المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : عمر ........ / د. سلمان العودة



نور
17-06-2009, 02:25 PM
أخي أبا عمر! لا أجد خيراً من تعزية رسول الله صلى الله عليه وسلم لبنته في ابنها , لِما فيها من العمق والوضوح والإيجاز :( إِنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ)
ولا أراك كنت تطمع لولدك وفقيدك، بمنزلة فوق الشهادة, وقد نالها بحمد الله وفضله, على هيئة لا اعتساف فيها ولا تغرير؛ فعوضه ربه منك, ما أرجو أن يعوضك منه.
ثم إنه رحل طاهر الجيب صافياً كماء السماء ،لم يقارف ولم يتلطخ بشي من الدنيا
ثوى طاهر الأثواب لم تبق روضة **** غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر

وكم من أب كان يؤمل ويرجو فلما كبر ولده أخلفوه وعقّوه فتمنى رحيلهم وتجرع منهم العلقم؛ أما فتاك فرحل, ولا تذكر منه إلا كل جميل ولعل ذلك ماجعلك تجد حرارة الفقد ولوعة الثكل:

فقلت لعبد الله إذا حن باكيا **** حزيناً وماء العين منهمر يجري
تبين فإن كان البكا رد هالكا **** على أحد فاجهد بكاك على عمرو
ولاتبك ميتاً بعد ميت أجنه **** علي و عباس و آل أبو بكر

على أن الله لا يؤاخذ بدمع العين, ولا بحزن القلب, ولكن يؤاخذ باللسان أو يرحم , وربما كان في دمعة عابرة في خلوة ما يخفف كظيم الحزن ، غير أني وجدت فقد فلذة كبدي "عبدالرحمن" بعيدا عن المعزّين ولم أظفر برؤية وجهه البريء, ولا جسده الطاهر المسجى, ولا حظيت بالصلاة عليه.
تمنيت لو تغني الأماني نظرة **** إلى جسد ذاو يغرغر في البهر
تمنيت حتى وقفة عند نعشه **** تَرُدُ إلى نفسي الذي ضاع من صبري
تمنيت ما نالت ألوف توجهت **** إلـى ربـها صلت عليك مع العصر
تمنيت كفاً من تراب أسنها **** عـلـى قبرك الميمون طيب من قبرِ


ولا أكتمك أني أجد للأولاد ذكورهم وإناثهم تعلقا غريبا في قلبي وأقول:
هل كل الناس مثلي , وللصغير فوق الحب عاطفة الرحمة والحنان, وما أذكر أني ذرفت دمعة, وربما كان الحزن أكبر, ولكني كنت أتصبّر؛ فصبّرني الله, وأطلب العوض؛ فعوضني الله بعده بسبعة من الولد؛ فله الحمد على ما أخذ وله الحمد على ما أعطى..
وكنت أتذكر أن لأبي الحسن التهامي شجناً شعرياً كشجننا أوحى به لنفسه فقال :

إِنّـي وُتِـرتُ بِصارِمٍ ذي رَونَق **** أَعـددتـهُ لِـطِـلابَـةِ الأَوتارِ
وَالنَفسُ إِن رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت **** مُـنـقـادة بِـأَزمَّـة الأَقدارِ
يـا كَـوكَباً ما كانَ أَقصَرَ عُمرَهُ **** وَكَـذاكَ عُمرُ كَواكِبِ الأَسحارِ
وَهـلال أَيّـامٍ مَضى لَم يَستَدِر **** بَـدراً وَلَـم يمهل لِوَقت سِرارِ
عَـجِلَ الخُسوف عَلَيهِ قَبلَ أَوانِه **** فَـمَـحـاهُ قَـبلَ مَظَنَّة الإِبدارِ
واسـتَـلَّ مِـن أَتـرابِهِ وَلِداتِه **** كَـالـمُـقلَةِ استَلَت مِنَ الأَشفارِ
فَـكَـأَنَّ قَـلـبـي قبره وَكَأَنَّه **** فـي طَـيِّـهِ سِـرٌّ مِنَ الأَسرارِ
إِنَّ الـكَـواكِبِ في عُلُوِّ مَكانِها **** لَـتُـرى صِغاراً وَهيَ غَيرُ صِغارِ

وبالأمس كنت أقف عند قوله تعالي (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن/11]
فذكرت قول علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وقول ابن عباس: أن يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه, وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وقرأ أبو بكر الصديق: يُهدَ قلبُه, بفتح الدال وضم الباء, أي: يهدأ قلبه ويسكن بعد عصف المصيبة.
ونحن نجد من أنفسنا عزاءً في الفاقدين والمكلومين والمصابين..، وحينما فقد الأديب أحمد الزيات ولده الوحيد "رجاء" ذي الأربع سنوات, بسبب مرض "الدفتيريا" ألمّ به فقضى نحبه, كتب الزيات قطعة نثرية باكية تذوب حروفها أنيناً , فكان مما قال:
" هذا ولدي كما ترى ، رُزِقته على حالٍ عابسةٍ كاليأس ، وكهولة بائسة كالهرم ، وحياة باردة كالموت، فأشرق في نفسي إشراق الأمل، وأورق في عودي إيراق الربيع، وولّد في حياتي العقيمة معاني الجدّة والاستمرار والخلود!
فهو صغيراً أنا، وأنا كبيراً هو؛ يأكل فأشبع، ويشرب فأرتوي، وينام فأستريح، ويحلم فتسبح روحي وروحه في إشراق سماوي من الغبطة لا يوصف ولا يحدّ.
ذلك كلّه انعكاس حياة على حياة ، وتدفق روح في روح ، وتأثير ولد في والد!
ثم انقضت تلك السنون الأربع!فطوّحت الواحة وأوحش القفر ، وانطفأت الومضة وأغطش الليل ، وتبدد الحلم وتجهّم الواقع ، وأخفق الطب ومات رجاء!!
يا جبّار السموات والأرض رُحماك!!
أفي مثل خفقة الوسنان تبدّل الدنيا غير الدنيا ، فيعود النعيم شقاء ، والملأ خلاء ، والأمل ذكرى؟!
أفي مثل تحية العجلان يصمت الروض الغرد ، ويسكن البيت اللاعب ، ويقبح الوجود الجميل؟!
حنانيك يا لطيف!
ما هذا اللهيب الغريب الذي يهب على غشاء الصدر ومراق البطن ,فيرمض الحشا, ويذيب لفائف القلب؟
والهف نفسي عليه يوم تسلل إليه الحِمام الراصد في وعكة.
لقد عبث الداء الوبيل بجسمه النضر, كما تعبث الريح السموم بالزهرة الغضّة!
ولكن ذكاءه وجماله ولطفه ما برحت قوية ناصعة ، تصارع العدم بحيوية الطفولة!
والهف نفسي عليه ساعة أخذته غصة الموت ، وأدركته شهقة الروح ، فصاح بملء فمه الجميل ( بابا.. بابا) كأنما ظنّ أباه يدفع عنه ما لا يدفع عن نفسه!
لنا الله من قبلك ومن بعدك يا رجاء. وللذين تطولوا بالمواساة فيك السلامة والبقاء" أ.هـ.
فهذه حالنا وحال الدنيا.. أخذت الزيات ذات يوم كما أخذت ابنه من قبل غير أن الأجل أخّر لهذا وعجّل لذاك..، (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ) ، والحمام الراصد خاتمة كل قصة مهما اختلف أبطالها وتعددت أحداثها ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ومن العجب أن العرب قبل الإسلام -وهم لا يرجون ثواباً ولا يخشون عقاباً – كانوا يتحاضّون على الصبر، ويعرفون فضله، ويعيّرون بالجزع أهله، إيثاراً للحزم وتزيناً بالحلم، وطلباً للمروءة، وفراراً من الاستكانة إلى حسن العزاء، حتى إن كان الرجل منهم ليفقد حميمه فلا يعرف ذلك فيه. ويصدّق ذلك ما جاء في أشعارهم، ونثر أخبارهم.
قال بعض السلف : إن كلّ شيء يبدو صغيراً ثم يكبر إلا المصيبة، فإنها تبدو كبيرة ثم تصغر.
فانتهز عظم الثواب لها عند أوّل كبرها قبل صغرها, والحمد لله الذي أعزه بوقوفك على قبره ولم يذله بخلافه.
يا صاحبي.. أمر الله نافذ وحكمه العام جار على سنة كتبها قبل أن يخلق الخلائق، ولكن خير الناس من كان أوسعهم حكمة وأكثرهم رضى، وتسليماً لقضاء الله.. وقد شعرت أن المصيبة هذه المرة في العمق , وذهبت بفكري أتفقد أبنائي مرة بعد مرة فاللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها واربط على قلوبنا يا أرحم الراحمين.
اللهم مهما استبد بنا الحزن، فإنا نسألك أن لا تجعلنا ساخطين ولا جزعين.. ، واهدنا لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم حين قال : "إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا".