صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 51 إلى 100 من 289
  1. #51
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانتِ الأغنامُ، تسومُ في المرعى، وادعة آمنة، لا تخاف من الذئاب، إذْ كان يحرسها، ثلاثةٌ من الكلاب..‏

    وكان الراعي الطيِّب، يجلس في ظلّ ظليل، تحت شجرةٍ وارفة، يعزف ألحاناً شجيّةً، تهفو لها الأغصان، وتهيمُ بها الأنسام..‏

    وفي هذه الأثناء، كان ذئبٌ مخاتل، يرصدُ الأغنامَ خلسة"، ويلتفت إلى الكلاب، فلا يجرؤ على الاقتراب..‏

    وفجأة..‏

    أبصرَ الكلابَ تقتتل، وقد انشغل بعضها ببعض..‏

    ضحك الذئبُ مسروراً، وقال في نفسه:‏

    -الآن أمكنَتْني الفرصة!‏

    واقترب الذئبُ من القطيع، فشاهد نعجة قاصية، فوثبَ عليها سريعاً، وأنشبَ أنيابه فيها..‏

    أخذتِ النعجةُ، تثغو وتستغيث..‏

    سمع الكلابُ، الثغاءَ الأليم، فكفّوا عن القتال، وتركوا الخصامَ والخلاف، وانطلقوا جميعاً إلى الذئب، وحينما رآهم مقبلين، طار فؤاده ذعراً، فأفلَتَ النعجة، وانسلَّ هارباً، لا يلوي على شيء..‏


    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  2. #52
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    وقف الفلاحُ، على طرف حقله، يرنو إلى سنابل القمح، وهي تميلُ وتلمع، كأمواجٍ من ذهب، فانتشى إعجاباً بنفسه، وقال:‏

    -لولا كفّايَ الخشنتان، لما كان هذا القمح الوافر!‏

    فابتسمتِ السماءُ في العلاءِ..‏

    قالت إحدى السنابل:‏

    -نحن أَوْلى بالفضل، كنّا حبوباً يابسة، مدفونة في التراب، فامتصصْنا الغذاء، وشقفْنا التراب، وصرنا ننمو، شيئاً فشيئاً، حتى كبرنا، وأنبتَتْ كلُّ حبّةٍ، سنبلةً فيها مئةُ حبة!‏

    وابتسمتِ السماءُ في العلاء..‏

    قالت الأرض:‏

    -أنا صاحبة الفضل، احتضنْتُ البذورَ صغيرةً، وأرضعتها حتى صارت كبيرة، فلولا ترابي، لما نبتَ قمحٌ، ولا شبع فلاّح!‏

    وابتسمتِ السماءُ في العلاء.‏

    وجاءتِ السنةُ التالية، شديدة مجدبة، فانقطع المطر، واشتدَّ الحرُّ، وانتشر الجفاف.. حزنتِ الأرضُ القاحلة، ويبسَتْ شفاهها الظامئة..‏

    حزنتِ البذور، في ظلمة التراب، وخافت أنْ تموت أحلامها، ولا ترى النور.‏

    حزن الفلاحُ على جهده الضائع، وأشفق على عيالهِ البائسين.‏

    وحزنتِ السماءُ الرحيمة على الجميع، فأرسَلتْ إلى الأرض، سحباً سخيّةً، تحمل الأمطار والأفراح..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  3. #53
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    سارتِ السحابةُ، مثقلةً بالمياه..‏

    وقفَتْ فوق البحر، وسكبَتْ قطرَها الغزير..‏

    فرح البحرُ، واحتضن القطرات‏

    فرحتِ القطراتُ، وعانقتِ البحر‏

    قال البحرِ:‏

    -ما أحلى اللقاء!‏

    قالت القطرات:‏

    -ما أمرَّ الفراق!‏

    قالتِ السحابة للبحر:‏

    -منحتكَ مائي، لتعرفَ فضلي‏

    -لا تمنِّي عليّ بفضلك .‏

    -أتأخذُ مائي، وتنكرُ فضلي؟!‏

    -ماؤكِ منّي .‏

    -لا يصدّقُ ادّعاءَكَ أحد‏

    -اسألي قطراتكِ‏

    قالت القطرات بصوت واحد:‏

    -البحر وطننا.. منه خرجنا، وإليه نعود‏

    صمتتِ السحابةُ من الحياء، وانسحبَتْ مبتعدةً في السماء..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  4. #54
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كــان بيتنا على حدود القرية، قريباً من سفح الجبل.. لم نعرف بيتاً غيره، فأحسسنا بالغربة والملل.. ذات يوم.. عاد والدي من المدرسة، فسألته:‏

    -لماذا لا يزورنا أهلُ القريةِ ونزورهم؟‏

    قال أبي:‏

    -لأنهم بخلاء.‏

    وقالت أُمِّي:‏

    -لأننا غرباء .‏

    -عند المساء، قال والدي:‏

    -هيّا نذهبْ إلى الجبل .‏

    خرجنا نطير فرحاً:‏

    تسلّقنا الصخور العالية.. قطفْنا الأزهار الجبلية.. نال منا التعب..‏

    شاهد والدي، صخرة كبيرة، يغمرها الظلُّ، فقال لنا:‏

    -هذا أفضلُ مكانٍ نستريحُ فيه .‏

    قعدْنا على الصخرة الملساء، نشرب الشاي مسرورين..‏

    -لم نهجر الصخرة بعد ذلك..‏

    كنا نزورها كلّ يوم .‏

    نأخذ طعامنا، ونأكله فوقها .‏

    نلعب حولها، ونبني بيوتاً صغيرة.‏

    نقبع عليها صامتين، ونسمع من أُمّنا الحكايات.‏

    ثم نتركها في الليل، لنأتيها في النهار .‏

    -في آخر العام الدراسي..‏

    ذهبنا إلى الصخرة، وقعدْنا كلُّنا عليها..‏

    التقط لنا والدي عدّة صور، وقال:‏

    -هذا آخرُ يومٍ ترون فيه الصخرة .‏

    -لماذا يا أبي؟‏

    -سننتقل إلى قرية بعيدة .‏

    مكثْتُ واجمة صامتة، لم ألعبْ ولم أفرح..‏

    وحينما نهض أهلي، ليرجعوا إلى البيت، أخرجْتُ من جيبي، قطعة من الطباشير، وكتبْتُ على الصخرة:‏

    -وداعاً يا صخرتنا الحبيبة!‏

    -في الصباح الباكر..‏

    أحضر والدي سيّارة، حملنا عليها متاعنا، ثم ركبنا فيها، وسارت بنا، تُبعدُنا شيئاً فشيئاً.. وعندما بلغنا أعلى الجبل، التفتُّ نحو الصخرة وبكيت..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  5. #55
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كــان النهرُ الصغير، يجري ضاحكاً مسروراً، يزرع في خطواته الخصبَ، ويحمل في راحتيه العطاء.. يركض بين الأعشاب، ويشدو بأغانيه الرِّطاب، فتتناثر حوله فرحاً أخضر..‏

    يسقي الأزهار الذابلة، فتضيء ثغورها باسمة. ويروي الأشجار الظامئة، فترقص أغصانها حبوراً ويعانق الأرض الميتة، فتعود إليها الحياة.‏

    ويواصل النهر الكريم، رحلةَ الفرحِ والعطاء، لا يمنُّ على أحد، ولا ينتظر جزاء..‏

    وكان على جانبه، صخرة صلبة، قاسية القلب، فاغتاظت من كثرة جوده، وخاطبته مؤنّبة:‏

    -لماذا تهدرُ مياهَكَ عبثاً؟!‏

    -أنا لا أهدر مياهي عبثاً، بل أبعث الحياة والفرح، في الأرض والشجر، و..‏

    -وماذا تجني من ذلك؟!‏

    -أجني سعادة كبيرة، عندما أنفع الآخرين‏

    -لا أرى في ذلك أيِّ سعادة!‏

    -لو أعطيْتِ مرّة، لعرفْتِ لذّةَ العطاء .‏

    قالت الصخرة:‏

    -احتفظْ بمياهك، فهي قليلة، وتنقص باستمرار.‏

    -وما نفع مياهي، إذا حبستها على نفسي، وحرمْتُ غيري؟!‏

    -حياتكَ في مياهكَ، وإذا نفدَتْ تموت .‏

    قال النهر:‏

    -في موتي، حياةٌ لغيري .‏

    -لا أعلمُ أحداً يموتُ ليحيا غيره!‏

    -الإنسانُ يموتُ شهيداً، ليحيا أبناء وطنه.‏

    قالت الصخرة ساخرة:‏

    -سأُسمّيكَ بعد موتكُ، النهر الشهيد!‏

    -هذا الاسم، شرف عظيم.‏

    لم تجدِ الصخرةُ فائدة في الحوار، فأمسكَتْ عن الكلام.‏

    **‏

    اشتدَّتْ حرارةُ الصيف، واشتدّ ظمأُ الأرض والشجر والورد، و..‏

    ازداد النهر عطاء، فأخذَتْ مياهه، تنقص وتغيض، يوماً بعد يوم، حتى لم يبقَ في قعره، سوى قدرٍ يسير، لا يقوى على المسير..‏

    صار النهر عاجزاً عن العطاء، فانتابه حزن كبير، ونضب في قلبه الفرح، ويبس على شفتيه الغناء.. وبعد بضعة أيام، جفَّ النهر الصغير، فنظرَتْ إليه الصخرةُ، وقالت:‏

    -لقد متَّ أيها النهر، ولم تسمع لي نصيحة!‏

    قالت الأرض:‏

    -النهر لم يمتْ، مياهُهُ مخزونة في صدري.‏

    وقالت الأشجار:‏

    -النهر لم يمتْ، مياهه تجري في عروقي‏

    وقالت الورود:‏

    -النهر لم يمت، مياهه ممزوجة بعطري.‏

    قالت الصخرة مدهوشة:‏

    لقد ظلَّ النهرُ الشهيدُ حياً، في قلوب الذين منحهم الحياة!‏

    ***‏

    وأقبل الشتاء، كثيرَ السيولِ، غزيرَ الأمطار، فامتلأ النهرُ الصغير بالمياه، وعادت إليه الحياة، وعادت رحلةُ الفرح والعطاء، فانطلق النهر الكريم، ضاحكاً مسروراً، يحمل في قلبه الحب، وفي راحتيه العطاء..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  6. #56
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان داخل المقلمة، ممحاة صغيرة، وقلمُ رصاصٍ جميل..‏

    قال الممحاة:‏

    -كيف حالكَ يا صديقي؟‏

    -لستُ صديقكِ!‏

    -لماذا؟‏

    -لأنني أكرهكِ.‏

    -ولمَ تكرهني؟‏

    قال القلم:‏

    -لأنكِ تمحين ما أكتب.‏

    -أنا لا أمحو إلا الأخطاء .‏

    -وما شأنكِ أنتِ؟!‏

    -أنا ممحاة، وهذا عملي .‏

    -هذا ليس عملاً!‏

    -عملي نافع، مثل عملكَ .‏

    -أنتِ مخطئة ومغرورة .‏

    -لماذا؟‏

    -لأنّ مَنْ يكتبُ أفضلُ ممّنْ يمحو‏

    قالت الممحاة:‏

    -إزالةُ الخطأ تعادلُ كتابةَ الصواب .‏

    أطرق القلم لحظة، ثم رفع رأسه، وقال:‏

    -صدقْتِ يا عزيزتي!‏

    -أما زلتَ تكرهني؟‏

    -لن أكره مَنْ يمحو أخطائي‏

    -وأنا لن أمحوَ ما كان صواباً .‏

    قال القلم:‏

    -ولكنني أراكِ تصغرين يوماً بعد يوم!‏

    -لأنني أضحّي بشيءٍ من جسمي كلّما محوْتُ خطأ .‏

    قال القلم محزوناً:‏

    -وأنا أحسُّ أنني أقصرُ مما كنت!‏

    قالت الممحاة تواسيه:‏

    -لا نستطيع إفادةَ الآخرين، إلا إذا قدّمنا تضحية من أجلهم.‏

    قال القلم مسروراً:‏

    -ما أعظمكِ يا صديقتي، وما أجمل كلامك!‏

    فرحتِ الممحاة، وفرح القلم، وعاشا صديقين حميمين، لا يفترقانِ ولا يختلفان..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  7. #57
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    اشتريْتُ كرةٌ جميلة، ورجعْتُ إلى البيت فرحاً..‏

    أفلتتِ الكرةُ من يدي، فالتقطها صبيًّ صهيوني.‏

    قلت له:‏

    -أعطني كرتي.‏

    قال:‏

    -لن تأخذَ شيئاً.‏

    قلت له:‏

    -لا يجوز أنْ تأخذَ حقَّ غيرك!‏

    ضحكَ ساخراً..‏

    -سيغضبُ والدي، إذا فقدْتُ كرتي.‏

    ضحك ساخراً..‏

    سأشكوكَ إلى والدك!‏

    ضحكَ ساخراً..‏

    -سأفضحكَ بين الأولاد!‏

    ضحك ساخراً..‏

    شرعْتُ أبكي، وأذرفُ الدموع، ليرقَّ قلبُهُ، ويعطيني كرتي، ولكنَّهُ لم يفعل، بل صار يضحك أكثر.. امتلأ صدري غضباً.. مسحْتُ دموعي، وأطبقْتُ كفّي بشدّة، وضربْتُهُ على فكّهِ، فانطرح أرضاً، وانفجر يبكي.. أخذْتُ كرتي، ومضيْتُ إلى البيت، وقلبي مملوء بالإباء العربي!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  8. #58
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في حديقةِ القصر الكبير، قعد الثريُّ الأكرشُ، على مقعد وثير.. وضع كلبه بين ساقيه، وأخذ يسرّحُ له شعره، ويرشفُ القهوةَ مسروراً..‏

    ونزل المطرُ غزيراً..‏

    تلبّد شعرُ الكلب، وابتلّتْ ثيابُ الغني، فجعل يصرخ مغتاظاً:‏

    -قفْ أيُّها المطرُ اللعين!‏

    ولكنَّ المطرَ لم يقف..‏

    وظلّتْ قطراته الضاحكة، ترقص على الأرض.. والأرضُ تضمُّها إلى صدرها، كأنها أُمٌّ رؤوم، فقد مضى زمنٌ طويل، والمطر لم يهطل.‏

    وحزنتِ الأرضُ المعطاء، لأنها لا تقدرُ على العطاء. لقد نضبَ ماؤها، وجفَّ ترابها ، وكثرتْ أخاديدها، وصارتِ الأرض، شفاهاً ظامئة، ترتقب المطر. ولكنّ المطر لم يهطل.‏

    والعشب لم ينبت‏

    وجاعت الأغنام، وجفّتِ الضروع.‏

    وطلب الأطفالُ الحليب، وليس من مجيب.‏

    وأصابَ الهزالُ الحملان، وأصبح الموتُ يفترسها، فيرمقها الرعاةُ بأبصارهم، ولا يدرون ماذا يفعلون.‏

    فالمطرُ لم يهطل!‏

    والعشبُ لم ينبت!‏

    وذهب الفلاحون إلى الحقول..‏

    وقفوا على أطرافها، يتأمّلونها محزونين..‏

    فالمطر لم يهطل!‏

    والزرع لم ينبت!‏

    والتعبُ قد يضيع، والبذارُ قد يموت.‏

    ويبقى العيالُ، بغير غذاء.‏

    ماذا يعملون؟!‏

    اتجهوا إلى السماء، ورفعوا الكفوفَ والأبصار، يدعون بخشوع، ليهطل المطر..‏

    وانتثر المطر، كأنّهُ الدُّرَر..‏

    واهتزّتِ الأرضُ، للخصب والثمر.‏

    وأمطر الفرح..‏

    ورقص الرعاة، وابتلّوا بالمطر .‏

    يا فرحةَ الفلاح، يا فرحةَ الشجر .‏

    يا فرحةَ التراب، يعانق المطر .‏

    وانتصب الثريُّ، في شرفة قصره، كأنه تمثال من حجر، يسائل نفسه مدهوشاً:‏

    -لماذا يهطل المطر؟!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  9. #59
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كنت أنا وصديقي أسامة، نطوف في أرجاء كَرْمنا الحبيب، تداعبُ وجوهَنا الأنسامُ وترقص أمامنا الظلالُ، وتغمزنا الشمسُ من خلال الغصون.. كنا نسير فرحين، نحني ظهورنا تحت عناقيد العنب المتدلّية، ونشقُّ طريقنا بين الأغصان المثقلة بالثمار..‏

    وصلْنا إلى آخر الكرم، وقعدْنا في الظلّ، عند الحجارة المرصوفة، نستعيدُ ذكرياتٍ قديمة.. هذه الحجارة المكسورة، كانت -فيما مضى- صخوراً كبيرة، تربضُ على صدر أرضٍ بائرة، فتكتمُ أنفاسها، وتحجبُ كنوزها، فعاشتِ الأرضُ في حزنٍ دائم، وهمٍّ مقيم، لأنها تملكُ الخير، وتعجز عن العطاء!‏

    وعندما اشترى والدي الأرضَ، وشرعَ يعالجُ صخورها، بالمعول والمطرقة والعَتَلَة، و.. سخرَتْ منه الصخورُ الصلبة، وقالت في نفسها: -يا للعجب. رجل ضعيف نحيف، يبتغي قهر الصخور! انهمك والدي في العمل، ودارَتْ رحى الحرب، بينه وبين الصخور.. وكان وحيداً في المعركة، يقاوم صخوراً كثيرة، تحتلُّ أرضه، وتأبى الرحيل.. ثبتَ والدي في المعركة، وبذلَ العرقَ والدمِ.‏

    الشمسُ تكويه بحرارتها، والصخورُ تجرحه بشظاياها، وهو ماضٍ فيما عزم، لا يضعفُ ولا يتراجع.. انكسرتِ الصخورُ، ولم تنكسرْ عزيمته.‏

    في تلك الأيام، كنتُ أزورُ والدي، كلّما انصرفْتُ من المدرسة، حاملاً إليه طعاماً، لا يأكله إلا الفقراء، وذات مرة، نظرْتُ إلى والدي، وهو يأكلُ الخبزَ الأسمرَ، والبصل، وقلت له محزوناً:‏

    -لماذا نحن فقراء؟!‏

    مدّ والدي يده، ومسح بكفّهِ على رأسي، وقال:‏

    -سأطردُ الفقرَ عنكم يا بني!‏

    -بأيّ شيء ستطرده؟‏

    -بيديّ هاتين‏

    -متى؟‏

    -عندما أُخرجُ كنوزَ الأرض.‏

    قلت بائساً:‏

    -أرضنا لا تحوي كنوزاً بل صخوراً!‏

    قال والدي باسماً:‏

    -الكنوز مدفونة تحت الصخور.‏

    في أحد تلك الأيام، صحبْتُ صديقي أسامة، وذهبنا إلى والدي، وحينما اقتربنا منه، سلَّمنا عليه، فرفع رأسه، ورحَّبَ بنا مسروراً، وقطراتُ العرق، تلمعُ على جبينه، مثل حبّاتِ اللؤلؤ..‏

    لقد كان يعمل في أرضٍ بلا ظلّ!‏

    مسح عرقه بكمّهِ، وألقى المعول من يده، وقال:‏

    -لِنسترحْ قليلاً.. لم يبق سوى هذه الصخرة.‏

    سأله صديقي:‏

    -ماذا ستفعل بها؟‏

    -سأحطّمُ رأسها العنيد، كالصخور الأخرى.‏

    -هل حطمْتَ صخوراً غيرها؟‏

    ضحك والدي، وقال له:‏

    -انظر إلى تخوم الأرض.‏

    نظر أسامة إلى حيث أشار والدي، فشاهد سياجاً كبيراً، من حجارة مكسورة..‏

    فتح عينيه مدهوشاً، وقال:‏

    -هل كانت هذه الحجارة كلُّها في الأرض؟!‏

    -كانتِ الأرضُ مغروسة بالصخور، ولكنّهُ غرسٌ لا يثمر! ونهض والدي إلى الصخرة، يأتيها من هنا، ويأتيها من هناك، تارة يحفر تحتها بالمعول، وتارة ينهال عليها بالمطرقة، فيتطايرُ الشررُ منها، وتنكسر أطرافها، ويصغر رأسها الكبير، شيئاً فشيئاً..‏

    وبعد جهد جاهد، اقتلع والدي رأسَ الصخرة، وجعل يدفعه بيديه، ويدحرجه نحو طرف الأرض، فبادرْتُ أنا وصديقي إلى مساعدته، وأخذْنا ننقل حطامَ الصخرة..‏

    وحينما فرغنا من العمل، وقف والدي مرفوع الهامة، يرنو إلى أرضه الحبيبة،‏

    مزهواً بانتصاره العظيم.‏

    كانت عيناه تومضانِ سروراً، وعرقه يومض فرحاً. لقد تحرّرتِ الأرض، واندحرَتِ الصخور..‏

    امتلأْتُ إعجاباً بوالدي، فقد كان أقوى من الصخر، وبعد ذلك.. حرث والدي الأرض، وحفر فيها حفراً كثيرة، أودعَ فيها غراساً صغيرة، وأصبح يعتني بها ويرعاها، فصارتِ الغراسُ تنمو وتترعرع، وبعد بضعة سنين، ازدانت أرضنا بالأشجار، وبدأتْ تجود بالثمار، فأخذْنا نملأ منها السّلالَ الكبيرة، ونبيعها في المدينة، ونشتري بثمنها ما نحتاج ونريد.. لقد وفى والدي بوعده، فاستخرج كنوز الأرض، وطرد الفقر بيديه، و..‏

    تعالى صوت والدي، يدعونا إليه..‏

    أسرعْتُ أنا وصديقي، وجلسنا معه، في ظلٍّ ظليل، نأكل مما قطف لنا، من ثمار حلوة يانعة..‏

    قلت مسروراً:‏

    -ما أطيبَ ثمارَ العنبِ والتين!‏

    نظر أسامة، إلى كفِّ والدي الخشنة، وقال:‏

    -ما أطيبَ ثمارَ العمل!‏

    قال والدي:‏

    -لولا العمل، لظلّتْ هذه الثمار مدفونة تحت الصخور!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  10. #60
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان في قديم الزمان، أميرةٌ شريرة، قبيحةُ المنْظر، خبيثة المَخْبر، تكرهُ الناسَ وتنهرهم، وتسخر منهم وتحقرهم، فكرهها كلُّ مَنْ عرفها، وخافها خدمها وحشمها، بسبب عجرفتها، وسوء خلقها.. وكان لها أعوانٌ وعيون، يخالطون الناسَ متنكّرين، ثم يرجعون إليها، بأخبارهم وأسرارهم، وحينما تسمع ما يتناقلونه عنها، يلتهبُ قلبها حقداً، ويتطاير غيظها شرراً، فلا يجرؤ أحدٌ، على الاقتراب منها، أو النظر إلى وجهها..‏

    وفي إحدى الأمسيات، كانت جالسة، في شرفة قصرها، ومرآتها في حجرها، فنادَتْ وصيفاتها، فهرعْنَ إليها مذعوراتٍ، ومثلْنَ بين يديها مطرقات، ينتظرْنَ عقاباً أو توبيخاً.‏

    شرعَتِ الأميرةُ المغرورة، ترنو إليهن بازدراء، ثم شمختْ بأنفها، وقالت:‏

    -أصحيحٌ ما يقوله عنّي الناس؟‏

    -ماذا يقولون؟‏

    -يقولون: أنف الأميرة كبير، لكثرةِ ما تشمخ به!‏

    -الأنف الكبير، لا يعيبُ صاحبه.‏

    غضبَتِ الأميرةُ، ورفعَتْ سوطها، تلوِّحُ به مهدِّدةً. وتقول:‏

    -أتوافقْنَ الناسَ، على ما يقولون؟!‏

    رمقَتِ الوصيفاتُ السوطَ. وقلْنَ في نفوسهن:‏

    -حسِّني أخلاقكِ، وليكنْ شكلكِ ما يكون.‏

    قالت الأميرة حانقة:‏

    -ما لكنَّ ساكتات؟!‏

    -أنفكِ صغيرٌ يا سيّدتي!‏

    -لا تكذبْنَ!‏

    -اسألي المرآة، فهي لا تكذب.‏

    تناولَتِ الأميرةُ المرآة، وشرعَتْ تحملقُ إلى أنفها، فقالت لها المرآة:‏

    -أنفكِ كبيرٌ، لكثرة ما تشخمين به.‏

    اغتاظتِ الأميرةُ، وأظلمَ وجهها، فقلبَتِ المرآة، وصمتَتْ واجمة، ثم رفعَتْ رأسها، وقالت:‏

    -ويزعم الناسُ أنّ لساني سليط، وطويل كالسوط!‏

    -إنهم يكذبون!‏

    -وكيف أعرف الحقيقة؟‏

    - اسألي المرآة، تعرفي الحقيقة.‏

    رفعتِ الأميرة مرآتها، وقرّبَتْها من وجهها، ثم دلعَتْ لسانها، وجعلَتْ تنظر إليه..‏

    قالت لها المرآة:‏

    -لسانكِ سليط، وطويل كالسوط.‏

    أرجعتِ الأميرةُ لسانها، وقالت وهي تتميَّزُ غيظاً:‏

    -ويزعم الناسُ أنني شبْتُ وكبرت!‏

    -ما زلتِ صبيّةً يا سيّدتي!‏

    -قلْنَ الحقيقة، ولا تخفْنَ‏

    -المرآة تقول لكِ الحقيقة.‏

    رفعتِ الأميرةُ المرآة، وصارت تتأمَّلُ وجهها وشعرها.. لم تخفِ المرآةُ منها، بل قالت لها:‏

    -وجهكِ أعجف، وشعركِ أشيب.‏

    غضبتِ الأميرةُ على المرآة، وضربَتْ بها الأرض، فتكسّرتْ وتبعثرَتْ..‏

    وقامتِ الأميرةُ مسرعة، ودخلَتْ قصرها، وهي تصرخ:‏

    -المرآة كاذبة، المرآة كاذبة!‏

    انحنَتْ إحدى الوصيفات، وأخذتْ تجمع أشلاءَ المرآة، وحينما فرغَتْ من جمعها، نظرَتْ إليها محزونه، وقالت:‏

    -لقد ماتتِ المرآةُ، ولم تقلْ إلاّ الحقيقة!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  11. #61
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان جماعةٌ من الأصدقاء، يتنزّهون في الحقول.. شاهدوا ناراً تشتعل، قرب شجرة كبيرة. وقفوا جميعاً، ينظرون إليها..‏

    قال إياد:‏

    -يجب أنّ نطفئ هذه النار .‏

    وقال باسم:‏

    -إطفاؤها عملٌ نافع .‏

    وقال ماهر:‏

    -صدقْتَ، فالنار تلوّثُ الهواء .‏

    وقال أحمد:‏

    -ودخانها يؤذي النبات.‏

    وقال سامر:‏

    -ويؤذي الإنسان والحيوان .‏

    وقال عامر:‏

    -إذا لم نطفئها، فستحرق الأشجار .‏

    وقال خالد:‏

    -وقد تصل إلى حقول القمح .‏

    وقال نضال:‏

    -وإذا حرقتِ المحصولَ، ضاع تعبُ الفلاحين. وحينما كان الأصدقاء، يقولون، ويقولون.. مرَّ فلاحٌ شاب، ورأى النار، فهرع إليها مسرعاً، وألقى عليها التراب، فاختفَتْ ألسنتها الطويلة، ولم يبقَ سوى أنفاسها السوداء، تنفذ من بين التراب، فداسها الشابُّ بقدمه، وتابعَ سيره،‏

    ولم يفتح فمه.. نظر الأصدقاءُ إليه معجبين، وحينما غاب من أنظارهم، أطرقوا رؤوسهم صامتين..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  12. #62
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أقبل الشتاءُ، فاسودّتِ السماءُ، وهاجتِ الرياح، فخاف الأرنبُ الصغير، وعزم أنْ يبني لنفسه بيتاً متيناً، يقيهِ شرّ العواصف.‏

    بدأَ ينقلُ الحجارةَ الصلبة، ويرصف بعضها فوق بعض.. وبعد أيام، أصبح البيتُ جاهزاً، ففرح الأرنب كثيراً، وأخذ يغنّي، ثم صار يرقص..‏

    سألَتْهُ الريحُ:‏

    -لماذا ترقص أيها الأرنبُ الصغير؟!‏

    -لأنّ بيتي قويٌّ، يتحدّى الريح.‏



    -وكيف عرفْتَ؟‏

    -لقد بنيته من أقسى الحجارة.‏

    ضحكتِ الريحُ من غروره، ونظرَتْ إلى البيت، ثم مدّتْ أصابعها الرقيقة، فدخلَتْ بين حجارته بسهولة.. قالت ساخرة:‏

    -حجارة بيتكَ قويّة!‏

    -طبعاً.. طبعاً.‏

    -ولكن لا يربط بينها شيء!‏

    -ماذا تعنين بقولكِ هذا؟‏

    -أعني أنَّ حجارته ليستْ متلاصقةً ولا متلاحمة.‏

    -هذا لا يهم.‏

    -أرى أنه سيتِهدَّمُ سريعاً.‏

    -فْلتختبري قوّتكِ!‏

    اغتاظتِ الريحُ، ودفعتِ البيتَ، فانهارَتْ حجارته..‏

    قال الأرنب مدهوشاً:‏

    -كيف هدمْتِهِ، وحجارته كالحديد؟!‏

    -الحجارة المتينة، لا تصنع -وحدها -بيتاً متيناً.‏

    نظر الأرنب بازدراء، إلى حجارة بيته المبعثرة المتفرقة، ثم خاطبها قائلاً:‏

    -لن تغرّني صلابتكِ بعد اليوم، فما أضعفكِ إذا لم تتماسكي!!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  13. #63
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان في غرفة سلمى وردتان: إحداهما صناعيةٌ، في زهرّيةٍ أنيقة، والثانية وردة طبيعية، تغمرُ ساقها في ماءِ كأسٍ من زجاج..‏

    وجاءَتْ صديقاتُ سلمى لزيارتها، فأخذَتْ كلّ واحدةٍ منهنّ، ترفع الكأسَ، وتشمُّ الوردة، ثم تقول منتشية:‏

    -ما أجمل هذه الوردة، وما أطيبَ رائحتها!! وحينما انصرفتِ الزائراتُ، أصبحت الغرفة خالية، بينما ظلّتِ الوردةُ الصناعية، مملوءةً بالغيظ والحسد، لأنها لم تسمعْ كلمةَ مدح، ولم تلفتْ نظرَ أحد! ودخلَتْ نحلةٌ جميلة، من النافذة المفتوحة، فأرادتٍ الوردةُ الصناعية، أن تجذبها إليها، لتغيظَ الوردةَ الطبيعية، فشرعَتْ تنادي:‏

    تعالي إليّ أيتها النحلة‏

    لن تجدي مثل جمالي‏

    منظري رائع‏

    ألواني حمراء‏

    أوراقي ناعمة‏

    أعيش بلا غذاء‏

    وأحيا بلا ماء‏

    وأبقى ناضرة، لا أعرف الذبول.‏

    ظلّتِ الوردةُ الصناعية، تباهي بجمالها، وتفخر بنفسها، والوردة الطبيعية، تنفحُ العبيرَ صامتة، لا تنبس بكلمة.. وعلى الرغم من ذلك، طارتْ إليها النحلةُ، وعانقَتْها مسرورة، فغضبَتِ الوردةُ الصناعية، وخاطبتها مدهوشة:‏

    -ما الذي جذبكِ إلى تلك الوردة؟!‏

    -جذبني إليها عطرها وجمالها.‏

    -وكيف عرفتِ ذلك، ولم تسمعي منها كلمة واحدة؟!‏

    قالت النحلة:‏

    -الشيءُ الجميلُ لا يحتاج إلى دعاية وكلام.‏

    ***‏

    حينما ذبلتِ الوردةُ الطبيعية، شمتَتْ بها الوردةُ الصناعية، وقالت ساخرة:‏

    -أراكِ قد ذبلْتِ سريعاً!‏

    -إذا فارقْتُ أرضي، لا أعيش إلا قليلاً.‏

    -أمّا أنا فأعيش عمراً طويلاً.‏

    -طولُ العمر، لا يدعو إلى الفخر .‏

    -وبأيّ شيء نفخر؟‏

    -بما نعطيه للآخرين.‏

    -وماذا أعطيتْ في عمركِ القصير؟!‏

    -أعطيْتُ الرحيق والعطر، فهل أعطيتِ أنتِ شيئاً في عمركِ الطويل؟‏

    أطرقتِ الوردة الصناعية، تفكِّرُ فيما سمعَتْ، فأدركتْ صوابه، وحينما رفعَتْ رأسها، لتعتذر إلى الوردة الطبيعية، وجدَتْها قد ماتتْ، تاركةً من بعدها، رائحة عطرة لا تموت!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  14. #64
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    انصرفنا من المدرسة، وعدنا إلى بيوتنا فرحين.. كنا مجموعة من الأطفال، نتحادث ونضحك ونقفز. وفي الطريق، شاهدْنا مجنوناً، قصيرَ القامة، أسمرَ البشرة، أشعثَ الشعر، يرتدي ثوباً بالياً، يكشف عن صدره..‏

    تحلّقنا حوله، ننظر إليه بفضول، ونسخر من مظهره، بعبارات جارحة:‏

    -انظروا إلى لعابه كيف يسيل!‏

    -ما أبشعَ منظره!‏

    -إنه يسير حافياً!‏

    -ما أكرهَ رائحته!‏

    -أظنُّ أنه لم يغتسل في حياته!‏

    انفجرنا ضاحكين..‏

    وظلّ المجنونُ صامتاً، يرمقنا مدهوشاً.. أقبلْنا عليه، نغيظه ونؤذيه..‏

    نأتيه من بين يديه، ونأتيه من خلفه.. هذا يشدُّ شعرَهُ، وذاكَ ينتر ثوبه، وآخر يدفع ظهره، وهو يلتفت ذات اليمين، وذات الشمال، ولا يدري ماذا يفعل..‏

    لم نكتفِ بذلك، بل أخذْنا نقذفه بالحصى، فهرول وراءنا، يصرخ متألّماً..‏

    هرْبنا من وجهه، نركض أمامه، ونلتفت إليه.. وحينما وقف، عاودناهُ ثانية، فرماه طفلٌ، بحجر كبير، شجّ رأسَهُ، وأسال دمه، فقعد خائفاً، يمسح الجرح بكفّهِ، ويتأمّلُ يدَهُ الملطخة بالدماء، ثم يرفع بصره إلى السماء..‏

    كففنا عن إيذائه، ووقفنا نتأمّلُهُ صامتين..‏

    جاءتْ عجوزٌ، فقيرة طيّبة، وخاطبَتْنا معاتبة:‏

    -لماذا تضربونه يا أبنائي؟!‏

    -إنه مجنون!‏

    -ولكنّهُ إنسانٌ مثلكم، يأْلمُ كما تألمون.‏

    -ألا ترينَ شكَلهُ القبيح؟!‏

    -يا أبنائي.. الشكل القبيحُ لا يعيبُ صاحبه، وإنَّما فعله القبيح.‏

    نكسنا رؤوسنا خجلاً، ولم ننبس بكلمة واحدة.. وانحنتِ العجوز على المجنون، تمسح له وجهه وجرحه، ثم قبّلتْهُ بين عينيه، وسحبَتْهُ من يده، فمشى معها طائعاً، مثل حَمَلٍ وديع..‏

    تركْتُ رفاقي واجمين، وسرْتُ وراءها، لأكشفَ سرّها.. استدارَتْ نحوي، فرأيتُ في عينيها الدموع..‏

    قلت مستغرباً:‏

    -أتبكينَ على هذا المجنون؟!‏

    قالت بحنانٍ بالغ:‏

    -إنه ابني!‏

    -لا أكادُ أصدّقُ!‏

    لماذا؟‏

    -إنه.. مجنون!‏

    قالت العجوز:‏

    -وهل يولدُ المجنونُ بلا أمّ؟!‏

    قلت متعجباً:‏

    -لماذا لم تعاقبينا على ما فعلنا؟!‏

    -ولمَ العقابُ يا بني؟!. ما زلتم صغاراً.‏

    قلت نادماً حزيناً:‏

    -إنني أعتذر إليكِ، فهل تقبلين اعتذاري؟‏

    مدّتِ العجوزُ يدها، ومسحَتْ رأسي، براحتها الحانية، وقالت:‏

    -لا تحزنْ يا صغيري، إنني أعذركَ وأسامحك.‏

    ومضتِ الأمُّ الرؤوم، تسحب ابنها الحبيب إلى قلبها، وظللتُ واقفاً في مكاني، أرنو إليهما راحماً، وأقول في نفسي:‏

    -ما أكثرَ الدروسَ التي نأخذها خارج جدران المدرسة!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  15. #65
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    حلّ الظلام.. ترك مازنٌ اللعبَ، وعاد إلى البيت خائفاً، يفكّر بعذرٍ، يقدّمهُ لوالديه..‏

    قال فرحاً:‏

    -لن ينجيني إلا الكذب!‏

    وحينما دخل البيت، تطلّعَتْ إليه أنظارُ الأسرة، فقد كان الجميعُ ينتظرونه، بصبرٍ فارغ..‏

    قال الأب:‏

    -أين كنتَ يا مازن؟!‏

    -كنتُ عند صديقي، أكتبُ وظائفي.‏

    -ولكنني لا أرى معكَ دفاتر!‏

    خجل مازن، وقال:‏

    -كنت أزور جدّتي، فهي مريضة .‏

    -جدتك خرجَتْ من عندنا منذ قليل!‏

    ازداد مازن خجلاً، وقال متلعثماً:‏

    -كنت.. كنت.. خارج البيت!‏

    انفجر الجميع ضاحكين..‏

    وانفجر الكذّابُ باكياً!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  16. #66
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان القاربُ، يتهادى مختالاً، فوق البحر الواسع، وما لبث أنْ شمخ بأنفه، وقال:‏

    -ما أعظمني قارباً!‏

    أمتطي البحرَ الكبير، فينقلني حيثما أريد، ولا يعصي لي أمراً.‏

    قال البحر:‏





    -يسعدني أنْ تعترفَ بفضلي .‏

    -ليس لك أيّ فضلٍ، لأنكَ مسخَّرٌ لحملي.‏

    -أتقضي عمرَكَ على ظهري، وتنكرُ الآن فضلي؟!‏

    -اخفضْ صوتكَ، وأنتَ تحادثُ مَنْ فوقك.‏

    -أتزعمُ أنكَ فوقي، ولم يرفعْكَ غيري؟!‏

    -ما رفعني إلاّ منزلتي وقدري .‏

    قال البحر غاضباً:‏

    -إنك لمعجبٌ بنفسكَ، وما يكون لأحدٍ أنْ يتكبّرَ على ظهري‏





    قال القارب:‏

    -سأظلُّ على ظهركَ، شئْتَ أم أبيت.‏

    هاج البحرُ وثار، فصار موجُهُ كالجبال، وقذفَ القاربَ المغرور، فانطرح على اليابسة، مكسورَ الأضلاعِ، فاقدَ الإحساسِ..‏

    وحينما صحا من إغمائه، حاول أن يتحرّكَ، فلم يجدْ قدرة!‏

    أعادَ المِحاولةَ، ولكنْ دون فائدة..‏

    شعر أنّ حياته قد انتهتْ، وأصبح هيكلاً من أخشاب.‏

    قال نادماً:‏



    -لقد أهلكني الجحودُ والغرور .‏

    ونظر إلى البحر الأزرق، والأمواج الراكضة، فعاودَهُ الشوقُ والحنين، وقال محزوناً:‏

    -ما أعظمك أيها البحر!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  17. #67
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    استيقظ حمدانُ باكراً، فأمسكَ ديكَهُ الأحمر، وربط ساقيه جيداً، ثم ألقاهُ في السلّة، ومضى إلى المدينة..‏

    وقف حمدان، في سوق المدينة، والديكُ أمامه في السلَّة، ينتظر مَنْ يشتريه.. وكلّما مرَّ به رجلٌ، فحصَ الديكَ بناظريه، وجسّهُ بيديهِ، ثم يساومُ في الثمن، فلا يتفقُ مع حمدان، وينصرف مبتعداً..‏

    قال الديك في نفسه:‏

    -إذاً ستبيعني يا حمدان:‏

    وتململَ في السلّة، يحاولُ الخروجَ، فلم يقدر..‏

    قال غاضباً..‏

    -كيف يمدحون المدينةَ ولم أجدْ فيها إلاّ الأسر؟!‏

    وتذكّرَ القريةَ والحرية، فقال:‏

    -لن يصبرَ أهلُ قريتي على فراقي، فأنا أُوقظهم كلّ صباح، و..‏

    أقبل رجلٌ من قرية حمدان، فسلّم عليه، وقال:‏

    -ماذا تعمل هنا؟‏

    -أريدُ أنْ أبيعَ هذا الديك .‏

    -أنا أشتريه.‏

    اشترى الرجلُ، ديكَ حمدان، وعاد به إلى القرية..‏

    قال الديك مسروراً:‏

    -كنتُ أعرفُ أنّ القريةَ سترجعني، لأُطلعَ لها الفجر. وحينما دخل الرجلُ القريةَ، دهشَ الديكُ عجباً..‏

    لقد استيقظ الناسُ، وطلعَ الفجر!‏

    سأل الديك دجاجةً في الطريق:‏

    -كيف طلعَ الفجرُ، في هذا اليوم؟!‏

    -كما يطلعُ كلّ يوم‏

    -ولكنني كنتُ غائباً عنِ القرية!‏

    -في القرية مئاتُ الديوكِ غيرك .‏

    قال الديك خجلاً:‏

    -كنتُ أعتقدُ انّهُ لا يوجدُ غيري‏

    قالتِ الدجاجة:‏

    - هكذا يعتقد كلّ مغرور .‏

    وفي آخر الليل، خرج ديكُ حمدان، وأصغى منصتاً فسمع صياحَ الديوكِ، يتعالى من كلّ الأرجاء، فصفّقَ بجناحيهِ، ومدّ عنقه، وصاح عالياً، فاتّحدَ صوتُهُ بأصوات الديوك.. وبزغ الفجرُ الجميل..‏


    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  18. #68
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أسامةُ تلميذٌ في الصفّ الرابع‏

    وأخته أسماءُ تلميذةً في الصفّ الثالث‏

    أسامةُ ذكيٌّ ومجتهد .‏

    أسماءُ ذكيّةٌ ومجتهدة .‏

    أسامةْ يحبُّ أخته، وينافسها في كلّ شيء.‏

    وأسماءَ تحبُّ أخاها، وتنافسه في كلِّ شيء .‏

    تارةً يتباريانِ في الإملاء‏

    وتارةً يتباريان في الرسم.‏

    وتارة يتباريانِ في التعبير .‏

    و..‏

    مرّةً يفوزُ أسامةُ، فتهنّئهُ أسماء .‏

    ومرّةً تفوزُ أسماءُ، فيهنّئها أسامة.‏

    وكانت أمُّهما المعلّمةُ، تعجبُ بهما، وتشجّعهما على هذا التنافس البريء..‏

    وفي هذا الصباح، استيقظ أفرادُ الأسرة ،‏

    وشرعوا يستعدّون للذهاب إلى المدرسة، فقالت أسماءُ لأخيها:‏

    -أنتَ بطيءٌ في ارتداءِ ثيابك، ولن أنتظركَ بعد اليوم .‏

    -أنا أسرعُ منكِ في ارتداء الثياب .‏

    -دائماً أنتهي قبلكَ وأنتظركَ.‏

    -أستطيعُ أن أثبتَ لكِ، أنني أسرعُ منك .‏

    -كيف؟!‏

    -نجري مباراةً في ارتداء لباسنا المدرسيّ.‏

    أعجبَ الاقتراحُ أسماءَ، فقالت متحمّسة:‏

    -أنا موافقة‏

    -ومَنِ الحكم؟‏

    وتحمّستِ الأُمُّ للمباراة، فنظرَتْ إلى ساعتها، ثم رفعتْ رأسها، وقالت:‏

    -أنا أحكمُ بينكما.‏

    جلبَتْ أسماءُ لباسها المدرسي .‏

    وجلبَ أسامةُ لباسه المدرسي .‏

    مدّ أسامةُ يدَهُ، وقبل أنْ يلمسَ ثيابه، قالتِ الأْمُّ:‏

    -أبعدْ يدَكَ، حتى أُعلنَ بدءَ المباراة .‏

    رفع أسامةُ يده، مطيعاً أَمرَ الحَكَمْ‏

    وقفَتْ أسماءُ، وأمامها لباسها .‏

    ووقفَ أسامةُ، وأمامه لباسه .‏

    أعلنتِ الأُمّ بَدْءَ المباراة، فسارعَ الاثنانِ إلى ثيابهما، يلبسانها بخفّةٍ ونشاط..‏

    وعندما لبس أسامةُ صدارة المدرسي، أدخل الزرّ الأوّلَ، في العروة الثانية، وتابع التزرير، حتى بلغ الزرّ الأخير، فلم يجدْ له عروة، ورأى صداره، طويلاً من جانب، قصيراً من الآخر!‏

    أدركَ خطأَهُ سريعاً، وأخذ يفكّ الأزرارَ، وعندما فرغ منها، بدأ يزرّها ثانية، ولكنه في هذه المرّة، تأكّدَ من صِحَّةِ البداية، فوصل إلى نهايةٍ صحيحة، ورأى طرفي الصدار متساويين.‏

    وحينما رفع رأسه، وجد أُمّهُ وأخته، تنظرانِ إليه وتبسمان..‏

    قالت أسماء:‏

    لقد خسرْتَ المباراة!‏

    قالت الأُمُّ:‏

    أخوكِ ربح درساً نافعاً.‏

    أيّ درسٍ تقصدين؟‏

    الدرس الذي تعلّمه من الزرِّ الأوَّل .‏

    أطرق الأخوانِ صامتين، يفكّرانِ في كلامِ الأُمّ، وعندما فهما ما تعنيه، أشرق الفرحُ على الوجوه، وانطلق الجميعً إلى المدرسة مسرورين، فقد أخذوا درساً قبل أنْ تفتح المدرسةُ أبوابها!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  19. #69
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان هناك سحابتانِ: سحابةُ مطرٍ، وسحابةُ دخان.. كانت سحابةُ المطر، تطوف في أرجاء السماء، فرحة مسرورة، فسمَعتْ نداءاتٍ حزينةً، تصعدُ من الأرض، تستغيث بها، وتطلبُ المطر.. سمعَتْ نداءَ الفلاحين البائسين، ونداءَ الحقول الظامئة.‏

    سمعَتْ نداءَ الأشجارِ الذابلة، ونداءَ الأنهار الناضبة.‏

    سمعَتْ نداءاتٍ كثيرةً وحزينة..‏

    حزنتِ السحابة الرحيمة، ونزلَتْ إلى الأرض، تحملُ الفرحَ والمطر.‏

    صادفَتْ في طريقها، سحابةَ الدخانِ، وهي تصعد إلى السماء، فسألتها قائلة:‏

    -إلى أين أنتِ ذاهبة؟‏

    -أنا ذاهبة إلى السماء .‏

    -مَنْ أرسلكِ إليها؟‏

    -الناسُ أرسلوني .‏

    -ألا تعرفينَ أنّ دخانَكِ يلوّثها؟‏

    -هذا أمرٌ لا يعنيكِ‏

    قالت سحابة المطر:‏

    -السماءُ وطني، ولن أدعكِ تلوّثينه .‏

    -أنا حرّةٌ، أفعلُ ما أشاء .‏

    -لستِ حرّةً، عندما تؤذين غيرك .‏

    وطال بينهما الجدال، وظلّتْ سحابةُ الدخان،‏

    متشبثةً بالعناد، فغضبَتْ سحابةُ المطر، وصبَّتْ ماءها الغزير، على سحابة الدخان..‏

    وتعارك المطرُ والدخان، فانتصرَ المطرُ، وتلاشى الدخان..‏

    ونزل المطرْ إلى الأرض، ولكنّه كان مطراً أسود!‏

    نظر الناسُ إليه، وقالوا مستنكرين:‏

    -مطر أسود!.. ما أبشعه!!‏

    قال المطر، وهو محزون:‏

    -لا تلوموني، ولوموا أنفسكم.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  20. #70
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    انصرفَ التلاميذُ من المدرسة، وسار الصديقانِ، أحمدُ وغزوان، في طريق واحد..‏

    قال غزوان:‏

    -تعالَ إليَّ اليومَ، لندرسَ معاً‏

    -متى أجيء؟‏

    في الساعة الرابعة .‏

    وافترق الصديقانِ، فذهب كلُّ واحدٍ إلى بيته..‏

    وفي الموعد المحدّدِ، استقبل غزوانُ، صديقة أحمد، وأخذ يحدّثهُ، عن زملاء المدرسة، فيغتاب هذا، ويعيبُ سلوكَ ذاك..‏

    قال أحمد، محاولاً إنهاءَ الحديث:‏

    -ألا نبدأُ بالدراسة؟‏

    -الوقتُ أمامنا طويل.‏

    -الوقتُ من ذهب، وعلينا أن ننفقه فيما يفيد.‏

    -ألم يعجبْكَ حديثي؟!‏

    سكتَ أحمدُ خجلاً..‏

    وتابع غزوانُ الكلام، فتحدّثَ عن إخوته، وألعابهم، وخلافاتهم، و..‏

    شعر أحمد بالصداع، وألقى نظرة على ساعته، فوجدها تشير إلى الخامسة، فرفع رأسه، وقال غاضباً:‏

    -أتدري ماذا أضعْتُ عندك؟‏

    -ماذا أضعْتَ؟‏

    -أضعْتُ ساعةً ذهبيّة!‏

    فوجئَ غزوانُ، ونهض مسرعاً، يبحثُ عنِ الساعة، فوق المكتب، وبين الدفاتر، و..‏

    أحمدُ يراقبه صامتاً..‏

    لم يعثرْ غزوانُ على شيء، فقال يائساً:‏

    -لم أجدِ الساعة‏

    -لن تجدها، مهما بحثت‏

    ونظر غزوانُ إلى صديقه، فرأى ساعته في معصمه!‏

    قال ساخراً:‏

    -أهذه ساعتك الضائعة!؟‏

    الساعة الضائعة غير هذه .‏

    -وهل هي من ذهب؟‏

    -نعم، إنها من ذهب .‏

    وانقطع الكلام، وساد الصمت، وظلّ اللغزُ غامضاً.. أحمد لم يكذبْ، فقد أضاعَ ساعةً ذهبية.‏

    وغزوان لن يجدَها، مهما بحث عنها!‏

    -ما الساعة الذهبية التي أضاعها أحمد؟!‏

    أطرق غزوان، يفكّرُ حائراً..‏

    فكّروا معه قليلاً، فقد تصلون قبله إلى الجواب.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  21. #71
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    رنّ جرسُ الدرس..‏

    أسرعَتِ التلميذاتُ إلى الصفّ، وجلسْنَ في المقاعد هادئاتٍ، ينتظرْنَ قدومَ المعلِّمَة..‏

    كانت معلِّمةُ الصف، تناهزُ الخمسين من عمرها، ولكنها لا تزال حازمة، لا تتغاضى عن الشغب، ولا تسامحُ في التقصير، شعارها الجدُّ والنظام، في الدراسة، وفي الدوام، كأنها ساعة عاقلة.‏

    -لماذا تأخّرَتِ اليوم؟!‏

    قالت تلميذة:‏

    -المعلّماتُ مجتمعاتٌ في الإدارة‏

    -متى ينتهي الاجتماع؟‏

    -لا ندري!‏

    فرحَتْ ليلى الصغيرة، وبدأَتْ تتململُ في مقعدها، تميلُ ذاتَ اليمين وذات الشمال، ولا تستقرُّ على حال.. إنها طفلة شقراء مرحة، ماهرة في التمثيل، وتقليد الآخرين، فنالت محبّةَ زميلاتها، بما لديها من دعابة ومزاح.‏

    انتهزَتْ ليلى الفرصة، وغادرت مقعدها..‏

    وقفَتْ في مكان المعلِّمة، على المنصّة القريبة من السبّورة.. وضعَتْ على عينيها نظّارة، مثل نظارة معلمتها، وحنَتْ ظهرها قليلاً، ثم تنحنحتْ، وقالت تقلِّد المعلِّمة:‏



    -بناتي الطالبات!.. مَنْ تذكِّرني بدرسنا السابق؟‏

    انجذبَتْ إليها العيونُ والقلوب، وارتفعَتْ عدّةُ أصابع.. قلبَتِ المعلّمة الصغيرة، شفتها السفلى، ثم هزّتْ رأسها وقالت بصوت راعش:‏

    -أريدُ أصابعَ أكثر.. كيف نأخذ درساً جديداً، وقد نسينا درسنا القديم؟!‏

    كانت التلميذات ينصتْنَ لها مسرورات، والإعجاب ظاهر على الوجوه والعيون.‏

    وفجأة..‏

    تحوّلَتْ عنها العيون، وكسا الذعرُ الوجوه، وغطّتِ الكفوفُ الأفواه..‏

    التفتَتْ ليلى، لتكشف الأمر، فأبصرتْ معلِّمتها، ذاتَ النظارة، واقفة في الباب!‏

    انعقد لسانها حيرة، واحمرَّ وجهها خجلاً، فأطرقَتْ رأسها، لا تدري ماذا تفعل..‏

    مرّتْ لحظاتُ صمتٍ ثقيل، ثم أفلتَتْ ضحكاتٌ محبوسة، من هنا وهناك..‏

    رفعَتْ ليلى رأسها، ونظرَتْ إلى معلِّمتها خلسة، فرأتها تبتسم!‏

    كانت ابتسامتها شمساً مشرقة، أضاءت نفسها المظلمة، وقشعَتْ عنها غيومَ الخوف والحزن..‏

    عادت إليها شجاعتها، وقالت معتذرة:‏

    -أنا آسفة!‏

    -لا داعي إلى الأسف يا بنتي!‏

    -سامحيني على مافعلت.‏

    -لستُ عاتبةً عليكِ‏

    -هل أذهب إلى مقعدي؟‏

    قالتِ المعلِّمة:‏

    -لن تذهبي إلا بشرط.‏

    -ما هو؟‏

    -أن تنضمّي إلى فرقة التمثيل في المدرسة‏

    قالت ليلى فرحة:‏

    -موافقة!‏

    ضحكَتِ المعلِّمة، وقالت:‏

    -اذهبي الآن إلى مقعدك، أيتها المعلِّمة الصغيرة! أسرعَتْ ليلى إلى مقعدها، وهي تكاد لا تصدّق، غير أنها أصبحَتْ على ثقة تامة، أنّ المعلِّمة هي أُمّها الثانية!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  22. #72
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    عاشت شجيراتُ الورد، أمام بيتٍ صغير، على طرف القرية، وكانت صاحبة البيت العجوز، تحبّ وردَها كثيراً، وتوليه كلّ عناية، وتسقيه كلّ يوم، وعلى الرغم من ذلك، لم يكن الورد سعيداً..‏

    -لماذا؟‏

    -لأنّ الأولادَ يقطفون منه خلسة، والحيوانات تدوس فوقه، وتتلف بعضه.‏

    عاش الورد في حزن وخوف‏

    فكّرتِ العجوزُ في أمره، فاهتدَتْ إلى الحل، وغرسَتْ أشجار العَوْسَج حول الورد..‏

    وعندما كبر العوسج، أحاط بالورد الجميل، شاهراً أشواكه الحادة، كأنه صفّ من الجنود المسلّحين..‏

    حاول الأولادُ اختراقه، فأدمى أناملهم، وانصرفوا يائسين..‏

    ومدّتِ الحيواناتُ أفواهها، فوخزها شوكه، وارتدّتْ غاضبة.‏

    فرح الوردُ بحياته الآمنة، فملأ المكانَ عطراً وسحراً..‏

    وذات صباح مشرق، تفتّحَتْ وردةٌ صغيرة، فرأتْ دنيا جميلة..‏

    غسلَتْ وجهها الأحمر بقطرات الندى، وشرعَتْ تميل مختالة، وترنو حولها، فرأت قربها، شجرة عوسج..‏

    نفرَتْ من شكلها، وخاطبَتْها ساخرة:‏

    -ما اسمك أيتها الشجرة الغريبة؟‏

    -أنا شجرة العوسج.‏

    -ما هذه الحِرابُ التي تحملينها؟!‏

    -هذه أشواكي .‏

    -ما أقبح شكلكِ بهذه الأشواكّ!‏

    -لا أستطيع تغيير شكلي، يا صغيرتي الجميلة!‏

    -إذا كان شكلك قبيحاً، فلمَ تعيشينَ قرب الورد الجميل!؟‏

    قالت شجيرة الورد، وقد نفذ صبرها:‏

    -تعيش قرب الورد الجميل، لتحمي جماله من الأذى .‏

    -بأيّ شيءٍ تحميه؟!‏

    -تحميه بهذه الأشواك، التي تسخرين منها .‏

    -الورد لا يعتدي عليه أحد .‏

    وانقطع الحوار فجأة، حينما مدّ ولدٌ يده، ولوى عنق الوردة ليقطفها، فبدأت ترتجف مذعورة.. هاجمَتِ العوسجةُ الولدَ، وطعنته بأشواكها الحادّةِ، فأبعدَ يدَهُ مسرعاً، وانصرف متألّماً، يفرك ساعده، وينفخ عليه..‏

    قالت شجيرة الورد:‏

    -شكراً لكِ أيتها العوسجةُ الطيّبة!‏

    خجلَتِ الوردةُ الصغيرة، واعتذرَتْ إلى شجرة العوسج، فسامحتها العوسجة، وقالت لها:‏

    -لن أدعَ أحداً يعتدي على شكلكِ الجميل.‏

    قالت الوردة الصغيرة:‏

    -وأنا لن أنكر -بعد اليوم- فعلَكِ الجميل.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  23. #73
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    التقَتْ نقطتانِ، فوق صفحةٍ بيضاء..‏

    وبعد أن تبادلتا التحية، قالت إحداهما للأخرى:‏

    -ما أجملَ هذه الصفحة!‏

    -تعالي، لنسير عليها .‏

    -إذا سرنا عليها، ستمتلئُ خطوطاً .‏

    -وما الضرر في ذلك؟‏

    -نفسدُ الصفحةَ، فلا تصلحُ لشيء .‏

    -اطمئنّي يا صديقتي.. سنرسم خطوطاً لها معنى.‏

    -ماذا تقصدين؟‏

    -اتبعيني، وسترين .‏

    -أنا متعبة الآن .‏

    -انتظريني إذاً، حتى أعود .‏

    -سأنتظركِ.‏

    سارتِ النقطةُ الصغيرة، فوق الورقة البيضاء، راسمة وراءها، خطاً أزرق، ينحني تارة، ويستقيم أخرى..‏

    كانت خطواتها قصيرة، وطريقها طويلة، فأعياها المسير، ولكنها لم ترجع يائسة، بل ظلّتْ ماضية فيما عزمَتْ عليه، حتى بلَغتْ طرف الورقة، فاتجهَتْ نحو الأسفل، ثم انعطفَتْ راجعة، ترسم خطاً جديداً، يبعد عن الخط السابق، وظلَّتْ تحثُّ الخطا، حتى وصلَتْ إلى المكان الأوّلِ، الذي انطلقَتْ منه، فوجدَتْ صديقتها في انتظارها..‏

    قالت لها، وهي تلهث:‏

    -انظري ما صنعْتُ على الورقة!‏

    تأمّلَتْ صديقتها، الشكل المرسوم، وما لبثت أنْ قالت:‏

    -هذه خارطةُ الوطن العربي!‏

    -هل أفسدْتُ بها الصفحة؟‏

    -لقد أحسنْتِ يا صديقتي، فاستريحي حتى أكملَ العمل.‏

    -ماذا ستفعلين؟‏

    -سأرسمُ الحدودَ، بين الدول العربية‏

    -إيّاكِ أنْ تفعلي!‏

    -لماذا؟‏

    -لن نضعَ حدوداً بين الأشقّاء .‏

    فكّرتِ النقطةُ فيما سمعَتْ، ثم قالت مسرورة:‏

    -ما أعظمك يا صديقي!‏

    تبادلَتِ النقطتانِ النظرات، وارتفع منهما هتافٌ واحد!‏

    -لن نرسم الحدود.‏

    -لن نرسم الحدود .‏

    فرحَتِ النقطتانِ، وتعانقتا طويلاً..‏

    شعرتا بسعادة كبيرة، وكرهتا العودة إلى الانفصال لقد صارت النقطتانِ الصغيرتان، نقطةً واحدةً كبيرة:‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  24. #74
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    غزوان طفلٌ صغير، في الرابعة من عمره، فيه صفة ذميمة، كثيراً ما أغضبَتْ أمّه..‏

    -أتريدونَ معرفةَ هذهِ الصّفة؟‏

    لن أبوحَ لكم بها، بعد قليل تكشفونها، عندما تعرفون، ما فعل غزوان اليوم، فقد كان جالساً، بجانب المدفأة، وبين يديه كتابٌ، يقلبُ صفحاته، ويتفرّجُ على صوره الملوّنة..‏

    شاهدَ صورةَ خوخةٍ، نظر إليها طويلاً، ثم حمل كتابه، وذهب إلى أُمّهِ، وقال:‏



    -ما هذه؟‏

    -خوخة.‏

    -كيف طعمها؟‏

    -طيّبٌ لذيذ.‏

    قال غزوان:‏

    -أريدُ خوخة‏

    -في الشتاء، لا يوجد خوخٌ يا حبيبيّ‏

    -أريد خوخة.‏

    عندما يأتي الصيف، سأشتري لكَ خوخاً كثيراً.‏

    -أريد خوخة‏

    جلبَتِ الأُمُّ برتقالةً، أعطَتْها ابنها، وقالت:‏

    -هذه البرتقالة، أطيبُ من الخوخة.‏

    أكلَ غزوان البرتقالة، ثم ركض إلى أُمِّهِ، وقال لها:‏

    -أريد خوخة‏

    جلبَتْ له أُمّهُ، تفاحة حمراء، أعطتْه إياها، وقالت:‏

    -هذه التفاحة، أطيبُ من الخوخة.‏

    أكل غزوان التفاحة، ثم ركض إلى أُمِّهِ، وقال لها:‏

    -أريد خوخة.‏

    جلبَتْ له أُمّهُ، موزةً صفراء، أعطتْهُ إياها، وقالت:‏

    -هذه الموزة، أطيبُ من الخوخة.‏

    أكل غزوان الموزة، ولحس فمه بلسانه، ثم ركض إلى أمه، وقال لها:‏

    -أريد خوخة.‏

    ضاقَتِ الأُمّ به ذَرْعاً، وقالت غاضبة:‏

    -لا يوجد خوخ.. لا يوجد خوخ!‏

    -أريد خوخة.‏

    حارتِ الأُمُّ في أمرها، وعجزَتْ عن إرضاء ابنها، فتركته يبكي، وذهبت إلى عملها.. بعد وقت يسير.. انقطع البكاء!‏

    هرعتِ الأمُّ، لتعرف الأمر، فوجدَتْ غزوان، يغطُّ في النوم..‏

    تنفّسَتِ الأُمُّ الصعداء، وجاءت بغطاء، فغطَّتْ به ابنها، ثم وقفَتْ على رأسه، ترنو إليه بحنان، فسمَعْتهُ يقول، وهو نائم:‏

    -أريد خوخة.. خوخة!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  25. #75
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    رنّ جرسُ المدرسة، وانطلقَ التلاميذُ إلى الباحة، يركضون ويلعبون، يضحكون ويصرخون.. وظلّ أحمدُ في الصفِّ، يرتِّبُ كتبَهُ، وأصواتُ زملائه، تملأُ أذنيه..‏

    وفجأة.‏

    انقطعَتِ الحركةُ والأصوات!‏

    قال أحمد مدهوشاً:‏

    -أمرٌ عجيب.. ماذا حدث؟!‏

    خرج مسرعاً، ليعرفَ السبب..‏

    شاهد التلاميذَ مجتمعين، يمدُّون عيونهم إلى باب الإدارة..‏

    انضمّ أحمدُ إليهم، ينظر حيثما ينظرون.‏

    رأى رجلاً غريباً، يلبس رداءً أبيض .‏

    -مَنْ هذا؟‏

    -طبيبٌ من المدينة .‏

    -ولمَ جاء إلى مدرستنا؟!‏

    -ليضربَ التلاميذَ بالإبر‏

    -لماذا؟‏

    -يقولون إنها لقاح ضدّ المرض .‏

    -أيّ مرض؟‏

    -لا نعرف اسمه.‏

    صمَتَ أحمدُ، وأخذ يراقبُ الطبيبَ، فرآه يجهِّزُ الإبرة .‏

    خاف أحمد من وخزها، وأضمر في نفسه أمراً.‏

    صفّ المعلّمُ التلاميذَ. وجعلوا يتقدّمون إلى الطبيب، واحداً إثر آخر..‏

    كان أحمد مختبئاً، يحبس أنفاسه، ويسترق السمعَ، فلا يصلُهُ إلا أصواتٌ خافتة، وكلماتٌ غامضة.‏

    مكث صامتاً يترقّب..‏

    وأفلتَ التلاميذُ، وتعالتِ الأصوات، و.. أخرجَ أحمدُ رأسَهُ، ونظر مستطلعاً.. لقد انصرف الطبيب، وانتهى كلُّ شيء.‏

    نهض أحمد فرحاً، يقول في نفسه:‏

    -لم يدرِ بي أحد!‏

    واختلط برفاقه، يستمع إلى حوارهم..‏

    -كنتُ خائفاً من الإبرة‏

    -ولمَ الخوف؟!.. إنها مثلُ وخزةِ الشوكة‏

    -هل تؤلمك الآن؟‏

    -لم أتألّمْ غيرَ دقيقة .‏

    -ظننْتُ أنه سيأخذ ثمن الإبرة .‏

    -ليس معنا قرش واحد!‏

    -أخذناها مجاناً وانتهينا .‏

    -وماذا ستفيدنا؟‏

    -إنها تقي أجسامنا من المرض .‏

    سمع أحمد هذا الكلام، فخجل من جبنه، وندم على هروبه، ولكنّ الندمَ لا يفيد، فبعد أيام، أصابه المرض، فانقطع عن المدرسة، ولبث في البيت..‏

    قال والده، وهو يلمس جبينه:‏

    -لم ينتفعْ باللقاح اللعين!‏

    وقالت والدته، وهي محزونة:‏

    -يجب أنْ نأخذَهُ إلى الطبيب.‏

    -لا أملكُ إلا عشرين ليرة .‏

    -وأنا معي ثلاث عشرة ليرة .‏

    وقالت أخته الصغيرة:‏

    -وأنا معي خمس ليرات .‏

    قال الأب:‏

    -لا حولَ ولا قوّة إلا بالله.‏

    وقال أحمد في سرّه:‏

    -لقد تعلّمْتُ درساً لن أنساه..‏

    الألم القليل قد يُنتجُ راحةً كبيرة .‏

    والمعلِّمُ هذه المرّة هو: إبرة الطبيب!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  26. #76
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أمامَ بيتنا الجميل، حفرَ والدي حفرةً صغيرة.. أخرجَ لوزةً يابسة، رفعها بإصبعيه، وقال:‏

    -ما هذه يا أحمد؟‏

    -لوزة صغيرة .‏

    -لا تنسَ ذلك .‏

    -لن أنسى أبداً.‏

    وضع والدي اللوزة، في قَعْر الحفرة، وردمَ فوقها التراب..‏

    -لمَ وضعْتَ اللوزة في التراب؟!‏

    -لنحصلَ على لوز كثير.‏

    -مِنْ أين؟‏

    -مِنْ هذهِ اللوزة.‏

    -كيف؟!‏

    -اسألِ الأرض .‏

    -لم أفهم!‏

    -ستفهم فيما بعد.‏

    ***‏

    مضَتْ شهور..‏

    انشقّ الترابُ، وظهر رأس أخضر، أخذَ يكبر ويكبر، حتى صار شجيرةً صغيرة، طريّةَ الأغصان، ناعمةَ الأوراق.‏

    ودارَ الزمان..‏

    وأصبحتِ الشجيرةُ الصغيرة، شجرةَ لوزٍ كبيرة.‏

    زارها الربيعُ، وزيَّنَها بالأزهار.‏

    ما أجمل اللوزة!‏

    أنا وإخوتي نلعبُ في ظلالها .‏

    والنحلُ تمتصُّ رحيقَ أزهارها .‏

    والطيرُ تغرّدُ على أغصانها .‏

    وبيتنا يزدادُ جمالاً بجمالها‏

    ***‏

    وفي أواخر الصيف، قطفنا منها لوزاً كثيراً، أكلْنا منه طوالَ فصلِ الشتاء..‏

    وتذكّرْتُ اللوزةَ الصغيرة، التي طمرها والدي في الأرض، منذ بضع سنوات، فسألته حينذاك:‏

    -لمَ وضعْتَ اللوزةَ في التراب؟!‏

    -لنحصلَ على لوزٍ كثير‏

    -مِنْ أين؟‏

    -مِنْ هذه اللوزة‏

    -كيف؟!‏

    -اسألِ الأرض .‏

    ولكنني الآن.. لن أسألَ الأرض، فقد عرفْتُ كلّ شيء، لوسألْتُ الأرضَ، لما حصلْتُ على جواب..‏

    الأرضُ تعرفُ العطاءَ، ولا تعرفُ الكلام. فما أكرمكِ أيتها الأرض!‏

    أعطيناكِ لوزةً صغيرة، فأعطيتنا شجرةً كبيرة، ولوزاً كثيراً..‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  27. #77
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    تربَّعَ الثلجُ على قمّةِ الجبل، وألقى نظرةً إلى الأراضي الواطئة، ثم ضحكَ مغروراً، وقال:‏

    -أنا فوق الجميع:‏

    نادَتْهُ رَبْوةٌ قريبة:‏

    -أيُّها الثلجُ العظيم، إنني ظامئة فأغثْني .‏

    -لن أغادر القمة، فابحثي عن غيري .‏

    -في جوفي بذورٌ صغيرة، ستموتُ من العطش .‏

    -فلْتمتْ‏

    -إذا ماتَتْ سيموتُ الربيع.‏

    -فلْيمتْ .‏

    حزنتِ الربوةُ كثيراً، فقال لها النهرُ الطيّبُ:‏

    -لا تحزني أيتها الربوة الصغيرة، سأمنحك مياهي، حتى آخرِ قطرة.‏

    فرحَتْ الربوةُ، وبدأَتْ ترشفُ من النهر، وتُرضعُ بذورها الصغيرة.‏

    بعد أيام..‏

    قلّتْ مياهُ النهر، وكاد يجفُّ ويموتُ، فذهبَ إلى الثلج، وقال:‏

    -أيها الثلجُ الجليل، لقد شحّتْ مياهي، فجئْتُ طالباً عَوْنك .‏

    -ولمَ تطلبُ العَوْنَ منِّي؟!‏

    -لأنّكَ قريبي‏

    -كيف؟!‏

    -أنتَ ماءٌ، وأنا ماء‏

    -لا أشبهكَ، ولا تشبهني، فابتعدْ عنّي. انصرف النهرُ يائساً حزيناً..‏

    سمعَتِ الشمسُ حوارهما، فغضبَتْ من غرور الثلج، وزفرَتْ زفرةً حارة، ثم سلّطَتْ أشعتها الحامية على الثلج، فأخذ يذوبُ شيئاً فشيئاً، ليرجعَ ماءً، كما كان، فقال مدهوشاً:‏

    -يا للعجب.. إنني أتحوّلُ إلى ماء!‏

    استمرّ الثلجُ يسيل، قطرات تتبعها قطرات، كأنها دموع غزيرة، يذرفها الثلج، وهو ينسحب من القمة، وينزل رويداً رويداً.. وحينما وصل إلى الأراضي الواطئة، ساحَ في كلّ اتجاه، هائماً على وجهه، لا يدري أين يستقرُّ، فهرع إلى النهر الطيّبِ، واستنجدَ به ليؤويه، فقال النهر:‏

    -أهلاً بكَ يا عزيزي:‏

    وسرعان ما احتضنه بين ضفّتيهِ، فاتّحدَ ماءُ النهر، وماءُ الثلج..‏

    وسار النهرُ دفّاقاً غزيراً.‏

    يجودُ بمائهِ، وهو طروب.‏

    فارتوتِ الربوةُ، وارتوى السهل.‏

    ونَمَتِ البذورُ، واستطالَتْ سوقها‏

    ثم ودَّعَتْ جوفَ الأرض، وخرجَتْ إلى النور.‏

    فوُلِدَ الربيع.. جنَّة ألوانٍ وعطور..
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  28. #78
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كانتِ النملةُ الصغيرة، تصعدُ جدارَ البيت، وعندما بلغَتْ زاويته، شاهدَتْ بيتَ عنكبوت..‏

    اقتربَتْ منه تتفحَّصُهُ، فرأَتْ نسجه دقيقاً، وخيوطه واهية، وفي ناحية منه، كمنتِ العنكبوتُ، ساكنةً هادئة..‏

    تأمّلَتْها زمناً طويلاً..‏

    لم تبارحْ مكانها!‏

    رفعتِ النملةُ رأسها، وقالت للعنكبوت:‏

    -ألا تخرجينَ من بيتك؟!‏

    -ولمَ الخروج؟‏

    -لتعملي كما نعمل.‏

    أنا لا أعمل‏

    -وكيف تكسبين قوتكِ؟!‏

    -أكسبه وأنا قاعدة هنا.‏

    -كيف؟!‏

    -استريحي جانباً، وانظري ما أفعل.‏

    مكثتِ النملةُ، لترقبَ ما سيجري..‏

    بعد حين..‏

    جاءت ذبابةٌ، تطنُّ وتطيرُ، وهي مسرعة طائشة، فعلقَتْ بشبكة العنكبوت..‏

    اهتزَّتْ خيوطُ الشبكة.. أحسَّتِ العنكبوتُ بالفريسة، فغادرَتْ مكمنها، واندفعَتْ نحوها، وأخذَتْ تلفُّها بخيوطٍ تفرزها..‏

    كافحتِ الذبابةُ لتفلتَ، فلم تستطعْ خلاصاً، فجعلَتْ تصرخ:‏

    -ارحميني أيتها العنكبوت!‏

    ضحكتِ العنكبوتُ ساخرةً، وظلَّتْ تكفِّنها بخيوطها، حتى سكنَتْ حركتها..‏

    أنشبَتْ فيها أنيابها، وبدأَتْ تمتصُّ دماءها، حتى صارت جوفاً فارغاً..‏

    ألقتْ بها بعيداً، ومضتْ إلى مكمنها، منفوخةَ البطن، تنتظر فريسةً جديدة.‏

    دنَتْ النملةُ إليها، فقالتِ العنكبوت:‏

    -عرفْتِ كيف أكسبُ قوتي؟‏

    -لقد عرفْتُ‏

    -هل أعجبكِ؟‏

    -لا.‏

    -لماذا؟‏

    -لأنه ظلمٌ واحتيال‏

    -وكيف تكسبين أنتِ قوتكِ؟‏

    قالت النملة:‏

    -أكسبهُ بالجدِّ والعمل.‏

    -ولكنَّ العملَ شاقٌ!‏

    -الكسبُ الشريفُ، لا يكون إلا بالعمل. أدارتِ النملةُ ظهرها، فقالت العنكبوت هازئة:‏

    -أين تسكنين يا عاملتي الصغيرة؟‏

    -بيتي قريبٌ من هنا‏

    -أتسمحين لي بالسكن معكِ؟‏

    -لا.‏

    -لماذا؟‏

    قالتِ النملةُ، وهي تنصرف:‏

    -البيتُ النظيفُ، لا يسكنُهُ العنكبوت.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  29. #79
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    وقف المعلّمُ، أمامَ تلاميذه، ينظر إليهم، قبل أنْ يبدأَ قصته، فوجد عيونهم معلَّقةً به، وآذانهم مصغيةً إليه..‏

    قال المعلِّمُ:‏

    كان بضعةُ أطفالٍِ، يلعبون بطائراتهم الورقية، فوق رَبْوةٍ خضراء، في جنوب لبنان.. كانوا يتراكضون فرحين، وطائراتهم الملوّنة، ترقص فوق رؤوسهم، مثلَ فراشاتِ الربيع، تارةً تجذبهم وترتفع، وتارة يجذبونها ويهتفون:‏



    نحن العصافير‏

    نجري ونطير‏

    نحن العصافير‏

    ظلّ الأطفالُ، يركضون ويمرحون، والفرحُ يركض معهم، حيثما يركضون، ويقف معهم، حيثما يقفون.. فرحَتِ الربوةُ لفرحهم، وفتحَتْ لهم صدرها الأخضر. وفرح الهواءُ لفرحهم، فطفق يلعب معهم يجاذبهم طائراتهم، ويداعبُ لهم وجناتهم. وفرحتِ السماءُ لفرحهم، فأشرق وجهها، صفاءً ونقاء.‏

    ومرَّتْ بهم، عجوزٌ كبيرة، فرفعَتْ ظهرها وبصرها، ترنو إليهم مسرورة، وتقول:‏

    -ما أجملَ الأطفالَ، وهم يفرحون!‏

    وصمتَ المعلّمُ قليلاً، ينظر إلى تلاميذه، فوجدهم كلّهم فرحين، كأنّ لهم قلباً واحداً!‏

    وتابع المعلّمُ قصته، فقال:‏

    وفجأة..‏

    سمع الأطفالُ، هديراً مخيفاً، يمرُّ فوقهم، ويبتلعُ ضحكاتهم..‏

    جمدوا في أماكنهم، ورفعوا رؤوسهم إلى السماء، فشاهدوا طائراتٍ كبيرةً، ليسَتْ كطائراتهم، و.. صاحتِ العجوز محذَّرةً:‏

    -انبطحوا يا أبنائي على الأرض.‏

    انبطح الأطفالُ مذعورين، وقد طارتْ قلوبهم، وطارت أفراحهم..‏

    أرهفوا آذانهم منصتين.. سمعوا انفجاراتٍ مرعبة، ترجُّ الأرضَ، وتصمُّ الأسماع.. وعادتِ الطائراتُ الإسرائيلية، وهي تفاخرُ بوحشيّتها، بعد أنْ قصفَتْ قريتهم، وألقَتْ عليها، حقدها وحممها..‏

    وقفتِ العجوزُ محزونة، وقالت:‏

    -انهضوا يا أبنائي، وأسرعوا إلى بيوتكم.‏

    نهض الأطفالُ، وهم يتلفَّتون.. شاهدوا سحباً سوداً، تتصاعدُ من قريتهم الوادعة، وتهاجمُ سماءهم الزرقاء، فتلوِّثُ نقاءها، وتعكِّرُ صفاءها.. وصمتَ المعلّمُ قليلاً، ينظر إلى تلاميذه، فوجدهم كلّهم محزونين، كأنَّ لهم قلباً واحداً!‏

    وتابع المعلّم قصته، فقال:‏

    وهرع الأطفال إلى قريتهم، فسمعوا صراخ نساء، وبكاء أطفال، وأبصروا بيوتاً مهدومة، وأمّهاتٍ والهاتٍ، وشاهدوا رجالاً غضاباً، ينقلون قتلى، ويسعفون جرحى، و.. التهب الأطفال غضباً، فنظر بعضهم إلى بعض، وأخذوا يمزّقون طائراتهم، ويهتفون غاضبين:‏

    لا نريدُ أن نكون عصافير‏

    نريد أن نكون نسوراً‏

    لا نريد طائراتٍ ورقيّة‏

    نريد طائرات حقيقيّة‏

    وانطلق الأطفالُ، نسوراً صغاراً، يساعدون المنكوبين، ورؤوسهم مرفوعة، وأقدامهم ثابتة..‏

    قال أحد التلاميذ:‏

    -ما أعظم هؤلاء الأطفال الأبطال!‏

    وقال المعلّم:‏

    -وما أعظمكم أنتم يا أبنائي!‏

    -لماذا؟!‏

    -لأنكم كثيرون. وقلبكم واحد .‏

    قال التلاميذ مدهوشين:‏

    -كيف؟!‏

    قال المعلّم:‏

    -عند الفرح.. فرحتم جميعاً‏

    وعند الحزن.. حزنتم جميعاً.‏

    وعند الغضب.. غضبتم جميعاً.‏

    و..‏

    أطرق المعلّم قليلاً، ثم رفع رأسه، وقال:‏

    -ما أجمل أنْ يكون العربُ مثلكم، يجمعُ كَثْرتَهم، قلبٌ واحدٌ كبير!‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  30. #80
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    نسمة فرحانة، فاليوم عطلة نهاية الأسبوع وجدّها ينتظر زيارتها، ذهبت نسمة إلى بيت جدّها القريب، دقّت الباب، ووضعت أذنها عليه، لتسمع صوت عكّاز جدّها.‏

    فتح الجدّ الباب، رأى حفيدته تنطّ كقطّة صغيرة، حملها، وقبّلها، بينما راحت أصابعها تلعب بشرّابة طربوشه الأحمر.‏

    دخل الجدّ إلى ساحة الدار الكبيرة، حيث تربّعت بركة الماء في وسطها، أمّا الأشجار، فقد شكّلت حولها زنّاراً أخضر.‏

    شمّت نسمة رائحة طيّبة، التفتت حولها وحينما رأت زهر العسل، صاحت:‏

    - جدّي.. أنزلني، أريد أن أسلّم على هذا الزهر.‏

    أنزل الجدّ حفيدته، ركضت صوبه، وهزّته برفق، كأنها تصافحه، فاهتز فرحاً ورشّ فوق رأسها زهرات صفراء، عربون محبّة.‏

    قرفصت نسمة، وجمعت حفنة من الأزهار شمّتها، ثمّ أغمضت عينيها وقالت:‏

    - الله.. ما أزكى هذه الرائحة، إنها تنعش القلب!‏

    وقبيل المساء، عادت إلى منزلها، تمسك بكفّها باقةً من زهر العسل، لتقدّمها إلى معلمتها.‏

    مرةً، غابت المعلمة، فعلم التلاميذ أنّها أنجبت طفلة حلوة.‏

    ذهبت نسمة إلى بيت جدّها، كي تقطف باقة كبيرة من زهر العسل، وتقدمها إلى معلمتها، لكنّها شاهدت أغصان زهرتها عارية من الأوراق.‏

    ركضت إلى الثلاّجة، وأحضرت شراب السعال، تريد أن تسقيها، فلمحها جدّها، وقال دهشاً:‏

    - ماذا تعملين يا حلوة؟‏

    - زهرتي مريضة، وتحتاج إلى الدواء!!‏

    ضحك الجدّ وقال:‏

    - إنها ليست مريضة، لقد حلّ الشتاء، وأسقط الأوراق، ولكن عندما يأتي الربيع، ستزهر من جديد.‏

    - وماذا سأهدي معلمتي، لقد ولدت طفلة حلوة؟؟‏

    ربت الجدّ على ظهر نسمة بحنو، وقال:‏

    - لا تحزني يا حلوتي، أنا سأحلّ المشكلة!؟‏

    في صباح اليوم التالي، جاء الجد إلى بيت نسمة، حاملاً بيده علبة كرتون حمراء ملفوفة بشريط ذهبي لامع.‏

    فكّت نسمة الشريط، وفتحت العلبة، فرأت زجاجة شفافة، يرتجّ العطر بداخلها، انتزعت غطاءها، ففاحت رائحة زهر العسل، وملأت الغرفة.‏

    ركضت نسمة إلى جدّها فرحة، نطّت إلى رقبته، وتعلّقت بأكتافه، فوقع طربوشه الأحمر على الأرض.‏

    حمل الجد طربوشه، ووضعه على رأس نسمة، ثمّ حملها، وبدأا يضحكان بينما راحت شرّابة الطربوش، ترقص فرحاً.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  31. #81
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    استيقظت الفرشاة ذات صباح على صيحات الألوان الجالسة في العلبة كانت الأصوات مختلطة، وعالية، فلم تفهم سبب الشجار.‏

    حرّكت الفرشاة رأسها، فتطاير شعرها الأسود الناعم، ثم قالت:‏

    - هس، لمَ كل هذه الضجّة، ما القصّة؟.‏

    ردّ اللون الأحمر، والشرر يتطاير من عينيه:‏

    - أجيبيني أيّتها الفرشاة، ألست أنا من يمثّل دماء الشهداء، والورود الحمراء، وألسنة النار..؟... إذاً... أنا ملك الألوان.‏

    قهقه اللون الأزرق، وقال ببرود:‏

    - اسكت، وإلاّ أطفأت نارك بمياهي، فأنا البحر والمحيط، أنا السماء، أنا الفضاء، أنا ملك الملوك.‏

    قاطعه اللون الأصفر، قائلاً:‏

    - لتعلموا جميعكم، أنني أرمز إلى أغلى شيئين في الوجود، الذهب، والشمس، أنا وحدي الملك.‏

    سخر اللون الأخضر من رفاقه، وقال:‏

    - ما فائدة الحياة، إذا لم يكن فيها عرقٌ أخضر، هيّا أعطوني التاج، ونصّبوني ملكاً عليكم.‏

    حكّت الفرشاة رأسها، وقالت:‏

    - إنّكم تخدعون أنفسكم، ألم تسمعوا بأن الكفّ الواحدة لا تصفّق؟!.‏

    ثم سارت نحو كأس الماء، وبللّت شعرها فعطست، لكنها اقتربت من اللون الأصفر ومسحت على رأسه بلطف، فاصطبغ شعرها بالصفرة.‏

    دنت الفرشاة من صفحة بيضاء، ورسمت دائرة صفراء، ثمّ سألت:‏

    - ماهذا الشّكل أيها الألوان؟‏

    نظرت الألوان إلى الدائرة، لكنّها بقيت صامتة، قالت الفرشاة:‏

    - إنها دائرة صفراء، ولكن عندما نرسم سماء زرقاء، فإنها ستتحول إلى شمس.‏

    خجلت الألوان من نفسها، وطلبت من الفرشاة أن توحِّدها، على ورقة واحدة.‏

    مسحت الفرشاة على رأس اللون الأخضر بلطف، ورسمت الأشجار، ثمّ راحت تمسح على رؤوس الألوان، وترسم عصافير تزقزق وفراشات تلعب، وأطفالاً يغنّون ويرقصون.‏

    وبعد أن انتهت من رسم اللوحة، فهمت الألوان سرّ الحياة، فصفّقت للفرشاة وصاحت بصوت واحد:‏

    - عاشت الملكة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  32. #82
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    غابت الشمس، فلبست الطبيعة، رداءها الأسود الجميل.‏

    أطل معن برأسه، من نافذة غرفة المزرعة وصاح:‏

    - جدّي... جدّي!!‏

    - نعم يا صغيري، ماذا تريد؟‏

    - لقد حلّ الظلام، وحان موعد ذهابنا إلى النهر، لنسهر على ضوء القمر، ألم تعدني بذلك؟.‏

    - أجل.. ولكن بعد أن تضع إبريق الشاي والكؤوس في كيس.‏

    ثم حمل الجد عكازه، ومضيا صوب النهر.‏

    جلس الجدّ على حافة النهر، وقال:‏

    - ألا ترغب بشرب الشاي، يا صغيري؟‏

    - بلى.. الشاي لذيذ.‏

    جمع الجدّ من حوله أعواداً يابسة، وأشعلها، ثم وضع ثلاثة أحجار، وركز الإبريق فوقها.‏

    كانت النار ترسم على وجهيهما، وهجاً أحمر كذاك الذي ترسمه الشمس على وجه البحر، لحظة غيابها.‏

    غلى الشاي، نصبّ الجد كأسين، إحداهما ملأى والأخرى نصفها.‏

    نظر معن إلى كأسه، وقال ممتعضاً:‏

    - لماذا صببت لي نصف الكأس، لقد صرت كبيراً، أما قتلت اليوم جرادتين؟‏

    ضحك الجدّ وقال:‏

    - الشاي ساخن، وأخشى أن يحرق فمك، هيّا ضع ملعقة سكر في كل كأس.‏

    غرَفَ معن السكّر بالملعقة، وبدأ يحرك، بغتة انتبه إلى أمر.‏

    كان صوت الملعقة في أثناء التحريك، مختلفاً بين الكأسين.‏

    نقر بخفّة على حافّة كوبه، فصدر رنين حاد ثم نقر على حافّة كوب جدّه، فصدر رنين غليظ.‏

    نظر إلى جدّه باستغراب قائلاً:‏

    - هل سمعت يا جدّي، الملعقة تصدر موسيقا؟!.‏

    ابتسم الجدّ، حكّ لحيته بأصابعه الخشنة، وقال:‏

    - الموسيقى موجودة حولنا، وما علينا سوى سماعها؟‏

    تلفت معن في كلّ الإتجاهات، سار نحو النهر غمس قدميه بمياهه، تناثر رذاذ ناعم، وعلا صوت خريره.‏

    ركض صوب شجرة صفصاف، فسمع تسبيح أوراقها، وابتهال أغصانها. تطلّع نحو أعواد القصب، المغروسة كالرماح على ضفاف النهر فعلم أن صوت الصفير المبحوح، يخرج من أفواهها، كلما دخلت الريح إليها.‏

    كانت الأصوات، تتداخل في أذنيه الصغيرتين فطرب لها، وتمايل، ثمّ بدأ يغنّي: "ورقات تطفر بالدرب‏

    والغيمة شقراء الهدب‏

    والريح أناشيد‏

    والنهر تجاعيد‏

    يا غيمة يا....."‏

    توقف أحمد عن الغناء، أدهشه منظر القمر على حافة غيمة رمادية، ماسكاً بإحدى يديه عصا صغيرة، يحرّكها بعفوية، كأنّه قائد فرقة موسيقية بينما راحت الطبيعة، تعزف موسيقاها الأزليّة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  33. #83
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أدخل القلم رأسه في غطائه، لينام قليلاً، بعد أن رسم على الورقة البيضاء خطيّن، أحدهما مستقيم، والآخر منحنٍ.‏

    وقبل أن يغمض عينه، سمع دردشة، ما تزال تتعالى، حتى وصلت إلى حدّ الصراخ. أخرج رأسه، فشاهد الخطّ المنحني، يتحرّك كالأفعى ويصيح:‏

    - اخرج أيّها الخط المستقيم من ورقتي فشكلك القاسي يذكّرني بالعصا.‏

    ردّ الخطّ المستقيم:‏

    - أنت مخطئ، فأنا أمثّل العقل والنظام والدقّة ولا أمثّل العنف والقسوة.‏

    - اسكت، وانظر إليّ لتعرف من أنا.‏

    وراح الخط المنحني يتحرّك بليونة، ويشكّل أوراقاً، وأزهاراً، وحيوانات.‏

    ثمّ ضحك وقال:‏

    - هل رأيت حركتي الرشيقة، تفضّل، تحرّك أنت، وكوّن أشكالاً حلوةً كأشكالي.‏

    أخذ الخط المستقيم، يروح ويجيء، على سطح الورقة، مشكّلاً نجمة جميلة.‏

    نظر الخط المنحني إلى النجمة، فخجل من نفسه.‏



    اقترب منها، والتفّ حولها برقّة، مشكّلاً هلالاً.‏

    صفّق القلم فرحاً، وقال:‏

    - الآن، سأنام هانئاً، على ضوء النجمة والهلال.‏

    ثم أدخل رأسه في غطائه، وأخذ يشخر!!.‏

    ضحكت الخطوط، حتى كادت تتزحلق من على سطح الورقة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  34. #84
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في غرفة رامي، وعلى طاولته الصغيرة، كان يوجد عرس بهيج. فقلم القصب يتراقص، والحروف تنطّ على سطح الورقة كالأرانب، بينما تمايلت المحبرة، حتى كاد مدادها يندلق.‏

    فلوحة الخطّ، التي كتبها رامي، نالت المرتبة الأولى، على مستوى المدرسة.‏

    في غمرة هذا الفرح، قال قلم القصب:‏

    - ما رأيكم يا أصدقائي، أن نقيم مهرجاناً خطابياً؟‏

    رحّبت الحروف والمحبرة والورقة بالفكرة واتخذوا كتاب القراءة منصة.‏

    صعد كلٌ من المحبرة والقلم المنصّة، بينما جلست الأحرف فوق السّطور ممثّلة الجمهور.‏

    افتتح قلم القصب المهرجان بقوله:‏

    - أبنائي الحروف، إنّه ليسعدني، أن تنال لوحة رامي، التي كُتِبَت بي، المرتبة الأولى ويسرّني أن أنتهز هذه الفرصة، لأعطي لمحة عن حياتي.‏

    حكى لي جدّي، أنّ أوّل لقاءٍ له، كان مع الخط الكوفي، غير المنقوط، ثمّ تتالت اللّقاءات مع خطّ الثلث، والرقعة، والدّيواني وبعدها صارت أقلام القصب تكتب الأشعار الحالمة، والقصص الممتعة بخط جميل، كخطّ رامي، الذي نحتفل بفوزه.‏

    وقبل أن أنهي حديثي، لا بدّ أن أشير، إلى أنّ الفضل في كلّ ما صنعته، يعود لصديقتي المحبرة الجالسة بجانبي، فشكراً لها وأرجو من اللّه أن يزيد في مدادها.‏

    تأثّرت المحبرة لكلام صديقها، فبكت، ثمّ تنحنحت وقالت:‏

    - بداية، أشكر أخي وصديقي، القلم القصب، على عواطفه النّبيلة كما أشكر حضوركم، الّذي ينمّ عن تعطّشٍ للعلم والمعرفة.‏

    سأدخل في الموضوع مباشرةً، كي لا أطيل؟‏

    قديماً، كنت وردةً جوريّةً، لا تستغربوا يا أحبّائي، لأنّ الخطّاط جاء وقطفني، ثمّ وضعني في وعاء يحتوي حديداً صدئاً، وصمغاً شجرياً ثمّ غليت بالماء، وتحوّلت إلى حبر، وبعدها، صرت أصنع من مواد مختلفة، أهمّها هباب الفحم.‏

    وختاماً، أعدكم أن أضحّي بآخر قطرةٍ من مدادي، كي تنتشر الثقافة بين النّاس.‏

    صفقّت الحروف بحرارة، وتعانقت على سطح الورقة، مشكّلةً لوحةً فنيّةً رائعة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  35. #85
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    صاح الديك، فتحت حنان عينيها، وتمطّت كقطّة صغيرة.‏

    كانت الساعة تشير إلى السابعة، إنه موعد إعطاء الدواء لأمّها المريضة.‏

    دخلت حنان غرفة أمّها، فوجدتها مستلقية كعادتها، تئنّ وتتوجّع.‏

    - صباح الخير يا أمي.‏

    - صباح النور‏

    - انهضي قليلاً لتشربي الدواء.‏

    حاولت الأم النهوض، فلم تستطع، ساعدتها حنان، فلم تفلح.‏

    حزنت حنان كثيراً أدارت وجهها صوب النافذة، المطلّة على الحديقة، كي تخفي دموعها فلاحظت أصيص الزنبق ذابلاً.‏

    خرجت إلى الحديقة، وجلست قرب أعواد القصب، كانت تبكي، واضعةً كفيّها الصغيرتين على وجهها.‏

    اهتزّ عود القصب بجانبها، وقال بصوت مبحوح:‏

    - اهدئي يا حلوة، عندي فكرة للترويح عن والدتك.‏

    - ما هي؟.‏

    - اقطعي مني ثمانية عقد، واثقبيني ستة ثقوب في طرف، وثقباً في الطرف المقابل.‏

    - لكنّك ستتألمين!‏

    - لا يهم، فقد كانت أمّك تسقيني كلّما عطشت كأحد أطفالها، لذا يجب أن أساعدها. قطعت حنان القصبة، وثقبتها، ثمّ وضعتها بشكل مائل على فمها، وراحت تنفخ.‏

    وما إن حرّكت أصابعها الرشيقة، حتى خرجت من الثقوب أنغام عذبة شجيّة، امتزجت مع زقزقة العصافير، مشكّلة لحناً ساحراً.‏

    توقفت الموسيقا فجأة، على صوت تصفيق ينبعث من النافذة.‏

    نظرت حنان إلى النافذة، فشاهدت أمّها تصفّق باسمة، وبجوارها تفتّحت زنبقتان حمراوان جميلتان.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  36. #86
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    يحكى أنّه اجتمع ذات مساء، على طاولة السلطان الكبيرة، وفي صحن زجاجيّ جميل، كلّ من: التفّاحة والبرتقالة والموزة والرّمانة.‏

    ولّما كانت الرّمانة كبيرة الحجم، نقد تضايقت الموزة منها، وقالت:‏

    - ابتعدي عنّي أيّتها الغليظة، أنتِ تضايقينني!.‏

    احمرّ وجه الرّمّانة خجلاً، وقالت:‏

    - عفواً موزة، أنا لم أقصد إزعاجك، ولكن كان عليكِ أن تنبهيني بطريقة لبقة.‏

    - ومن أنت حتّى أنّبهك، ثمّ كيف تناديني باسمي دون أن تسبقيه بكلمة سيّدة!؟‏

    - ولماذا كلمة سيّده هذه؟.. كلّنا فواكه، فلمَ تتعالين علينا؟.‏

    ضحكت الموزة، حتّى كادت تتدحرج وتسقط من الصحن، وبعد أن هدأت وقالت:‏

    - أولاً... أنا طريّة، وطعمي حلو، فالأطفال الذين لم تبزغ أسنانهم يمضغونني بسهولة.‏

    ثانياً.. تقشيري سهل... ولا بذور لي، فهل عرفتِ لماذا يجب أن تناديني بالسيدة موزة؟!.‏

    مطّت الرّمانة فمها، وقالت:‏

    - قفي عند حدّك أيّتها المتغطرسة، واعلمي أنني أخبّئ في جوفي مئات الحبّات الصغيرة أحفظها من عوامل الطقس، ألمّ شملها، وأزرع في قلوبها الأمل، لتحلم كلّ حبّة، أن تصبح شجرة رمّان كبيرة.‏

    أُعجبت التفّاحة بحديث الرّمانة، فصفّقت لها بورقيتها اللتين لهما شكل قلب، اغتاظت الموزة منها، وضربتها في مكان الفصين، فانخفست وصاحت:‏

    - آخ... آخ‏

    فار الدم في وجه البرتقالة، وقالت:‏

    - موزة... عيب، الزمي حدودك، واعلمي بأن الألقاب لاتعلي في المكانة، لكلّ صنف من الفاكهة مذاق خاص، وفائدة خاصة.‏

    ثمّ دفعنها بأوراقهنّ خارج الصحن.‏

    وقعت الموزة على الطاولة، وانحنى ظهرها فصارت تشبه العجائز.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  37. #87
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    دخل أحمد إلى غرفته، فوجد قطّته الصغيرة" لولو" تجثم أمام حوض السّمك، تنظر إلى السّمكات الصغيرات الملوّنة، والحصى المتلامعة، وفقاعات الهواء التي يطلقها أنبوب رفيع، موصول بجهاز كهربائي.‏

    تقدّم أحمد من قطّته بهدوء، فلاحظ أنّها تلحس فمها، بينما صار الخط المستقيم داخل عينيها، يشبه صنّارة صيد.‏

    خاف أحمد على سمكاته، لأنّه لم يفطن إلى أنّ قطّته البيضاء، التي أحضرها البارحة من بيت جدّته، تأكل السمك.‏

    ومن غير أن يدري، زعق أحمد في وجه لولو:‏

    - ابتعدي يا جنيّة، وإلاّ أرجعتك إلى بيت جدّتي، الحقّ عليّ، كان يجب أن أترك جدتي تضربك، لأنّك شربكت لها طابة الصوف الحمراء.‏

    نطّت لولو، واختبأت تحت الكرسي، وهي تموء بحزن وانكسار.‏

    ثمّ اقترب من حوض السّمك، وبدأ يعدّ السّمكات.‏

    فجأة، أحسّ بوبر ناعم يدغدع قدميه.. آه... إنها قطّته لولو، لقد أحسسّت أنّه متضايق، فأرادت أن تعرف السّبب، لذا رفعت ذيلها إلى أعلى، فبدا على شكل إشارة استفهام.‏

    هدأ أحمد، وجلس على الكرسي، فنطّت لولو إلى حضنه، وحطّت رأسها على فخذه بينما راحت يده تمسح على شعرها الأبيض، كالقطن.‏

    نظرت لولو إليه، فقال:‏

    - لولو، هل تسمحين بسؤال؟.‏

    دعكت لولو رأسها بقائمتها الأمامية، كأنّها تفكّر، ثم ماءت بصوت منخفض، كإشارة لموافقتها!!.‏

    سألها أحمد:‏

    - هل صحيح أنّك تحبين أكل السّمك؟‏

    ارتجف جلد "لولو" عندما سمعت اسم السّمك وكأن الكهرباء قد مسته. انزعج أحمد من قطّته، وقال:‏

    - أنت ظالمة يا لولو، لقد ارتجفتِ لأنّك كنت تخطّطين لأكلها، انظري إلى تلك المخلوقات الرائعة، ألا ترينها تلمع مثل النجوم؟.‏

    إنّها تعيش في الماء لتبقى نظيفة، تصوّري لولو، لقد ضمرت يداها، كي لا تضرب بهما أحداً وتحوّلتا إلى زعانف صغيرة، تساعدها على السباحة.‏

    بينما ضمرت رجلاها، وتحولتا إلى ذيل، لتتّجه حيث تريد، دون أن تزعج أحداً بصوت أقدامها؟.‏

    أغمضت لولو عينيها، فتابع أحمد غاضباً:‏

    - افتحي عينيك يا كسولة، كثرة النوم تسبّب الخمول، آه ما أنشط السمكات إنها لا تغمض عيونها، حتى في أثناء النوم، هي ليست مثلك يا لولو!!‏

    وقبل أن يكمل تأنيبه للقطّة، سمع صوت أمّه تناديه من المطبخ:‏

    - تعال يا أحمد، الطّعام جاهز، ألا تحبّ السّمك المشوي؟.‏

    قفز أحمد من فوق الكرسي، وركض صوب مائدة الطعام، جلس أمام صحنه، وبدأ يأكل بشراهة.‏

    وبعد أن شبع، تذكّر قطّته الصغيرة البيضاء فأحسّ بأنّه قد بالغ في تأنيبها لذا خجل من نفسه واحمرّت أذناه.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  38. #88
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    دخل ماجد مع أبيه دكّان الخيّاط، حاملاً بيده قطعة قماش ملونة، ليخيط طقماً للعيد. أخذ الخيّاط مقاس ماجد، ووعدهما أن ينهي خياطتها بعد أسبوع، ثمّ وضع قطعة القماش على الرّف.‏

    حلّ المساء، فأغلق الخيّاط باب دكّانه، وذهب إلى بيته.‏

    كان الظلام داخل الدكّان دامساً، والسكون مخيّماً.‏

    فجأة، سمع كلّ من الإبرة والمقص صوت بكاء، بحثا عن مصدر الصوت، فعرفا أنه ينبعث من على الرف.‏

    إنها قطعة القماش الملونة!!‏

    سأل المقص:‏

    - ما بكِ أيّتها الضيفة العزيزة، لماذا تبكين؟.‏

    ردّدت قطعة القماش الملوّنة:‏

    - أنا أبكي على حظّي التعس، فما إن أصبحت جوزة قطن، حتى قطفني الفلاّح، وأرسلني إلى معمل الغزل، حيث حوّلني العمّال إلى قطعة نسيج.‏

    تنهدت قطعة القماش وأضافت:‏

    - وبعد أن اشتراني التاجر، وأجلسني على الرفّ، شعرت بالارتياح، كنت مسرورة لمشاهدة الناس، الداخلين والخارجين من المتجر، لكن عندما صادفني أبو ماجد وابتاعني تغيّر الحال، فغداً ستجري لي عمليّات جديدة، سأقصّ بشفرتين حادتين، وأوخز بالإبرة، يا الله كم أنا خائفة.‏

    تنحنح المقص، وقال:‏

    - أنت تبالغين يا صديقتي، فما قيمة حياتك إذا بقيت مركونة على الرّف، ستأكلك العثّة، وترمين في حاوية القمامة، أمّا إذا تحوّلت إلى طقم عيد، فإنك سترين الأطفال وهم ينفخون بالوناتهم الملوّنة، وتركبين الأراجيح، بينما سنبقى أنا وصديقتي الإبرة، جالسين على الطاولة، نحلم بالفرح.‏

    تدخلت الإبرة قائلة:‏

    - ما قاله صديقي المقص صحيح، ومع هذا فأنا سأعمل جاهدة، أن أدخل في مساماتك، كي لا أوجعك في أثناء الخياطة، وتذكري أنّك أنت من سيدخل البهجة إلى قلب ماجد!؟ ارتاحت قطعة القماش، وارتختْ، بعد أن تجعدت أثناء انفعالها، ثم نامت، وهي تحلم بمجيء العيد.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  39. #89
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    مع معرفة الخبر، طار أحمد ونور من الفرح.‏

    لقد قرر والدهما، أن يصطحب أسرته معه إلى الكويت، وسيكون السفر بعد يومين، ركض أحمد إلى خزانته الصغيرة، أخرج خارطة الوطن العربي، وبدأ يمرّر إصبعه فوقها، باحثاً عن دولة الكويت، بينما راحت نور تجمع ألبسة لعبتها مها وترتّبها في حقيبة صغيرة.‏

    كل شيء في البيت يبدو فرحاً، ماعدا السّاعة المعلقة على الحائط، فما إن سمعت كلمة سفر حتى كادت مسنناتها تقف عن الحركة، واضطربت عقاربها، فصارت تسبّق حيناً، وتقصّر حيناً آخر.‏

    انقضى اليوم الأوّل، وصحّة الساعة تزداد سوءاً، فالرّقاص النشيط ثقلت حركته، وصار ينوس ببطء شديد، حتى وجهها اللاّمع، بدا شاحباً.‏

    أحسّت اللوحة المعلقة على الحائط نفسه بمرض السّاعة، فسألتها:‏

    - ما بكِ يا صديقتي، تقولي آه.. آه، بدلاً من تَكْ.. تَكْ، هل أنتِ مريضة؟‏

    ردّت الساعة بحرقة، قائلةً:‏

    -آه.. أيتها اللوحة الجميلة، غداً سيسافر الصغيران كما تعلمين، بينما سأبقى أنا معلقةً على الحائط، كقطعة خشبيّة ميّتة، من سيوقظهما في الصباح، ليذهبا إلى المدرسة، من سيشير إلى موعد نومهما؟... أجيبيني أيّتها الصديقة، أكاد أقع!!.‏

    حزنت اللوحة، عندما سمعت كلام السّاعة، فانكمشت على نفسها، حتى كاد الإطار يسقط منها وبعد تفكير قصير، قالت:‏

    - اسمعي أيّتها السّاعة الطّيبة، الصغيران يحبّان عصفورك، الذي يخرج كل ساعة، ويصيح كوكو.. كوكو.. بعدد الساعات، فأرجو أن تطلبي منه ألاّ يخرج صباح الغد، ليبقى الصغيران نائمين، ولا يسافران.‏

    عملت السّاعة بنصيحة اللوحة، فتأخّرت الأسرة عن موعد الطائرة.‏

    انزعج أحمد، نظر إلى الساعة بغضب، نهض إليها، وقفل الباب الذي يخرج منه العصفور!!.‏

    في اليوم التالي، سافرت الأسرة، على متن الطائرة، بعد أن غيّر الأب موعد الرحلة.‏

    وبعد شهر من وصولهم، فتحت المدارس أبوابها، لكن الصغيرين تأخّرا في النوم، ولم يذهبا إليها.‏

    جلس أحمد على سريره حزيناً، تذكّر ساعته الجميلة، وعصفوره الحبيب.‏

    وما إن سمع زقزقة العصافير، تنبعث من حديقة البيت، حتى شعر بالذنب، لحبسه عصفوره فدسّ رأسه تحت الغطاء، وراح يبكي بحرقة شديدة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  40. #90
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    في الحديقة العامّة، وتحت شجرة الكينا الكبيرة، جلس عبد الله أمام صندوقه الخشبي، كان الصندوق مزركشاً بمسامير لامعة، ومزوّداً بدرج صغير، يحتوي علب صباغ ملوّنة، وفرشاة وخرقة صفراء لمسح الأحذية.‏

    نظر عبد الله إلى الأطفال، الذين يلعبون في الحديقة، فاغرورقت عيناه بالدموع، ثم وقف وركل الصندوق، فتدحرج وصاح:‏

    - آخ.. لمَ تضربني أيّها الصديق، لقد خلعت مساميري؟!‏

    دُهِش عبد الله، نظر إلى الصندوق، فرأى درجه يمتدّ مثل اللسان.‏

    أحسّ عبد الله بالذنب، فبلع ريقه، وقال:‏

    - اعذرني يا صديقي، فأنا متضايق، لأنني أرى الأطفال، ينفخون البالونات، ويمسحون على شعر الدمى، بينما أنفخ أنا الغبار من فوق الأحذية وأمسحها بالخرقة.‏

    بكى الصندوق، فقرقعت العلب في بطنه، ثم قال:‏

    - اصبر يا صديقي، الحياة قاسية، ومع هذا فهي حلوة، تذكّر أصدقاءك الذين يحبونك، تذكّر أباك المريض، ألست أنت من يرسم الابتسامة على شفتيه، أنت شاطر، وسيكون لك مستقبل زاهر في الدراسة، ستصبح طبيباً، وتشتري سيّارة حمراء.‏

    فرح عبد الله عند سماعه كلمة سيّارة، نظر إلى صندوقه بمودّة، وتخيّل علب الصباغ الدائرية مثبتة كالعجلات على طرفي الصندوق، فنطّ مبتهجاً وهو يغنّي:‏

    صندوق الألعاب يا خير الأصحاب.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  41. #91
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    الغصن فرحان، لأن العصفورين الأصفرين بنيا عشّهما فوقه.‏

    رقدت العصفورة على البيض بحنان وعصفورها يقف بجوارها، ينظر إليها، والابتسامة لاتفارق منقاره، يتذكّر كيف بنيا عشّهما قشّة قشّة وبطّناه بالريش الناعم، صحيح أن ريشهما قد بللّه العرق، لكنّه تعبٌ مثمر ولذيذ.‏

    بعد أسبوعين، وفي صباح ربيعي جميل، نقر أحد الفراخ قشرة البيضة، ومطّ منقاره الليّن ثمّ بدأ يزقزق، كأنّه يطلب من الطبيعة، أن تفتح له ذراعيها.‏

    غمرت السّعادة قلب الأبوين، فطارا إلى الحقول، ليزفّا نبأ السعادة.‏

    تتالى فقس البيض، فصار العش يحتضن أربعة فراخ جميلة.‏

    الفراخ تكبر، ويتبدّل زغبها الناعم، لينبت مكانه ريش جميل، كانت تنام تحت أجنحة بعضها تأكل ما يجلبه الأبوان، إلاّ واحداً منها، فقد كان لا يأكل إلاّ الدودة الكبيرة، ولا ينام إلاّ ممدداً، ناسياً أن العش قد ضاق لأن الفراخ كبرت، ومع كلّ هذا كان "يسقّطُ" في العش.‏

    حكَتْ الفراخ الثلاثة لأمها، عن طباع أخيها السيّئة، فخاطبته قائلة:‏

    - كن مهذّباً، واعلم أنّ الإساءة ترتدّ على صاحبها، وإلاّ فسأحرمك من الطعام مدة يوم.‏

    انزعج الفرخ الرابع من كلام أمه، وازدادت طباعه سوءاً.‏

    في اليوم التالي، قالت الأم لفراخها:‏

    - أحبّائي، حرّكوا أجنحتكم داخل العش، لتقوى وتساعدكم على الطيران. حرّك الفراخ الثلاثة أجنحتهم، سخر الرابع من إخوته وقال:‏

    - ستتعب أجنحتكم، ولن تقدروا على الطيران أمّا أنا، فجسمي مرتاح لذلك سأكون أقوى منكم!!‏

    الفراخ الثلاثة تطير من غصن إلى غصن تلعب مع الفراشات، تزقزق وتضحك غار الفرخ الرابع من إخوته، نطّ يريد مشاركتها اللعب، فوقع على الأرض وجرح رأسه.‏

    هرع أبواه وإخوته إليه، احتضنوه، وطاروا به إلى العش.‏

    ضمدّت الأم رأس صغيرها، فلم يعد بإمكانه أن يرى شيئاً!؟.‏

    في اليوم التالي، كان الأبوان والإخوة الثلاثة يبتسمون، لأنّ الفرخ الرابع، كان يحرّك جناحيه وحيداً داخل العش.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  42. #92
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    الحمار الأبيض مربوط بشجرة جوز، إنّه يأكل البرسيم، وأذناه الطويلتان مرخيّتان، ومقوّستان كمقود درّاجة.‏

    فجأة.. وقع بصره على العصا المرميّة بجواره، فبصق اللقمة من فمه، وقال:‏

    - إلى متى ستلاحقينني أيّتها الأفعى، لقد كرهت حياتي، صرت أراكِ في منامي!؟‏

    تململت العصا وقالت:‏

    - حمار... لا تنفعل، كي لا يذهب صوابك فأنا لست إلاّ أداة يستخدمها صاحبها، دون إرادتها!!‏

    - تمسكني، أيّتها الممثلة، هل نسيت آثار ضربتك على عنقي وجنبي، أليس لديكِ عمل سوى ضربي؟‏

    - افهمني أرجوك، الذنب ليس ذنبي، فكم أحبّ أن تحرقني النار وتحوّلني إلى رماد، بدل أن أضربك!!‏

    - وهل تظنينني ساذجاً إلى هذا الحد، كي أصدّق كلامك، وكيف أفعل ما دام أنّ قلبك قد تيبّس؟‏

    أخذت العصا نفساً عميقاً، فطقطقت، وتشقّق لحاؤها، ثمّ قالت:‏

    - صدّقني أيّها الحمار الصبور، أرجوك، فأنا أعرف كم تقاسي، نعم، لأنني أرى العقور الموزّعة على جسدك، وأسمع صوت الذباب اللحوح، الذي يقرصك.‏

    هدأ الحمارُ، ثمّ حكّ رأسه بحافره، وقال:‏

    - الظاهر أن كلامك صحيح، ولكن، لماذا لا تعصين صاحبك؟.‏

    تأوّهت العصا، وقالت:‏

    - الأجدر بك أن تعصيه أنت، لأنّك قوي وتستطيع أن ترفس.‏

    نظر الحمار بقسوة، إلى صاحبه النائم في ظلّ شجرة زيتون، ثم نتر الرسن بقوّة، فانقطع.‏

    نهق الحمار نهقات فرحة، ثم أمسك العصا بشفتيه برفق، واتّجه إلى حقل بعيد، وهو ينطّ برشاقة وسعادة.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  43. #93
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    فكّت أنغام جديلتها، أطفأت المصباح، واندسّت في فراشها، كقطّة صغيرة. في المنام، رأت نفسها في حديقة بيتها، فجاءها طائر الكروان، وحطّ على شجرة الورد ثمّ شدا قائلاً:‏

    - مرحباً أيتّها الحلوة، ماذا تفعلين في الحديقة؟‏

    نظرت أنغام حولها، فشاهدت على شجرة الورد، طائراً ذا ريش ملوّن جميل ابتسمت له وقالت:‏

    - أنا آكل البوظة، تفضّل، الحس، إنها لذيذة ومدّت إليه يدها.‏

    -شكراً لكِ، الثلّج يؤثّر على حنجرتي، وأخشى أن يبحّ صوتي.‏

    - إذا سمحت، غرّد قليلاً، أنا أحبّ صوت الطيور.‏

    حرّك الكروان حنجرته، وشدا، فتمايلت أغصان الوردة طرباً، صفقت أنغام ناسية البوظة فسقطت على الأرض، وذابت.‏

    توقف الكروان، وقال:‏

    - أأعجبك تغريدي؟‏

    -الله... إنه رائع، ولكن أين تعلمت الغناء؟‏

    - تعلمته في حديقة الألحان!‏

    - وهل أستطيع أن أتعرّف إليها؟‏

    - بالتأكيد... إنها حديقة رائعة.‏

    ثمّ رفع الكروان رأسه إلى السّماء، وشدا بصوت عال، فجاء سرب من الكروان، يحمل سلّة قشّ صغيرة، مربوطة بخيوط ملوّنة، وقد أمسك كلّ كروان طرف خيط بمنقاره.‏

    هبطت الكراوين بالسّلة، نطّت أنغام وجلست فيها، بينما وقف صديقها الطائر على كتفها، ثمّ طرن بها نحو السماء.‏

    شاهدت أنغام أطفالاً يلعبون على أسطحة البيوت، كانوا صغاراً كالدمى بينما بدا النهر مثل خيط أزرق.‏

    مرّ السرب على غيمة بيضاء، فحاولت أن تكمش بيدها قطعة صغيرة، لكنّها لم تستطع، لأن ذرّات البخار، كانت تفرّ من بين أصابعها، كالماء.‏



    وصل السرب إلى الحديقة، أعطى الكروان أوامره بالنزول، فهبطت، قفزت أنغام من السلّة شكرت الكراوين، وسارت نحو مدخل الحديقة.‏

    كانت حديقة الألحان، مسوّرة بأعواد القصب الصفراء، بينما كان الطريق مفروشاً بأزاهير بيضاء، أمّا الأزاهير الحمراء، فقد شكلّت خمسة خطوط متوازية.‏

    سألت أنغام الكروان:‏

    - ما هذه الخطوط، أيّها الصديق؟‏

    - إنها المدرج الموسيقي!‏

    دخلا الحديقة، فرحت الأشجار واهتزّت مصدرة أصواتاً حلوةً ناعمة.‏

    رفعت أنغام عينيها، فشاهدت أعداداً كبيرة من الأجراس، معلقة على الأشجار، سألت دهشةً:‏



    - لماذا تحمل الأشجار أجراساً؟‏

    ابتسم الكروان وقال:‏

    - لكي تشارك الطيور في ألحانها.‏

    وصلت أنغام إلى ساحة الحديقة، والكروان ما يزال يقف على كتفها، فتوقفت فجأة أمام نصب كبير، له شكل غريب، التفتت إلى صديقها وسألته:‏

    - ماهذا الشكّل؟‏

    - إنه مفتاح صول!!‏

    جلست أنغام على مقعد خشبي، وراحت تتأمّل بإعجاب، ذاك المفتاح الجميل. فجأة، سمعت صوتاً حزيناً، كصوت أمّها، ينبعث من ورائها، التفتت نحوه فشاهدت آلة الكمان، تقف على حافة بركة ماء، تحرّك قوسها فوق أوتارها وتصدر لحناً شجيّاً.‏



    طار الكروان إليها، وقف على قوسها، وسألها مستفسراً:‏

    - لماذا تعزفين بمفردك يا صديقي...‏

    أين العود والطبلة؟‏

    تأوّهت الكمان، وأجابت:‏

    - في الصباح، عندما طرتِ إلى المدينة، جاء العود وأهانني!‏

    - العود؟!‏

    - نعم.. اتهمّني بأن زندي قصير، وأوتاري أربعة، بينما يملك هو خمسة أوتار.‏

    - وماذا أجبته؟‏

    - قلت، إن الإبداع لا يتعلق بكثرة الأوتار وقلّتها، فأنا أصدر طبقات صوتية عالية، لا يستطيع غيري، وإن كان له ستة أوتار، أن يصدرها. تنهّد القوس قائلاً:‏



    - واللّه، أيّها الكروان الحبيب، لو لم تمنعني الكمان، لألهبت ظهر العود ضرباً.‏

    نظر الكروان إلى القوس، وقال:‏

    - لا يا قوس، يجب ألاّ نقابل الإساءة بمثلها.‏

    ثمّ طار الكروان، واختفى بين الأشجار، وبعد مدّة قصيرة، عاد بصحبة العود والطبلة.‏

    اعتذر العود من صديقته الكمان، وأهداها ميدالية، على شكل مفتاح صول صغير.‏

    دقّ قلب الطبلة، وأصدرت ضربات فرحة، ثم قالت:‏

    - لن تختلفا بعد اليوم، فأنا سأضبط إيقاعيكما.‏

    عزفت الآلات، وشدا الكروان.‏



    اهتزت الأجراس، حام الفراش، وزقزقت العصافير.‏

    فتحت أنغام عينيها، نظرت حولها، فلم تجد الحديقة، لكنّ صدى الألحان بقي يرنّ في أذنيها الصغيرتين.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  44. #94
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    دعا الهدهد طيور الغابة منذ الصباح الباكر إلى اجتماع طارئ، وبدا وكأنّ أمراً خطيراً قد وقع، أو هو على وشك الوقوع... فمثل هذه الدعوات لا تحدث إلاّ في حالات نادره.‏

    سارعت الطيور تمسح عن عيونها آثار النوم، ومضت في طريقها نحو الساحة الكبيرة، محاولة أن تخمّن سبب هذه الدعوة المفاجئة، وعندما اكتمل الحضور، انبرى الهدهد يتكلّم:‏

    - أنتم تعلمون أيّها الأعزّاء أنّ هذه الغابة هي موطننا وموطن آبائنا وأجدادنا، وستكون لأولادنا وأحفادنا من بعدنا.. لكنّ الأمور بدأت تسوء منذ أن استطاعت بندقيّة الصياد الوصول إلى هنا، فأصبحت تشكّل خطراً على وجودنا.‏

    - كيف؟.. قل لنا..‏

    تساءل العصفور الصغير.‏

    - في كلّ يوم يتجوّل الصيادون في الغابة متربصين، ولعلّكم لا حظتم مثلي كيف أخذ عددنا يتناقص، خصوصاً تلك الأنواع الهامّة لهم.‏

    مثل ماذا؟‏

    تساءل الببغاء‏

    - مثل الكنار والهزار والكروان ذات الأصوات الرائعة..‏

    ومثل الحمام والدجاج والبط والإوز والشحرور والسمّان ذات اللحم المفيد، والبيض المغذي، ومثلك أيّها الببغاء... فأنت أفضل تسلية لهم في البيوت، نظراً لحركاتك الجميلة وتقليدك لأصواتهم.‏

    وقف الطاووس مختالاً، فارداً ريشه الملوّن.. الأحمر، والأصفر، والأخضر، والأسود..‏

    قال:‏

    - لابد وأنّك نسيتني أيّها الهدهد، فلم يَردْ اسمي على لسانك، مع أنني أجمل الطيور التي يحبّ الإنسان الحصول عليها، ليزيّن بها حدائقه.‏

    - لا لم أنسك، وكنتُ على وشك أن أذكرك... فشكلك من أجمل الأشكال.. ولكنْ حذار من الغرور.‏

    قال الحجل بدهاء:‏

    - معك حق فيما قلته أيّها الهدهد.. حذار من الغرور. نظر الطاووس نحو الحجل بغضب شديد، اتجّه إليه وهو يؤنّبه:‏

    - إنّك لا تقلّ خبثاً عن الثعلب الماكر، ولذا لن أعيرك أيّ اهتمام.‏

    حاول الحجل أنْ يردَّ له الإهانة، لكنّ الهدهد هدّأ من حاله قائلاً له:‏

    - دعونا الآن من خلافاتكم... فأنتم إخوة ويجب أن لا تنشغلوا عن المشكلة الكبيرة التي تواجهنا جميعاً.‏

    قال الشحرور:‏

    - أيها الصديق معك حق.. لقد لامست كبد الحقيقة.. قل لنا ماذا نفعل؟‏

    رفع الهدهد وجهه، فاهتزّت ريشاته المغروسة في رأسه... قال:‏

    - لقد دعوتكم لنتبادل الرأي في هذا الموضوع.. فليذهب كلّ منكم إلى عشّه الآن، ويأتني غداً في مثل هذا الوقت بالتحديد، وقد حمل إليّ حلاً نستطيع به حماية أنفسنا من بنادق الصيادين.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  45. #95
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أقامت مدرسة (الأمل) حفلاً فنّياً جميلاً بمناسبة عيد الأمّ، افتتحته المديرة بكلمة ترحيبيّة قالت فيها:‏

