النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    المشاركات
    257

    افتراضي رسالة براء نزار ريان إلى والديه الشهيدين في يوم تخرجه




    بين يدي الرّسالة
    (الشيخ الأستاذ الدكتور نزار عبد القادر ريان وجهوده في خدمة السنة النبوية)


    (1)

    في الحديث عن الوالدين الحبيبين، لا أعرفُ من أين أبدأ؛ وكنتُ إذا تكلّمتُ عن شهيدٍ عرفتُه، أبدأ بالموقف الذي فيه لقيته، والحدث الأول الذي جمعني به.
    لكنّني لا أذكر بدايتي مع والديّ يرحمهما الله، إذ فتحتُ عينيّ على هذه الدنيا لأجد نفسي بين أيديهما، يربّياني على الدين وحبّ الدين، ويقودان قدميّ الصغيرتين إلى المسجد، ويديّ وعينيّ إلى حمل كتب العلم الشرعيّ وقراءتها، وقلبي إلى الله والتعلّق بالله.
    أذكرُك يا والدي حين حفّظتني في الرابعة من عمري أسماء كتب مكتبتك العامرة، ونظمتها لي في أنشودة، وصرتَ إذا زارك ضيفٌ قلت: غنّ لي يا براء أنشودة الكتب، أذكر ذلك يا أبي؛ ولا زال في الذاكرة بعضُ تلك الأنشودة.
    وأذكرُك يا أبتِ إذ اشتريتُ –وأنا في الخامسة- قصّة مصوّرةً من قصص الأطفال، فقرأتُها عليك، فكُنتَ فرحًا بإتقاني القراءة، وكنتَ خير منصتٍ وسامع، أذكرك إذ تستزيدُني، وأعيدها لك المرّة تلو المرّة، وتسألني عن معاني الكلمات، ولا أنسى والله احتضانك إياي حين فرغتُ، فرحمة الله عليك.
    أذكرُك يا والدي وقد أجلستني في السادسة من عمري، وفي يديّ الكتاب الكريم، وأقرأتني شطرًا من سورة ياسين، وعلّمتني يومها طرفًا من أحكام النون الساكنة والتنوين، أذكرها والله يا أبي كما لو أنها الآن وقعت.
    وأذكرك يا أمّي وأنت تلقنينني وأنا خارج للرّوضة، قُل يا بني:
    بسم الله؛ توكّلتُ على الله، ولا حول ولا قوّة إلا بالله.
    وأذكر يا والدي حين بلغتُ السابعة أجلستَني وإخوتي، وناولتنا الصحيحين، وعرّفتنا بهما؛ قلتَ لنا يومها:
    هذان الكتابان، أصحّ ما جمع الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، وقلتَ لنا: يقالُ للحديث الذي فيهما: أخرجه الشيخان؛ أذكر والله ولا أنسى.
    وأذكر أنك في تلك السنة كنتَ تحضّر رسالة الدكتوراه، وكان لا يزعجُك قفزي من حولك، ونظري فيما تفعل، حتّى فهمتُ –على الصّغر- ما تصنع، وعرفتُ كيف يمكن الوصول لترجمة فلان من الرّواة في تهذيب الكمال، فصرتُ أسابقُك إلى المجلّد الذي تريد، فقلتَ لي: أتعرفُ؟
    فقلتُ لك بسذاجة: نعم، أحفظُ الحروف وترتيبها يا أبي.
    فأجلستني بجوارك، من يومها إلى أن رفعك الله إليه شهيدًا، وهو حسيبُك!
    وأذكرُك تشجّعُني على حفظ القرآن وتسألني عن إعراب المشكل من الكلمات، وتُحفّظني عيون الشّعر، وقد كان مما حفّظتني:
    لولا المشقّة ساد النّاسُ كلهم الجود يفقر، والإقدامُ قتّالُ(1)
    فعلّمتني أن السيادة لا بدّ لها من مشقة، وأنّ:
    من لا يحبُّ صعود الجبال يعش أبد الدّهر بين الحُفَر(2)
    وأذكرُ والله حين كنتَ تجلسُني في دروسك، وتحرصُ على حضوري إياها، وتَضبط لي المشكل من أسماء الرّواة وغيرها قبل قدوم الطلبة، فإذا حضر الدّرسُ، سألتني ومن حولك طلبة العلم، ما ضبطُ "الكُشْمِيهَنِيِّ"(3) يا براء؟
    فأجيبك بسعادة واعتداد.
    وأذكرُ حين بلغتُ التاسعة، أنني كنتُ في درس لك في علوم الحديث، فشرحتَ "حاء التحويل" فلم أفهم، فقُلتُ لك: لم أفهم!
    فشرحتَها ثانية: فقلتُ لم أفهم!
    فشرحتَها ثالثة: فسكتُّ.
    فلمّا انفضّ النّاسُ، قلتُ لك: لم تجب يا والدي على سؤالي، أريد أن أعرف أين يضعونها بالضبط(4)! فتصبرُ وتجيب.
    وأذكرُ في الإعداديّة إذ كنتَ تعرضُ على أصحابك ما أبحثه معك، وما أكتبُه، وتريهم خطّي وأوراقي.


    -------
    (1) البيتُ لأبي الطيّب المتنبّي، انظر: شرحُ ديوان المتنبّي للواحدي، 2/239.
    (2) البيتُ لأبي القاسم الشابّي رحمه الله، من قصيدة مشهورة.
    (3) الكُشْمِيهَنِي: بضم الكاف وسكون الشين المعجمة وكسر الميم وسكون الياء المنقوطة من تحتها باثنتين وفتح الهاء وفي آخرها النون. نسبة إلى قرية قديمة من قرى مرو، خرج منها جماعة من العلماء، منهم: أبو الهيثم محمد بن مكي بن محمد الكشميهني، الأديب، اشتهر في الشرق والغرب بروايته صحيح الإمام البخاريّ، لأنه آخر من حدث بهذا الكتاب عاليًا بخراسان، كان فقيهًا، أديبًا، زاهدًا، ورعًا، وهو الذي كان يذكره الوالد في دروسه المتعلّقة بالجامع الصحيح. انظر: الأنساب للسمعاني 5/74-75.
    (4) أعني: حاء التحويل، وهي حاءٌ مهملة مفردة، يكتبها المحدّثون عند الانتقال من إسناد لآخر إذا كان للحديث الواحد إسنادان أو أكثر على سبيل الاختصار، انظر: دليل أرباب الفلاح لتحقيق فنّ الاصطلاح للحَكَمي 160 .


    (2)

    ولمّا صرتُ في الجامعة كنتَ تقرأ لي وتصوّب، وتفتّش عليّ في الأبحاث والتكاليف، كأنني تلميذُ ابتدائيّة!
    وتقرئني ما تكتُب، وتطلبُ رأيي، وتأخذ به كثيرًا!
    وأذكرُ حين جاءك مستفتٍ فقال لك: أفتني يا شيخُ، أريد أن أجاهد وأهلي يمنعونني.
    فقلتَ لي: اكتُب له ما تعلم! ثمّ نظرتَ فيما كتبتُ وصوّبت.
    وإنّي لأذكرُ أشياء أستحيي من تدوينها، أكتمُها في قلبي، أفرح بها وحدي، وأعللُ بها نفسي حتّى ألقاك.
    وإنّي لأذكرك يا أمّي؛ ولا أنساك، أذكرُ صبرَك وجهادَك، وتشجيعك إيانا على طلب العلم، وعلى الجهاد في سبيل الله، إي وربّي، ولا زال في سمعي رنين حديثك إذ تقولين: أما آن لك أن تُنهي الماجستير؟
    وتعدّين إذّاك الأيام، تمنّين نفسك بالحضور والسعادة والحبور، وأمنّي نفسي معك.
    فأنالك الله ما هو خير، أما أنا فكنتُ كمن قال فيها الشاعر:
    غَزَلتْ خُيوطَ السّعدِ مخضلًا ولم يكن انتقاضُ الغزل في الحسبانِ! (5)
    ولو كان في الحسبان، لأحثثتُ الخطى، وأعجلتُ المسير،"وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ"(6) ؛ فقدّر الله وما شاء فعل، وخيرةُ الله خير، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
    إنني يا أمّي اليوم أفتقدُك، من قلبي والله محتاجٌ إليك، وأشتهي الآن سماع زغرودتك،"وهل يعوّض المرء عن أمّه بشيء"؟(7)
    يا والديّ:
    لا يعوّضني والله عنكُما شيء! إلا لقاؤكما في الآخرة!
    وإنّي طيلة ما كنتُ أكتبُ هذه الرّسالة، ما غادرتماني، روحاكما تظللاني، وتمُدّاني بالعزيمة والصبر، فطبتُما حيين وميّتين، وألف رحمةٍ ونورٍ عليكما، والسّلام.

    يا والِدِي إنّي لأعلمُ أنّـه قد لا تُسَرُّ بشعرِيَ الدّفّاقِ
    فاغفر رعاك الله، كم من شاعرٍ رَفَضَ السُّكوتَ بثورةِ الأشواقِ(8)

    براء نزار ريان
    ____
    (5) من قصيدة "رسالة في ليلة التنفيذ" للشاعر الشهيد هاشم الرافعي رحمه الله.
    (6) الأعراف : 188
    (7) من كلام الوالد يرحمه الله تعليقًا على يُتم النبيّ صلى الله عليه وسلّم، انظر: دراسات في السيرة 51.
    (8) البيتان من قصيدة كتبتُها للوالد رحمه الله في حياته بعنوان: ثورة الأشواق.
    مجاهد لله لا لأحد سواه

  2. #2
    تاريخ التسجيل
    Nov 2010
    المشاركات
    29

    افتراضي رد: رسالة براء نزار ريان إلى والديه الشهيدين في يوم تخرجه

    غفر الله لك أخي أبا نزار, ما كانت تنقصنا الأحزان . رحم الله الشيخ نزار و أهله و اخوانه المجاهدين وألهم أهلهم الصبر و جمعنا مع من نحب يوم القيامة.

  3. #3
    تاريخ التسجيل
    Apr 2009
    المشاركات
    257

    افتراضي رد: رسالة براء نزار ريان إلى والديه الشهيدين في يوم تخرجه

    براء نزار ريان : تنويه مهم

    أفاضل كثر كلموني في موقفي من أحداث سوريا ومساندتي لأهلي في الشام وأكثرهم كان سعيدًا مشجعًا وقلة لم تكن كذلك..
    أحب أن أنبه أنني هنا لا أمثل إلا نفسي ولا أتكلم إلا بوصفي إنسانًا مسلمًا يأخذ بقوله صلى الله عليه وسلم: المسلمون تتكافؤ دماؤهم! ودم حمزة وهاجر وشهداء درعا وحماة ودمشق والبوكمال وسائر أرض الشام الحرة هو كدم غسان وعبد القادر وآية ومريم وحليمة وريم وسائر إخوتي الشهداء..
    هم عندي سواء أيًا كان القاتل!


    مجاهد لله لا لأحد سواه

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •