سم الله الرحمن الرحيم



أحببت أخوتي أن أنقل لكم المحاضرة التي ألقاها الدكتور مصطفى العلواني في جمعية العاديات في حماه في 22/2/2006







للوثائق العربية في العصر العثماني مكانة كبيرة وأهمية بالغة ، لما تحمله من معلومات بكر عن الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والإدارية والسكانية ، ولما ترصده من وقائع وأحداث أثرت في مجريات الأمور . لذلك فهي تشكل مصدراً صافياً عن الوقائع والحقائق تمد الباحثين والدارسين في المجالات المختلفة كالتاريخ والآثار واللغة والقانون والشريعة والاقتصاد والاجتماع ، وتفسر بعض الحوادث والإجرات الإدارية والتنظيمية .
واعتماد الدراسات العلمية والأكاديمية والبحثية ذات الاختصاصات المختلفة على هذه الوثائق أمر هام وضروري لأصالة البحث العلمي وجدته . لما تتصف به من موضوعية وصدق وأصالة وصحة ، كما أنها تضيف دائماً من الحقائق الجديدة ما يفسر الظواهر والأحداث الغامضة ولاسيما عندما تنعدم أو تكاد مصادر التاريخ خلال بعض الحقب الزمنية .
ولهذه الأهمية حرصت الدول المتقدمة على الاهتمام بوثائقها التاريخية عن طريق جمعها في مكان مخصص والمحافظة عليها وترتيبها ووصفها وتيسير الإطلاع عليها للباحثين والمهتمين .
ونظراً لأهمية هذه الوثائق في رصد شتى الأنشطة والأحوال والوقائع والأحداث فقد شكلت مصدراً جديداً للدارس والباحث في سورية كوثائق تصور أنماط حياة السكان وتشكيلتهم الإثنية وأحوالهم المختلفة ، فاعتمد عليها الباحثون في الوقت الحاضر في مجال الآثار والاقتصاد والاجتماع ونظم الإدارة ونظم الأراضي وطرق استثمارها وشئون التقاضي والأحكام ،وأهمية المدن ودورها ، وكذلك استخدمت في إثبات حقوق السكان العرب الفلسطينيين في المدن الفلسطينية كصورة صادقة في حقبة زمنية معينة بعد أن غير معالمها الاستيطان الصهيوني المغتصب في الوقت الحاضر.
فظهرت عدة دراسات في هذا الصدد لباحثين سوريين وأجانب كدراسة الدكتور عبد الودود برغوث والدكتور عبد الكريم رافق والبروفيسور جيمس رايلي ، وعدد من الباحثين الحمويين وعلى رأسهم الباحث الرائد الحاج قدري الكيلاني وأفراد مدرسته كالباحث الحاج كامل شحادة والأستاذ عبد الرحيم المصري والأستاذ راضي عقدة . ومن العرب غير السورين المحامي الأردني حسن البواب الذي أعد موسوعة عن يافا الجميلة .
وبالرغم من أن الدراسات المتاحة عن سورية وفلسطين اعتمدت على سجلات المحاكم الشرعية كمصدر لها إلا أن الوثائق العثمانية العربية على أشكال وأنماط وهي حسب ما أوردت الدكتورة سلوى ميلاد في مجلة النادي العربي للمعلومات لعام 2005 في مقال تحت عنوان الوثائق العربية في مصر في العصر العثماني ـ أهميتها وقواعد تحقيقها ـ تتدرج في أشكالها المحفوظة وفق ما يلي :
أشكال الوثائق
1 ـ الوثيقة المفردة : وهي مكتوب مفرد يتضمن تصرفاً أو فعلا قانونياً واحداً وهي مكتوبة على الورق لانتشار استعماله في ذلك العصر ، والوثيقة المفردة في العصر العثماني إما لفافة وهو القليل النادر في الوثائق التي يقترب تاريخها من نهاية العصر المملوكي أومطوية بمقاسات مختلفة وهو الغالب .
2 ـ النوع الثاني هو السجل : وهو مجموعة من الوثائق المدونة في شكل دفتري مجلد مخطوط ، دونت هذه الوثائق تباعاً يوماً بيوم وشهراً بعد شهر وسنة بعد سنة ويمثل هذا السجل نشاط الجهة التي أصدرته في فترة زمنية في حياتها .
3 ـ النوع الثالث : وهو الدوسيه أو المحفظة ، والدوسية وحدة من وحدات حفظ الوثائق أكبر من الوثيقة المفردة وأصغر غالباً من السجل وهو عبارة عن عدة وثائق مفردة جمعت معاً في دوسية ملف أو محفظة ذات أربطة تدور كلها حول موضوع واحد أو حادثة معينة أوسنة معينة .
4 ـ الوحدة الأرشيفية المتكاملة : وهي كل الأشكال المشار إليها ( وثائق مفردة ـ سجلات ـ دوسيهات ) المدونة الناتجة عن نشاط جهة ما وقد أودعت لدى تلك الجهة او لدى موظفيها المختصين .
5 ـ الوديعة الأرشيفية أو المتكاملات المنتظمة :هي مجموعة المتكاملات التي تمثل أنشطة جهات معينة معاصرة تنتمي إلى نظام معين ، مثل المتكاملات للمحاكم العثمانية تمثل الوديعة الأرشيفية للقضاء في العصر العثماني والمتكاملات الأرشيفية للديوان الدفتري والمالي ، والرزنامة تمثل الوديعة للنظام المالي .
أهمية الوثائق العثمانية في الدراسات المتنوعة
وكما نوهنا سابقاً فإن للوثائق العربية العثمانية عامة وسجلات المحاكم الشرعية خاصة أهمية بالغة لكل الدراسات والتخصصات وأهمها :
1 ـ ما يلقي الضوء على ما يمكن أن تضيفه من حقائق موثقة جديدة ومعلومات متميزة عن التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والإداري والسكاني والإثني والديني على مستوى المدن والدولة
2 ـ ما تمد به الدارسين للوثائق والأرشيف من معلومات مميزة ووافرة في علم الوثائق العربية وأسس تحقيقها ونشرها .
3 ـ إنها مجال بكر يفيد في الحصول على معلومات تخدم المتخصص بالقضاء والقانون والميراث والآثار والمسكوكات والأختام ومعلومات عن طرق استثمار الأراضي ونقل الملكية وإجراءات قانون التنظيمات العثماني المتعلق بنقل الملكية الزراعية وبخاصة في سورية .
4 ـ تقديم فهم أكثر وأعمق للمجتمعات العربية في تلك الحقبة .
5 ـ وتشمل هذه الوثائق على معلومات وحقائق مميزة في المجالات التالية :
1 ـ طرق حياة السكان ومعاملاتهم ونظم الزواج والطلاق والخلع لطوائف المجتمع المختلفة من مسلمين ونصارى ويهود وإثنيات مختلفة ، وتبين دور الطبقات المختلفة في المجتمع
2 ـ الوظائف الدينية والحربية والإدارية والقضائية والألقاب وأنواع الحرف وتنظيماتها المختلفة .
3 ـ الحالة التعليمية والدرسية ومعلومات عن المكتبات ومقتضياتها ولوائحها ونظمها
4 ـ الأماكن الأثرية وتاريخها وأحوالها والخطط والمساجد والقرى والعمائر التي ترد في الوثائق.
5 ـ النواحي الاقتصادية كالإنتاج الزراعي والصناعي والخدمي والأسعار والموازين والمكاييل والنظرفي جود ة المنتج والمسكوكات وأنواع العملات المختلفة خلال العصر العثماني كله وما تبقى من عملات مملوكية ونشاط نظام الحسبة ومسئوليات المحتسب .
6 ـ دور المدن وعلاقاتها الاقتصادية مع الريف ومع باقي المدن ومع العالم الخارجي وتأثرمجتمعاتها بذلك .
7 ـ أثر اللغات الأخرى في اللغة العربية من قبيل دخول الألفاظ التركية والفارسية وتأثر لغة
الوثائق وتركيب الجملة العربية بها ، لذلك فإن للوثائق أهمية كبيرة في دراسة علم اللغة.
8 ـ تشكل مجالاً خصباً لدراسة الخط العربي والطب الشرعي والأختام ونماذجها .

سجلات المحاكم الشرعية في سورية ( حماة نموذجاً )
تعد سجلات المحاكم الشرعية في حماة من أقدم السجلات الموجودة في بلاد الشام باستثناء القدس الشريف ، ويعود تاريخ أول سجل في حماة إلى عام 942 ـ 943 للهجرة المقابل لعام 1535 ـ 1536 للميلاد ، في حين أن تاريخ أول سجل لمدينة القدس يعود إلى عام 936 للهجرة المقابل لعام 1530 للميلاد في حين يعود أقدم سجل في حلب إلى عام 943 للهجرة .أما وثائق دمشق فلم تتوافر حتى عام 991 ـ 993 للهجرة المقابل لعام 1583 ـ 1585 للميلاد وتعود لتنقطع حتى الثلاثينات من القرن التالي بسبب الضياع والتلف ، كما وضح الدكتور عبد الكريم رافق في دراسته تحت عنوان (مظاهر اقتصادية واجتماعية من لواء حماة ـ مجلة دراسات تاريخية ـ العدد 21و22عام 1989 و دراسته الثانية تحت عنوان ـ الفئات الاجتماعية ملكية الأرض في بلاد الشام ـ مجلة الدراسات التاريخية ـ العدد 35و36 عام 1990 )
وقد وصف الباحث الأستاذ عبد الودود برغوث أحد سجلات المحاكم الشرعية في حماة وقدمه كنموذج عنها في دراسته تحت عنوان ـ تاريخ حماة الاقتصادي والاجتماعي والإداري لعام 989 للهجرة 1585 للميلاد ونشره في مجلة الحوليات الأثرية التي تصدر عن مديرة الآثار والمتاحف في سورية عام 1966 ) ليعرف الباحثون أهمية هذه السجلات والمميزات التي تتمتع بها والجوانب التاريخية التي يمكن الحصول عليها منها . فوصف السجل الذي اعتمد عليه في دراسته وبين محتواه ومنهجه كنموذج عن جميع السجلات ، فمقياس السجل 30/21 سم وصحافه مرقمة وتبلغ 466 صفحة أي 233 ورقة ، كما رقمت قضاياه فبلغت 1766 قضية مكتوبة باللغة العربية وبالخط النسخي إلا أن نحواً من عشرين قضية مكتوبة باللغة التركية . والقضية هي عبارة عن شكوى أو نزاع بين اثنين أو أكثر... أو شراء أو بيع أو عقد أو زواج أو طلاق أو نفقة أو تعيين وصي للأيتام أو صورة لمرسوم صادر عن السلطان أو الوالي أو القاضي
تبدأ القضية بذكر سبب تسجيلها ثم تذكر الأشخاص المتخاصمين المنتفعين ، ثم تحدد المشكلة وتأخذ حيثياتها من شهود وحلف يمين ثم يقر الحق ويصدر الحكم في جلسة واحدة غالباً ، وتختم القضية بذكر الشهود وتوقيعاتهم ويعطى المتخاصمون صورة طبق الأصل عن القضية ، عليها توقيع القاضي ونائبه ، هذا ويمكن أن تختص القضية بصفحة أو أكثر من صفحات السجل .وتعاني هذه السجلات من محدودية بحسب واقع عملها فهي لاتذكر من الوقانع إلا ما يعرض عليها للنظر به أو تقريره أو إصداره ضمن اختصاصاتها المحددة لها بموجب اللوائح المعمول بها .
الدراسات التي اعتمدت على هذه الوثائق
لدينا عدة دراسات اعتمدت على وثائق المحكمة الشرعية في حماة تناولت جانبين هامين أحدهما يتعلق بالجانب الأثري والآخر يتعلق بتاريخ حماة الاقتصادي والاجتماعي والإداري ودور حماة كموقع استراتيجي لعبور قوافل الحج وكمركز اقتصادي يتعلق بالإنتاج الزراعي والحيواني والإنتاج الصناعي المتعلق بإنتاج المنسوجات القطنية والحريرية .
أولاً ـ الدراسات في مجال التاريخ والآثار:
يعد الحاج قدري الكيلاني الباحث في التاريخ ولآثار أول من لفت النظر إلى أهمية سجلات المحاكم الشرعية في الآثار وفي الدراسات التاريخية و الاجتماعية والاقتصادية ، وقد أشار الأستاذ عبد الودود برغوث صاحب أقدم دراسة عن تاريخ حماة الاقتصادي والاجتماعي والإداري إلى ذلك في دراسته المنشورة في الحوليات الأثرية فذكر في في حاشية الصفحة 58 مايلي ( ويعود الفضل في معرفتي بها إلى الحاج قدري الكيلاني مؤرخ حماة الذي بين لي أهمية هذه السجلات ودفعني إلى الاستفادة منها . وسجلات حماه موجودة في متحف حماه أما سجلات حلب ودمشق فموجودة في مديرة الوثائق التاريخية في دمشق ) ومن الجدير بالذكر أن سجلات حماة قد نقلت فيما بعد إلى دمشق .
اعتمد الحاج قدري في دراسة الأماكن الأثرية وفي كتابة التاريخ على سجلات المحاكم الشرعية وكانت مصدراً من مصادر تاريخه الرئيسة في كتابه ( تراجم رجالات حماة من البعثة النبوية حتى نهاية القرن الرابع عشرا لهجري ـ يطبع الآن )فكان الرائد والمعلم في هذا المجال . فقد لفت النظر إليها ونصح الباحثين بالاعتماد عليها في البحوث والدراسات ، وقد اقتدى به الباحث كامل شحاد ة الذي كان ملازماً له وأفاد من أبحاثه وأعماله التاريخية والأثرية ، وكذلك الأستاذ عبد الرحيم المصري المفتش في آثار حماة والأستاذ راضي عقدة الذي أصبح فيما بعد مديراً للآثار في حماة .