    [أبنائي وبناتي الأعزّاء.. في الحادي والعشرين من شهر آذار من كلّ عام، نحتفل بعيد الأم. وأنتم تعرفون قيمة الأمّ ودورها في تربية الأجيال، وفضلها الكبير على النشئ، فهي التي تمسك العالم بيمينها، وتهزّ السرير بيسارها، وهي من يضحّي بسعادته من أجل أن يُسعد أبناؤها ويعيشوا حياة كريمة...]‏

    حين انتهت المديرة صفّق لها التلاميذ.. صاروا ينشدون ويغنّون ويرقصون مبتهجين بهذا اليوم الجميل.]‏

    عندما عادت (ميسون) إلى المنزل حدّثت أمها عن الحفل الجميل، بعد أن قدّمت لها هديّة قائلة:‏

    - كل عام وأنتِ بخير يا أمّي.‏

    - كل عام وأنتِ بخير ياابنتي.‏

    أجابتها الأم، ثم طلبت منها أن تساعدها في إعداد طعام الغداء ريثما يعود أبوها من العمل.‏

    تلكّأت ميسون قائلاً:‏

    - مهلاً يا أمي.. أريد أن ألعب قليلاً.‏

    في المساء.. نادت الأم على ميسون فلم تلتفت. كرّرت النداء، فتصنّعت عدم السمع، قائلة في نفسها:‏

    - إنّ أُمّي تريد تكليفي بعمل من أعمال المنزل، ولذا لن أجيب."‏

    جاءت الأمّ إلى ابنتها... وقفت قبالتها قائلة:‏

    - عند الظهيرة طلبت منك مساعدتي فرفضت لأنّك كنت تلعبين... والآن أناديكِ فلا تردّين، إن محبة الأم بطاعتها، وعدم مخالفة أوامرها. وهذه هي أجمل الهدايا التي تقدّم إليها...‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  46. #96
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    أمضى مازن عطلة صيفيّة ممتعة، فزار البحر برفقة أبويه وأخويه مستمتعاً بالسباحة، وذهب إلى الحدائق والبساتين يلاحق الفراشات والعصافير. أمّا كرته المطاطيّة، فكانت رفيقته إلى الساحات والأندية، وكلّ الأمكنة التي يلعب فيها مع رفاقه وأصدقائه الذين يهوون كرة القدم. فهو يحبُّ الرياضة أكثر من أيّة هواية أخرى... لذلك فقد طلب من والده أن يشتري له عند قدوم العام الدراسي حقيبة مدرسيّة عليها رسوم الرياضيين الذين يراهم في المباريات الرياضية العربيّة والعالميّة.‏

    ذهب مازن وأبوه إلى السوق، وبدءا يفتّشان عن الحقيبة المطلوبة. في الدكّان الأول لم يجداها.. في الدّكان الثاني لم يجداها... وكذلك في بقية الحوانيت والمجمعات.. فمازن كان يريد حقيبة ذات ألوان زاهية، ومواصفات معينة.. وأخيراً، وبعد جهد جهيد، وبعد أن مضى نصف النهار في البحث التقى بضالّته المنشودة، ورأى حقيبته عند بائع جوّال.‏

    - إنّها هي.. هي من افتشّ عنها.‏

    صاح مازن والفرحة ترقص فوق وجهه، متابعاً كلامه:‏

    - سأتباهى بها على كلّ زملائي في المدرسة.‏



    - المهم أن تحافظ عليها، وعلى جميع أشيائك الأخرى.‏

    - لابأس.. لا بأس.‏

    اشترى الأب لابنه كلّ ما يلزمه من حاجيات مدرسيّة.. كتب، دفاتر، أقلام تلوين، قلم حبر، قلم رصاص، ممحاة، مبراة، ولم يعد ينقصه شيء أبداً‏

    فرحت الحقيبة بأصحابها الجدد.. قالت لهم:‏

    - سنبقى أصدقاء طوال العام. ونمضي معاً أياماً جميلة.‏

    - إن شاء اللَّه.. إن شاء اللَّه.‏

    أجاب قلم الرصاص، ولم يكن يدري عن مصيره المنتظر شيئاً على الإطلاق.. فلم يمض اليوم الأوّل على افتتاح المدرسة، حتى كان مازن قد استهلك قلمه تماماً، من جراء بريه الدائم له.‏

    بعد عدة أيام، وبينما التلاميذ يرسمون على دفاترهم شكلاً معيّناً طلبت المعلمة تنفيذه، جلس مازن في مقعده واجماً، شارداً.‏

    سألت المعلمة:‏

    - لماذا لاترسم يا مازن؟..‏

    - لأنني لا أملك دفتر رسم.. لقد مزّقه أخي الصغير.‏

    في درس الإملاء ارتبك مازن وبكى، لأنه أضاع ممحاته، ولم يستطع أن يصحّح الكلمات التي أخطأ بكتابتها.‏

    مسطرة مازن كُسرت، ولم يعد بمقدوره أن يحدّد الأشكال الهندسية، أو يرسم خطوطاً مستقيمة.. وكذلك المبراة، فتّش عنها كثيراً بلا جدوى.. حتّى الدفاتر اختفت، ثم لحقت بها مجموعة الكتب.‏

    حزنت الحقيبة الزاهية ذات الصور والرسوم لفقدان أحبّتها الذين راحوا من بين يديها واحداً بعد الآخر.‏

    أخذت تندب وتنوح:‏

    - أين أنت أيّتها الأقلام الملّونة؟. فكم أسعدتني ألوانك الصفراء والخضراء والحمراء. أين أنتَ يا دفتر الرسم الجميل؟.. فكم تباهيت بصحبتك. أين أنتَ ياكتاب القراءة؟، فكم راقت لي مواضيعك القيّمة، وقصصك الممتعة، ودروسك ذات الفائدة.‏

    أين أنتم يا أصدقائي.. إنني غريبة بدونكم، أعاني الحزن والوحدة.. ليس هذا فقط، وإنما هناك شعور بالخوف يتملّكني.‏



    ذات يوم اتّخذت الحقيبة قراراً مهماً، توصّلت إليه بعد تفكير طويل.. فقد صمّمت على الهروب قبل أن يغدو مصيرها كمصير الكتب، والدفاتر، وبقية الحاجيات التي أهملها مازن، ولم يحافظ عليها.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  47. #97
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    تدلّت أغصان شجرة الكرز خارج سياج البستان. رآها رجل يمر من هناك كلّ يوم قاصداً مكان عمله، فوقف يتأمّل، ويتمنّى لو يستطيع أن يقطف منها.‏

    لمحه صاحب البستان، فاقترب منه قائلاً:‏

    - كُلْ ما تشاء أيّهاالرجل، فأنا قد سمحت للعابرين بقطف ما يتدلّى خارج السور.‏

    سُرّ الرجل بموقف البستاني، وصار كلّ صباح يقف عند الشجرة، ويأكل منها.. إلى أن جاء يوم خاطب فيه نفسه:‏

    - لماذا لا أحمل لزوجتي وأولادي شيئاً من هذه الثمار.. فكم حدّثتهم عنها، وكمْ تمنّوا أن آتيهم بها.. إنّهم يحبّون الكرز كثيراً.‏

    قفز الرجل عن السور، وصعد إلى أعلى الشجرة، وقطف سلّة صغيرة. في يوم لاحق فعل فعلته ذاتها، وقطف سلة أكبر... وتكررت محاولاته دون أن يدري صاحب البستان بأمره.‏

    ذات مرة، وبعد أن ملأ صندوقاً كبيراً من الثمار اليانعة الناضجة، وهمّ بمغادرة البستان، قافزاً من فوق السور، فاجأه كلب الحراسة بهجوم مباغت، وبدأ يمزق له ثيابه، ويعضّه في مختلف أنحاء جسمه.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  48. #98
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    فكّر النبع الصغير أن يحتفل بعيد ميلاده الأول، فقد مضى عام على ولادته، وكان ذلك منذ صيف فائت، حيث دفعت به الأرض إلى الوجود، بعد أن خزّنت الأمطار في جوفها طيلة الشتاء.. وعندما آن الأوان قرّرت أن تخرجه إلى النور عذباً رقراقاً، يروي العطش، ويسقي السهول الواسعة.‏

    دعا النبع إلى الإحتفال أغلب أصدقائه.. الفراشة. العصفور. النحلة. الوردة. الطفل الصغير. فرح الجميع بدعوة النبع، وسعدوا بذلك اللقاء الحميم.‏

    وبعد أن شرب كلّ منهم قطرة ماء، قررّوا أن يقدّموا الهدايا لصديقهم.‏

    رقصت الفراشة:‏

    "إليك يا صديقي ألواني اللطيفة التي أخذتها من ألوان الأرض."‏

    زقزق العصفور:‏

    " سأغني أغنيتي التي علّمتني إيّاها الأرض"‏

    حامت النحلة:‏

    "وز.. وز.. أعطيك نقطة عسل منحتها لي براعم الأرض."‏

    أمالت الوردة رأسها:‏

    "أما أنا.. فأزين صدرك بوريقات ناعمة أهدتني إيّاها أمي الأرض."‏

    فرح الطفل صديق النبع بذلك الإحتفال، وفكر مليّاً بالهديّة التي سيقدّمها. وبعد قليل، أتى بريشة وألوان وورقة بيضاء، وراح يرسم..‏

    رسم النبع، والفراشة، والعصفور، والنحلة والوردة، وكذلك الأرض المحيطة. كما رسم نفسه، والفلاح الذي يزرع بالقرب منهم.. وكم كانت جميلة تلك اللوحة!.. وكم كانت بديعة وزاهية!..‏

    حيث بدت وكأنّها حقيقة، عُلِّقت على شجرة الجوز المنتصبة هناك، ليراها الجميع في ذهابهم ورجوعهم.‏

    كان النبع بمنتهى السعادة، وهو يعيش فرحته بعيد ميلاده الأول. شكر أصدقاءه على حضورهم، وعلى هداياهم، ثم تابع مسيره كي يهب حبّه للأرض، صاحبة الفضل عليه، وعلى الجميع.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  49. #99
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    كان الثعلب يذهب كل ليلة إلى كرم من كروم القرية، ويقطف ما يحلو له من العناقيد الحمراء والصفراء والسوداء، ذات المذاق اللذيذ، ثم يأتي بها إلى بيته فيضعها في حفرة قد هيّأها لتخبئة أشيائه الخاصّة.‏

    وبعد أن ينتهي من مهمته تلك، يتجه إلى جاره الثعلب العجوز، فيقضي الليل بزيارته، وسماع حكاياته وقصصه المسلّية. ذات يوم... مرض العجوز، فوصف له الطبيب دواء خاصاً قائلاً له:‏

    - عليك بأكل العنب.. إنّه الدواء الشافي لك.‏

    طلب الثعلب المريض من جاره أن يقطف له عنقوداً من الكرم المجاور:‏

    إن العنب دوائي، ولا يشفيني إلاّه.. فماذا لو تكّرمت عليّ بشيء منه.‏

    ارتبك الثعلب، حاول التهرب من تلبية رغبة الجار، متذرّعاً بحجج غير مقنعة:‏

    - إن ناطور الكرم شديد الحراسة، وعينه لا تغفل عن داليات العنب.. فهل تريدني أن أخاطر بحياتي من أجل عنقود؟‏

    ذات يوم حدث للثعلب البخيل ما حدث لسواه. لقد داهمه مرض شديد ألزمه الفراش، ولم يعد باستطاعته الحركة.. وعندما زاره الطبيب، فحصه بدقة، ثم قال:‏

    - دواؤك الشافي هو العنب.‏

    ابتسم الثعلب رغم مرضه، حدّث نفسه:‏

    - الأمر سهل بالنسبة لي.. العنب كثير، وحفرتي ممتلئة بكميات كبيرة منه.‏

    وعندما نزع الغطاء عن الحفرة ليأخذ عنقوداً ممّا خبّأه، عقدت الدهشة لسانه، واستولى عليه ذهول.. لقد فوجئ بأن العنب قد فسد بأكمله.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

  50. #100
    تاريخ التسجيل
    Dec 2006
    الدولة
    AUSTRALIA
    المشاركات
    3,952

    افتراضي

    خرجت الحروف الهجائيّة في مظاهرة ضد حرف "الألف"، تهتف بكرهها له، وبرغبتها في نفيه وإبعاده.‏

    وقف حرف "الألف" حزيناً مما سمع. جاء إلى اشقّائه يستفسر:‏

    - لماذا يا إخوتي تقفون منّي هذا الموقف؟.. هل آذيتكم؟..‏

    هل أزعجتكم؟..‏

    قالت الجيم:‏

    - نحن لا نحبك.‏

    قال الواو:‏

    - ولا نريدك.‏

    تساءل "الألف" باستغراب شديد:‏

    - لماذا؟!!..‏

    - لأنك تختلف عنّا.. فأنت مرفوع الرأس، مستقيم الظهر. أمّا نحن.. فيا حسرتنا!.. انظر إلى أشكالنا الملتوية.‏

    - وما ذنبي أنا؟!.. ما ذنبي؟!‏

    ردّد "الألف" وهو يمضي مطرقاً، كسير النفس.‏

    بعد ذهابه، جلست الحروف تفكّر فيما تستطيع أن تفعل، إلى أن توصّلت لحلّ مناسب جعلها تقفز فرحاً.. فقد اتفقت فيما بينها على الذهاب إلى الحدّاد "مسعود"، ليقوّمها، ويسوّيها، ويصلح من حالها بالمطرقة والسندان، فتصبح مستقيمة كحرف "الألف" تماماً.‏

    "واللَّه فكرة جيدة"‏

    قفز الجميع..‏

    وافق الحدّاد على اقتراح الحروف، وسُرَّ أيما سرور لأنَّه سيجني من وراء عمله هذا مبلغاً لا بأس به من المال قال:‏

    - أنتم سبعة وعشرون حرفاً -عدا الألف- قسّموا أنفسكم إلى ست مجموعات.. صباح كل يوم تأتيني مجموعة. ما رأيكم؟‏

    -موافقون.‏

    بعد أن أخذ "مسعود" الموافقة من أفواه الحروف، واتّفق معها على الأجر، بدأ العمل، يوم السبت ذهبت إليه الباء، والتاء، والثاء، والجيم، والحاء، والخاء،‏

    يوم الأحد ذهبت الدال، والذال، والراء، والزاي.‏

    أما الإثنين فكان من نصيب السين والشين والصاد والضاد.‏

    الطاء والظاء والعين والغين بقوا إلى الثلاثاء.‏

    نهار الأربعاء خصص للفاء، والقاف، والكاف، واللام.‏

    الخميس، وهو نهاية الأسبوع.. زارته بقيّة الحروف، الميم، والنون، والياء.‏

    تغيّرت أشكال الحروف، صارت كشكل الألف الذي حزن لحالها، وتألّم للتغيير الجذري الذي آلت إليه.‏

    - وكيف ستميّزون بعضكم؟ وما هي أسماؤكم الجديدة؟‏

    سأل "الألف" الأحرف التي صارت تشبهه.‏

    حين ذهب تلاميذ المدارس إلى بيوتهم يريدون تحضير الدروس، لم يستطيعوا أن يقرؤوا، أو يكتبوا شيئاً، إذا لم تكن أمامهم أيّة حروف سوى حرف واحد، لا يستطيعون أن يصيغوا بواسطته كلمة.‏

    المعلّمون والمعلّمات وقفوا مكتوفي الأيدي عاجزين عن إعطاء المعلومات المقرّرة.‏

    الأدباء والكتاب أيضاً كانت حالهم كحال الذي منع عنه الطعام والشراب.‏

    بعد حين من الزمن، ملّت الحروف وضعها.. فقدت أسماءها وأشكالها، ولم يعد الحرف يعرف أخاه أو يميزه.‏

    وعندما يتصادم به أثناء سيره، يقول له:‏

    - من أنتَ؟ ما اسمكَ؟‏

    فلا يعرف هذا الآخر بماذا يجيب.‏

    الحدّاد "مسعود" تأذّى من الوضع مثلما تأذّى جميع الناس، فقد نسي ابنه القراءة والكتابة بعد أن أغلقت مدرسته بابها، كباقي المدارس. حالة من الندم تملّكته على ما اقترفت يداه.‏

    خاطب نفسه:‏

    "لو كنت أعرف نتيجة صنيعي لما قمت به ولو قدّموا لي كنوز الدنيا كلّها."‏

    وظلّ الحدّاد الليل بحاله يفكّر بما عساه يقوم به ليعوّض ما فات. رأى ابنه حيرته، فقال له:‏

    - ما رأيك ياوالدي لو اقترحت على الحروف أن تعيد لها شكلها بمطرقتك وسندانك.‏

    - وهل تقبل؟‏

    - جرب.. ولنر..‏

    اتّجه مسعود إلى الحروف، فرآها تتخبّط بعضها ببعض، تتشاجر، وتختلف، ولا تتفّق على شيء. وحده حرف الألف الحقيقي كان يقف عن بعد، وينظر إلى الأحوال التي توصل إليها إخواته بسبب جهلهم، وعدم إدراكهم.‏

    قال له:‏

    - أيها الألف العاقل.. تعال معي نحاول إقناع إخوتك بالرجوع إلى أشكالهم الأولى، وأنا على استعداد للقيام بهذا العمل دون أجر أو تعويض.‏

    فرح الألف بمبادرة الحداد.. تأبط ذراعه، ومضيا إلى الحروف، وكلّهما ثقة وتفاؤل بأنهما سيستطيعان بالحوار والمناقشة غرس القناعة في نفوسهم، فتعود المياه إلى مجاريها الطبيعية.‏
    اللهم أجرنا في مصيبتنا، واخلف لنا خيراً منها، واغفر لجدي علي عزالدين قبيطر مغفرة تغشاه من فوقه ومن أسفل منه..

صفحة 2 من 6 الأولىالأولى 1234 ... الأخيرةالأخيرة

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •