حمّام الدوادار
عن جريدة البيان

دكتور عمر تدمري

يقع حمام الدوادار في محلة "قبوة" أو "قهوة الحتّة" بالحدادين، وتُعرف قديماً بسوق البياطرة.وبابه على يمين أول طلعة العوينات تحت جامع الطحّام.ويمتد جنوباً خلف محلات الحاج راشد الطبال، ومحل الحلاواني "منير العجان" وابنه علي الأخرس سابقاً. وفي مقابل الحمام على الطرف الغربي من الطريق كانت توجد مدرسة محمد مصطفى الحفار، وعلى جدارها سبيل ماء. ويشغل الحمام العقارين 429 و430 الحدادين. وهو من بناء الأمير صلاح الدين يوسف بن أسعد الدوادار الذي تقدّم ذكره في الحلقة (9) من هذه السلسلة عن الأمير طينال، وكان خرج مع عسكر طرابلس لقتالهم في سنة 744هـ مما يجعلنا نحدّد تاريخ بنائه للحمام بين هذين التاريخين في نيابة الأمير طينال.
والحمام معطّل منذ مدة طويلة، وقد أخذت الحوانيت الملاصقة له جوانبه وقاعته الكبرى، ويبدو ذلك في محل الحنون لبيع الفراريج المذبوحة. كما تحولت مدرسة الحفار التي أمامه إلى دكاكين لبيع الفواكه والخضار، وأزيل سبيل الماء منذ منتصف القرن الماضي.
واللافت أن المصادر التي تترجم للأمير الدوادار لا تأتي على ذكر حمّامه بطرابلس مطلقاً. وهو في الوثائق العثمانية، ودفتر العقارات الوقفية بدائرة أوقاف طرابلس، وكتاب "طرابلس في التاريخ" للشيخ محمد كامل البابا -رحمه الله- الذي كان لي شرف تحقيقه مع الأستاذ فضل المقدّم، رحمه الله، كما ذكره الرحالة الشيخ عبد الغني النابلسي في "التحفة النابلسية في الرحلة الطرابلسية" سنة 1112هـ/ 1700م.
وسُمي الحمّام بالدوادار نسبة لوظيفة صاحبه، وهي تسمية مركبة من لفظين، الأول: عربي، وهو الدواة أي المحبرة. والثاني: فارسي وهو دار بمعنى مُمسك. فيكون مُمسك الدواة للكتابة. وتسميه العامة: الدويدار!
وكان الأمير صلاح الدين الدوادار في مبدأ أمره نصف عامل في بيروت على ما قيل، ثم بطّل الكتابة وتحوّل إلى الجندية إلى أن صار دواداراً، ثم أميراً بحلب، وتولّى بها الحجوبية، ثم شدّ الدواوين، وطُلب إلى مصر مرات، وتولّى ثغر الاسكندرية سنة 724هـ/ 1324م. وبعد ذلك منفلوط بالصعيد، ثم عيّن شاداً للدواوين بالقاهرة، ثم عُزل وبقي أميراً في مصر، ثم جهّزه السلطان سفيراً إلى القان بوسعيد، ولما عاد أشيع أنه سيكون وزيراً، ولم يتحقق له ذلك، ثم عُين دواداراً، ثم كاتباً للسرّ وصحب السلطان الناصر محمد بن قلاوون إلى الحجاز سنة 732هـ/ 1332م.
ولما عاد استطال على الناس، فرأى السلطان أن يُخرجه كاشفاً للثغور الحلبية، فتمارض وانقطع في بيته إلى أن عُزل في شهر رمضان 733هـ وذهب إلى صفد أميراً، ثم نقل إلى طرابلس، ثم إلى حلب والياً للبَرّ، ثم أعيد إلى طرابلس، وتوفي سنة 745هـ/ 1344م ودُفن بها.
وكان يكتب خطاً حسناً، وله مشاركة كثيرة في تواريخ وتراجم الناس، وكان كافياً ناهضاً فيما يتولاه، خبيراً بما يغوّض اليه، إلا أنه كان مفرط الشح إلى الغاية، حتى قيل فيه:
لومات من عطشٍ والكُوثرُ في ديه
وكان ممتزجاً بالشَهد ما شَربا
إلا أنه -رحمه الله تعالى- وقف داره، وهي عظمى، بحلب مدرسة على فقهاء المذاهب الأربعة، ووقف كُتّاب أيتام بالمدينة المنورة. وكان عنده كتب عظيمة من كل فن، وكان إذا كان بطّالاً مثل الزلال الحلو البارد، فإذا وُلّي ولو حراسة الدرب مثلاً انسلخ من ذلك اللطف ولبس لمن يعرفه ولمن لا يعرفه جلد النمر، وتحدّث بحراسة الدرب في كل ما في الدولة من الوظائف.
قال له يوماً نائب حلب لما وُلّي الشد بعد بطالته: يا صلاح الدين ما في الدنيا مثلك إذا كنت بطّالاً!
ولهذا قيل: لم تكن تطول له مدة في ولايته.
وعن حمّامه بطرابلس يتندر الطرابلسيون المتقدمون في العمر بحادثة طريفة مفادها: ان فتاة حميلة دخلته وسط زفة حافلة من أهلها وصديقاتها استعداداً لزفافها إلى عريسها، وبعد أن أتمت اغتسالها وقامت والدتها بتزيينها وتطييبها بالرياحين وماء الورد، وسط الزغاريد والراقصات، إذ بالعروس تختفي فجأة، وكأن يداً خفية حملتها وسط ذلك الحشد من النساء، وتعالى الصراخ والصياح لافتقادها الغريب، ودبّ الهرج والمرج أرجاء الحمام، وأصبح كما يقول العامة: "مثل الحمام المقطوعة ميته"!! وما لبث الوجوم أن سيطر على الجميع بعد أن سرى الخبر.. لقد اختطفت العروس.. اختطفها الجني.. ولم تعد إلى أهلها وعريسها منذ ذلك اليوم، وراحت الفرحة على العريس المنكود!! وكانت هذه الحادثة شؤماً على الحمام وصاحبه، فكسدت حاله منذ ذلك الحين، وخشيت النساء على بناتها من الجان الذين يسكنون فيه! إلى أن اضطر صاحبه إلى إقفاله. ثم تحولت في منتصف القرن الماضي إلى مقهى بإدارة فؤاد الواوي رحمه الله، ثم أقفله بعد سنوات قليلة.
وقال الشيخ محمد كامل البابا ان الدوادار أوقف هذا الحمام مع عقارات أخرى منها دكاكين بسوق الخضر في الميناء، وشرط أن ينفق ريعها في إصلاح قناة الماء الآتي إلى الميناء.
وفي الوثائق العثمانية يظهر أن سليمان باشا مير لواء طره بلوس سابقاً تملّك الحمّام وكتب له وقفية بتاريخ 937هـ/ 1530م مع البستان المعروف بجنينة سنجقدار بظاهر طرابلس، تماماً. وبلغ مجموع العائد 6720 درهماً في السنة، ينفق على: التولية، والكتابة، وقنواتي الماء في الأسكلة، وقنواتي لماء الحمام، وخادم كوشك وباغجة (حديقة) وتلاوة القرآن الكريم في كل يوم جزء واحد والفاتحة وسورة الإخلاص، وتهدى القراءة لروح الواقف. وكان آخر متولي للوقف السيد عبد الستار علم الدين من أهل الميناء.
بقي أن نسأل: من المسؤول عن الحفاظ على هذا الحمام؟
(يتبع)