عن ابن تيمية أتحدث..
عبدالله بن عبدالعزيز الهدلق


"هذا القلق المطرد في الوضع السياسي الذي اختصر حكم السلاطين ولم يسمح لهم إلا نادراً بأن يموتوا حتف أنفهم؛ استتبع حالة من القلق وعدم الاطمئنان تهددت رجال البلاط والحكومة جميعاً في أرواحهم وممتلكاتهم، مما لم تستهدف لمثله طبقة حاكمة من قبل إلا في أسوأ أيام الدولة الرومانية.

فقد عجز الموظفون - حتى أقدرهم - عن الاحتفاظ بمناصبهم أكثر من ثلاث سنوات إلا في القليل النادر، وكم من قاض أسند إليه القضاء ثم عزل عنه عشر مرات متواليات أو يزيد، ليس هذا فقط؛ بل لقد كان ثمة نفوذ فقهاء السنة ورادعهم المعنوي، أولئك الفقهاء الذين لم يتورعوا عن اضطهاد رجل صالح مؤمن بالله أصدق الإيمان وأشده كابن تيمية الحنبلي، لإحجامه عن مجاراتهم في جميع ما ذهبوا إليه من رأي، ولمقاومته كثيراً من مظاهر التدين لدى العامة كعبادة الرسل والأولياء.. ولئن كان معاصروه قد حاولوا قمع تعاليمه بالقوة؛ فقد كتب لها برغم ذلك أن تبقى حية في دوائر أتباعه المحدودة، لتستمد منها الحركة الوهابية حافزها بعد أربعمائة من السنين، ولتفيد منها حركة التجدد الإسلامية في الجيل الحاضر". كارل بروكلمان، تاريخ الشعوب الإسلامية، ص369.

إنه ليمر بي اسم العالم والعالم فلا أكاد آبه.. ثم يمر ذكر ابن تيمية فيأخذني شيء لا أتبين مأتاه، رحم الله أبا العباس، فالكتابة عنه ضرب شديد من الوعي والمسؤولية؛ لأنه يحتاج إلى مقياس خاص..

هنا إحدى عشرة فقرة هي حصيلة تأمل في شخصية هذا الإمام وتراثه الضخم، حاولت أن آتي فيها بجديد.. ونحن ما أحوجنا بين الفينة والأخرى إلى أن نقلب النظر كثيراً في منازع هذه العبقرية الفذة، وإلى أن نعمل الفكر طويلاً في اجتلاء هذا الإرث الذي امتن الله به على عباده في هذه الأعصر المتأخرة..

1- كثير من تراث شيخ الإسلام ابن تيمية لا يبتدأ به؛ وإنما ينتهى إليه... فالعلوم يأخذ بعضها بحجز بعض، فهي كدرجات السلم كل واحدة تسلم إلى أختها، ولعل مما أضر ببعض طلبة العلم؛ أن أحدهم يعلق بسمعه أول ما يسلك طريق العلم اسم هذا العلم الكبير، وما لتراثه من الأهمية البالغة، فيغوص في عمقه وهو لما يتعلم السباحة على شاطئه بعد، فيؤذيه ذلك كثيراً..

2- ليست هناك شخصية حية حاضرة في بناء عقل ابن تيمية ولا في تشكل وجدانه، فلا تراه يقول: وكان شيخنا، ودخلت مرة على فلان.. مما تراه فيما يذكره عنه ابن القيم مثلاً، أو فيما يذكره كثير من الأعلام عن مشيختهم والآخذين عنهم.. لا أدري؛ لعل الله سبحانه لما أن أعد هذا الإمام لما هو بسبيله من هذا التجديد؛ وعصره على ما هو عليه من السوء؛ هيأ له ألا يتطامن عقله ولا وجدانه لسلطان أحد من مشيخته المعاصرين، فجاء منه هذا العقل الحر النـزاع إلى الحق، الرافض للتقليد الأعمى، وهذا الوجدان الصافي الذي اغتسل بماء الوحي النقي، فلم تكدره تلك الأوضار التي كانت عالقة بكثير من أنفس أهل عصره.

3- تمنيت لو أن سيد قطب وعبد الوهاب المسيري - رحمهما الله - قد عرفا تراث ابن تيمية وأفادا منه، لا أكاد أجد له ذكراً ولا أثراً فيما كتباه.. لو كانا توافرا على تراثه؛ لرأيت نقلة رائعة في كتابات هذين الكبيرين، ولقرأت إضافة ثرية في فهم بعض نصوصه، وقراءة جوانب من شخصيته.

4- رأيت ابن تيمية في مداخل ردوده على أهل الفرق المخالفة، وأرباب الأهواء المضلة؛ يبالغ كثيراً في عرض معارفه، وما يحسنه من علوم هؤلاء.. أظن أنه - رحمه الله - كان يمارس نوعاً من الإذلال المعرفي لخصوم الوحي، كأنه يقول لهم: هذا الذي تتحدثون عنه وتأخذون في شأنه؛ لم نطرحه جهلاً به، فنحن أعرف به منكم، لكننا آثرنا الوحي عليه.

5- ركزت السلفية المعاصرة على درس جوانب من شخصية ابن تيمية وتراثه، وأهملت جوانب أخرى - كالجانب الفكري والسياسي والسلوك الاجتماعي - لا تقل أهمية.. ولأن كثيراً من خصوم ابن تيمية إنما عرفه عن طريق الصورة التي رسمتها السلفية المعاصرة له؛ فإن ذلك ضيق زاوية النظر لدى هؤلاء المثقفين والمفكرين من الخصوم، فلم يتبينوا هذا الاتساع الهائل الذي تمتلكه هذه الشخصية الكبيرة في ذاتها وتراثها.

6- لابن تيمية سلطان بالغ الأثر على عقل قارئه، لما له من هذا الأسلوب السيال، والتدفق المعرفي المبهر، والحجة العقلية النافذة، والحماس المتقد لما يؤمن به.. لذا فإن قارئه يفقد مع الأيام محاكمة نصه، ويستلب له.. على طالب العلم أن يحاذر وهو يتخرج بتراث هذا الإمام؛ عليه أن يحاذر من أن يفقد شخصيته واستقلاله، فيفقد ما به أصبح ابن تيمية ابن تيمية.

7- كان ابن تيمية - رحمه الله - من كبار مثقفي عصره.. كثير من هذا الذي تقرأه في تراثه إنما هو ثقافة عصره الدائرة، ومعارفه الحاضرة، ولهذا - وهو من المفارقات - ترى أن كثيراً من طلبة العلم ممن لهم بصر وعناية بتراث شيخ الإسلام ابن تيمية؛ يعرفون من الواقع الثقافي والفكري لعصر ابن تيمية أكثر مما يعرفون من واقعهم الثقافي والفكري!

8- أحسب أن كل هذا الاصطراع والاحتراب الكائن في زماننا اليوم؛ إنما يعود عند تأمله إلى تراث وجهود خمس شخصيات مؤثرة رئيسة:
1- ابن تيمية.
2- مارتن لوثر.
3- كارل ماركس.
4- ثيودور هرتزل.
5- الخميني. (تنبهت إلى أن بين هرتزل والخميني شبهاً غريباً، هناك مشروع أثمر عن دولة، ذاك بنبذ فكرة المخلص، وهذا بولاية الفقيه.. هل كان الخميني يترسم مشروع هرتزل؟ وهل ما قيل عن مشابهة بين الرافضة واليهود؛ يحققه هذا الاقتداء؟).

بسط هذا الموضوع كله له من الخطر ما يحتاج معه إلى أفراده في مقالة مستقلة، عسى الله أن ييسر ذلك.

9- من أعظم المقاييس عندي للعمل الخالد: هو أنه العمل الذي لا تستطيع أن تتجاوزه مهما تركته وعدت إليه.. ثمة تراث يكون له أثر في نفس قارئه في مرحلة من مراحل عمره، لكنه حين يعود إليه بعد أن يقطع شوطاً من العلم يشعر بأنه قد تجاوزه (هذا المنفلوطي يحبه المتأدب ويكرهه الأديب كما قيل) لكن هناك أعمال لا تستطيع أن تتجاوزها مهما اكتسبت من المعرفة وعدت إليها، وعندنا في التراث أمثلة لهذا: المغني لابن قدامة، مقدمة ابن خلدون، فتح الباري.. أظن أن تراث ابن تيمية كله - وليس عنواناً أو عنوانين - يصدق عليه هذا المعنى كما لا يصدق على تراث عالم من علماء الإسلام، لا تستطيع أن تتجاوز تراث هذا العالم مهما اكتسبت من المعرفة وعدت إليه.

10- لا يمكن أن يفهم نص ابن تيمية بمعزل عن روح عصره، وما احتف به من أحداث، لا بد من قراءة الخلفية التاريخية لهذا النص، والسياق المعرفي الذي تكون فيه، لن يفهم هذا التراث الهائل من لا يملك قراءة جيدة عن عصر المماليك، وما كان في تلك المرحلة من اشتجار ثقافي واجتماعي وسياسي كان له أثر كبير في تشكل النص التيمي..

11- في مقدمات كتب شيخ الإسلام ابن تيمية المحققة، وفي كثير مما كتب عنه؛ أجد أن الأقلام تعيد كلمات بأعيانها قد قيلت فيه، حتى إني سئمتها لكثرة ما قرأتها عشرات المرات بل مئاتها: "لم أر مثله ولم ير مثل نفسه"..

هناك بعض الكلمات الرائعة عن هذا الإمام لا تكاد تذكر: للواني والمقريزي وشاه ولي الله الدهلوي وغولدتسيهر ومحمد كرد علي ونقولا زيادة.. ولعل ما صدرت به من كلمة بروكلمان من هذا القبيل، فهي لا تكاد تذكر مع أنها ذات شأن من مثل هذا المستشرق، ليت أننا نتجاوز هذا الاجترار ونتوسع في قراءاتنا، حتى نقف على مظان عالية غير مكرورة فيما نكتبه.

"إني منذ عهد غير قريب وجدت من وقتي فراغاً يتسع لدراسة دقيقة لكتابي شيخ الإسلام أبي العباس أحمد بن عبد الحليم الحراني الدمشقي الحنبلي المعروف بابن تيمية، المتوفى في عام (728) من الهجرة، وهما كتاب منهاج السنة المحمدية في نقض كلام الشيعة والقدرية، وكتاب موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول، فأخذت نفسي بأن أقرأ كل يوم عدة أوراق من أحد الكتابين، وأن أقف عند نهاية كل مبحث وقفة فاحص متدبر يحب أن يفيد مما يقرأ، وكنت أجد في كل يوم من غزارة علم الشيخ، وسعة اطلاعه على ما ألف الناس وما قالوه، وما نسب إليهم، ومديد باعه في الحوار والجدل، ورجاحة عقله التي تنخل الآراء والأقاويل، وتبهرج زائفها، وقوة عارضته في إقامة الحجة؛ ما لا يقضى منه العجب..". العلامة محمد محي الدين عبد الحميد.

رحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية ورضي عنه، وقد أراه بلغ في آخر أيامه في سجن القلعة من الولاية؛ ما لم ينل منه بعض الأكابر إلا الفتات ﴿فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ﴾ [القمر: 55].


رابط الموضوع: http://www.alukah.net/Culture/0/34689/#ixzz1YKk7s5g3