنت صغيرة وين بدنا نتركها لحالها ما بنعرف أي حدا من الزائرين في الخارج.. حرام جاي من نابلس للنقب بآخر الدنيا وما تسمحلها..!".

أما أنا بعد أن أخذت نفساً عميقا.. بدأت بالحديث بهدوء: "اتطلع عليها.. بيبي صغيرة 7 شهور.. مش حرام مصحينها من الساعة 4 الفجر.. وبالآخر ما تدخل.. أنت اسمحلنا هذه المرة وبوعدك مش راجعة على السجن تاني مرة ولا رح أجي أزور كمان.. بس دخّل سيما هاي المرة"..

عندها صمتَ دقيقة وكأنه تأثر لكلامنا فهو "درزي" يتقن العربية.. كما أن أحد الجنود الذي كان يجلس على ماكينة التفتيش تأثر لكلامي أنا وآلاء وجاء عند الضابط يطلب منه السماح لنا بالدخول.. وبعد أن أجرى الضابط اتصالا هاتفيا.. سمح لسيما أخيرا بالزيارة.. وطبعا هي لا تدري ما الذي يدور حولها.. ولم تشعر "بحرقة الدم" التي كنا فيها.. بل كانت تضحك وتلعب بين يدي.

كم صرت نحيلاً يا أبيفُتِحَت الأبواب.. وتدافع الأهالي للدخول إلى قاعة الزيارة.. الكل يركض متلهفا لرؤية أحبته، أما الأسرى فقد اصطفوا على النوافذ.. رأيت أبي من بعيد.. خلف الزجاج.. ركضنا باتجاهه لوّح لنا بيده.. كم تمنيت أن يذوب الزجاج الذي بيننا لأرتمي بحضنه.. وأخبره كم اشتقت إليه.. وكم أتمنى أن أقبِّل يديه وقدميه.

أمسكنا بسماعات الهاتف التي نتواصل بها مع أبي الذي يجلس خلف الزجاج أمامنا.. لكن الوقت لم يبدأ ولم تكن السماعات تعمل.. تكلمنا بلغة الإشارات في تلك الدقائق.. ووضعنا أيدينا على الزجاج لنصافح أبي الحبيب.. كم تغيرتَ يا أبي.. جسدك أصبح نحيلا جدا.

وببطء شديد مرت الدقائق، إلى أن دقت الساعة 3.45 وبدأت الزيارة، وبدأت أصوات الزائرين تعلو وهم يتحدثون عبر سماعات الهاتف.. نحن وأبي نتبادل الأسئلة: "كيف حالك بابا إن شاء الله بخير.. اشتقنالك.. ضعفان كتير.. بس راجع عشرين سنة لورا "شبوبية".. وأبي يقول والابتسامة ترتسم على وجهه: "كيفكم شو أخباركم؟ الحمد لله على سلامتكم.. الطريق طويلة.. يعطيكم العافية".. وتوالى الحديث السريع.. فمدة الزيارة 45 دقيقة فقط ويُقطع الخط في الهاتف فجأة بعدها.

عيون أبي اغرورقت بدمعات الشوق واللهفة علينا جميعا.. تتالت أسئلته عن أخوتي الصغار وعن دراستهم وكل شيء يخصهم..عن والدتي.. عن حفيده الأول "مصعب".. لقد كان قلقا جدا على كل واحد منا.. أوصانا بأن نذهب إلى جدتي "والدته".. ونقبل يديها عوضا عنه.. ونبلغها سلامه.

أثناء حديثه قال لنا: "وأنتم في طريقكم إلى هنا مررتم من جانب بيارات برتقال قرب مدينة اللد.. هذه البيارات لنا.. لجدكم رحمه الله.. هذه لنا ملكنا التي هُجِّرَ منها جدكم، كم كانت كلماته هذه مؤثرة، سنعود لك يا أرضنا حتما مهما طال الظلم والاحتلال إن شاء الله..

حرمونا حتى وداعهم!
وخلال الزيارة سُمِح للأطفال بالدخول عند الأسرى بالداخل.. احتضن الآباء أبناءهم.. في مشهد تقشعر له الأبدان.. يقبلوهم ويلاعبوهم.. لكن مرة أخرى لم يسمحوا لسيما بالدخول.. لكن والدي تكلم مع أحد الجنود أو ما يطلق عليه اسم "سُهير" بالعبرية، وهو يتواجد كثيرا في القسم الذي يوجد فيه والدي.. فسمح له بإدخال سيما عنده.. وما أن عانق أبي سيما حتى سالت الدموع من عيوني.. لا أصدق ما أراه.. أبي يحمل ابنتي.. يا الله.. الحمد لله.. وسجدت شكرا له سبحانه.

وفي مشهد لن أنساه أبدا.. عند انتهاء وقت الأطفال في الداخل ذهبت لآخذ سيما من والدي عند الباب.. لكن الجندي لا يسمح طبعا بأن ألمس أبي، لكني وبكل قوتي وأبي كذلك استرقنا جزءا من الثانية عندما حمل الجندي سيما لآخذها وصافحت أبي.. يا لها من لحظات.

وفي مشهد آخر تكاد القلوب تتفطر ألما عليه.. جاءت إحدى الأمهات إلى الباب الذي يدخل منه الأطفال عند الأسرى حيث وقف ابنها الأسير في الجهة المقابلة من الباب.. وعندما فتح الشرطي الباب لإخراج الأطفال مدّ الأسير يده وصافح أمه بصعوبة.. حينها أمسكت الأم بيد ابنها بقوة.. وبدأ صراخ الجنود في محاولة لفك يد الأم وابنها.. وهي تتوسل إليهم وتقول: "أبوسه بس أبوسه آخذه بحضني.. من شان الله خليني أبوسه".. لكن الجنود تمكنوا من التفريق بينهما وإغلاق الباب مجددا.. حينها كنت أقف وراء هذه الأم مباشرة وأدعو الله أن يحرم كل جندي من هؤلاء من ابنه ويذوق ما ذاقته هذه الأم من ألم وفراق لفلذة كبدها.

وفي غمرة الحديث والضحكات والأسئلة المتبادلة بيننا.. قطع الصوت من سماعات الهاتف وقطع صوت أبي وجميع الأسرى.. وانتهت الزيارة.. طيَّرنا لأبي قُبَلاً حارة من خلف الزجاج.. وودعناه والشوق يحرقنا.. والدموع تحتبس بعيوننا.. إمّا فرحا للقائه.. أو حزنا على فراقه من مجددا.. أو كلاهما معا.

وفي الثامنة مساء.. وصلنا منهكين إلى البيت.. لنروي تفاصيل رحلتنا لأمي الحبيبة والجميع.. حيث كانوا بانتظارنا على أحر من الجمر.. وبانتظار سيما طبعا.. فأبي حملها وقبّلها.. فهي الآن تحمل رائحة أبي الحبيب.

كم اشتقت إليك يا أبي.. وكم اشتقنا لجلوسك بيننا.. ودخولك إلى المنزل آخر النهار.. كم هي جميلة الساعات التي كنت تقضيها مع إخوتي الصغار.. تلاعبهم وتمرح معهم.. يا رب.. أعد إلينا الفرحة بخروج والدي.. وكل الأسرى.



--------------------------------------------------------------------------------

مراسلة صحفية لإسلام أون لاين.نت من مكتب النجاح بالضفة الغربية بفلسطين.