المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : حصار الأسئلة / د. سلمان العودة



نور
01-07-2009, 12:27 PM
تتردد في حناياه كلمة الشيرازي : " كُن كشجرة الصندل؛ تعطّر الفأس التي تقطعها ".
يحاول أن يخاطب نفسه أن عليه التعامل مع كل موقف مثير، كما لو أنّ أناساً يرونه من حيث لا يراهم أو أن " كاميرا خفية " ترصده، ويريد أن يسجّل إزاءه درساً في الصبر والحلم والتفوّق، فكان صديق نفسه حين تَصَالَح معها، وصار يسمع همسها البعيد بكل إصغاء، يردد صداها بكل أمانة.
ومرّة بعد مرّة يفشل في ضبط النفس، ويستسلم لردّة الفعل، يا لهذا الطبع السيئ, الذي يأخذ بتلابيبنا دون أن ننفك منه، لا بأس، علينا أن نحاول، وألا نزيد الطين بلّة باعتقاد أنه لا فائدة..
يحدوه هذا الشعور الجميل، وهو يردد " (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) (العنكبوت:69).
حين تنظر في عينيه، ترى مساحات تمتد ملء فكره وفؤاده، وقد أزالت كل حواجز الزمن، تحمل ألواناً كألوان قوس الرحمة!
لم يكن فيها مجرد سائح أو مشاهد، إنه جزء من المشهد، بل هو أساسه، هو –هنا- المشاهد الوحيد وصانع الحدث (الخصم والحكم) –بحسب تعبير المتنبي-.
الأفكار تتقافز في عقله الحالم، والحوارات الصاخبة والهادئة تدور في ذهنه، ومن بين أوتار الحلم يأتيه صوت يخترق المسافة :
" وددت أن هذه الطاولة ليست بيني وبينك!".
انتزعته الكلمات من خياله السارح إلى واقعه المرّ، جال بعينيه متفرّساً من جديد في مصدر الكلمات المشوبة بالإنسانية.
ابتسامة حزينة على ذلك الوجه الأسمر الذي لوحته الشمس، تلك هي العلامة التي منحته الجواب!
حدّثَ نفسه أنه يجب أن نبحث عن جانب الطيبة في الناس، وليس عن جانب الخبث، كما قال تولستوي.
وسنجدها إذا أردنا, وكنا نحن طيبين أيضاً.
هكذا هي المحن، لا تصنع الأشخاص، بل تكشف عن قيمهم، ومعادنهم الكامنة في قاع ذواتهم.
من المحن أن تجد نفسك في الطرف الآخر في مواجهة شخص، والحقيقة أنكما في صف واحد.
أعاد المحقق العبارة؛ ليستيقن أنها وصلت إلى حيث يريد.
قد كان الشاب أفلح في استنطاقه أوّل مرّة، بكلماته الشفافة، وشخصيته السهلة المباشرة، وظل يستدعيه أحياناً بدوافع إنسانية.. الآن في حنجرته معلومة من نوع جديد.
تَمرّ المعلومة بسلام، ولا مفاجأة؛ فهو يدري ما القصة، وإذا كان السائل مُحرَجاً من السؤال، فهو لم يجد ذلك الحرج في الإجابة، لقد أعدّ للأمر عدّته.. هل هي الرؤيا؟ أم الحدس؟ أم "رجال الله " كما كانوا يستطرفون في تسميتهم؟!
كان هادئ الأعصاب، والهدوء خير كله، لم يظهر عليه ارتباك، أسوأ ما تلقاه هنا أن تكون في مواجهة سؤال لم يخطر على بالك، وشركاؤك فيه أبعد ما يكونون عنك.
يعود أدراجه إلى غرفته المحكمة، والجوع يلوي أمعاءه، ويمدّ يده إلى صينية الأرز الذي تلوّت حباته من فرط برودته؛ ليلتهمه بغير استعجال، فليس هنا شيء يفوت!
المغص يهجم على قلبه، فالقصّة لم تنته بعدُ، والسؤال نفسه يكرر مرات ومرات، وقد يقول غيرك شيئاً مختلفاً عما تقوله أنت، فلا زال باب التوقعات والاحتمالات مفتوحاً إذاً!
نوع من الحزن لم يكن يعرفه من قبل، لكن ما الحيلة؟!
ما لا سبيل إلى تغييره عليك أن تتكيف معه، وعليك أن تصنع من سهام الألم سلالم الأمل:


و إذا ما أظل رأسك هم *** قصر البحث فيه كيلا يطولا
علي عزت بيغوفتش يقول :
" لا تقتل البعوض، وإنما جفف المستنقعات! ".
هو كان يتلقّن دروساً للمستقبل، دروساً محفورة في أعماقه، ينقذه صوت ينبعث من غرفة مجاورة، شاب في مصيدة، سمعه أمس يقنت في المغرب ويطيل، ها هو يسمع الصوت ذاته بنبرته المفعمة بالحزن؛ يتغنى :


إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصدر الرحيب
و أوطنت المكاره و اطمأنت *** و أرست في أماكنها الخطوب
ولم تر لانكشاف الضر وجهاً *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث *** يمن به اللطيف المستجيب
وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها فرج قريب

يشفق عليه، فالصوت يعبّر عن معاناة، والناس في تعاملهم مع الألم ألوان شتى، ليس كل أحد يمتلك الدواء السحري، وهو لا يستطيع أن يكون موضوعياً محايداً ؛ لأنه يرى ألم ذاك الشاب مرتبطاً به شخصياً ؛ كما هو مرتبط بالشاب ذاته.
ما دام جزءاً من المشكلة؛ فعليه أن يكون جزءاً من الحل، ومن تولى قارّها يتولى حارّها!
ينادي الشاب سائلاً عن اسمه، فيسمع الجواب، ثم يرتد عليه السؤال ذاته :
من تكون؟
يخبره، فيستنكر الجار، ثم يصدّق بصعوبة :
صوتك فعلاً يدل عليك، لكن الشائعات تقول إنك في فلّة فاخرة، ولست هنا، الشائعات يا صديقي أسرع من الضوء، وأخفّ من العهن المنفوش, وأكذب من مسيلمة.
يقطع المحادثة صوت ينادي بأن الغرفة تحتاج إلى تنظيف، أسلوب ملطف لقطع الحديث.
إلى الغرفة في جوار " الحلاق " حيث يجلس منتظراً، يتفحص الأشياء من حوله بدقّة، يندهش لقطعة من جريدة تقع عليها عينه لأول مرة، يختطفها بتردد..، يقرأ فلا يجد إلا الإعلانات، يقلبها فلا يجد إلا الإعلانات، يستكمل عملية الفحص للسقف، للأرض، للجدران، للباب في ذلك الظرف المحدود، كل شيء محل بحث ومجال اكتشاف، وكل صغيرة هي كبيرة قوم آخرين، في ركن من الغرفة يقرأ بخط صغير رسالة موجهة إليه، يا للمفاجأة!


كل القبائل تابعوك على الذي *** تدعو إليه و أيدوك وساروا
حتى إذا حمي الوغى و تركتهم *** نصب الأسنة أسلموك وطاروا
إن يسجنوك فإن سجنك لم يكن *** عار عليك ، ورب قتل عار


يعيد القراءة، وكأنه يشعر بالعزاء، يتذوّق المعنى الجميل، دعم على غير انتظار، تنجلي الظلمة حينما يبتسم الفؤاد، وأجمل العزاء ما كان على غير ميعاد.
حين قرأ بعدُ كتاب " الأغاني " لأبي الفرج الأصفهاني، عثر على الأبيات ذاتها، وعرف أنها لشاعر يدعى " ثابت قطنة العتكي " قالها في يزيد بن المهلب لما انهزم عنه أصحابه وخذلوه!
هل كان يشعر بإحساس كهذا؟ قد يبدو غريباً أنه لم يكلف نفسه عناء السؤال أصلاً، فضلاً عن البحث في الإجابة، ربما كان يشيح بوجهه، ويتحاشى مجرد التفكير في الأمر، كان يتصرف بعفوية، ويضحك في أعماقه من التحليلات التي يقرؤها عن نفسه!
وجه جديد أمامه وراء الطاولة العريضة، شعر بغربة أول الأمر، هل يتراجع ويلوذ بالصمت؟ لا يبدو ذلك مناسباً، أو متفقاً مع قواعده وطرائقه، هو الآخر كان لبقاً، يحترمه، يسأله في الشرعيات، يتجنب التدخين أمامه، ويبدو بخلفية شرعية دراسية جيدة.
تذكر كلمة جون جراي : " عندما يكون معك أناس جدد ومختلفين، يظهر جزء جديد من شخصيتك "!
جولة أخرى من السؤال والجواب, يعود ذات مساء ليجد أوراقاً من جريدة " المسلمون "، ومقابلات تعصر قلبه، وَثَمّ كتب لم يطلبها.. يتصفح فيجد "معاملة الحكام في ضوء الإسلام " للدكتور عبد السلام البرجس -رحمه الله-، والذي عرفه بعدُ في جلسات الحوار الوطني، وسمع على لسانه ثناءً لم يتوقعه، وصحبه في سفر؛ فوجد روحاً جميلة، وشعر بدفء الصداقة، وعرف أنه إنسان يملك الاستعداد للتسامي وتجاوز الموقف العابر.
على مدى أربعة شهور، أنجز مخطوطة من خمسة دفاتر، تزيد على أربعمائة صفحة، وتغطي المساحة المنظورة من عمره، والمختصر المفيد في ثلاث صفحات يكتبها بخط يده في أربع عشرة فقرة، ثم يجد نفسه بالطاقية والغترة أمام الكاميرا لأول مرة!
سؤال يقلق كل من وقف هذا الموقف ؛ هل سيرى نفسه يوماً على الشاشة, هو لم يظن ذلك، فالجو أصبح أقرب إلى الاعتدال، والشهور الأربعة كانت كافية للتهدئة، والحقيقة دائماً تبدو أصغر من الأوهام التي تغلفها وتدور حولها، تذكّر كلمة علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- العلم قطرة كثّرها الجهّال.
حين تقف على المعلومات لن تجد نفسك مأخوذاً بالوشايات والظنون، وليس يجد فيما قال وكتب ما يدعو إلى التخوف.
على النقيض فإن الأيام تخبئ له مفاجأة جميلة لم يكن يتصورها، ولكن بعد عهد طويل، وليس الآن، وسيشاهد نفسه فعلاً، ولكن بحال أخرى.
ذروة المعاناة كانت بداية الانفراج نحو أفق أوسع من العطاء والإيجابية والبناء والمشاركة، والمآسي يمكن أن تكون أبواباً مشرعة للنضج والتغيير، واكتشاف الذات، بدلاً من الانشغال باكتشاف الآخرين.
العادة أن يتمّ توثيق الأوراق قضائياً، وهذا ما حدث للآخرين قبل أن يغادروا إلى أهليهم، أو إلى محكومياتهم، أما هو وثلاثة من زملائه الذين ارتبطت أسماؤهم إعلامياً، فلم يحدث هذا بشأنهم، وكأنّ هذا كان نوعاً من التكريم أو المعاملة الخاصة.
أياً يكن، هذا ما حدث: كان قدرهم أن يكونوا ثلاثةً لم تدوّن أسماؤهم قضائياً , وبقوا تحت حالة مختلفة, يقضي فيها أحدٌ آخر خارج المحكمة، وتبقى تلك الأسماء في رعاية مختلفة, لا يعرف أحدٌ نهايتها إلا مؤلف تلك الرواية وحده.
مؤلف الرواية هو الذي أدار الأحداث، وأراد أن يبقى هؤلاء في شخوص الرواية دون تدوين ليعرف كيف يكتب الفصل التالي {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} (29) سورة التكوير.




<TABLE dir=rtl style="BORDER-RIGHT: medium none; BORDER-TOP: medium none; BORDER-LEFT: medium none; BORDER-BOTTOM: medium none; BORDER-COLLAPSE: collapse" cellSpacing=0 cellPadding=0 border=0><TBODY><TR><TD style="PADDING-RIGHT: 5.4pt; PADDING-LEFT: 5.4pt; BORDER-LEFT-COLOR: #ece9d8; BORDER-BOTTOM-COLOR: #ece9d8; PADDING-BOTTOM: 0cm; BORDER-TOP-COLOR: #ece9d8; PADDING-TOP: 0cm; BACKGROUND-COLOR: transparent; BORDER-RIGHT-COLOR: #ece9d8" vAlign=top>سلمان العودة


الرياض ليلة الخميس 10/6/1430هـ



الساعة 12 ليلاً










</TD></TR></TBODY></TABLE>